دراسات

طارق حجي

اللحظة الحالية وأفول الإسلام الحداثي

2019.01.01

مصدر الصورة : ويكيبيديا

اللحظة الحالية وأفول الإسلام الحداثي

بعض اللحظات التاريخية تتسم بخصوصيةٍ كبيرة، إذ تشهد انقلابات واسعة في القيم المعرفية والجمالية والأخلاقية، وتهتزّ فيها الثوابت التي استند إليها الفكر والممارسة لعقود طويلة، وتنهار فيها تلك السرديات الكبرى وتلك النقاط المرجعية المعتادة التي ما فتئت تُوفِّر الأساس والمرجع الأقصى لكل فكر مجرد أو تفسير للواقع أو يوتوبيا للغد

هذه اللحظات تفرض -حين الوعي بها- مراجعة الخطابات الفكرية السائدة، التي تدَّعي امتلاكها الفكر والتفسير والوعد، بغية تبيُّن البنية الفكرية لهذه الخطابات، واستكشاف السياق الذي تتموضع فيه من هذا الواقع المتحول، تمهيدًا لإجابة السؤال الأهم عن مدى امتلاكها فهمًا واضحًا للواقع، أو مدى قدرتها على تقديم أي حل لإشكالاته، أو بلورة لأفقٍ يتم فيه خلق غده.

يحاول هذا المقال أن يُحلل أحد الخطابات المهمّة على ساحة الفكر العربي المعاصر، وهو خطاب “تحديث الإسلام/ الإسلام الحداثي” – في ثنايا المقال يظهر سبب التسمية- إذ نحاول التساؤل عن قدرة هذا الخطاب على إدراك “اللحظة الحالية” وفهمها وتقديم حلٍ لإشكالاتها وبلورة أفقٍ يُمكِّن من تجاوزها معرفيًّا وأخلاقيًّا وروحّيًّا.

ستتطلب تلك المحاولة الإجابة على عددٍ من الأسئلة المتراكبة، فأولاً ينبغي تحليل تعرّجات الخطاب الحداثي التاريخية الرئيسة، ورهانات الشكل المعاصر لهذا الخطاب المرتبطة بسياقات نشأته، وعلاقته بالخطابات السابقة عليه في العموم أو داخل التيار الحداثي ذاته، وكذا تصوراته عن موقعه الخاص في سياق مسيرة التحديث العربية الطويلة، وبالتالي دوره الذي يفترضه لنفسه في هذه المسيرة عبر بنائه “النواة الأرثوذكسية للخطاب”، كي نتساءل عن حقيقة هذا الموقع وبالتالي عن قدرته على تحقيق هذا الدور “إنجاز التركيب المُبدِع بين الإسلام والحداثة”، وهذا عبر تحليل بعض أمثلته ومقارنتها بالخطابات السابقة وفقا للقيم التي يعتبرها هو أساسية لإنجاز دوره، وكذا عبر تحليل كيفية تأسيس هذا الخطاب لـ“نواته الأرثوذكسية” وتوزيعه لعناصرها، لننتقل بعد تقديم تشخيص أوَّلي لسياق “اللحظة الحالية” إلي التساؤل حول موضع هذا الخطاب في سياق هذه اللحظة التي نعبِّر عنها بـ“لحظة العابرية”، وهل يستطيع هذا الخطاب وفقًا لبنيته الفكرية والمنهجية ورؤيته للقضايا الرئيسة تشخيص إشكالات هذه اللحظة وتقديم حلٍ لها وبلورة أفقٍ يُمكِّن من تجاوزها، أم تقف بنيته ورؤاه كعقبة أمام هذا الإمكان؟!

أولاً: “الإسلام” و“الحداثة”، في الخطاب

1-الإسلام والحداثة، من “التجاور” إلي محاولة “التركيب المُبدِع

يمكن القول بإن الخطاب الحداثي العربي قد مرّ في مقاربته “الإسلام” و“الحداثة” وفي أثناء صياغته معادلة النهوض بين حدَّيها الرئيسين هذين بمرحلتين أساسيتين، المرحلة الأولى هي ما يمكن أن نُعبِّر عنه بـ“الخطاب الحداثي الكلاسيكي” (المجاوِر/ المنفصِل/ المعارِض) والذي يُقدِّم رؤيته للتحديث؛ كمناداة بأهم أفكار الحداثة “العقلانية، الحرية”، وكدعوة لتكريس التحديث السياسي والمعرفي عبر؛ استجلاب المؤسسات الحديثة “البرلمان، الجامعة المدنية، الصحافة” كمؤسسات بديلة للمؤسسات التقليدية، واستحضار النظريات العلمية الحديثة حول نشأة العالم ونشأة الإنسان “نظرية نيوتن، نظريةكوبرنيقوس، نظرية فرويد، نظرية داروين” كنظريات بديلة للسردية الدينية التقليدية “نظرية الخلق ومركزية الأرض وتعالي الإنسان”، وهذا في موازاة شبه تامة/ تعارض مباشر لـ“الواقع التاريخي الذي يحياه العرب” وكذا لـ“الإسلام” الذي يُشكِّل المرجعية الروحية والمعرفية وجوهر التجربة التاريخية ومصدر أنماط التذوُّت لهذه الشعوب، أي في موازاة ومعارضة لـ“التقليد”، وبالتالي فالتحديث في هذه المرحلة كان تحديثًا “فوقيًا” بمعنى أنه لا يمكن أن يكون إلا مفروضًا من أعلى لا نابعًا من تطورات الفكر والواقع العربي “تطوُّر التقليد” مما يجعله ضد حركة التاريخ، وبالطبع -وبالتالي- “سياسويًا” بمعنى أنه والحال كذلك لا يمكن له أن يوجد إلا عبر وجود قوة سياسية حاكمة تتتبناه وتفرضه ضد الواقع والتاريخ، فهو “تحديث النخبة ضد الأمة” كما يمكن أن نستعير من برهان غليون، و”لا مباليًا/ مجاوِرًا/ معارِضًا/ مُنفصِلًا” عن البنى المعرفية التقليدية التي تؤطِّر الفكر والممارسة.

أما المرحلة الثانية من “الخطاب الحداثي العربي” فهي مرحلة “محاولة التركيب المُبدِّع” بين حدي معادلة النهوض “الحداثة” و”الإسلام” بدلًا من “المجاورة/الانفصال” بينهما، وهي المرحلة التي اقتضت تغيير نمط مقاربة “الإسلام” و”الحداثة” كليهما، إذ تم فيها الانتقال من مقاربة “الحداثة”؛ كمجموعة من الأشياء التي يكفي استحضارها وتكديسها، أو مجموعة من المؤسسات التي تُستجلَب، أو مجموعة من الأفكار والنظريات العلمية التي تُنقَل، في كلمة واحدة التعامل معها “برانيًّا” أي مع ظاهرها وقشورها، و”نتائجيًا” مع ما تنتج من أفكار ومؤسسات وأشياء، إلي التعامل معها “معرفيًا” و”جوانيًا” عبر النفاذ إلي “علتها” أي “مناهجها المعرفية”، وهذا عبر مقاربتها كـ”أداة منهجية” لتناول “التراث الإسلامي”، هذا الذي لم يعد من الممكن تركه في “تساكن/ تجاور/ انفصال/ تعارض” مع التحديث، بل أصبح لا يمكن للتحديث أن يترسَّخ إلا إذا مرّ تجاهه وعبره، وهذا لأن المنهجيات المعرفية المُتشكِّلَة في التراث خصوصًا حول النص القرآني هي التي شكَّلَت وفقًا لرواد هذا الخطاب “مركز العقل المعرفي العربي” المُحتاج للنقد والتفكيك من أجل إنجاز التحديث “المعرفي” و“التأسيسي”، كذلك فهذا العقل هو الذي يُشكِّل الواقع الحقيقي أي “نظام المعنى خلف الواقع” للفضاء العربي كما يُعبِّر علي مبروك مما يجعل إنجاز التحديث رهنًا بتحديث “نظام المعنى” هذا واختراقه لا القفز فوقه أو تجاهله، هذا وذاك جعل على التحديث العربي إذا أراد لتحديثه أن يكون “جوانيًّا” و“معرفيًّا” أن ينتقل حتمًا لمرحلته الثانية هذه التي يمكن أن نُعبِّر عنها بـ“تحديث الإسلام” إذ عبَّرنا عن العملية ذاتها أو بـ“الإسلام الحداثي” إذا عبَّرنا بالرهان المراد الوصول إليه من هذه الانعطافة، في هذا السياق تحضُر القراءة الحداثية “التاريخية والاجتماعية” للتراث- والدين والقرآن كأداة هذه الانتقالة الرئيسة.

هذه الانعطافة في الخطاب وأنماط مقاربته لـ“الحداثة” ولـ“الإسلام” كانت لها أسبابها وكذا كانت لها نتائجها المهمة على أكثر من مستوى خصوصًا مستوى “تأسيس مرجعيات الخطاب”، ونظنّ أن تحليل هذه الأسباب وهذه النتائج يستطيع أن يضيء لنا العديد من المساحات التي تجعلنا أقدر على فهم هذه الانعطافة من المرحلة الأولى “الإسلام بجوار الحداثة” للمرحلة الثانية “التركيب المُبدِع بينهما” وتبيُّن رهاناتها وتقييم مسارها.

