دراسات
زينب أبو المجدالليدي والدرويش: ثورة شيوعية في الصعيد – الجزء الثالث
2025.03.15
مصدر الصورة : ويكبيديا
هذه الدراسة فصل من كتاب "إمبراطوريات متخيلة – تاريخ الثورة في صعيد مصر" الصادر عن المركز القومي للترجمة، من ترجمة: أحمد زكي عثمان – وقد تم النشر بتصريح من المؤلفة.
ثورة "شيوعية" في قنا
واندلعت الثورة، لم يكن هناك من خيار آخر أمام أهالي الصعيد. رحل سعيد باشا وورث الدولة من بعده إسماعيل باشا في عام 1863، واستمر الخديوي الجديد في تطبيق السياسات الاقتصادية نفسها في وجه قبلي، بل وتوسع فيها. ثم بعد عام واحد فقط من استلام إسماعيل للحكم، اشتعلت الثورة الشهيرة العارمة بمديرية قنا. تتشابه تلك الثورة كثيرًا مع سابقتها التي اندلعت بالمديرية نفسها ضد محمد علي باشا قبل أربعين سنة، في عام 1820. في كلتا الثورتين، خرج شيخ صوفي وحشد الناس حوله لأجل التخلص من الضرائب الباهظة وقمع المسؤولين، إلا أن أسباب الثورة في تلك المرة كانت أكثر تعقيدًا من الانتفاضة الأولى.
ربما يبدو الصعيد بعيدًا عن مجريات السوق العالمية في تلك الفترة، ولكن في واقع الأمر أسهمت متغيرات جدّت على هذا السوق في أسباب خروج الثورة بقنا. هناك بالتحديد ظرفان عالميان حدثا وتركا أثرهما السيئ على الأهالي بوجه قبلي. الظرف الأول هو الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865)، والتي تسببت في انقطاع صادرات القطن الخام من أمريكا الشمالية إلى أوروبا، مما أدى إلى زيادة هائلة في الطلب البريطاني على القطن المصري. كانت المزارع التجارية الضخمة التي يشتغل بها العبيد في أمريكا الشمالية، واسمها plantations، هي المصدر الرئيسي للقطن الخام الذي يغذي مصانع النسيج في بريطانيا والدول الأوروبية الحديثة، وأدي الاقتتال بين الشمال والجنوب وهروب أو تحرير العبيد إلى انقطاع لهذا المورد طوال سنوات الحرب الأهلية الأمريكية. استغل كل من سعيد وإسماعيل باشا تلك الفرصة السانحة في السوق العالمي، وقاموا بزيادة زراعة القطن الخام وتصديره من مصر. رفعت الحرب أسعار القطن المصري في ميناء الإسكندرية، وفجأة تضاعفت صادرات مصر منه حتى وصلت إلى 2.5 مليون قنطار في عام 1865. وسعيًا وراء تلك المكاسب، قامت الحكومة بتركيز معظم مواردها لزراعة القطن في مناطق الدلتا، لأنها قريبة من ميناء الإسكندرية ويسهل منها عملية النقل والشحن، وتم استبعاد الصعيد وتهميشه اقتصاديًّا تمامًا أثناء ذلك. لمدة قرون طويلة قبل وصول عصر الحداثة والسوق الحر إلى مصر، كانت نواحي قنا مركزًا لإنتاج القطن وصناعة النسيج، حتى أن محمد علي باشا أنشأ بها عدة "فابريقات" متقدمة لصناعة الملابس في عهده. ولكن الآن حولت الحكومة زراعة هذا المحصول "النقدي" إلى الدلتا لقربها الجغرافي من المراكز الصناعية الأوروبية.[1]
