رؤى

عمرو عادلي

لماذا لن تؤدي أزمة الرأسمالية الراهنة إلى حرب عالمية ثالثة؟

2019.01.01

مصدر الصورة : AFP

لماذا لن تؤدي أزمة الرأسمالية الراهنة إلى حرب عالمية ثالثة؟

بعض اللحظات التاريخية تتسم بخصوصيةٍ كبيرة، إذ تشهد انقلابات واسعة في القيم المعرفية والجمالية والأخلاقية، وتهتزّ فيها الثوابت التي استند إليها الفكر والممارسة لعقود طويلة، وتنهار فيها تلك السرديات الكبرى وتلك النقاط المرجعية المعتادة التي ما فتئت تُوفِّر الأساس والمرجع الأقصى لكل فكر مجرد أو تفسير للواقع أو يوتوبيا للغد

يمكن القول إن النظام الرأسمالي العالمي لم يتعاف قط من الأزمة المالية التي ضربته في نهاية 2008، وعلى الرغم من أن التدخلات الحاسمة للحكومة الفيدرالية الأمريكية قد أسفرت عن إنقاذ القطاع المالي الأمريكي، وهو نفسه مركز النظام المالي العالمي، إلا أن ما خلفه ذلك الاضطراب منذ عشر سنوات تقريبًا على القطاعات الحقيقية للاقتصاد لا يبدو أنه قد تجاوزه. لم تنم التجارة العالمية بذات معدلات ما قبل 2008 بل أصبحت رهنًا بدورات قصيرة من النمو متبوعة بأخرى من الركود، وفي الوقت نفسه فإن الرأسمالية التمويلية أو الماليةFinancial Capitalism ،  والتي تقوم على تداول منتجات مالية منبتة الصلة عن الاقتصاد الحقيقي لا تزال هي الأخرى عرضة لاضطرابات محتملة ناتجة عن توسعها المستمر ما يفوق قدرة الجهات الدولية –والأمريكية- المنظمة لها على المتابعة والتنظيم، كما أنه ناتج عن اضطلاعها بالدور الأكبر في توليد النمو في النمط الحالي من الرأسمالية التي لا تعتمد في توليد أعلى القيم الاقتصادية على الصناعات الثقيلة بل على قطاعات تعتمد على تكنولوجيات خاصة بالمعلومات والاتصالات؛ حيث تعمل الشركات الأكبر على مستوى العالم مثل أبل وجوجل وفيس بوك أو بخدمات إليكترونية المحتوى هي الأخرى كأمازون أو أوبر وليفت. إن هذا يجعل من تقييم أصولها المتداولة في أسواق المال العالمية مسألة بالغة التعقيد من ناحية، وشديدة التوتر من ناحية أخرى على نحو ينسحب على أداء الاقتصاد العالمي شديد الترابط في يومنا هذا، ويخلق ذلك الشعور الدائم بالتهديد أو بالحدوث الوشيك لكارثة مالية جديدة تأتي النظام العالمي من حيث لا يحتسب، والذي بدوره يؤدي لتدعيم ذات المنطق الذي وصفه يومًا الاقتصادي الأمريكي الشهير بول كروجمان باقتصاديات الكساد، التي تقوم على دورات قصيرة من النمو تتبعها دورات أطول نسبيًّا من الركود.

إن النظام الرأسمالي، وهو عالمي بطبيعته خاصة بعد موجات ما يسمى بالعولمة في الأربعين سنة الماضية، في أزمة، ولكن أزمته هذه لا تشبه كثيرًا أزمة سلفه العالمي الذي انهار بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، والذي شهد الكساد العظيم (1929-1939) إذ أن معدلات البطالة في بلاد المركز: الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تظل بعيدة – وبعيدة كثيرًا– عن نظيراتها في أثناء الكساد العظيم، بل إن البطالة حاليًا في الولايات المتحدة عند أحد أدنى معدلاتها في التاريخ المعاصر، كما أن الأزمة ليست في حالة كساد بمعنى عدم القدرة على تصريف ما يتم إنتاجه بالنظر  إلى تراجع القدرة على الاستهلاك ما يفضي إلى انخفاض معدلات النمو، فالاقتصاد الأمريكي لا يزال قاطرة الاقتصاد العالمي في الاستهلاك، والولايات المتحدة أكبر مستورد في العالم، بل إن اقتصادها قد تعافى من أزمة 2008 وعاد لتوليد معدلات نمو مرتفعة بمقاييس البلاد المتقدمة –مقارنة بالاتحاد الأوروبي واليابان– منذ نهاية عهد أوباما، وشركاته الكبرى في بورصة نيويورك قد حققت بعض أفضل الأداءات في السنتين الماضيتين سواء فيما يتعلق بقيم أسمهما السوقية ما ينم عن تفاؤل باستمرار الأداء القوي بل وكذلك فيما يتعلق بالأرباح. إن مأزق الرأسمالية في طورها النيوليبرالي المعولم يبدو أنه في التوزيع قبل أي شيء آخر، والتوزيع هنا غير إعادة التوزيع الذي يجري من خلال تدخلات سياسية بأدوات كالضرائب أو الإنفاق العام، إذ يشير التوزيع إلى الأنصبة المختلفة التي تذهب لعناصر الإنتاج مما يتم تحقيقه من ناتج كالأجور للعمال والأرباح لأصحاب رأس المال.