فبالنسبة لأسباب هذه الانتقالة أو “سياقاتها المُنشِئَة” فنستطيع القول إن هذه الانتقالة تمَّت في مرحلة ما يُسميه علي مبروك “التأسيس الثاني للنهضة” (1958- 2016)، أو ما يُسميه جابر الأنصاري “العلمانية الإسلامية” (1939)، والسبب في هذه الانتقالة هو من وجهة نظر مبروك فشل الخطاب الأول في تحقيق أيّ من أهدافه الواقعية أو المعرفية، إذ انتهت آمال التنوير واقعيًا بهزيمة عسكرية مع عرابي وكذا انتهت معرفيًا بسيطرة سمات “التجاور” و“التلفيق” و“الانتقائية” و“الفوقية” على الخطاب الحداثي ومجمل الخطاب العربي الذي بات بهذا خطابًا “سكونيًا غير مبدع”، هذا التأزُّم الواقعي والمعرفي للخطاب هو ما أسفر عن ضرورة “التأسيس الثاني للنهضة”، وهي إعادة تأسيس معرفية بالأساس هدفها نقد السمات المعرفية المُشكِّلَة لبنية الخطاب العربي وفي القلب منه بنية الخطاب الحداثي من أجل إعادة بناء الأخير معرفيًّا وتوجيهه لطرح التأسيسي فحسب من الأسئلة وتحويل نظرته للتحديث وللإسلام بما يضمن إنجاز التنوير وقطع الطريق على أيّة رِدّات سلفية “ضد نهضوية” أو أي اختراقات من الخطاب الضد.

ويرى مبروك ونصر أبو زيد أن هذه المرحلة بدأت بالأساس مع خطابات طه حسين (1889 - 1973) وزكي نجيب محمود (1905- 1993)، إذ مع هذين الاسمين بالذات تم تحقيق الانتقالة في التعامل مع حدي معادلة النهوض “الحداثة” و“الإسلام” وكل ما يتعلق بهما من ثنائيات “الأصالة/المعاصرة”، الدين/العلم”، “الوجدان/العقل”، من “التساكن والتجاور” إلي محاولة “التركيب المُبدِع”، إذ  تم تحويل النظر لـ“الحداثة” من كونها أشياء أو أفكار إلي كونها “مناهج علمية” يستطيع الفكر العربي الاستفادة منها في “تحليل بناه المعرفية” في أخص مساحاتها أي مساحة “الدين الإسلامي” وأخص مساحات عقلها المعرفي أي “قراءة النص القرآني”.

يتضح هذا بالأساس في اشتغال العميد على مساحات من التاريخ الإسلامي بمنهجية مستمدة من علم الاجتماع الفرنسي، وكذا اشتغاله بـ“المنهج الديكارتي” على الشعر الجاهلي والممتد للقرآن بملاحظة عابرة سيكون لها أثرها حول دراسة القصص القرآني لاحقًا، وهو الذي يُعدّ بالفعل اشتغالًا جديدًا في السياق الحداثي العربي ونقطة تحول فيه، زادها أهميةً اتجاه العميد إلي تدريس أصول الثقافة اليونانية واللاتينية في كلية الآداب باعتبارها تحمل المبادئ التأسيسية للحداثة والعقلانية الأوروبية.

واشتغال العميد هذا له أهمية خاصة من موقعه كعميد كلية الآداب في الجامعة المصرية التي كانت مركز هذه الانتقالة، فكما يرى مبروك فإن إنشاء هذه الكلية ووضع مناهجها كان هدفه تجاوز أزمة خطاب الحداثة بنقل التحديث من “الجيش إلي الجامعة”، من السياسية إلي المعرفة، من النتاج إلي المنهج.

هذه الانعطافة الحاصلة في الخطاب كانت لها بالطبع بعض النتائج المهمة على أكثر من مستوى، لكن النتيجة التي تعنينا هنا لتعلقها بتأسيس هذا الخطاب ونظرته لدوره في سياق التحديث هي الخاصة بمستوى “ تأسيس مرجعيات الخطاب”، إذ قام الخطاب الحداثي بعد هذه “الانعطافة” في مساره بمحاولة إنشاء ما يعبر عنه محمد الحداد بـ“النواة الأرثوذكسية” وهي عبارة عن خط “وهمي” ممتد يخلقه تيار فكري ما ليجمع بين مرجعيات لخطابه تعطيه شرعيةً وامتدادًا في التاريخ، وهذا “الخط الوهمي” تم مدّه مع خطابي حسين وزكي نجيب ثم مع أمين الخولي (1895- 1966) ومحمد أحمد خلف الله (1904- 1989) إلي محمد عبده (1849- 1905)، باعتباره مُؤسِّس “الإصلاح الديني” ومبتدئ “عقلنة الدين”، وهي عملية تطلبت إعادة تركيب لخطاب عبده، إذ تمّ تغليب الرؤية العقلانية على خطابه والرغبة في إنجاز التحديث على رهاناته -هذا مع أن التمايزات الدقيقة بين الخطابات التحديثية والإسلامية رؤيةً ورهانًا لم تحدث أصلاً إلا بعد عبده!-، إعادة التركيب هذه لخطاب الأستاذ الإمام ووضعه في بداية النواة الأرثوذكسية الجديدة للخطاب هو أمر تطلبه الخطاب بانتقاله من “العقلانية المجاوِرة للإسلام” غير العائبة به إلي “التركيب المُبدِع” بينهما، كذلك فهو ما سيؤدي لاحقًا –وكما سيأتي- وفي أثناء صياغة الخطاب المعاصر لدوره وموقعه وللسمات التي تفرقه عن غيره -عن “خطاب عبده ثم خطاب العميد وزكي نجيب”- وتضمن له إنجاز التنوير إلي اتهام خطاب عبده بـ“التلفيق” بين “التراث” و“الحداثة” –وهو الوصف الذي لا يمكن أن يتصف به أي خطاب إلا بعد تمايز الخطابات تجاه هذه القضايا أصلًا-، كما أنها هي التي ستبرر تشخيص سبب عدم قدرة خطاب عبده على إنجاز التنوير المراد بتلفيقيته تلك والتي ستُربَط بسيطرة “التفكير بالأصل” على خطابه وانتقالها من خلاله إلي كل خطاب يخفق في إنجاز التنوير، مما سيجعل بإمكان الخطاب الحداثي المعاصر أن يُقدِّم خطوة “الدراسة التاريخية والاجتماعية للدين” – مركز القراءة الحداثية للدين التي تُمثل أداة الخطاب الرئيسة- على أنها الخطوة الأساس والطريق الملكي لإنجاز التنوير وللخروج من إخفاق المحاولات السابقة “المتوارثة” لخطيئة “التفكير بالأصل” وغياب الوعي التاريخي.

فهذا التأسيس لـ“النواة الأرثوذكسية” ووضع عبده في مقدمتها بكل ما يحمله هذا من إسقاط وابتعاد عن سياق التاريخ وإعادة تركيب، والذي قام به خطاب “التأسيس الثاني” وتلقفه الخطاب المعاصر دون استشكال منه له ثم استثماره هذه النواة، سيكون حاسمًا في تشكيل هذا الخطاب المعاصر لدوره وللسمات التي يعتبر أنه يفترق بها عن سابقيه، والالتفات لهذا له أثره على تبيُّن مدى دقة رؤيته لهذا الدور وهذه السمات من جهة، وكذا على استكشاف بعض ملامح الخطاب من جهة أخرى، كما سيأتي.

لكن السؤال الآن في هذه المرحلة من المقالة هو؛ هل تحقَّقت بالفعل هذه الانعطافة المطلوبة في “خطاب التأسيس الثاني”، هل نجح خطاب العميد وزكي نجيب محمود في تحقيق تجاوز عيوب الخطاب الحداثي السابق والقيام بإعادة تأسيس معرفي لخطاب الحداثة يجعل نظرته للتحديث “معرفية” و“جوانية” وبعيدة عن أي سمات لـ“للتلفيق” أو “الانتقائية” أو “النفعية” أو أي من سمات “التساكُن غير المُبدِع”؟

الجواب هو - وهي إجابة خطاب الإسلام الحداثي المعاصر بالطبع- لا، فكما يشير علي مبروك فإن الخطاب الجديد الذي حمل مهمة “التأسيس الثاني للنهضة”، هو “مولود الأزمة” لذا فقد وُلِد هذا الخطاب “مأزومًا”، مما يعني أنه لم يستطع تحقيق ما نشأ من أجله فتراجع للسمات التي رفضها، أي إلي “السياسوية” و“الفوقية” و”التجاور” و“التساكن غير المُبدِع”، لكن بدلًا من أن هذا التجاور كان قديمًا ما بين خطابين “حداثي” و“إسلامي” متوازيين أو منفصلين أو متعارضين، فقد أصبح الخطاب الجديد ذاته منقسمًا، بين العلم والدين، الحداثة والتراث، العقل والوجدان، المناهج الحديثة والتراثية.