والظرف الثانى يرتبط بمحصول نقدي آخر رئيسي في البلاد وهو القمح، الذي كان الصعيد ينتجه بوفرة ويبيعه للتجار الأجانب. اضطر الصعيد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لمواجهة منافسة عالمية شرسة مع قمح أوروبا والأمريكتين. فقد تضاعفت محاصيل أوروبا والأمريكتين من الحبوب وزادت جودتها، بفضل استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة في الآلات الزراعية والتي شملت استخدام المحركات البخارية الفائقة والتي تعمل بالفحم في الريّ. قام علي مبارك، المسؤول الحكومي والمؤرخ الأول لتلك الفترة، بتوثيق الأضرار التي أصابت صادرات صعيد مصر على وجه الخصوص من الغلال بسبب تلك القوانين. كتب في كتابه "نخبة الفكر في تدبير نيل مصر" قائلًا:
انظر لتقلب الأحوال وتغير الأزمان، وذلك أن الفلاحة في الأقطار الأوروباوية والأمريكانية وغيرها، قد تقدمت وكثرت حبوبها، فسدَّت من حاجتها، فقلَّ التماس الحبوب المصرية، فأثر ذلك في رواجها، وهذا إن تمادى أضرَّ طبعًا بأهل الأقاليم القبلية، كما نرى بوادره الآن، فيجب تدارك الأمر بما يعوض عليهم ما فاتهم من رواج الحبوب.[2]
في عشية الثورة، أرسلت النواحي في مديرية قنا الكثير من الإشارات المُنبِّهة للحكومة بأن الوضع فيها ينبئ بانفجار قد يحدث قريبًا، ولكن الخديوي لم ينتبه أو أغمض عينيه عن تلك الإشارات الخطيرة. ففي عام 1864، أي في سنة الثورة نفسها، ازدادت عمليات الهجوم على التجار الأجانب، وبالأخص في المناطق التي يقطنون بها في المُدن. قام تاجر أمريكي يسكن في الأقصر بمطالبة الحكومة بأن تُعزِّز إجراءات الأمن في المديرية، حيث اشتكى من أن عدد الخفراء في المناطق المحيطة بالمدينة قليل وتنقصهم الكفاءة لحماية السُّكان. كانت الحكومة بالفعل قد أصدرت في السابق قرارًا يأمر فيه مديري المديريات بتعيين الخفراء المؤهلين وإلزام شيوخ القرى والخفراء بالتوقيع على تعهدات قانونية لتفيد مسؤولياتهم الكاملة في الحفاظ على الأمن العام. والآن يطالب التاجر الأمريكي مديرية قنا بتطبيق هذا القرار بشكل أكثر إتقانًا وصرامة.[3]
ومن ناحية أخرى، رفض المزارعون في بعض القرى إخلاء أراضيهم وتسليمها للمُلاك الجُدد، سواء كانوا من موظفي الحكومة الكبار أو من الخواجات الذين ابتاعوا هذه الأرض في المزادات العمومية.[4] أما عن المزارعين الذين استأجروا بعضًا من أراضيهم القديمة من هؤلاء المُلاك الجدد، فقد امتنع الكثير منهم عن دفع الإيجار طبقًا للعقود التي وقَّعوها، ولجأت النخبة الجديدة للحكومة لطلب مساعدتها في تحصيل الإيجارات المتأخرة، ربما باستخدام بالقوة.[5]
