دراسات

محمد العجاتي

الكابوس الرأسمالي في فلسطين

2024.05.03

مصدر الصورة : الجزيرة

الكابوس الرأسمالي في فلسطين

 

بعد أيام من الحُكم المؤقت الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في نهاية يناير، الذي يعلن صراحة -بصرف النظر عن تفاصيله- أن إسرائيل تواجه قضية إبادة جماعية، ما زالت الهمجية الصهيونية مستمرة؛ حيث أعلن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، في مطلع فبراير أن أكثر من 100 ألف مدني قُتلوا أو أصيبوا أو أصبحوا مفقودين خلال الحرب الدائرة في غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي، وحذر من خطر مجاعة كبير في القطاع[1]؛ كما بات الوضع الإنساني كارثيًّا؛ حيث قالت الناطقة باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيينأونروا"، تمارا الرفاعي: "إن الوضع الإنساني والصحي كارثي للغاية، ويتدهور يومًا تلو الآخر"[2].

هذه الحرب ليست بمعزل عن صراعات عديدة دائرة حول العالم؛ حيث يشير العديد من المحللين إلى أنه بعد الأزمة الاقتصادية في 2008 زاد عدد البلدان التي شهدت نزاعات عنيفة أكبر من أي وقت مضى منذ ما يقرب من 30 عامًا وصلت لقلب أوروبا في الحرب الروسية الأوكرانية، وقبلها في أفريقيا الحرب الأهلية في أثيوبيا ومذابح الكونغو، أما في منطقتنا فنجد دولًا في حالة حروب/ نزاعات تكاد تغيب الدولة عن مناطق عدة داخل حدودها، أو تغيبها بشكل كامل من ليبيا لليمن، ومن سوريا للسودان. وفي الوقت نفسه "أصبحت النزاعات أكثر تجزؤًا، فتضاعف بشدة -على سبيل المثال- عدد الجماعات المسلحة الضالعة في الحرب الأهلية السورية منذ اندلاع النزاع، من مجرد ثماني جماعات إلى عدة آلاف من الجماعات"[3]. فهل الإبادة الجارية في فلسطين الآن حالة خاصة، أم لها علاقة بالنظام الاقتصادي العالمي بعد 15 عامًا من الأزمة في ظل استمرار تأثيراتها؟

 الرأسمالية، أزمات وتداعيات

 شهد العام 2008 أزمة اقتصادية عالمية بدأت من الولايات المتحدة، وانتقلت لأوروبا، ومنها لباقي مناطق العالم، وتشير تحليلات المؤسسات الدولية إلى بقاء الناتج القومي في كثير من البلدان حتى الآن دون المستويات التي كانت لتسود فيما لو ظل على اتجاهه العام في فترة ما قبل الأزمة، وهو ما أكدته دراسة لصندوق النقد الدولي لعينة ضمت 180 بلدًا -شملت اقتصاداتٍ متقدمة، وأسواقًا صاعدة، واقتصاداتٍ ناميةً منخفضةً الدخل- لقياس درجة التراجع في النشاط الاقتصادي خلال العقد الذي أعقب الأزمة، حيث أكدت أن اقتصادات العالم شهدت خسائر في الناتج القومي مقارنة بالاتجاهات العامة السائدة قبل الأزمة[4].

بالإضافة إلى أن مستوى عدم المساواة في توزيع الدخل قد ارتفع، وخاصة في الاقتصادات التي مُنيت بخسائر كبيرة على مستوى الناتج والتوظيف بعد الأزمة، وفي بعض الحالات، أدت زيادة عدم المساواة في توزيع الدخل التي أعقبت الأزمة إلى ترسيخ الاتجاهات العامة التي كانت قائمة بالفعل قبل الأزمة، ومن المرجح أنها ساهمت في الشعور بالإحباط العام؛ كما أنها خلَّفت آثارًا أبعد من تلك المباشرة المرتبطة باتجاهات النمو العامة؛ حيث استمر التراجع الحاد في معدلات الخصوبة في كثير من الاقتصادات -وهو تطور سيشكل عبئًا في المستقبل على حجم القوة العاملة في هذه البلدان[5].