 فرغم أن “خطاب التأسيس الثاني للنهضة” بدأ بالفعل في تحقيق هذه الانتقالة المرجوة، عندما طبَّق طه حسين منهجه الديكارتي على النص القرآني وعندما طبًّق زكي نجيب منهجه الوضعي المنطقي على الميتافيزيقا، إلا أن هذا التطبيق لم يستمر، إذ تم التراجع مرة أخرى داخل هذه الخطابات للمجاورة بين الإسلام والحداثة، التراث والمعاصرة، العقل والوجدان، هذا حين قرر طه حسين تنحية مساحات الدين الإسلامي عن العقل الديكارتي والكتابة فيها بمنطق مختلف كما تشي مقدمة كتابه “على هامش السيرة”، وقرر نجيب محمود تنحية جانب الدين لخانة الوجدان التي لا يُطبَّق عليها المناهج الوضعية العقلية الجافة –نفيه في خانة الوجدان بتعبيرات نصر أبو زيد-، فانتج خطابًا هو خطابات الثنائيات بامتياز، أدَّى هذا كله لسيطرة التجاورات وما تجرُّه من “انتقائية” و”تلفيقية” على خطاباتهم مرة أخرى وفقًا لما يرى مبروك ونصر.

 هذا المآل للمحاولة الأولى لـ“تحديث الإسلام” وإنتاج “تركيب مُبدِع” بين كل هذه الثنائيات يتجاوز تساكنها، هو ما جعل خطاب “التأسيس الثاني” هو الآخر مُحتاجًا لإعادة تأسيس، وهذا ما يرى “الإسلام الحداثي المعاصر” أنه دوره المنوط به القيام به.

2- الإسلام والحداثة، تصحيح المسار

من خلال هذا النقد ذاته التي نراه في كتابات نصر أبو زيد وعلي مبروك لمحاولة التركيب المُبدِع “المُخفِقَة” عند العميد وزكي نجيب، ومن خلال النقد المُقدَّم من قِبَل الشرفي وأركون لخطاب الإصلاح، نستطيع معرفة تلك السمات الرئيسة التي يرى التيار الحداثي المعاصر أنها وحدها قادرة متى توافرت على إنجاز التحديث، ونستطيع تحديد تلك المساحات الرئيسة التي يرى أنه يختلف فيها مع “الخطاب الحداثي الكلاسيكي”، ثم مع محاولة “الخطاب الحداثي في تأسيسه الثاني” أي مع المحاولة الأولى لتحديث الإسلام، حتى نستطيع بهذا تقييم هل بالفعل استطاع “الخطاب الحداثي المعاصر” تحقيق تجاوز هذه الخطابات، وضبط مسار التحديث العربي، وتحقيق “التركيب المُبدِع” ما بين الحداثة والإسلام أم وقع فيما وقعت فيه الخطابات التي ينتقدها؟

 نستطيع أن نجمل هذه السمات في؛ التحديث من أسفل أي عبر تحديث “الواقع” العربي ذاته “جوانيًا” و”معرفيًا “ –نظام المعنى خلف الواقع كما ذكرنا- وليس الواقع القشري ظاهريًّا و“برانيًا”،  التحديث “معرفيًّا” عبر تحويل الحداثة لأداة منهجية وتحويل التراث لموضوع للمعرفة، التحديث “المراعي للسياق التاريخي” عبر تهيئة الواقع العربي لفعل التحديث، أي إحلال منطق زرع البذرة محل منطق قطف الثمرة وفرضها عليه.

ويتمثَّل العيب الرئيس للخطابات السابقة وفقًا لهذا الخطاب وسبب فشلها في إنجاز التنوير في؛ “التحديث الفوقي البراني” عبر تصور كفاية فرض مؤسسات وأفكار الحداثة على المجتمع، ومقاربة الحداثة كمؤسسات وأفكار لا كمناهج، وعدم الاشتغال على الإسلام ذاته بالدراسة من أجل تحديثه كمقدمة أساسية للتحديث، و“التلفيق” بين الأفكار الحداثية والأفكار التراثية، وتقديم “تأويلات إسقاطية” للقرآن هدفها تصوير الحداثة والإسلام كنموذجين متوافقين أو الجمع التجاوري بينهما. وتتمركز كل هذه الانتقادات في فكرة رئيسة وهي “غياب الوعي التاريخي” خصوصًا في القضية المركزية المُؤسِّسة معرفيًّا وهي قضية “طبيعة القرآن”، فغياب هذا الوعي هو ما يجعل الخطابات الحداثية السابقة غير قادِرة على التعامل مع التراث بصورة معرفية، أو على التعامل مع الحداثة بما أنشأها تاريخيًا “مناهجها” وليس ما نشأ عنها “نتائجها”.

 ولعل أهمية هذه السمة الأخيرة ومركزيتها تتضح تمامًا في إصرار نصر أبو زيد على أن السبب الرئيس لفشل التنوير هو عدم إنجاز عبده “مركز النواة الأرثوذكسية منذ التأسيس الثاني” ثم العميد وزكي نجيب محمود لخطوة القول بـ“تاريخية القرآن”، بل إن هذا على ما تمت الإشارة إليه في موضع آخر، هو ما يعطي تاريخية نصر أهمية خاصة في الفكر الحداثي المعاصر من حيث رهاناتها المفترضة في إنجاز التنوير، إن النواة الأرثوذكسية الآن تتكوّن من “عبده- العميد وزكي نجيب- خلف الله- الخطاب الإسلام الحداثي المعاصر”، وهي نواة تؤدًّي وظيفة إضافية لما ذكر الحداد، فهي لا تعطي الخطاب المعاصر شرعية ًوامتدادًا في التاريخ فحسب، وإنما تجعله انعطافة حاسمة وغير مسبوقة في هذا التاريخ، فتوزيع عناصر النواة هنا يحضر للدلالة لا على تطور بل على تغاير، لا على اتصال بل على انفصال، لا على استمرار بل على انقطاع مقصود، يجعلنا حتى نقول إن هذا التوزيع يُمكِّن الخطاب من تقسيم النواة لأنوية داخلية -”مثلًا: نواة متصلة تربط عبده-العميد-زكي نجيب، كسلسلة تحمل سمة التفكير بالأصل، ونواة منفصلة “الثلاثة معًا- الخطاب المعاصر” تنفصل على أساس تجاوز الخطاب المعاصر فكرة التفكير بالأصل وتفعليه الوعي التاريخي”- تساعده في بلورة دوره المفترض وموقعه الفريد، لذا نستطيع القول إن الخطاب المعاصر لم يتلقف دون وعي نقدي النواة التي صنعها خطاب “التأسيس الثاني” فحسب، بل إنه استثمرها وأعاد تأسيسها وتوزيع عناصرها، وكانت إعادة التأسيس هذه أحدي الأدوات التي استخدمها الخطاب المعاصر في تكريس فكرة تفرُّده في حلقة الفكر الحداثي وقدرته وحده على تحقيق “التركيب المبدع” بسبب تحرره من السمات التي تحملها “وتتوارثها!” حتى خطاباته المرجعية القائمة معه في ذات “النواة” العامة.

 ولعلّ هذا التأكيد على التميُّز والتفرُّد يجعل البحث عن إجابة لسؤال قدرة هذا الخطاب على تحقيق ما يراه دوره في إنجاز “التركيب المُبدِع” خلافًا للخطابات السابقة عليه أمرًا مُلِحًّا.

ومن أجل الإجابة على هذا السؤال سنقارن بين خطاب الإسلام الحداثي المعاصر عبر بعض نماذجه وبين الخطاب السابق في ضوء تلك السمات التي ذكرنا والتي اعتبرها هو حاسمة من أجل إنجاز التحديث وحدد بناءً عليها موقعه ودوره، وسنختار كموضوع رئيس للتحليل الموضوع الأكثر مركزية والكاشف عن حضور أو غياب “التركيب المبدع” المنشود، أي “القراءة الحداثية للإسلام”، الأداة الرئيسة لهذه الانعطافة التي يقوم عليها تحقيق الرهان الرئيس “تحديث الإسلام”.

وقد اخترنا لهذا خطاب التونسي عبد المجيد الشرفي (1942)، وخطاب المصري نصر حامد أبو زيد (1943- 2010)، لامتحان مدى تجاوزهما للخطابات السابقة في ضوء السمات المعتبرة من قِبَلهم أساسية في إنجاز “التركيب المبدع”.

3- تحديث الإسلام ما بين خطابي “الإسلام الحداثي/ تحديث الإسلام” الأول والثاني:

ثمة مزيّة خاصة لخطاب الشرفي تجعله ذا أولوية في التحليل، وهي كونه خطاب في “القراءة الحداثية للإسلام” وأن اشتغاله واسع يشمل القرآن ويشمل الشعائر ويشمل القصص، مما يجعله موضعًا مهمًا للتحليل، لكن بما أن التعامل مع القرآن سنعود له مع نصر، فسنركز هنا من خطابه على الشعائر والقصص.