وانتشرت أيضًا الكثير من أعمال الاحتجاج الصغيرة مثل هدم الجسور والسدود لمنع مياه الري من الوصول إلى حيازات كبار المُلاك، بالأخص الأجانب ووكلاء القناصل. على سبيل المثال، قام المزارعون بقرية المراشدة بسد الترعة التي تحمل المياه إلى أراضي وكيل القنصل البروسي، ففاتها الدور في الريّ في هذا الموسم وأصبحت بورًا. قدم القنصل البروسي الشكاوى لمدير قنا، فقام بأمر المزارعين بفتح الترعة، لكن كان الوقت فات عندئذ لإنْقَاذِ أرضه.[6]
وفوق كل ذلك، قامت عصابات الفلاتية بعمليات السطو المسلحة على منازل مشايخ القُرى، الذين أصبح معظمهم من طبقة أصحاب الملكيات المتوسطة المساحة، وسرقوا منهم الفلوس والملابس والمصوغات وغيرها مما يستطيعوا حمله، وهربوا للاختباء بمعاقلهم بالجبال. وفي بعض الأحيان كان الفلاتية يطلقون النار على الشيوخ أو أفراد عائلاتهم إن حاولوا التصدي لهم.[7]
أما عن عبدالغفار أفندي، مدير إسنا سيئ السمعة، فقد تعرض لأعمال انتقام شرسة من المزارعين المحيطين بأبعدياته. في إحدى المرات، لجأ المزارعون إلى العنف لأجل منع الأنفار الموسميين الذين جلبهم ناظر إحدى أبعديات الأفندي من قُرى مجاورة للعمل بدلًا منهم فيها بيوميات أقل. ويقوم مزارعون آخرون عمدًا بإفساد محصول الأفندي بشكل متكرر. عقب وفاة عبدالغفار، استولى المزارعون بالكرنك مرة أخرى على أراضيهم التي كان قد انتزعها منهم وضمها لأبعادية له، ورفضوا حتى التوقيع على عقود إيجار أو الدخول في أي اتفاق مزارعة لتقاسم المحصول مع ورثته. ورفضوا أيضًا تسديد الضرائب المتبقية على تلك الأراضي، وقالوا إنها مسؤولية ورثة الأفندي وليس مسؤوليتهم. بعد أن وصل لطريق مسدود معهم، طلب ناظر تلك الأبعدية المساعدة من مدير مدينة قوص كي يتعامل مع هؤلاء المزراعين.[8]
وبخصوص الخواجة بشارة عبيد، فلم تسلم أبعدياته بالمثل من العمليات الانتقامية الصغيرة والكبيرة من الأهالي. ذات مرة، أطلق المزارعون بقرية فاو ماشيتهم من أبقار وأغنام كي ترعى في أراضي الخواجة ببلدهم عمدًا لأجل إتْلاَف محصول الموسم بها. فقد بشارة عبيد محصول ثمانية أفدنة كاملة من وراء تلك الحادثة فقط.[9]
وبالطبع أثارت أعمال منجمي الفحم والكبريت حالة من السخط العارم بين العائلات في قنا. لم يرجع الكثير من أنفار المنجمين إلى أهاليهم، التي لم يصلها أي أخبار عنهم من بعد أن حملهم الجمَّالة في الصحراء لهناك. لقي بعض الأنفار حتفهم بسبب العمل المُنهك في المنجمين، وفُقِد آخرون خلال محاولات هروب فاشلة في الصحراء. رفعت بعض العائلات القضايا ضد مشايخ الحرفيين أو مشايخ القرى الذين جمعوا العُمّال بالسخرة وأرسلوهم لموقعي التنقيب. فمثلًا، لم تصل لأحمد إسماعيل، من قرية الكلاحين، أي أخبار عن أخيه بعد ذهابه للعمل في منجم الكبريت. لما سمع أحمد الإشاعات عن وفاة أخيه، قام برفع قضية على شيخ القرية في محكمة مجلس الأحكام في القاهرة. قام الشيخ بالدفاع عن نفسه وقال إن الخطأ ليس عنده، فقد هرب أخو المدعو أحمد بعد يومين فقط من وصوله للمنجم، ولم تسفر أعمال البحث عنه عن العثور عليه حيًّا أو غير حي.[10]