لا يمكن أن ننسى هنا أن نشأة إسرائيل كانت نتاج منظور إستراتيجي للبرجوازية الإنجليزية التي نشأت قبل غيرها من البرجوازيات الأوروبية، فسبقتهم في التفكير في عملية التوسع الخارجي بعد اكتمال التكوين الرأسمالي ودخولها في مرحلة "مركزة رأس المال"[6]، وعليه فالصهيونية كمشروع اقتصادي تمثِّل ذراعًا للرأسمالية الغربية، حيث إننا لسنا أمام حركة دينية أو قومية، بل حركة لها دور اقتصادي تعنون ذاتها دينيًّا وبأسطورة قومية. وعليه، فلكل فعل تقوم به تفسير ومصلحة اقتصادية للنظام الرأسمالي العالمي وأقطابه في أوروبا وأميركا، بل يصل الأمر إلى حد توصيف الباحث علي القادري، بأن الصهيونية أحد أكثر مشاريع الرأسمالية جرأة على الإطلاق، منطلقًا من كلام لكارل ماركس بأن عمليات التهجير الكبرى هي أسوأ الكوابيس المطروحة لمستقبل البشرية[7]

 تصدير الحروب:

 أدت الجهود المبذولة على مدار العقد الذي أعقب الأزمة إلى رفع مستوى الطلب، والحيلولة دون تحقيق نتائج أسوأ تتعمق فيها خسائر الناتج والتوظيف، كذلك ساهمت الإصلاحات التنظيمية المالية في جعل القطاع المصرفي أكثر أمانًا، لكن هذا الأمان يبدو ظاهريًّا؛ حيث كان لها آثار جانبية كبيرة، مثل: التراكم الكبير في الدين العام، وتآكل هوامش الأمان في المالية العامة؛ كما تأثرت بشدة الخدمات الاجتماعية، وزادت معدلات التضخم في دول العالم الثالث[8]، بسبب سياسات التقشف، وتحرير العملات المحلية ودور مؤسسات التمويل الدولية في فرض أجندات اقتصادية تدعم مثل هذه الإجراءات. يظهر ذلك في عدة دول مثل الأرجنتين واليونان، وفي منطقتنا بالأخص نرى نماذج لذلك في لبنان والسودان، وتشير التقارير إلى أن دولًا أخرى تسير في ذات الاتجاه ومن بينها مصر.

وفقًا للقادري فإن قهر وقوة الرأسمالية وآثار سياساتها بما فيها الإصلاح الهيكلي لا يُمارسان على الفلسطينيين فقط، وإنما لاستيعابهما علينا أن نقيسهما بالقدر ذاته الذي تستشعر فيه طفلة من غزة طائرة مقاتلة من طراز F16 تحلِّق فوق منزلها. نعم، الرأسمالية تضر بالبشرية جمعاء، ولكنَّ القوة التاريخية للرأسمالية لم تكن مكثَّفة بالشكل التي هي عليه في النموذج الفلسطيني؛ ففيه نرى تمظهر القوة الأيديولوجية لرأس المال؛ إذ يقومون بعملية التطهير العرقي المدعومة من الرب والدول العلمانية في آن واحد. باختصار، إنَّ قوة الإمبريالية في فلسطين هي تمظهر مكثَّف لقوة الإمبريالية في العالم[9].

وعلى المستوى الاقتصادي يحذر الخبير الاقتصادي العالمي، نورييل روبيني، من أن العالم قد يشهد أزمة اقتصادية أشد من تلك التي شهدها في عام 2008، وكان روبيني الاقتصادي الوحيد الذي تنبأ بحدوث أزمة الرهن العقاري في 2008؛ حيث يرى أن العالم يمر الآن بمرحلة محفوفة بالعديد من المخاطر وعدم الاستقرار، مشيرًا إلى وجود عشر مخاطر كبرى تهدد الاقتصاد العالمي، والأصول المالية، ومدَّخَرات الأفراد وثرواتهم، إضافة إلى تهديد حالة السلم العالمية التي امتدت لنحو 75 عامًا. وأوضح في مقابلة مع اقتصاد سكاي نيوز عربية، على هامش أسبوع أبو ظبي المالي 2022، أن المخاطر يمكن تحديد أهم سماتها الاقتصادية فيما أُطلق عليه الركود التضخمي (هي حالة نمو اقتصادي ضعيف وبطالة عالية؛ أي: ركود اقتصادي، يرافقه تضخم) يصاحب ذلك مخاطر أزمة الديون، بالإضافة لمخاطر مالية تظهر في الفقاعات التي تهدد بحدوث انهيار للأصول المالية ومخاطر انهيار العملات، وكذلك المخاطر الجيوسياسية بين القوى العظمى والمرتبط بها الإشكاليات التي تحيط بالعولمة والحمائية التجارية التي تهدد بتفكيك الاقتصاد العالمي، وأكد "أن الركود العالمي الحالي لن يكون خفيفًا أو قصير الأمد، بل قاسيًا وطويل الأمد، بسبب مخاطر التضخم والركود، وأزمة الديون الناتجة عن الفائدة بالغة الارتفاع"[10].