مبدئيًّا نحن نستطيعُ أن نَضَعَ خطاب الشرفي كأحد أهمّ هذه الخطابات الطَّامحة للسير في خطوة الانتقالة في التعامل مع “الحداثة” من الأفكار إلى المناهج، وفي التعامل مع “الإسلام” من كونه نظام موازي للحداثة إلى كونه موضوعًا للدرس، وهذا بتطبيق -أو استلهام- المناهج الحداثية على الإسلام بهدف فهمه وتكريس التنوير “علميًّا” كما يقول.

هذا التطبيق من الشرفي يتأسَّس على تفريق مفهومي شديد الأهمية في خطابه بين “إسلام الرسالة” و”إسلام التاريخ”، وأهمية هذا التفريق المفهومي في خطاب الشرفي -مع أنه يبدو وكأنَّه تفريقًا شائعًا-هو تَميُّزه الدلالي عن الاستخدام الأكثر تداولاً لهذا التفريق، فبينما يشيرُ هذا الزوج المفهومي “إسلام الرسالة”/“إسلام التاريخ”، غالبًا لمقابلة الإسلام في نصوصه الأصليّة وتجربته الأولى في عصر النبوة بالتجربة التاريخية الإسلامية التي بدأت بعد ختم الوحي، وعيش المسلمين ما يسمّيه الشرفي بـ“الوضعية التأويليّة” -على خلاف في تعيين مساحة وبداية هذه التجربة التاريخية- فإنَّ مفهوم “إسلام التاريخ” عند الشرفي يتَّسع ليشمل الإسلام في مرحلة الوحي نفسها، إذ ثمّة فارق في هذه المرحلة نفسها بين الوحي في سماويّته وبين دخول هذا الوحي في التاريخ، مما يجعل عميلة “المأسسة الاجتماعية” تتّسِع لتشمل عددًا مما يُعتَبر غالبًا خارج عن التاريخ، وحتى خارج عن التنظيم الاجتماعي “التشريعات”، وأكثر تعلقًا بـ“البناء الأساس للدين” بتعبيرات السواح؛ مثل العبادات، ومثل تنظيم النص المركزي “القرآن”.

على أساس هذا الزوج المفهومي إسلام رسالة/إسلام تاريخ، وانطلاقًا من دلالته الخاصة هذه والتي تربطه بالزوج الآخر (“العالم القديم” الذي تلبَّس بالإسلام في أثناء دخوله التاريخ، وشكَّل حتى بعض مفاصله المركزية/“العالم الجديد”، الذي يُمثِّل روح وانطلاقة الإسلام ومقاصده السماوية الخالدة)، ثم وباستخدام عدة منهجية تقوم على أساس تاريخ الأديان المقارن -تاريخ الأديان الكتابية الثلاثة تحديدًا؛ إذ يُقارن الإسلام في مسيرته بالمسيحية واليهودية- يُقيمُ الشرفي دراسته الحداثية/العلمية للإسلام.

من هنا فإن «الإسلام بين الرسالة والتاريخ» والذي هو عنوان أهمّ كتابات الشرفي (2001) يصلحُ في الحقيقة كعنوان لخطابه بأكمله، فدراسة الشرفي في كل ما كتب وربما حتى في كل ما أشرف عليه من مشاريع بحثية هي دراسة في دخول الإسلام في التاريخ، أي في انتقال الإسلام من الرسالة السماوية إلى الاعتراك التاريخي، فاشتغال الشرفي هو اشتغال في عملية مأسّسة الإسلام سياسيًّا واجتماعيًّا، والتي لا تختلف وفقًا للشرفي عن قوانين المأسسة التي حكمت تاريخ الأديان الكتابية الأُخرى، والتي يُوجِزها في ثلاث سيرورات أساسية؛ أولاً: التميز عن الآخرين في الطقوس والزي وآداب الطعام والسلوك، وثانيًا: تحويل أشكال العبادة إلى طقوس مُوحَّدة تتعالى على الاجتهاد الشخصي وعن كلّ مخالفة لأركانها الثابتة، وثالثًا: تحويل الدّين لمؤسَّسة عبر مجموعة من العقائد الملزمة التي مآلها التحجر والجمود.

هذا المنظور الذي ينطلقُ منه الشرفي لدراسة الإسلام «دراسة الانتقال نحو المأسسة» هو الذي يُحدِّد طبيعة اشتغال الشرفي كاشتغال على الجانب التاريخي والاجتماعي من هذه المساحات التي يتناولها خطابه، أي هذه الأبعاد المُتعلِّقة بفعل المأسسة، لذا ففي كل هذه المساحات من الاهتمام -مهما اتسعت-يظل المنظور الأساس الذي يَحكُم نظرة الشرفي تجاهها هو رصد كيفية الانتقال نحو المأسسة أو الدخول في التاريخ.

ولا شك فإنَّ العدة المنهجية التي يستخدمها الشرفي والتي تتحرك ما بين “القراءة الاجتماعية” و”التاريخية المقارنة” تتماشى تمامًا مع هذا المنظور الذي ينطلق من خلاله، أي إعطاء أولوية كبيرة للاجتماع والتاريخ في تشكيل الإسلام حتى في مرحلة الوحي وحتى في “بنية الدين الأساس”، إذ انطلاقًا من هذا المنظور تُستخدَم منهجيات اجتماعية ربما لا تهتم بالأبعاد الرمزية للشعائر الإسلامية التي يدرسها الشرفي، مثل الصوم ومثل رمي الجمار في الحج، إذ  ما يَشْغَل الشرفي في الصوم مثلًا ليس هو معنى الصوم ولا دلالاته ولا وظائفه الرمزية والشعائرية بل البعد الاجتماعي للصوم المُتعلِّق بعمليتي الضبط والمأسسة، هذا الذي يُسيطر على التفسير حتى يتحوَّل الصوم من فرضه وتوقيته وكيفيته لمجرد نتاج للمأسسة الاجتماعية والحاجة للضبط السياسي والفقهي بخلق سلوك مُنمَّط ومُؤطر.

المهم لنا هنا أن هذه المقاربة المنهجية الخاصة للشرفي كاشفة تمامًا عن رهان اشتغاله، إذ إن رهانه هو تخليص الإسلام من هذه السمات «الميثولوجية» التي لا تناسب “العقلانية الحديثة”، والتي تنتمي لـ“العالم القديم”، وبالتالي التي (لا تجد لها صدى في نفوس المعاصرين) كما يُعبِّر مرارًا، وهذا الرهان هو كذلك ما يُفسِّر الانتقائية المنهجية عند الشرفي، فلهذا لا يستخدم الشرفي منجزات علم الأديان العام والمنجزات المعاصرة في دراسة الشعائر والأبنية السردية اللاهوتية-كما تبلورت عند بيتازوني (1883- 1959)، ثم روجيه كايو (1913- 1978)، ثم ميرسيا إلياد (1907- 1986) وغيرهم، والتي يتحدث عنها هو في تقديم أول أبواب كتابه- في مقاربته للإسلام، والتي تؤدِّي لنتائج مُغايِرة تمامًا عن نتائج الشرفي لو طُبِّقت، بل يقتصر على المنهجيّات الحداثية التي راجت في أوروبا مع بداية عملية التحديث، والتي دومًا ما تَعتبِرُ (الدين مُتغيِّرة قد يتمُّ تفسيرها على ضوء مُتغيِّرات أخرى -المجتمع، علم النفس، علم الاقتصاد -كما لو أنَّ الأديان لا تتمتع بكيان رمزي خاص بها).

 والاقتصار على هذه المقاربات بكلّ معضلاتها المنهجية التي طالما أفاض الكثير من الباحثين في ذكرها، وعلى رأسها انطلاق هذه المقاربات من دراسة مجتمعات خاصة جدًّا يتطابق فيها “المجتمع” و“المقدس” بشكل يصعب تعميمه على كل الأديان، يحيل لكون هدف استحضارها هو الهدف نفسه الذي كان يُؤطِّرها في أثناء رواجها غربًا، وهو وكما يخبرنا جان بول وليم لم يكن فهم الدين في كُليّته وتعدد وتشابك أبعاده بقدر ما كان التساؤل عن مصير الدين/الوهم/الطفولة البشرية يُبطِن جوابًا بعدم الحاجة له مع إمكان تنظيم المجتمع بطرق حديثة عقلانية، فنشأة المقاربة الاجتماعية للدين مُرتبِطة بمحاولة تنظيم علماني للمجتمع يُهمِّش الدين كخطأ قديم للبشرية أو (عامل لتحقيق اللحمة بين المجتمع في الماضي، له أثره على التضييق على حرية المؤمنين) شكَّل لها تحدّيًا (بروز أشكال جديدة للتضامن لا تحتاج للمبررات الدينية) كما يقول الشرفي، فاستمرار هذه المقاربات للدين وللاجتماع في خطاب الشرفي بعد أن تجاوزها الجميع يكشف رغبة مسبقة في تقليص الدين واختزاله، وإعادة تركيبه ليناسب الأزمنة الحديثة.