أزمة توزيع

أعيدت هيكلة علاقات الإنتاج منذ الثمانينيات بالتوازي على المستويين القومي والعالمي تحت تأثيرات الأيديولوجيا النيوليبرالية، التي أعادت تعريف دور الدولة تجاه السوق. فبعد أربعة عقود تلت الحرب العالمية الثانية كانت فيها الدولة في البلدان الرأسمالية منظمًا لسوق العمل وصاحبة قطاع عام كبير (ناهيك بالتجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وفي العالم الثالث التي تبنَّت أيديولوجيات اشتراكية أو قومية)، أصبحت الدول قائمة على تحرير الأسواق سواء داخلها فيما يتعلق بأسواق المال والعمل، أو ما بينها وبين دول العالم الأخرى خصوصًا انتقالات رؤوس الأموال والسلع والخدمات وبدرجة أقل الأفراد. كانت بداية التحول مع صعود مارجريت ثاتشر ورونالد ريجان المتزامن تقريبًا، والذي سمح بأن تلعب الولايات المتحدة دورًا بارزًا في فتح المزيد من الأسواق عالميًّا ودمج بلدان العالم الثالث فيها، وهو الأمر الذي كان قد بدأ بمحاولات نيكسون في منتصف السبعينيات لتحقيق انفتاح سياسي ودبلوماسي على الصين الشعبية، ثم كانت لحظة سقوط الاتحاد السوفيتي ومعه الشيوعية كبديل أيديولوجي لتتأكد على نحو غير مسبوق وحدة العالم تحت مظلة أيديولوجية واحدة: وهي الليبرالية بشقيها الاقتصادي والسياسي، في عالم معولم منفتح بتدفقات لا تبدو إنها نهائية للسلع والخدمات ورؤوس الأموال والمعلومات وأنماط الاستهلاك والمسافرين والمهاجرين والتكنولوجيا. ولم تخيب النتائج التوقعات، فما بين مطلع الثمانينيات و2008 نمت التجارة العالمية بمعدلات تفوق تلك الخاصة بنمو الناتج المحلي العالمي (وهو جمع النواتج الإجمالية المحلية لدول العالم)، ومكن انفتاح العالم على بعضه البعض من إعادة موضعة الإنتاج خارج الحدود القومية بحثًا عن تكاليف أقل خاصة فيما يتعلق بالعمالة، ولكن كذلك للنفاذ للأسواق الكبرى، وكانت الصين هنا بمخزونها البشري الكبير من العمالة الرخيصة والماهرة هي أهم جوائز ذلك العالم في طور العولمة، فانتقلت رؤوس الأموال الأمريكية والأوروبية للاستثمار في الصين، أو قامت بالاعتماد على استيراد مدخلات من منتجين صينيين في مقابل التركيز على الاستثمار في تطوير التقنيات مرتفعة القيمة، وكانت التكنولوجيا وبخاصة الأتمتة Automation تدفع بوضوح تجاه نمو لا يعتمد كثيرًا على التوظيف.