كما حذر بشدة من احتمال نشوب حروب ساخنة، قائلًا: إن الفترة القادمة تشبه السنوات المظلمة التي مرت بها البشرية ما بين عام 1914 وحتى عام 1945[11]. وبحسب "بوب ميشيل" خلال مقابلة في مقر أكبر بنوك الولايات المتحدة، فإنه يرى تشابهًا بين الفترة الحالية بعد خمسة عشر عامًا، والفترة الممتدة من مارس إلى يونيو خلال عام 2008 الذي شهد الأزمة. وشبَّه "ميشيل" الهدوء الذي يسود الأسواق بهدوء ما قبل العاصفة، حيث كان المستثمرون في كلتا الحالتين قلقين بشأن استقرار البنوك الأمريكية، ثم تم حل الأزمة من خلال تدخل سياسي، أعقبه ارتفاع في سوق الأسهم[12]. وتتطلب هذه الوضعية أن نستدعيَ من التاريخ الأزمة الكبرى المشابهة التي حدثت في القرن العشرين، والمعروفة باسم: الكساد الكبير، أو الكساد العظيم، والتي اندلعت عام 1929 ولم يتلاشَ أثرها تمامًا حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ وكذلك كانت البنوك الأمريكية سببًا في اندلاع أزمة الرهن العقاري التي أشعلت نيران أزمة مالية على نطاق أكبر وجدت سبيلها إلى باقي أنحاء العالم، وكان الاحتياطي الفيدرالي سببًا في وقوع أكبر كارثة اقتصادية في القرن العشرين. ويشير العديد من الباحثين إلى أن حالة الكساد التي أعقبت الأزمة لم تنتهِ بشكل كامل حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وتحديدًا في عام 1946،  فمع خوف القادة السياسيين في تلك الفترة من تداعيات الأزمة، قررت الولايات المتحدة تمرير ما يُعرَف بتعريفة "سموت- هاولي" لحماية الصناعات المحلية والوظائف، والتي نتج عنها انخفاض نسبة التجارة العالمية 65%، رغم التدخلات غير المسبوقة والإنفاق الحكومي الكبير من قبل الإدارات المتعاقبة للولايات المتحدة في هذا الوقت، ظل معدل البطالة مرتفعًا، فسجل 19% في عام 1938 على سبيل المثال، وبقي نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي دون مستويات ما قبل 1929 في الوقت الذي كانت تقصف فيه اليابان البحرية الأمريكية في بيرل هاربور أواخر عام 1941. رغم أن انهيار البورصة حفز الانكماش الاقتصادي على مدى عقد من الزمان، ويرى المؤرخون أنه ليس السبب الوحيد وراء الكساد الكبير، ولا يفسر لماذا كان عميقًا وطويلًا إلى هذه الدرجة الكبيرة، ويؤكدون أن مجموعة متنوعة من الأحداث والسياسات أدت إلى إطالة أمده، وهو ما تطلب ما يمكن أن نطلق عليه "تصدير الحرب".

 فوفقًا لبيانات الناتج المحلي الإجمالي وسوق العمل، بدأت آثار الكساد الكبير تتلاشى فجأة في الفترة بين عامي 1941 و1942، تمامًا مع دخول الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الثانية. وانخفضت البطالة إلى أقل من مليون فرد عام 1943 بعدما بلغت 8 ملايين عام 1940، مع العلم بأنه تم تجنيد أكثر من 16.2 مليون مواطن للقتال في صفوف الجيش الأمريكي، ومع ذلك نما معدل البطالة الحقيقي في القطاع الخاص خلال الحرب. وبسبب نقص الإمكانيات في ظل الحرب، انخفض مستوى المعيشة، وارتفعت الضرائب بشكل كبير لتمويل العمليات العسكرية، وتراجع الاستثمار الخاص إلى 5.7 مليار دولار في 1943 من 17.9 مليار دولار عام 1940، وانخفض إجمالي إنتاج القطاع الخاص بنحو 50%، لكن بعد انتهاء الحرب، ارتفعت الاستثمارات الخاصة إلى 30.6 مليار دولار خلال 12 شهرًا من 10.6 مليار دولار، وبدأت سوق الأسهم موجة صعود خلال سنوات قليلة[13].