ولم تَنجُ مصانع البارود الأربعة المملوكة للدولة في مُدن قنا من اعتداءات الأهالي، ليس فقط بسبب ارتباط هذه الفابريقات بمنجم الكبريت، وإنما أيضًا نتيجة لقمع الأنفار العاملين بها. هذه الفابريقة مُحاطة بمزارعين معدمين انتُزعت منهم أراضيهم وتم إخلاؤهم منها، ويتم جمع البعض منهم للعمل فيها أنفارًا بالسخرة وبيوميات زهيدة. ومما يجعل الأمر أكثر سوءًا هو أن فابريقة البارود في الكرنك تقع بالقرب من أبعدية لعبدالغفار أفندي، ويقوم باستخدام أنفارها بدون وجه حق وبلا أجر. ابتكر العمال الطُّرق الناجعة للهروب من الفابريقة، لكن كانت الحكومة لهم بالمرصاد. تقوم الحكومة بالقبض على الهارب الذي لا يتمكن من الابتعاد كثيرًا عن موقع المصنع، وتجبره على العودة للعمل. ثم كانت تقوم بتحفيزهم على الاستمرار في العمل بتقديم الوعود لهم بدفع الأجور المتأخرة، أو تسدد لهم بالفعل بعضًا منها فوريًّا، لكن لم يكن ذلك كافيًا ليقتنعوا بالبقاء. بالرغم من جهود الرقابة الشديدة عليهم من قِبَل ناظر المصنع، يتمكن الكثير من الأنفار من الهروب عدة مرات. بالإضافة لذلك، تتعرض الفابريقة لعمليات هجوم وسطو انتقامية من المقيمين حولها. فمثلًا، كان المصنع يكتري في خدمات النقل سائقًا للحمير، لديه فريق مكون من خمسة حمَّارين آخرين تحت يده. وكان ريّس الحمارين هذا يعرف كل شيء عن مباني الفابريقة من داخلها وخارجها. وذات يوم، قام ابن عمه بسرقة آلاف القروش وأشياء أخرى منها. تم القبض على ريس الحمارين وحبسه، حتى قام ابن عمه بإعادة الأشياء المسروقة.[11]
أما عن قرية السليمية في عشية الثورة، فقد كانت تموج بالسُّخط والغضب والاضطرابات. تحوَّلت القرية لمركزٍ مُقلق لأعمال عصابات الفلاتية، التي جعلت من مهاجمة خفراء القرية شغلها الشاغل.[12] بعد أن فقد مزارعو السليمية مئات الأفدنة من أطيانهم لصالح أثرياء المديرية في مزادات عديدة مُتكررة، التجؤوا أولًا للوسائل القانونية من أجل استعادة أملاكهم، ولكن لم ينصفهم القانون. كان مراد عبدالرحمن يمتلك فدانًا يزرعه بقصب السكر، ولكنه أيضًا يعمل في أشغال أخرى موسمية لأن الفدان لا يكفي معيشته هو وأهله. اشتغل مراد عاملًا للبناء في مواتير الريّ البخارية في أراضي عُهدة تملكها الحكومة. وفي أحد الأيام، تأخر عن عمله لانشغاله في عصر قصب السكر بأرضه، فما كان من ناظر العهده، المدعو عبدالله أغا، إلا أن ضربه بوحشية عقابًا له. وفي طريق عودته لبيته، صادف مراد اثنين من المزارعين من قريته جلسا يكتبان شكوى ضد هذا الناظر، للاحتجاج على جرائمه التي زادت بشكل لم يعودوا يحتملونه. فمثلًا عندما عقدت الحكومة مزادًا لتأجير جزء من أرض العهدة، استغل هذا الناظر نفوذه بالتواطؤ مع شركاء آخرين له للفوز بقطعة أرض متوسطة المساحة في