حظي نمط الإنتاج الجديد هذا بالعديد من التوصيفات: فسماه البعض ما بعد الفوردية Post-Fordism، في إشارة للتحول من نمط التصنيع الثقيل المتمركز جغرافيًّا في بقعة محددة والمندمج رأسيًّا كما كان الحال في مصانع الخمسينيات والستينيات في الولايات المتحدة وغيرها، والذي سمح بظهور مدن صناعية تحوي عشرات الآلاف من العمال الذي يعملون على خطوط تجميع مرتبطة ببعضها البعض. لقد كان ذلك النمط يسمى بالفوردية نسبة إلى هنري فورد صاحب مصنع السيارات الشهير، والذي ينسب إليه ذلك النموذج في عشرينيات القرن الماضي، أما ما أصبح غالبًا في العقود الأخيرة من القرن العشرين فهو نموذج ما بعد الفوردية الذي تفقد فيه العملية الإنتاجية مركزتها الجغرافية في مكان واحد، وتصبح موزعة بين عدة دول وربما عشرات الدول تتخصص فيها مصانع في أجزاء وجزئيات يتم إنتاجها ثم استخدام التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصال والنقل لتجميعها ومن ثم توزيعها. وبجانب التوصيف هذا فقد أطلق على النمط الحالي ما بعد الصناعي كون انتقال القيم المضافة الأعلى من الصناعات الثقيلة إلى الصناعات ذات المحتوى التكنولوجي المرتفع وفي بعض الأحيان ذات المحتوى المهاري المرتفع، وبالتالي لم تعد مراكز إنتاج الصناعات الثقيلة هي التي تحصل على أعلى عائد من المنتجات النهائية بل أصحاب الأفكار والإبداعات، وليس أدل على هذا من تصدر شركات كأمازون وأوبر وفيس بوك المشهد، وهي التي لا تنتج ما يمكن أن يمسكه أحدنا بيديه. وقد لخص ذلك الانتقال في إنتاج القيمة وتوزيعها الاقتصادي السياسي الماركسي بوب جيسوب عندما تحدث عن مرور العالم الرأسمالي من الكيزنية (نسبة للاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز) إلى الشومبيتيرية (نسبة للاقتصادي النمساوي يوسف شومبيتر) أي اقتصاد قائم على الإبداع والأفكار. فما المشكلة إذن؟

المشكلة أن إعادة هيكلة عمليات الإنتاج هذه قد أتت على حساب قطاعات اقتصادية تعتمد عليها شرائح اجتماعية ومناطق جغرافية فأصابتها بالبطالة أو ما هو أسوأ من حيث العمل بعائد ضعيف للغاية وبظروف عمل غير مستقرة، وهو ما حدا بالكثيرين إلى رصد عملية نزع للتصنيع أي تفكيك للصناعة الثقيلة من الولايات المتحدة وكذلك بريطانيا مقابل إعادة توطينها في الصين على وجه الخصوص. لم تكن عولمة الإنتاج إذن مفيدة لدول بكاملها على حساب أخرى بل كانت لها تبعات متفاوتة داخل كل وحدة سياسية بما في ذلك البلدان المركزية الأشد تأثيرًا في رسم ملامح الرأسمالية في طور العولمة كالولايات المتحدة وبريطانيا بدرجة أقل. قد يكون صحيحًا أن الولايات المتحدة وبريطانيا لم تخسرا قدراتهما على النمو، وأن الولايات المتحدة خصوصًا لم تفقد مركزها كأكبر اقتصاد في العالم وكأكبر منتج وممول لإنتاج التكنولوجيا والاكتشافات والاختراعات، ولكن ببساطة كان العائد متركزًا في مناطق جغرافية بعينها كالساحلين الشرقي والغربي الأمريكيين خلافًا للوسط والجنوب (وحتى مناطق شمالية مثل ميتشجين معقل التصنيع الثقيل الفوردي في الخمسينيات والستينيات)، وفي قطاعات تولد عائدًا ضخمًا للغاية لعدد صغير نسبيًّا من الناس، بينما عانت الطبقات العاملة من ركود في أجورها الحقيقية، واعتمدت بشكل متزايد على شتى أشكال الاقتراض لتمويل الاستهلاك، الذي ظل عمود النمو الاقتصادي العالمي. وبدا الأمر متفقًا مع رواية الأكاديمي النيو ماركسي ديفيد هارفي عن المشروع النيوليبرالي، والذي رآه مشروعًا طبقيًّا معولمًا يقوم على إعادة تعريف دور الدول لصالح رأس المال الكبير –لاسيما التمويلي– من خلال برامج كخصخصة الأصول المملوكة للدولة والالتزام بتحرير حركة التجارة في السلع والخدمات ورؤوس الأموال وتقديم ما يكفي من ضمانات وامتيازات واعفاءات بل وأوجه دعم لاجتذاب رؤوس الأموال من أجل الاستثمار؛ ما عناه هذا من تخفيض في حصص الضرائب على رأس المال في مقابل تجميد الأجور الحقيقية للعمال باعتبار أن هذا ضروري للتنافس على جذب رؤوس الأموال، ومع تراجع أهمية التنظيم النقابي في عالم تتحرك فيه رؤوس الأموال بحرية واسعة بحثًا عن أفضل فرص الاستثمار. وقد أدى هذا جملة طبقًا لهارفي إلى إعادة توزيع الدخول والثروات على مستوى عالمي من أسفل لأعلى؛ أي من الأفقر إلى الأغنى من خلال العديد من الأدوات بعضها يقوم على نقل الملكية العامة من أراضي وشركات القطاع العام والاحتكارات الحكومية إلى ملكية خاصة عبر الخصخصة، وبعضها الآخر يقوم على تحرير أسواق العمل بإزالة أشكال الحماية النقابية والتأمينية للعمال، بينما يقوم بعضها الثالث على الإعفاءات الضريبية لرأس المال واعتماد الدولة على الاقتراض لتمويل نفقاتها الأساسية فيما عرف بدولة الدين على حد تعبير فولفجانج شتريك في كتابه «شراء الوقت» الصادر في 2013.