 في ظل الحرب الجارية في قطاع غزة، يتم الإعداد لحالة مشابهة على مستوى تأزيم الوضع، حيث تم توثيق حالات اعتقال وقتل جماعي للفلسطينيين؛ مما أدى إلى إعلان المفوضية السامية لحقوق الإنسان في 28 من أكتوبر عن تخوفاتها من وجود جرائم حرب من الجانب الإسرائيلي، فيما يخص حربه على غزة تتخللها عمليات تهجير قسري، وعقاب جماعي، واحتجاز رهائن، واستهداف المدنيين. حيث حذرت السلطات الإسرائيلية عن طريق المنشورات المواطنين في قطاع غزة لمغادرة شمال قطاع غزة، وأن كل من يبقى يختار أن يكون متواطئًا مع حماس، وهو ما يعد إجبارًا للمواطنين على ترك منازلهم[14]، وشهدت فترة الحرب أكثر من مرة قطع إسرائيل كافة الاتصالات مع القطاع؛ ليصبح أكثر من مليوني شخص خارج نطاق التغطية.

وفي بيان لها قالت ديبورا برون المسؤولة في هيومن رايتس ووتش: إن انقطاع المعلومات هذا قد يكون بمثابة "غطاء لفظائع جماعية، ويسهم في الإفلات من العقاب على انتهاكات لحقوق الإنسان"[15]. وهو ما دفع مدير مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان بنيويورك "كريج ماكيبر"، باستقالته احتجاجًا على تعاطي هيئات أممية مع الوضع في قطاع غزة، وما كان مختلفًا هذه المرة ليس طلب الاستقالة، وإنما نص الطلب الذي قدمه، الذي أشار فيه دون مواربة إلى أن ما يحدث حاليًّا في قطاع غزة بفلسطين هو "إبادة جماعية كلاسيكية، كما يقول الكتاب"[16]. ربما جاء نص الاستقالة، من أحد العاملين في كبرى مؤسسات حقوق الإنسان في العالم في هذا التوقيت؛ ليدحض بشكل كبير السردية التي تتبناها إسرائيل، وتتبناها من ورائها القوى والدول الداعمة لها، بأن ما تقوم به حاليًّا من جرائم يدخل في إطار ما يسمونه "الدفاع عن النفس"، وهي الحجة التي تدحضها جنوب أفريقيا في ادعائها على دولة إسرائيل في محكمة العدل الدولية، مستندة للحكم الاسترشادي لذات المحكمة في قضية جدار الفصل العنصري، والذي نص على أنه ليس للدولة المحتلة حق ادعاء الدفاع عن النفس. وفي هذا الإطار إذا كان كتاب عرب كثيرون- مثل: علي القادري- يرون على مدار سنوات الصراع العربي الإسرائيلي أن "التهجير هو من أسوأ الكوابيس"؛ ففي الحرب الراهنة يمكن أن نضيف لهذا الكابوس الإبادة والتطهير العرقي كأبشع الكوابيس[17].

 معادلة الخروج من الأزمات الرأسمالية "التدمير وإعادة البناء":

 علاوة على كل الصراعات التي تم ذكرها، أصبحت النزاعات اليوم أقل استجابة لأشكال الحل التقليدية؛ مما يجعلها أطول أمدًا وأكثر فتكًا. ويعزى هذا بدرجة كبيرة إلى اكتساب النزاعات لطابع إقليمي يؤدي إلى الربط بين المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية عبر الحدود، فتعزز بالتالي تلك النزاعات بعضها بعضًا، وتشكل الحرب في اليمن مثالًا مؤلمًا على ذلك. هذا بالإضافة لأشكال أخرى من العنف اليوم، حيث تقتل الجريمة عددًا من الناس أكبر بكثير من العدد الذي تقتله النزاعات المسلحة؛ ففي عام 2017 على سبيل المثال، أفاد تقرير للأمم المتحدة إلى أن جرائم القتل أودت بحياة ما يقرب من نصف مليون شخص في جميع أنحاء العالم، وهو ما يتجاوز بكثير عدد الذين فقدوا أرواحهم بسبب النزاعات المسلحة الدائرة، وهو 000 89 شخص، وعدد من قتلوا في هجمات إرهابية، وهو 000 19 شخص، وحذرت بأنه إذا استمرت هذه المعدلات في الارتفاع بمعدلها الحالي البالغ 4 في المئة، فلن تتحقق بحلول عام 2030 الغاية 16.1 من أهداف التنمية المستدامة، التي تنص على "الحد بدرجة كبيرة من جميع أشكال العنف وما يتصل به من معدلات الوفيات في كل مكان"[18].