السليمية، باستخدام التدليس والتزوير. كما دعم عبدالله أغا أيضًا العديد من مشايخ القرى في الاستيلاء على أراضي ومحاصيل المزارعين. وفوق ذلك، اعتدى الأغا بالضرب على عدد من المزارعين، وقام بتعطيل سواقيهم لأجل تدمير محاصيلهم، ثم ألقى بهم في السجن. بالعودة إلى مراد، برغم من أنه لم تكن له علاقة بأي من تلك الحوادث المُحددة الجاري كتابتها بالشكوى، إلّا أنه قرر أن يُخرج خاتمه من جيبه ويختم به مع الشاكيين في ذيل العريضة، لعله ينتقم لنفسه من الأغا الظالم.[13]
وأخيرًا، اندلعت الثورة. خرج الشيخ أحمد الطيب على الناس في السليمية، وزعم أنه تأتيه الفتوحات السماوية التي لا تنكشف سوى لأولياء الصوفية الكبار، بل وادّعى أنه المهدي المنتظر نفسه. ودعا الأهالى لشق عصا الطاعة على الخديوي والخروج على سُلطته. الشيخ أحمد الطيب في الأصل من عائلة من بيوت الأشراف بجنوب مصر، الذين ينتسبون لآل البيت والرسول ﷺ، وثابت أنه كان تحديدًا من السادة الأشراف الجعافرة.[14]
نجح الطيب وبسرعة شديدة في حشد وتجييش الآلاف من المزارعين الذين فقدوا أراضيهم بالسليمية ونواحيها، بل وتمكن أيضًا من إقناع عصابات الفلاتية بدعوته وانضم له مطاريد الجبل من مخابئهم في جبال مديرية قنا. وبالضبط مثلما فعل والده قبل أربعين سنة في ثورته ضد محمد علي باشا، يستخدم الشيخ الطيب الخطب الدينية العصماء ذات الصبغة الصوفية الروحانية لجذب الأهالي لدعوته.
ولكن بعكس والده، تتجاوز أهداف العصيان للطيب الابن تلك المرة مجرد التخلص من عبء الضرائب العالية. يطمح إلى ثورة شاملة ضد المسؤولين وطبقة أصحاب الأملاك الجُدد وضد سيطرة الأجانب على التجارة. ولذلك وصفت ليدي لوسي دوف جوردون -شاهدة العيان الإنجليزية على الأحداث- بأن ما فعله الطيب لم يكن أقلّ من انتفاضة "شيوعية".
في واقع الأمر، ليس لدينا سوى شهادة الليدي لوسي على الثورة، فهي المصدر الوحيد المُفَصّل والكامل بشأن وقائعها. لم يهتم أحد من مؤرخي تلك الحقبة بالكتابة المفصّلة عنها، لأنهم اعتبروها حركة خروج غير شرعي على الحاكم. أقامت تلك السيدة البريطانية لمدة ثلاث سنوات في الأقصر، لأجل الاستشفاء من مرض السل في طقس الصعيد الجاف. تعلمت اللغة العربية وعاشرت الأهالي. تصاعدت أحداث التمرد أثناء وجودها، وقامت بتدوينها يومًا بيوم في صفحات مطولة من الخطابات التي كانت ترسلها لأقاربها في إنجلترا، ثم نشرتها بعد ذلك في كتاب حمل عنوان "رسائل من مصر: 1863-1865". علينا بالطبع أن نأخذ في الحسبان أن حلقة أصدقاء الليدي في الأقصر ومورد الأخبار التي تأتيها كانوا بالأساس من الطبقة العليا، من مثل الموظفين الأتراك وفقهاء الشريعة الميسوري الحال وأثرياء الأقباط ممن يعملون وكلاء للقنصل البريطاني بالمديرية. لذلك تتسم شهادتها بالتحيز ضد المتمردين وعدم التعاطف مع أهدافهم.