لقد أدت عقود أربعة من إعادة التوزيع إلى أعلى إلى تحريك الخاسرين سواء بوعي طبقي أو بوعي قومي تحت زعم القومية الاقتصادية واستعادة السيادة، أو بوعي عنصري موجه ضد المهاجرين والتعدد الثقافي، لم يكن صعود اليمين المناهض للعولمة خاصة بعد أزمة 2008 المالية تعبيرًا عن العداء للرأسمالية كنمط للتنظيمين الاقتصادي والاجتماعي، ولكنه كان مناهضًا للرأسمالية المعولمة، وراغبًا في إعادة عقارب الساعة للوراء من خلال إعادة توطين الأنشطة المولدة للعوائد الكبيرة داخل الحدود القومية، وبالتالي إعادة استخدام «سيادة» الدولة للتأثير على الآثار التوزيعية لصالح المواطنين على حساب العمال الأجانب والمهاجرين وبالحد من فرص نقل التكنولوجيا والوظائف خارج الحدود من أجل تعظيم ربحية الشركات الكبرى. ومن هنا كان الصراع حول إعادة تعريف دور الدولة في الاقتصاد بما حمل إلينا تحولات كبرى مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والمشاعر المعادية للاتحاد في دول أعضاء كإيطاليا والمجر بل وفرنسا، وبالطبع صعود دونالد ترامب بخططه لاستهداف الصين في حرب تجارية لا تبقي ولا تذر حتى تستعيد الولايات المتحدة مكانتها في صدارة العالم مع إعادة التفاوض على اتفاقات التجارة مع كندا والمكسيك وتشييد سور عظيم يقيها شر المهاجرين واللاجئين الزاحفين من الجنوب.

طبقات رأسمالية معولمة

لم تكن الطبقات الرأسمالية المستفيدة تلك من إعادة التوزيع متركزة في بلد واحد، فبشكل يعكس عولمة الإنتاج أو نمط الإنتاج ما بعد الفوردي، فإن توزيعها كان مجاوزًا للدول القومية وبما يعبر عن تشابكات داخل القطاع الواحد لا عن متنافسين مندمجين رأسيًا متركزين في بقاع جغرافية متباعدة كما كان الحال في النصف الأول من القرن العشرين. ولنضرب مثالاً بالصين في علاقتها بالولايات المتحدة؛ فقد استند النمو الاقتصادي المبهر في الصين منذ نهاية السبعينيات (والمقدر بمتوسط 10 % سنويًّا في العقود الأربعة الماضية) على التوسع في الصناعات التصديرية كثيفة العمالة، والتي كان ينتهي الجزء الأكبر منها في الولايات المتحدة الأمريكية إما مباشرة كسلع نهائية، وإما كمدخلات في منتجات أمريكية، وهو ما استدعى استثمار بعض الشركات الأمريكية في الصين وما يجاورها من دول في شرق آسيا، كحال شركات التقنية مثل آبل، وتجميع ما تنتجه هناك بأقل تكلفة ثم تصديره إلى الولايات المتحدة. كانت المحصلة النهائية عجزًا مهولاً في ميزان التجارة لصالح الصين، والتي عمدت نخبتها السياسية -–شديدة التداخل مع نخبتها الاقتصادية كحال دول العالم الثالث– إلى أن تصدر أكثر مما تستورد حتى تراكم احتياطيات دولارية بالغة الضخامة، من خلال الحفاظ على ارتفاع العملة الصينية اليوان بما يخفض من تكلفة التصدير ويرفع من تكلفة الاستيراد. وتمكنت الصين من خلال تلك الإجراءات من تخفيض الاستهلاك عامة داخلها على نحو قد يفسر الارتفاع الشديد في معدلات الإدخار، والتي ترجمت إلى معدلات استثمار بالغة الارتفاع أسهمت في توليد المزيد من النمو على المدى البعيد.