ما هو الرابط بين هذه الأزمات والحروب؟ في رأي كارل ماركس العلاقة السببية تكمن فيما أسماه بـ"مركزة رأس المال"؛ حيث يؤدي إعادة استثمار فائض القيمة في توسيع وتطوير أدوات إنتاج إلى زيادة في حجم الوحدات الرأسمالية، وهو ما يؤدي إلى الأزمات المتتالية التي تشهدها الرأسمالية عبر انهيار الوحدات الأصغر، واستيعاب الوحدات الأكبر والأنجح للوحدات المنهارة. هذه التطورات من تركيز رأس المال، إلى مركزة رأس المال، وميل معدل الربح للانخفاض؛ هي جوهر عملية التراكم الرأسمالي، وهي أيضًا الأسس التي بُنيت عليها نظرية الإمبريالية فيما بعد؛ فالاستعمار أيًّا كان شكله يصبح ضرورة بالنسبة للرأسمالية الصناعية لجلب مواد خام رخيصة، وإيجاد أسواق جديدة للمنتجات الصناعية في مواجهة ميل معدل الربح للانخفاض[19]. أما روزا لوكسمبورج فقد طرحت سببًا أكثر جوهرية في عملية التراكم الرأسمالي كدافع للاستعمار؛ إذ ترى أن هناك مشكلةً رئيسةً في عملية التراكم، وهي التناقض بين إنتاج فائض القيمة وتحقيقه في السوق؛ أي: أن ما ينتج من فائض القيمة في المراكز الرأسمالية لا يمكن استيعابه تمامًا في أسواق تلك المراكز، ولا يمكن للدورة الرأسمالية أن تكتمل إلا بتصريف جزء من ذلك الفائض خارج نطاق الرأسمالية؛ أي: في المناطق التي لم يهيمن فيها بعد نمط الإنتاج الرأسمالي[20]. إذا أضفنا أنه في القرن العشرين أصبحت المجمعات العسكرية ركنًا أساسيًّا من النظام الرأسمالي عبر شركات عابرة للقوميات، ودول كبرى محتكرة لصناعة هذه الأسلحة، فيمكننا فهم أسباب الترابط بين الرأسمالية، وتحديدًا أزماتها وانفجار الصراعات الكبرى؛ سواء كانت مجمعة كالحروب العالمية، أو متفرقة كما نرى في العالم حولنا الآن.

ولنتوقَّفْ عند نموذج من خارج منطقتنا للاستدلال؛ فقد أعادت الحرب الروسية-الأوكرانية إلى الواجهة، من جديد، مسألة العلاقة بين الرأسمالية والحرب. على مدار تاريخ الفكر الاقتصادي، تركَّزَ النقاش في تفسير تطور الرأسمالية على رؤيتين متناقضتين:

الأولى: هي الرؤية الليبرالية، التي تطرح أنه في تحرير الاقتصاد العالمي عامل مساعد على إحلال السلام؛ حيث إن التجارة الحرة تضمن تحقيق منافع اقتصادية مشتركة للدول وهو ما يحدُّ من ميل هذه الدول إلى الحروب أو المشاركة فيها[21].