ولعلّ هذا يعني بوضوح أن الهدف من اشتغال الشرفي لم يكن “فهم الإسلام” عبر “الحداثة كمنهج” من أجل الوصول إلي “عملية تأليفية حية متجددة بين القيم الدينية ومستحدثات العصر”، بقدر ما كان الهدف إعادة تشكيل الإسلام –وعناصره الأساس كالشعائر والقصص- عبر مناهج مُحدَّدة عرفتها الحداثة في أحد تجلياتها وفي أحد مراحلها، وإنتاج إسلام مُتوائِم مع “التصوّرات والمنجزات الحداثيّة” إذ تقلُّ فيه الحمولة القصصية الأسطورية التي تُعارضُ “الأحقية التاريخية” من جهة، وتعارض “العقلانية الحديثة” من جهة أخرى (طقوس الرجم في الحج مثلًا، والتي يربطُها الشرفي بالتصوّرات الميثية لمجتمع الحجاز الضاربة في القدم)، وتقلُّ فيه الحمولة الشعائرية والآمرية، التي تعارض كذلك وفقًا له “الحرية الإنسانية” (مثلًا فرض الصيام في شهر مُحدَّد من السنة بدلًا من إعطاء الحريّة بالصوم في أي وقت وبأي كيفية، ضرورة الصلاة في التوقيتات نفسها وبالكيفية نفسها)، وفي المجمل تقلُّ فيه أو تُنتزَع منه تلك السمات التي تنتمي وفقًا للشرفي لـ«العالم القديم» بتعبير يستعيره بتصرف من محمد إقبال، إن الحداثة تحضر في خطاب الشرفي كمجموعة قيم معرفية وقيمية يُصاغ الإسلام وفقها لا كمناهج يُدرس عبرها من أجل “تثبيت علمي” للأفكار ولا كحد يُبحث عن تأليف قيمه مع مستحدثات العصر كما يقول.

ومع كل هذه القيم والأدوات الحديثة للشرفي سواء هذه التي يستخدم أو تلك التي يُزيِّن بها خطابه، فإنه يعود للتراث الإسلامي لاستحضار بعض المساحات التي تُلائِم تمامًا نظرته كما يقول هو، مثلًا استحضار القول بنبوية الصياغة القرآنية باعتباره ملائم لحديثه عن تلبُّس الوحي بالتاريخ، ونحن نتساءل أين غاب العقل النقدي عن التعامل مع هذه الآراء التراثية، وعن أي وصف يمكن أن يُوصَف به هذا الاستخدام لقول تراثي لمجرد توافقه مع مسبقات الخطاب، أو تلك المطابقة ما بين “القيم الحديثة” وبين “العالم الجديد” الذي أراد الإسلام إنشائه من جهة، وما بين القيم التي ترفضها الحداثة وبين قيم “العالم القديم” الذي يرفضه الإسلام من جهة أخرى المُتكرِّر في خطاب الشرفي والمُتغلغِل في مفاهيمه المركزية، إلا وصف “التلفيق” و“الانتقائية” و“النفعية” الذي قرر الشرفي أنه عيب المحاولات السابقة جميعها؟!

كل هذا يعني أن خطاب الشرفي لم يستطع تحقيق هذه الانتقالة المرجوة والتي يُراد لهذا الخطاب تحقيقها؛ “التركيب المبدع” أو “التأليف الحي”، فلا يزال الخطاب طافحًا بـ“الانتقائية” و“النفعية” سواء على مستوى التعامل مع المناهج الغربية أو على مستوى التعامل مع التراث.

 لم تتغير إذن الطريقة في مقاربة “الإسلام” ولا “الحداثة”، ولا زالت معادلة النهوض بعيدةً عن أي “تركيب مُبِدع”، بل إن المعادلة اختلَّت تمامًا إذ فقدت أحد حديها، الذي خضع تمامًا لأفق الحد الآخر، مما يعني أننا انتقلنا –أو بالأحرى تراجعنا- من “التلفيق” و”التجاور” بين نظامين -المعاب على خطاب “التأسيس الثاني” وعلى خطاب الإصلاح- إلى السيطرة التامّة لأحدهما، كأننا فيما قبل مرحلة محاولة “التركيب المبدِع”!.

ننتقل الآن إلي خطاب نصر أبو زيد، والذي يزداد في خطابه دعاوى “القراءة العلمية للقرآن” و”تجاوز التلفيق والإسقاط”، بل إنه خطاب يُصِرّ وكما ذكرنا على أن فكرته المركز “تاريخية القرآن” هي بوابة تجاوز كل هذه الإشكالات للخطاب، مما يجعل خطابه شديد الأهمية، إذ يمكن عبره التساؤل عن تحقيق هذا التجاوز في مركز تأسيس العقل المعرفي العربي أي قراءة القرآن، وفي قدرة هذه الفكرة “تاريخية القرآن” على تأمين هذا التجاوز.

وبصورة عامة فإن نصر يقرأ القرآن قراءة تاريخية تنطلق من ربط النص بسياقه التاريخي كأساس لإنتاج المعنى، وتفصيليًّا يُوظِّف نصر في القراءة الجزئية للقرآن منهجية حديثة الهدف من استحضارها ضبط القراءة وإنتاج قراءة علمية تتجاوز التلفيق والإسقاط، هذه المنهجية هي منهجية الهرمنيوطيقي الأمريكي هيرش.

وفقًا لهذه التقنية فإنَّ (المعنى يُمثِّل المفهوم المباشر لمنطوق النصوص النَّاتج عن تحليل بنيَتِها اللغوية في سياقها الثقافي، ويفترق عن «المغزى» في كونه «ذو طابع تاريخي، أي إنَّه لا يمكن الوصول إليه إلا بالمعرفة الدقيقة لكلّ من السياق اللغوي الداخلي والسياق الثقافي الاجتماعي الخارجي»، أمَّا «المغزى»، (وإن كان لا ينفصل عن المعنى بل يُلامسه وينطلق منه- ذو طابع معاصر، بمعنى أنه محصلة لقراءة عصر غير عصر النص...)، (والمعنى يتمتَّع بقدر ملحوظ من الثبات النسبي، والمغزى ذو طابع متحرك مع تغير آفاق القراءة، وإن كانت علاقته بالمعنى تضبط حركته وترشدها).

وحين يُطبِّقُ نصر هذه التقنية بتفريقها بين «المعنى» و«المغزى» على القرآن، تصبح مغازي النص بهذا المعنى الذي حدَّده لها أداة لتحريك النص إذ أنَّها تستطيع كشف (مقاصد الوحي الفعلية) «كلياته»، وهذه المغازي وبسبب صلتها بـ«المعنى» المرتبط بسياق تشكل النص التاريخي (تلامسه وتنطلق منه)، فإنها تتجاوزُ التلوين والتجاور لتُحقِّقَ «رهان تجاوز التلفيقية».

لتوضيح تقنية الهرمنيوطيقي الأمريكي وما تؤدِّيه من أدوار داخل خطاب نصر خصوصًا تجاوز التلفيق والإسقاط، يضرب نصر مثالًا تطبيقيًّا بجدل «المعنى» و«المغزى» في آيات الميراث، فيرى أنَّ «معنى» النص القرآني والذي يتبيَّن وفقًا للتحليل اللغوي المباشر، والذي يقضي بتوريث المرأة نصف ما يرثُ الذكر ليس هو نتاج وغاية تأويل النص، فتأويل النص لا يتمّ إلا عبر الوصول لـ«مغزى» النص، هذا «المغزى» المستنبط من مجادلة «المعنى» المُحصَّل لغويًّا بـ«السياق التاريخي لتنزله» لاكتشاف (اتجاه حركته)، والتي تسيرُ تجاه (المساواة) كأحد عناصر العدل -والحرية =نقيضًا للعبودية - كمقصد كلي للقرآن.

فالنص القرآني وفقًا لقراءة نصر يتّجه نحو مساواة المرأة بالرجل في الميراث، فالمساواة تجاه حركته، لكن لأنَّه مُحدَّد بإطار الأعراف الجاهلية غير الممكن مصادمتها، وإنما فحسب خلخلتها، فقد اكتفى بهذه الخطوة وهي توريث المرأة النصف، حتى تَتَكفَّل القراءة التحريكيّة بعد هذا، و(المُتوسِّلة بأدوات التسييق التاريخي) بكشف «المغزى» من وراء (المعاني التاريخيّة المُحدَّدة)، وإقرار المقصد الذي تُشيرُ إليه حركتها.

 فالعدل وكجزء منه المساواة بالإضافة لـ«العقل» ولـ«الحرية»، هي مقاصد النص الأصلية التي تُعطيه حضوره في مواجهة الواقع الجاهلي، وتمنحه الحركة والمُتجَه لتغييرات أوسع مع تغير الوقائع التاريخية، وهي مقاصد شديدة الاتصال بمعاني النص، مما يجعلها بعيدة عن أي تلفيق.