أخبرتنا ليدي لوسي بأن السبب المباشر لاندلاع شرارة الثورة كان حادثة ضدَّ رجل من أثرياء الأقباط، ثم انتشرت بعدها كالنار في الهشيم في نواحي المديرية. نظرًا لأن الأقباط عملوا في العادة مع القناصل والتجار الأوروبيين وأصابوا الثروات من وراء ذلك، شعر بعض الأهالي من الفقراء بالحقد عليهم. تبدأ القصة بأن رجلًا قبطيًّا غنيًّا اشترى جارية مسلمة، مُتدينة وتقرأ القرآن، وأراد أن يجعلها سريّة له. رفضت الفتاة لأن الشريعة الإسلامية لا تسمح لغير المسلم بأن يعاشر امرأة مسلمة. ذهبت الفتاة إلى الشيخ أحمد الطيب لتطلب منه نجدتها، فأحضر الطيب الرجل القبطي وطلب منه أن يختار واحدًا من أمرين: إما أن يبيعها لمسلم أو يعتقها، وعرض عليه المال أيضًا لعتقها. ولكن رفض الرجل القبطي وأصرّ على حقوقه القانونية، ودعمت الحكومة هذا الحق الموثَّق في عقد شراء الجارية. وعندها أعلن الطيب العصيان على الخديوي، كما حكت لنا ليدي لوسي.[15]
عقب تلك الأزمة على الفور، قام أتباع الشيخ بالهجوم على باخرة نقل يمتلكها تجار يونانيون. كانوا عصبة من أربعين متمرِّدًا، سطوا على محتويات الباخرة وقتلوا ريّس الدفة عليها. ثم تصاعدت الأحداث من بعد تلك الحادثة بسرعة شديدة، وكان ردّ فعل الحكومة الحاسم هو أن أرسلت من القاهرة تجريدة عسكرية حضرت على متن سفينة بخارية سريعة، تحت قيادة فاضل باشا، لأجل سحق المتمردين مرة واحدة وللأبد.[16]
نشبت بالسليمية معركة كبرى بين الشيخ الطيب والمتمردين من ناحية وعسكر فاضل باشا من ناحية أخرى. انهزم الطيب في تلك الكَرّة وظن أغلبية الأهالي أنه قد قُتِل أثناء المعركة. إلا أنه في الحقيقة كان قد تمكن من الفرار إلى صحراء قنا ومنها للجبال، ليحتمي هناك مع أتباعه من المطاريد.[17]
من أفضل ما فعلته ليدي لوسي جوردون أنها دوّنت لنا وجهات نظر أفراد مُختلفين، من فئات اجتماعية متباينة، حول الثورة. على جانب الطبقة التقليدية المُحافظة، كان لها صديق يُدعى الشيخ يوسف وهو من علماء الشريعة، زار السليمية بعد المعركة وعاد منها بآراء سلبية للغاية عن الطيب والمتمردين. أخبرتنا السيدة الإنجليزية:
عاد الشيخ يوسف من زيارته للسليمية في الليلة الماضية وأخبرني بأن الدرويش أحمد الطيب حَـيٌّ يرزق. يعتقد الشيخ يوسف أن الطيب متعصب مجنون وشيوعي، يريد تقسيم الأملاك بالتساوي بين الناس، ويرغب في قتل كل علماء الشريعة وتدمير التعاليم الدينية.. يخطب في الناس من خلال كشوفاته الروحية أو تفسيراته الخاصة للقرآن.. قال لي الشيخ يوسف: "الطيب سيحطم ساعتك الجميلة، وسيعطي لكل شخص ترسًا مكسورًا من هذه الساعة، وسيفعل هذا مع كل شيء".[18]
أما على جانب الفقراء، فقد أخبرتنا ليدي لوسي بأن المزارعين المعدمين بالمديرية كانوا يعانون أشد المعاناة من قرارات الخديوي إسماعيل الخاصة بتحديد أسعار بيع القمح لصالح كبار التجار، والتي تسببت في مجاعة بقنا في نفس عام اندلاع الثورة. ووصفت الليدي الظلم الواقع على المزارعين الفقراء في نظام الري، وأكدت أن استخدام الوابورات البخارية التي تدور بالفحم كان رفاهية لا يقدر عليها سوى الأثرياء أصحاب الملكيات الكبيرة فقط. كتبت:
يحصل عظماء القوم على المحركات البخارية، أما الطبقات الدُّنيا فلم يكن لديهم من آلات سوى أيديهم العارية والقُفَف. كان الأمر يتطلب ستة رجال كي ينجزوا مهمة يمكن أن يقوم به رجل واحد يمتلك أدوات جيدة". لهذا، وبالرغم من أن بعض أهالي القرى والنجوع لم يشاركوا في أعمال العصيان لأنهم يعتقدون أن الشيخ الطيب مجرد رجل مجنون، إلا أنهم ساندوا أهداف حركة التمرد ورفعوا أصواتهم ضد الظلم.