أما الرؤية الثانية فهي أقرب للمنظور الذي يتهم الرأسمالية بالإمبريالية بخلق الأزمات الاقتصادية؛ إذ يرى ماركس أن الرأسمالية مدفوعة بقوانينها الثلاثة (التراكم الرأسمالي، وانخفاض معدلات الربح، وتدني المنافسة)، ستدخل في أزمة داخلية. لكن لينين أضاف "القانون الرابع" للرأسمالية، وهو قانون الإمبريالية الرأسمالية؛ إذ يرى لينين أنه -نتيجة للقوانين الثلاثة للرأسمالية- ستضطر دول للسيطرة على دول أخرى (مستعمرات) وتحويلها إلى أسواق تابعة، ومنافذ استثمار، ومصادر للغذاء والمواد الخام الرخيصة. وسينقسم العالم المستَعمَر تبعًا لنقاط القوة النسبية فيه. أو كما يقول الكاتب الفلسطيني نهاد أبو غوش: "ليست الرأسمالية مجرد نظام لإنتاج وتوزيع البضائع والخدمات، بل هي أيضًا مسلسل متواصل من التدمير والبناء. لكن الطابع للرأسمالية لا يظهر بشكل واضح إلا خلال الأزمات الكبرى، وبما أن الأزمات الاقتصادية دورية، فإنه لا يمكن تصور عالم رأسمالي خالٍ من الحروب والنزاعات المسلحة، ليس لأن القادة الرأسماليين هوايتهم هي القتل والتدمير (على الأقل بالنسبة للأسوياء منهم)، بل لكون الحروب الرأسمالية لها دور اقتصادي مزدوج "التدمير" حينما يتوقف نظام التراكم عن النمو و"إعادة البناء" لتجديد الشروط العامة لتراكم الرأسمال"[22].

وفقًا للرؤية الليبرالية لم يكن للحرب الروسية-الأوكرانية أن تقوم، فجميع الدول الداخلة في هذه الحرب (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر) هي دول أعضاء في "منظمة التجارة العالمية"، وعليه فلا يمكن فهم حرب أوكرانيا بشكل صحيح دون وضعها في السياق الأوسع للصراع العالمي بين الإمبريالية الأميركية والصينية. عندما تبوَّأ دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، رفع شعار "أميركا أولًا"، واتَّبع سياسة العزلة الدولية، وشن حربًا تجارية على دولة عضو في "منظمة التجارة العالمية" (وهي الصين) بغرض حماية الاقتصاد الأميركي من المنافسة الصينية. وبهذا تحول أكبر اقتصادين في العالم من محرّكين للعولمة، إلى النقيض من ذلك.

اليوم، يُعد النظام الروسي نظامًا اقتصاديًّا رأسماليًّا متحالفًا مع الصين، التي ينطوي اقتصادها على أكبر قطاع رأسمالي خاص منذ الثورة الصينية عام 1949، ويُعدُّ هذان الاقتصادان الرأسماليان القويان الأكبر عالميًّا من حيث المساحة الجغرافية (روسيا)، ومن حيث عدد السكان (الصين)، وتحالفهما يمثل مشكلة كبيرة للإمبراطورية الأميركية العالمية. هذه المنافسة بين الرأسماليات على كل ما سبق ذكره من متطلبات ومنافع، تفسر إلى حد كبير الصراعات الدولية في أفريقيا والشرق الأوسط؛ فأوكرانيا، بذاتها، ليست هي القضية، بل هي مجرد ساحة للمعركة بين دول رأسمالية مهيمنة تخشى الأفول (الولايات المتحدة، ومن خلفها حلفاؤها في أوروبا) من جهة، ودول رأسمالية صاعدة تسعى إلى حجز مقعد في قيادة الاقتصاد العالمي (الصين وروسيا)، وتتحدى الولايات المتحدة في حرب يُعمَل من خلالها على إنتاج نظام عالمي جديد. من هنا، يمكن القول: إن الحرب في أوكرانيا إنما تقدم مثالًا يدحض الفكرة التي تفيد بأن الرأسمالية ضمانةٌ للسلام الدولي. بل بالعكس، إشعال الحروب ضرورة من أجل استمرار الهيمنة، بينما مقاومة الرأسمالية للحروب وطول أمد "السلام" العالمي المفترض، مرتبطان بقدرة النظام الرأسمالي على التكيُّف عندما لا تعوزه الموارد[23]. وعلى ضوء ذلك يمكننا القول بأن "جوهر المشروع الصهيوني بما هو مشروع إمبريالي، حيث عملت الرأسماليات على تصدير اليهود الذين كانوا يسببون لها إرباكًا؛ ليكونوا مرتزقة في مشروع يهدف إلى تفكيك المنطقة العربية ودوام تخلفها؛ لضمان هيمنة الشركات الاحتكارية الإمبريالية"[24]. وهو ما وضح في الحرب الأخيرة؛ لأن الدور الأمريكي كان واضحًا، وبدا أن إسرائيل تدخل في إطار الإستراتيجية الإسرائيلية للهيمنة على المنطقة العربية، وبالتالي إسرائيل هي جزء من مشروع تطرحه الإدارة الأمريكية مرة تحت مسمى: الشرق الأوسط الجديد، ومرة تحت مسمى: صفقة القرن. وهو ما يظهر في المشاريع التي تطرح لغزة بعد الحرب؛ إذ تقوم على حلول شركاتية تعيد الإعمار وترتب الأوضاع لصالح الرأسمالية العالمية وحلفائها الإقليميين والمحليين، على غرار نموذج "نظرية الصدمة" الذي طرحته نعومي كلاين في كتابها المعنون بنفس الاسم، والذي تُظهِر فيه كيف تُستغَل الأزمات لصالح النظام الرأسمالي على حساب الفئات المتضررة من تلك الأزمات والكوارث[25].