لتوضيح فكرة نصر أكثر نذكرُ مثالًا آخر يتعلَّقُ  التصوّرات العقدية هذه المرة لا التشريعات، وهو قراءة نصر لـ«العقلانية» كمقصد قرآني، وكيف أن «العقلانية» كمقصد للنص تتجلى في آيات الشياطين والجن والحسد.

فيرى نصر أنَّ ذكر القرآن للجنِّ والشياطين، لا يعني إقرار القرآن بوجودها، فذكرُ القرآن لهذه «الكائنات الأرواحية» التي تُمثِّل جزءًا من تصورات الجاهليين الأنطولوجية واللغوية، تم عبر تحويرات دلالية «تحجيم القدرة والأنسنة» تهدف في النهاية إلى التخلص من التصوّرات الأسطورية؛ بتعبيره: تهدفُ إلى (نقل الثقافة من مرحلة الأسطورة لبوابات العقل)، (فنقل الثقافة من مرحلة الأسطورة) يصبح هو مغزى النص المُحدِّد لمقصد الوحي واتجاهه أي «العقلانية»، «العقلانية» -بهذا المعنى المُحدَّد كمضاد للأسطورة كخرافة-، هي مقصد النص الذي يُعطيه الحضور أمام التصوّرات الجاهلية، إذ يعمل على تحوير هذه التصورات لا مُضادتها مباشرة، ليَدَعَ للقراءة التحريكية للنصِّ المُتوسِّلة بالتسييق التاريخي كأداة رئيسة مهمّة كشف «المغزى» من وراء هذه التحويرات وكشف اتجاهها و«مقصدها» نحو نزع الخرافة.

بهذه التقنية التي تنطلق من «التسييق التاريخي» للنصِّ من أجل التفريق بين «معانيه» و«مغازيه»، يرى نصر أنَّه استطاع تحريك النص باكتشاف «كلياته» التي تمنحه وقائعية وحضور وحركة، وكذلك استطاع تجاوز التلفيق والتلوين؛ إذ تمَّ اكتشاف هذه الكليات- المقاصد عبر اكتشاف حركة «مغازي» النص ذات الصلة بـ«المعاني» التاريخية المُحصَّلة بالقراءة اللغوية، بمعنى أن الفكر العربي بمثل هذه التقنيات يستطيع دمج القيم الحديثة في الإسلام دمجًا مبدعًابعيدًا عن أي تلفيق.

لكن هل بالفعل تم تجاوز التلفيقية بهذا الشكل؟

لو تأمَّلنا صنيع نصر سنجد أننا أمام الاشتغال النهضوي والحداثي الكلاسيكي نفسه، فإذا كانت «العقلانية» في «تلفيقية» النهضة ومقارناتها ومقارباتها مساوية لحديث القرآن عن العقل والتدبُّر، وكان حديث القرآن عن الشياطين «كمفهوم توحيدي» حديثًا عن القوى النفسية «كمفهوم علمي حديث» كما نجد في كتابات عبده -«مركز النواة الأرثوذكسية» المُنتقَدَة والتي تحضر للدلالة على انفصال الخطاب المعاصر عنها-، فإن الأمر لم يتغير مع نصر أبو زيد، كل ما في الأمر أنه تأخَّر لخطوة وأُلبِس رداءً علميًّا، فمع نصر لم تَعُدْ هذه «العقلانية» بمعناها الحديث المُحدَّد كمقابل للأسطورة –كخرافة- «معنىً» مباشرًا للنص يطفو على سطحه بل أصبحت هذه العقلانية «مغزىً»، مقصدًا للوحي، قولًا إلهيًّا مُخبئًا في طيَّات النص وعلى التاريخاني العصري «استخراجه» عبر اختراق «المعنى» المرتبط بالسياق اللغوي للتنزيل.

يكمن التلفيق والإسقاط هنا في أن اعتبار «العقلانية» مقصد قرآني، يتجاهل المعيار الذي وضعه نصر نفسه لكشف مقاصد الوحي بصورة تخلو من التلفيق، وهي كون المغازي المحدِّدة للمقصد تحمل صلة بالمعاني التاريخية «تلابسها وتنطلق منها» كضمان لعدم الإسقاط، نقول إنه يتجاهل هذا المعيار الذي وضعه هو نفسه إذ إنه لا يوجد أية علاقة بين «أنسنة الجن وتحجيم قدرتها وتجاوز التصورات القرشية عن الجن والشياطين وقدرتهم على التصريف والتسمع» وبين «العقلانية الحديثة كرفض للأسطورة كخرافة»، ومن المفارقة أننا نستطيع الاستدلال على هذا بما كتب نصر نفسه في «مفهوم النص»، إذ اعتبر هناك أن التحوير الدلالي في نصوص الجن وتحجيم قدرتها على التسمع «كمعنى للنص» مرتبط بإنهاء الكهانة وإضفاء الشرعية على مفهوم «الوحي» التوحيدي «كمغزى»، ونحن نستطيع اعتبار أن هذا «المغزى» قريب بالفعل من «المعنى»، أما القفزة التي قام بها نصر في «نقد الخطاب الديني» ليجعل هذا «المغزى» «متجهًا» لإقرار تصورات شديدة الخصوصية عن العقل وعن ماهيته لم تظهر إلا في القرن السابع عشر فهو أمر يصعب للغاية إقراره، مما يعني أننا هنا أمام انتقال للتلفيق من سطح النص إلى باطنه، أمام «تلفيقية مُضاعَفَة» إن صح التعبير.

إن نصر لم يقم بما هو مفترض من خطاب يعلن أن رهانه إنقاذ النص من الإسقاط، إذ لم نجد في اشتغاله محاولة لاستخراج كليات النص الخاصة، بل تم استلهام مفاهيم خطاب التنوير العربي نفسها وإسقاطها على النص من خارجه لتعطيه حركيةً وحضورًا، مما يعني أننا أمام «طلاء» أو «تلوين» للتلفيقية القديمة المُفترَضَة والمُنتقَدَة لا أمام تجاوز لها نحو «قراءة علمية» كما يُكرِّر نصر كثيرًا.

مما يعني أن الإسلام هنا سواء عند نصر أو عند الشرفي، لم يحضر كموضوع للفهم لاستكشاف قيمه الخاصة عبر استلهام الحداثة منهجًا بل موضوعًا للإسقاط بإمكانه أن يُوفر شرعنة لقيم مسبقة وجاهزة، لم يحضر كحد يتركب مع الحداثة لتحقيق «التركيب المبدع» و«التأليف الحي» المُفترَض بل كموضعٍ للسطو عليه بكل عنفٍ رمزي ممكن، سواء بإعادة تشكيله والحذف منه على مقاس القيم الحديثة أو بتجاهل «وقائعيته» «ونظام معناه» كصفحة بالإمكان أن يُقرأ فوقها أي شيء!

كذلك لم يكن حضور الحداثة –الطرف الآخر للتركيب المُبدِع المنشود- في هذا الخطاب بالأفضل حالًا، إذ نستطيع القول إن نمط مقاربتها قد تراجع عمّا كان في الخطابات السابقة، فرغم زيادة الدراسات حول الحداثة شرقًا وغربًا، وتزايد القراءات لها وتنوعها، لم ينتقل الخطاب الحداثي لإدراك هذه التنوعات الكامنة فيها، ولا انتقل لتحليل أكثر دِقّةً وبعدًا عن الدعاية لمقولاتها، بل نستطيع القول إن هذا الخطاب وحين حوَّل الحداثة وكما يقول لـ«أداة منهجية» للتحليل باعتبار أن الحداثة أصلًا واقعة معرفية ومنهجية، فإنه ليس فقط قد غفل عن تحليل أكثر دِقَّة لما هو علة الحداثة وما هو معلولها، بل إنه برفعه الحداثة من كونها موضوعًا للفكر يتم التفكير فيها، إلي كونها أداة يتم التفكير بها، قد أغلق الباب أمام أي تحليل دقيق لتاريخ الحداثة أو امتحان حقيقي لمقولاتها الأساس –فضلاً عن تحول هذه الأداة على يده من أداة للاكتشاف إلى أداة للتزيين مما يمعن في «تحنيط الحداثة» في العقل العربي-.

و لعل هذا يعني أن خطاب الإسلام الحداثي الذي يدَّعي إنجاز «تركيب مُبدِع» و«تأليف حي» بين الإسلام والحداثة قد تحوّل –للمفارقة- إلي «عائق معرفي» بتعبير الجابري عن إدراك وفهم «الإسلام» أو «الحداثة»!

4- خطاب الإسلام الحداثي المعاصر والوعي التاريخي

الطريف، أن هذا الخطاب لم يفشل فقط في تجاوز السمات التي انتقدها في الخطابات السابقة أو أنه تراجع لما وراءها أحيانا، بل إنه وكما نستطيع أن نلمح فهو كذلك يحمل السمة الأعمق التي اعتبرها مركز خلافه مع الخطابات السابقة وموضع انفصاله عن عناصر «نواته الأرثوذكسية»، وهي سمة «غياب الوعي التاريخي»! وهذا يتضح تمامًا –وللمفارقة- في تحليل هذا الخطاب وتقييمه وانتقاده للخطابات السابقة عليه، أي في بنائه الخاص الذي وصفنا لـ«نواته الأرثوذكسية».