بيد أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين أشد تعقيدًا من مجرد اعتبار المسألة مكسبًا خالصًا للصينيين على حساب الولايات المتحدة كما يصور ترامب وأعوانه الراغبين في الضغط على الصين كي تخفض من عملتها، وتسمح بالمزيد من الاستيراد من الولايات المتحدة إذ أن العجز التجاري الأمريكي إزاء الصين يحمل في طياته أرباح الشركات الأمريكية المنتجة في الصين، والتي يؤشر أداؤها في سوق الأوراق المالية إلى نمو وازدهار الاقتصاد الأمريكي، بل ولنزيد تعقيدًا إلى القصة فإن احتياطيات الصين الدولارية الضخمة هذه والتي تبلغ نحو التريليونات الثلاثة لا قيمة لها إلا كونها مقومة بالدولار، العملة العالمية لجل التجارة العالمية إذ أن اليوان يظل بعيدًا كل البعد عن أن يتحول إلى عملة للتجارة العالمية. وما مقصد الحكومة الصينية لاستثمارها سوى أسواق المال الأمريكية ذاتها، وخصوصًا أذون وسندات الخزانة الأمريكية، وهي الأموال بالمناسبة التي تستخدم في نهاية المطاف لسد عجز الميزان التجاري الأمريكي بصورة أو بأخرى، وذلك كي لا يتعرض الدولار لأي هزات لأنه من مصلحة الصين بالأمس واليوم الحفاظ على قيمة العملة التي تحمل بها كل احتياطياتها، كما أن من مصلحتها الحفاظ على قدرة الأمريكيين الشرائية كونهم أكبر مستهلك في العالم، وأكبر مستورد لما تنتجه الصين. وهكذا، فليس من قبيل المصادفة أن تراهن حكومة الحزب الشيوعي الصيني (والذي يحوي مكتبه السياسي أكبر عدد من الملياديرات في أي حزب سياسي في العالم بما في ذلك الحزب الجمهوري الأمريكي) – أن تراهن على الشركات الأمريكية الكبرى لتكبح جماح ترامب في حربه التجارية ضدها، وأن تكون دعواها الأساسية أن في استمرار الحرب تقويض أسس نمو الاقتصاد الأمريكي ذاته.

وداعًا لينين

في مطلع القرن العشرين (1905 تحديدًا) كتب فلاديمير لينين رسالة تعد من مقدمات الاقتصاد السياسي الدولي من المنظور الماركسي تحت عنوان «الإمبريالية: المرحلة الأخيرة من الرأسمالية»، كان طرح لينين مباشرًا إلى حد كبير. اعتمد لينين على قوانين الماركسية الخاصة بالتراكم وبانخفاض معدلات الربح، والتي أفضت إلى الكثير من التركز في البلدان الرأسمالية بنهاية القرن التاسع عشر، وظهرت في صورة احتكارات بنكية تملك مجموعات أعمال ضخمة، وتعمل كمستودعات لفوائض رأسمالية ضخمة للغاية تبحث عن عائد، وفي ظل غلبة النمط القومي – الإمبريالي في مركز الرأسمالية الأوروبي وقتها إذ كانت كل دولة رأسمالية كبرى كبريطانيا وفرنسا (والولايات المتحدة بالمناسبة) وكذلك هولندا دولاً قومية في أوروبا، وإمبراطوريات استعمارية خارجها، ومن هنا وجد لينين أن التركز الشديد قد خلق احتكارات خاصة على أسس قومية-إمبريالية جعلت مساحة كبيرة من التماهي بين الدول/الإمبراطوريات وبين رأس المال التمويلي بالأخص الباحث عن فرص للاستثمار في إمبراطورية بلاده وراء البحار، ولما كان العالم قد اكتشف فلم تكن ثمة مساحة لتوسع القادمين الجدد إلى العالم الرأسمالي وخصوصًا ألمانيا واليابان فما كان من بد إلا وأن تندلع حروبًا إمبريالية كبرى تدمر النظام الإمبريالي ومعه النظام الرأسمالي، ومن هنا كانت الإمبريالية علامة على إشكالات تصريف فائض رأسمال لا تتحقق إلا بحروب مدمرة للنظام نفسه (نعم هذه هي التناقضات الماركسية المدهشة التي كان ينتظر أن تقضي على الرأسمالية ولكنها لم تقض عليها قط، حتى اليوم على الأقل).