هذه الترتيبات ليست وليدة اللحظة الحالية، بل هي ممتدة منذ بدء المشروع الصهيوني، هذا المشروع ما كان ليكتب له السير قدمًا في المرحلة الأخيرة لولا قيام "الولايات المتحدة الأميركية" بخلق عدو وهمي بعد انهيار "الاتحاد السوفييتي"، لتسريع وتيرة مشروعها في العالم. وتمثَّل هذا العدو فيما يمكن أن نطلق عليه "الإرهاب الهوياتي"، الذي أسس له منهجيًّا صمويل هنتجتون عبر ما أسماه "صراع -أو صدام- الحضارات" حيث يقول بأن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون متمحورة حول خلاف أيديولوجيات بين الدول القومية، بل بسبب الاختلاف الثقافي والديني بين الحضارات الكبرى في العالم، وقسم العالم على أساس ديانات وأعراق تتصارع وتتصادم في غطاء أيديولوجي واضح للممارسات الإمبريالية المرتبطة بالرأسمالية. وهو ما يتجلى في الممارسات الصهيونية؛ حيث يُتَّخذ الدين والعرق كغطاء لمشروع استيطاني إمبريالي يعمل لصالح المراكز الرأسمالية بروافدها المختلفة.

 خاتمة:

 السمة الأساسية في طبيعة الدولة الصهيونية: هي أن هذا الكيان تعبير واضح عن مشروع إمبريالي؛ فقد تأسس بقرار إمبريالي، وبدعم مالي إمبريالي؛ لكي يكون مرتكزًا للسيطرة على الوطن العربي. هذا هو السبب الذي جعل الرأسمالية تدفع -وما تزال- مليارات الدولارات، التي هي أساس وجودها، حيث إن القدرة الاقتصادية لا توازي حجم المشروع الذي يؤسس جيشًا لمواجهة كل المنطقة[26]. لكنها توازي حاجات ومتطلبات نظام دولي أكبر من ذلك.

وعليه، فالقراءة للمشروع الصهيوني من منظور اقتصادي يظهرها كقوة للرأسمالية الغربية التي تتمثَّل في أعمدة ومؤسسات؛ من حلف شمال الأطلسي، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وصولًا إلى «إسرائيل» كمشروع استعماري. وبقراءة سياسية نجد هذا الكيان امتدادًا للاستعمار التقليدي بشكل مختلف، يضمن مصالح وهيمنة النظم الرأسمالية على منطقة حيوية في العالم. حتى حين نقوم بقراءة الصهيونية ثقافيًّا، سنصل إلى أن الصراع ضد الصهيونية هو صراع البشرية جمعاء؛ لكونها تكثيفًا تاريخيًّا للعنصرية والأطروحة المَقيتة باصطفاء بشر عن آخرين.

ومن هذه القراءات المتعددة تظهر بوضوح مركزية القضية الفلسطينية لا عربيًّا فحسب، بل إنَّ الصراع ضد الصهيونية هو صراع البشرية جمعاء. [27]فإسرائيل في المشروع الرأسمالي ليست أكثر من غطاء يوظَّف فيه اليهود في جيش إمبريالي[28].

وعليه، فالصراع الجاري في فلسطين جزء من صراع للبشرية جمعاء، وكلما خضع العرب والفلسطينيون للصهيونية، استقوت الرأسمالية على باقي البشر، وكذلك، كلما انتصر العرب والفلسطينيون على الصهيونية، ضعفت قبضة الإمبريالية على شعوب العالم. وهذا التكثيف تقع غزة في صلبه؛ وذلك لأنها في الواجهة مقابل العسكرة والتراكم الرأسمالي عبر الحرب.