 فالواضح أن هذا الخطاب يقرأ الخطابات السابقة عليه قراءة بنيوية لا تاريخية، تُغيِّب تماما أي وعي تاريخي، إذ يلجأ في تفسير إخفاقها وعودتها إلي المجاوَرة إلي القول بسيطرة سمة «التفكير بالأصل» المعرفية عليها، وهذا يُفوِّت إدراك الاسباب التاريخية لهذه «العودة أو «المجاورَة»، ونحن نستطيع الوقوف على كثير من هذه المحاولات للتحليل التاريخي لخطابات هذه الفترة وتمرحلاتها، ربما من أهمها تحليل الأنصاري في «الفكر العربي وصراع الأضداد» للوضعية الأيديولوجية التي شهدت تغييرًا في هذه الفترة لأسباب كثيرة سياسية وأخرى تتعلق بالصلة بالغرب أجبرت كثير من الخطابات على التقليل من أهمية البعد العقلاني في التحليل ومع تزامن هذا مع ظهور نزعات رومانسية أطرت وواكبت صعود التيارات القومية العربية فقد انتهى الأمر في الأخير لسيطرة الغلالة الرومانسية على مقاربة المواضيع الدينية، وهذه الفترة هي فترة «حياة محمد» هيكل، و«على هامش السيرة» العميد، و«عبقريات» العقاد، و«بطولات» الشرقاوي، ونحن نستطيع أن نضيف لهذا التحليل ما تحدث عنه البعض عن تراجع في تقدير الحضارة الغربية عن الكثير من المفكرين العرب بسبب أسباب تاريخية صرفة تتعلق بالحروب وبالقنبلة الذرية وغيرها من أسباب أدت للتراجع ولو قليلاً عن الثقة في هذه الحضارة الغربية وقيمها، وهو التراجع الذي شهدته خطابات رئيسية مثل خطاب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وزكي نجيب، كذلك الميل للتفكير في البحث في إطار تحليل حضاري عن حضارة متوازنة بين العقل والروح كما نستطيع الرؤية في كثير من عناوين كتابات هذه الفترة، خصوصًا عند الحكيم وزكي نجيب محمود، كذلك من الممكن أن نضيف لهذا ما شعر به هؤلاء المفكرين أنفسهم من قصور المناهج التي يستخدمونها في أن تستطيع مقاربة الظاهرة الدينية حتمت عليهم تضييق نطاق استخدامها.

هذه الأسباب جميعها والتي لها كفاءة ليست بالقلية في تفسير التجاورات التي تمَّت لخطابات «التأسيس الثاني» تكشف عن شيء مهم ومحوري، وهو غياب «الوعي التاريخي» عن خطاب أقام كل انتقاداته للخطابات السابقة على تغييبها لهذا الوعي، غيابًا يتجلى في كل تفاصيله، حتى في بنائه لموقعه الخاص ودوره المفترض في مسيرة التحديث وتوزيعه لعناصر نواته وخلق أنويته الفرعية وفقا لهذه السمة بالذات!

لكن الأمر الأهم هاهنا هو أن «الإسلام الحداثي» والذي يقف خارج «الإسلام» فلا يحاول فهمه بل فقط اختزاله وإعادة تركيبه، وخارج «الحداثة» فلا يحاول استيعاب تنوعها بل يقتصر على عموميات أفكارها ومجمله، والذي لم يستطع تجاوز إخفاق سابقيه فيُحقِّق «التركيب المُبدِع» و«التأليف الحي»، بل ربما رجع لخطوات للوراء في فهمه لـ«الحداثة» ولـ «الإسلام» وتحوَّل لـ«عائق معرفي» عن فهمهما على ما وصفنا، غير قادر على أن يلجهما عاجلًا أو آجلًا، إذ إن واقع دراستهما، وكذا الواقع الذي نعيش وطريقة تمثلُّه لهما قد تجاوزت تمامًا تحليلات هذا الخطاب، وهذا هو موضوع الجزء الثاني من هذا المقال.

لكن قبل هذا الانتقال للجزء الثاني، نود أن نتساءل ولو تساؤلًا عَجِلًا عن مفهوم «التركيب المُبدِع» ذاته، هل بالفعل ما تم وصفه سواء تم إنجازه أم لا وسواء أكان بوَّابة لفهم الإسلام والحداثة أو عائق معرفي دون ذلك، هو بالفعل تركيب مبدِع؟

هل تحويل الحداثة لأداة وأفق يتركَّب على أساسهما الإسلام هو «تركيب مُبدِع»؟ ألا يفترض التركيب المُبدِع أصلًا وجود الطرفين في وضعية حوار تفترض التساوي، وتستحضر قيم الإنصات فتفترض وجود ما يوجد عند الإسلام يريد أن يقوله في مواجهة العالم الحديث تمامًا كما يُراد من الإسلام أن ينصت لما يقوله هذا العالم؟

إن غياب مثل هذه الوضعية الحوارية يقطع الطريق على الحديث عن أي «تركيب مُبدِع» أو «تأليف حي»، ويحوِّل العلاقة بين الطرفين لعلاقة أحادية تفتقد أصلًا أي دلالة لمفهوم العلاقة!

ثانيًا: «الإسلام» و»الحداثة»، في الواقع:

1العابرية»، أو في تشخيص «اللحظة الحالية»

 «ما الذي يستطيع أن يُقدِّمه «الإسلام الحداثي» في السياق الحالي؟»، فنحن نحتاج لتشخيص «اللحظة الحالية»، وربما يستطيع مفهوم «العابرية» وهو الذي نستثمر في بنائه مفهوم فرويد عن «الجمهور العابر»، ومفهوم فان جنب عن «العتبة» كأحد مراحل طقس العبور مستفيدين من تطويرات تيرنر له واستخدامات أرمبرست له في «حاوي الثوة المصرية» أن يفيدنا في تشخيص اللحظة الحالية للواقع وللفكر العربي، فـ«اللحظة الحالية» –ونقصد بـ«الحالية» ما يتجاوز تاريخ «المدة القصيرة» إلي تاريخ «المدة المتوسطة» وفقا لاستخدامات بروديل، مما يجعل اللحظة التي نتحدث عنها أوسع من لحظة الثورة التي يتحدث عنها أرمبرست في دراسته المذكورة -هي لحظة من «العابرية»، ونعني بهذا تحديدًا ما يتجاوز حديث أرمبرست عن «الفراغ السوسيو-سياسي» إلي فراغ أعمق يطال كل المساحات ولا يتوقف على السياسة والاجتماع، فهذه اللحظة تشهد «تعرُّض السرديات الكبرى للاهتزاز الشديد في الوعي وفي الواقع، وانحلال النقاط المرجعية، وغياب الهموم القصوى، وتَصدُّع كل المعايير الاجتماعية والأخلاقية والجمالية التي تُؤطِّر الفكر والعمل» .

 ولعل هذا يظهر في كل المساحات، فقد تعرَّضت القيم الجمالية والأخلاقية والاجتماعية لاهتزاز شديد برز في التشكيك في مدرى قدرتها على الاستمرار، والوقوف خارجها باعتبارها غير صالحة، وطرح أنماط دينية واجتماعية وجمالية جديدة لا تستند إليها كنقاط مرجعية تنبع منها المعايير اللازمة، بل تقف خارجها وتدعو لقلب التراتبيات السائدة التي تعطي هذه المرجعيات سلطة، مفترضة التساوي معها بل مفترضة تدنيتها أحيانًا، مثلًا ظهور العديد من أنماط التدين «الإلحاد- اللا أدرية- الربوبية» كأنماط تقف خارج التعامل المستقر مع الدين وتقدِّم نفسها في «وضعية تساوي» معه بل تفوُّقٍ، كذلك ظهور بعض الأنماط الفنية الجديدة تتحدى المعايير المتداولة أو تتجاهلها «المهرجانات- أغاني الأندر جراوند»، الأمر ذاته في ظهور أنماط متنوعة لتنظيم العلاقات الجنسية تباين تمامًا المستقر اجتماعيًّا وتحاول الدفع باقتناص شرعية مساوية لهذا المستقر.

كذلك فإن هذه المعايير والنقاط المرجعية حين تحضر في فضاء «العابرية» تحضر كـ«أشباح» لا تستطيع تغطية حالة العابرية التي اخترقتها، على سبيل المثال فاستحضار الحديث عن «معايير الفن الرفيع» لمواجهة الأشكال الغنائية الجديدة، أو الحديث عن معايير اجتماعية راسخة يراد لها ضبط حالية «العابرية» الحاصلة والدفع بالخروج من هذه الوضعية، يبدو وكأنه إخراج لجثث الموتى كي تلقي خطبة في ساحة خالية، إذ يقف الجميع خارج تلك المعايير «أرض المَوَات»، هذه الوضعية وما تفترضه من «تساوي» و«قلب» كما يقول تيرنر لا يمكن لها أن تنضبط بما خضع وضعه هو بالذات لـ«القلب» و«التدنية».