يقيس البعض ما يجري من تأزم للعلاقات الرأسمالية على المستوى العالمي على ما كتبه لينين قبل أكثر من مئة سنة، ويرون في تصاعد التوتر بين الدول الكبرى من الولايات المتحدة وروسيا والصين، ودلائل انحسار زمن السلام الأمريكي مع الصعود القوي ليمينيات تشبه فاشيات الكساد العظيم، والنظم العسكرية التي صاحبته في السياقات الأكثر تخلفًا، يرون هذا كله مقدمة لحرب عالمية أو ما يشبه، وربما تكون هذه هي نهاية الرأسمالية أو على الأقل نهاية الرأسمالية في صيغتها النيوليبرالية المعولمة.

يقول بانيتش وجندن في كتابهما العمدة الصادر في 2012 بعنوان «صناعة الرأسمالية المعولمة» إن النمط الحالي للإنتاج الرأسمالي المتميز بالبوست فوردية والقائم على حرية تدفقات رؤوس الأموال حول العالم بحثًا عن أعلى عائد ممكن –مهما كلَّف هذا النظام من اضطراب واحتمالات بأزمات مدمرة– لا تمكن من ظهور الاندماج بين طبقة رأسمالية كبيرة معرفة على أساس قومي، وبين حكوماتها على غرار ما وقع قبل الحربين العالميتين، وبما إنهما ماركسيان أيضًا فإنهما لا ينكران البتة أن النظام الرأسمالي في أزمة، بل وفي أزمة عميقة، ولكنهما في ذلك يريان أن أزمته لن تترجم إلى أزمات دولية كبرى تؤدي لصدامات بين الدول والجيوش والعروش والترسانات النووية وأساطيل البحار السبعة وغيرها من الرطانة المحببة إلى الأستاذ حسنين هيكل ومريديه، بل ستؤدي إلى تعميق الأزمات الاجتماعية (سواء أخذت طابعًا طبقيًّا واعيًا أم لا) في المراكز الرأسمالية الأكثر اندماجًا في النظام المعولم، وهو ما ثبتت صحته بالفعل مع صعود أناس مثل ترامب الذي بعد سنتين من بقائه في السلطة لا يبدو أنه يعلم تمامًا ما يريد تحقيقه، ومثل بوريس جونسون ومعه فوضى بريكزيت الممتعة، وفي خضم ذلك صعود حزبين في إيطاليا مناهضين «للمؤسسة التقليدية» يمنة ويسرة، يريدان تطبيق برنامج توسعي لدولة لديها عجز هائل في الموازنة ودين عام ربما يكون الأكبر في أوروبا، ولا تملك قرار تخفيض عملتها أصلًا لأنها عملة أوروبية موحدة ناهيك بمارين لوبن بالطبع التي تحدثت قبل جولة الإعادة عن إعادة تقديم الفرانك الفرنسي ليكون عملة التداول المحلي مع الاحتفاظ باليورو ليكون عملة للتجارة الخارجية (وهو كلام لا معنى له أصلاً).

إن هذه الأصوات تعبر عن أزمات في النظم السياسية المعروفة باسم «ديمقراطيات السوق»، وفي الغالب هي لا تعبر عن مشروعات أو حتى برامج لكسر العولمة أو لتعديل شكل تطور الرأسمالية لأنها قبل كل شيء يمينية ومحافظة ستصب جام غضبها على المهاجرين السوريين وأولئك الهاربين من تشاد والنيجر وهندرواس ونيكاراجوا، وستحرض ضد المسلمين واللاتينيين، ولكنها لن تذهب للحرب ضد روسيا، ولن تقصف بكين بالقنابل النووية. إن تفاهة اليمين الحالي لا تعني الاستهانة بما قد ينزله بالشرائح الأضعف، ولا هو دعوة لاعتبار صعوده مرحليًّا إيذانًا بعودة الأمور لما كانت عليه، إنما هي دعوة للتفكر في أي أبعاد أكثر «جدية» ستتخذها أزمة الرأسمالية داخل وليس بين الكتل والدول الكبرى.