[1] جريدة الشرق الأوسط، https://rb.gy/q621iq .
[2] سكاي نيوز عربية، https://rb.gy/nycww2 .
[3] الأمم المتحدة، حقبة جديدة من النزاع والعنف، https://www.un.org/ar/un75/new-era-conflict-and-violence.
[4] وينجي شن، وميتشو مركايتش، ومالهار نابر، 3 أكتوبر 2018، الأزمة المالية العالمية: أين نحن الآن؟ صندوق النقد الدولي. https://www.imf.org/ar/News/Articles/2023/10/03/blog-global-financial-crisis-where-are-we-now
[5] المرجع السابق.
[6] سلامة كيلة، المسألة الفلسطينية، كتاب الهلال، القاهرة، 2017.
[7] بودكاست صوت: حوار مع المفكر علي القادري، 23/03/2022، https://shorturl.at/zOQ58 .
[8] طارق الشال، 04/06/2021، رحلة 10 سنوات بين الدول العربية و"النقد الدولي".. تكاليف باهظة، وكالة الأناضول، https://shorturl.at/gjPW8.
[9] موسى السادة، 11/11/2023، المراكمة عبر الحرب: دماء غزّة في منظور الرأسماليَّة، جريدة الأخبار، https://al-akhbar.com/Palestine/372881 .
[10] سكاي نيوز عربية – أبو ظبي، 15 نوفمبر 2022، المتنبئ بأزمة 2008 يحذر.. أزمة "أكثر شدة" تلوح في الأفق، سكاي نيوز عربية، https://shorturl.at/qDKOY .
[11] سكاي نيوز عربية، 13 مارس 2023، شبح الإفلاس.. هل يتكرر سيناريو 2008؟ https://www.youtube.com/watch?v=SVe-_Ia9Nq4
[12] أرقام، 09/06/2023، جيه بي مورجان يُحذر من إشارات مقلقة في الأسواق مشابهة لأزمة عام 2008. https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/1650045
[13] المرجع السابق.
[14] قلق "أممي" من ارتكاب "جرائم حرب" في الحرب بين إسرائيل وحماس، sky news، 28 أكتوبر 2023، https://cutt.ly/VwEWMSFa للمزيد: لجنة التحقيق تجمع أدلة عن ارتكاب جرائم حرب من قبل جميع الأطراف في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 7 أكتوبر 2023، ONHCR، 10 أكتوبر 2023، https://rb.gy/vo8zx.
[15] الحرب على غزة مباشر.. الاحتلال يقطع الاتصالات بالكامل ويوسع العمليات البرية، الجزيرة نت، https://rb.gy/77n7p
[16]“Top UN Official in New York Steps down Citing ‘genocide’ of Palestinian Civilians.” 2023. The Guardian. Oct 31, 2023, https://tinyurl.com/yne8l4n4 [17] فيديو لمنظمة العفو الدولية: لدينا أدلة دامغة على ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في غزة، France 24،https://rb.gy/ucw10.
[18] الأمم المتحدة، حقبة جديدة من النزاع والعنف، https://www.un.org/ar/un75/new-era-conflict-and-violence.
[19] عبد الله سليم، 1 يونيو 1993، الإمبريالية: (1) النظرية الكلاسيكية من ماركس إلى لينين، مجلة الاشتراكية الثورية، https://shorturl.at/rtAV8.
[20] المرجع السابق.
[21] رشا سيروب، 17/04/2022، أزمة الرأسمالية في الحرب الروسية - الأوكرانية، أوان، https://www.awanmedia.net/article/7440
[22] عزز محب، 15/03/2022، حدود العولمة الرأسمالية: العودة للحرب لإعادة تنظيم الرأسمالية، الحوار المتمدن، https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=749955.
[23] رشا سيروب، 17/04/2022، أزمة الرأسمالية في الحرب الروسية - الأوكرانية، أوان، https://www.awanmedia.net/article/7440.
[24]حوار مع سلامة كيلة، 30 يناير 2019، كيلة: الصهيونية مشروع إمبريالي.. والمواطنة تنهي الاقتتال الطائفي، هسبريس، https://shorturl.at/ltxIL..
[25] Naomi klein, The Shook Doctrine, Knopf Canada, 2007.
[26] سلامة كيلة، المسألة الفلسطينية، كتاب الهلال، القاهرة، 2017.
[27] علي القادري، مرجع سابق.
[28] سلامة كيلة، مرجع سابق.