لا نريد هاهنا الإطالة في توضيح أبعاد هذه اللحظة في مختلف المساحات –فربما نقوم بهذا في مقالات لاحقة-، فما يهمنا هنا هو أنه في سياق هذه «اللحظة الحالية» «العابرية»، تعرّض «الإسلام» و«الحداثة»، الحدين الأساسين لمعضلة النهوض، للاهتزاز الشديد كنقاط مرجعية وهموم قصوى، إذ لم يَعُدْ الإسلام بحكم السياق الحالي له وللواقع مرجعية الأفراد و«همّهم الأقصى» أو الأساس الأعمق لأنماط تذوُّتهم، ونحن نشهد هذا بوضوح في وجود مرجعيات أخرى غير دينية تزاحم الإسلام وتفرض «وضعية التساوي» معه والتفوَّق عليه عبر قلب التراتبيات المستقرة، أو بوجود مرجعيات جمالية وقيمية غير مستمدة بالضرورة من الدين تزاحمه في بعض المساحات وتقلصه إلي مساحة الاهتمام الفردي، أو حتى في تَفتُّت الإسلام ذاته لعدد من الخطابات التي لا تبدو كتمثلات للإسلام تنمو فوق أرضيته بقدر ما تبدو كاستخدام لبعض أجزاءه المعاد تكييفها في ضوء احتياجات عصرية، أو تَفتُّت فكرة «المرجعية الأقصى» ذاتها والميل لحياة يغيب فيها الاهتمام بالأسئلة الكبرى، أو تحويل «موضوع الإيمان» من السرديات الدينية والفلسفية الكبرى إلي السرديات شديدة الصغر.

 كذلك في المقابل لم يَعُدْ بإمكان «الحداثة الغربية» أن تُقدِّم هي هذا الإطار المرجعي الذي يستطيع تقديم إجابات على الأسئلة الكبرى أو تفسير للواقع أو يوتوبيا للغد، إذ لم يعد فكرها ينطوي على تلك التأكيدات والأنساق الشاملة والسرديات الكبرى التي حَظِي به رواد النهضة الأوائل وإلي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فلم تعد تملك ما يُمكن استعارته إذ يصبح مرجعيةً للفكر وللروح، أو أساسًا للتفسير وللحلم، أو بتعبير خالد زيادة في حديثه عن لحظة الثورات العربية «إحدى قمم حالة العابرية بكشفها انهيار السرديات الكبرى جميعها»، لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب! –كي تتجاوز به هذه العابرية وهذا التحطم الشديد للمرجعيات والأنساق-

في سياق كهذا يمكن أن نستعير للتعبير عن أهم سمات عابريته هذا المفهوم لشايجان «أفول الآلهة»، ما الذي يمكن أن يُقدِّمه «التركيب المُبدِع» المفترض؟!

 إن هذا «التركيب المُبدِع» –والذي لم يحدث- يَفترِض أصلًا وجود طرفي التركيب كنقاط مرجعية وكمصدر للقيم وكهموم قصوى، وَيفترِض حاجاتهما إلي التركيب، في حين أننا ننظر فلا نرى سوى أفولهما، وتعرضهما للقلب والتدنية والتفتيت، ولا يمكن أن يتمّ تجاوز هذا الواقع عبر أي تركيب كان، فيستحيل وجود «تأليف حي» بين جثث الموتى، لذا فربما يقوم الحل في البحث عما يُعبِّر عنه شايجان بـ«تلك الآلهة التي لم تُولَدْ بعد»، أي محاولة إنتاج «تأويلية خلاقة منفتحة على عوالم الإمكان» للتقاليد الدينية الكبرى –بالنسبة لنا الإسلام والمسيحية- وللحداثة كأحد أهم الانعطافات البشرية، تستطيع أن تبني في «العوالم التي يخلقونها» سردية تكون أفقَا للواقع الحالي روحيًّا وقيميًّا وجماليًّا واجتماعيًّا، فتستطيع أن تنقذ عابرية اللحظة الحالية دون أن تنكرها ودون أن تدَّعِي كون «بقايا جثث الموتى» قادرة على نفخ روح الخلق فيها.

2- صعوبة الانتقالة المفترضة

ونحن وحين نتحدث عن هذا الانتقالة في مقاربة «الحداثة» و«الإسلام» فإننا لا شك نعلم حقيقة أن حدوثها ليس بالأمر البسيط، وهذا لأكثر من سببٍ، أولها هو غلبة الميل إلي عدم الاعتراف أصلًا بهذه الواقعة التي وصفنا، وهي واقعة الفراغ والاهتزاز والقلب والتسوية أي «العابرية»، أو محاولة قصرها على الواقع السياسي أو الاجتماعي الخارجي فحسب رغبة في إخفاء شمولها لكل المساحات، والمحاولة الحثيثة لإخفاء هذه الهوة التي فغرت فاها رغمًا عن الجميع لتبتلع كل شيء، عبر الاستنجاد بأي مفاهيم ثابتة من أي مكان/متحف كان من أجل التعمية على هذه الواقعة، ولا شك فهذه المفاهيم حين تحضر للتعمية، تحضر بشكل مضحك وكاريكاتوري يدعو للرثاء ولا يوضح إلا اتساع هذه الهوة.

وثانيها ما يترتب على مواجهة هذه الهوة من «دوار الحرية» كما يسميه كيركجارد والمتصل تمامًا بمفهوم «العدم» وما يستتبعه من ضرورة أن يحمل الجميع مهمتهم التاريخية -فوق المأساوية- بمواجهة هذه الهوة وعدمها ومحاولة الخلق والبناء والتأسيس فوقها دون وجود أي خيارات جاهزة أو أي نماذج مسبقة مُعِينَة!

وأخيرًا وربما هو الأهم –وهو الأهم لأن كثيرًا ما يكون المثقف هو العائق- هو أن هذا الانتقال يتطلب على المستوى المعرفي، أن يتم تغيير التصورات الأساسية المُترسِّخة في الإطار المنهجي العام للمقاربة المعاصرة للإسلام وللحداثة، والتي عبرها يتمّ مقاربة الإسلام كنص، والحداثة كفكر متماسك ومنتظم، لتنحصر معادلات النهوض في استنطاق هذا النص بما يقوله هذا الفكر المنتظم أو ما يرفضه أو إعادة تركيب أحدهما كي يناسب الآخر، والانتقال بدلًا من هذا لطريق جديد إذ يتم مقاربة الإسلام فيه كدين يُمثِّل فعالية رمزية يتأسَّس في قلب «العالم الذي يخلقه» كلُ عالم اجتماعي وأخلاقي وجمالي ممكن، بما يستتبع هذا من تغيير في سؤال ما الدين وما ماهيته وما حدوده وما مآله؟ ومن تغيير في المناهج المستخدمة لمقاربته، ومن تغيير في طريقة استخدام هذه المناهج، كما يتم استحضار التنوع التي تنطوي عليه الحداثة؛ «تنوير معتدل» «تنوير راديكالي» «تنوير- ضد» بما يستتبعه هذا من إنصات للعوالم التي تخلقها هذه التنوعات، ففي هذا الحوار الذي يقوده «التساوي» كسمة «للعابرية» يمكن للأفق الجديد أن يتخلَّق.

في جملة واحدة إن ما يُفترَض القيام به في ظننا هو عدم القفز على «العابرية» بمحاولة التركيب بين المُفتَّت أو بتقديم فروض العبادة لآلهة لم تعد موجودة، خوفًا من «أزمة المجاز» بتعبير تيرنر، بل محاولة بناء خطوة «التفسير» اللازمة ل»الفهم» و»التركيب المُبدِع» «والتأليف الحي» في قلب هذه العابرية ذاتها تمهيدًا لميلاد جديد، ولإنقاذ أي «يوتوبيا» للغد من التحوّل لمحض «أيديولوجيا» تحجب الواقع.

إن ما يَعِد به هذا السياق للواقع وما نفترضه من أفقٍ لتجاوزه ليس واضحًا بما فيه الكفاية بعد، ولا تستطيع هذه المقالة تقديم أي تصور مكتمل عن ما يَعِد به هذا السياق، ولا تدَّعِي حوزها تصورًا عن ذاك الأفق المحتمل، لكن ما تدَّعيه وأخذت على عاتقها محاولة توضيحه طوال هذه السطور هو تَعقُّد سياق الواقع وعدم قدرة القراءات المعاصرة للإسلام وللنهوض –ومنها الإسلام الحداثي- على خلق أفق مناسب لتجاوز تعقيداته من حيث كونها تقف في اغتراب تام عنه، فهذه المقالة تتمثَّل إذن ما قاله فرويد يومًا «إن كنا لا نستطع أن نزيل غموض الأشياء، فعلى الأقل نرى بوضوح تلك الأشياء الغامضة». فهذا هو سياق الواقع بكل تعقيده كما حاولنا رؤيته، وتلك افتراضات أوَّلية حول إمكان تجاوزه دون إنكاره أو القفز عليه، وتلك خطوات أوَّلية لـ«الفهم» و«الإنصات» و«الحوار» و«التركيب» لا تزال مآلاتها غير معلومة.