حكت لنا ليدي لوسي جوردون عن أحد هؤلاء المزارعين المعدمين، الذي جاء لبيتها وجلس عندها وتحدث معها، وقالت:
في ذاك اليوم جلس أمامي على الأرض شخص اسمه محمد، رجل صغير السن وغاية في الاحترام، وأخبرني عن تفاصيل مرعبة سمعها عما فعله هؤلاء الذين قدموا للجنوب عبر النهر (أي تجريدة الخديوي العسكرية). قال لي محمد: "تعلمين يا سيدتي أننا أهل سلام في هذا البلد. ولما خرج فينا رجلٌ مجنون وتبعه بعض الكسالى وذهبوا برفقته إلى الجبال، أرسل أفندنيا [إسماعيل باشا] الجنود لتدمير المكان وهتك عرض بناتنا الصغار وتعليقنا على المشانق. هل هذا عدل يا سيدتي؟ لقد شاهد صاحبي أحمد البربري أوربيين يرتدون قبعات قادمين مع الجنود على متن السفن البخارية العسكرية لأفندينا. في الحقيقة لا يوجد أحد في العالم أكثر بؤسا منَّا نحن العرب، فالأتراك يضربوننا، والأوروبيون يكرهوننا ويقولون هذا عدل. أقسم بالله، إننا نُفضِّل أن ندفن رؤوسنا في التراب (نموت) على أن نترك الأغراب يأخذون أرضنا ويزرعون القطن لأنفسهم. أما بالنسبة لي، فأنا مُتعبٌ من هذه الحياة التعسة، ومن الخوف على بناتي الصغيرات". كان محمد رجلًا فصيحًا في كلامه.. ثم وضع شاله على وجهه وأجهش بالبكاء.[19]
استخدم الشيخ أحمد الطيب من الجبال القريبة من المديرية حصونًا ومنفى اختياريًّا أثناء تتبُّع السُّلطات له. وآوته عصابات الفلاتية ممن بايعوه بينهم في أماكن اختبائهم بتلك الجبال، وهي كهوف لا تستطيع يد الحكومة أن تطالها مهما حاولت. وكان أتباعه من الأهالي يتسللون من تحت نظر الحكومة ويقطعون الصحراء ليزوروه هناك، لأجل أن يستمعوا إلى خُطبه الدينية وتلقي تعليمات القتال منه. وأكدت الليدي لوسي أن إسماعيل باشا قد جاء بنفسه مع البواخر والجنود كي يقضي على الثورة. كان من ضمن مهام الحامية العسكرية للخديوي أن تقوم بالإجلاء الآمن للأوربيين من المديرية إن حدث وخرجت الأوضاع عن السيطرة.
يتقدَّم عسكر الخديوي نحو تحقيق النصر على المتمردين قليلًا قليلًا. تم القبض على أخي الشيخ الطيب، اسمه محمد، وعلى قريب له وتم اقتيادهما إلى سجن المديرية. وقامت التجريدة بمصادرة ممتلكات كل المشتبه في كونهم أعضاء في الحركة، وبينهم الكثير من المزارعين الذين لا ذنب لهم. وعاون مشايخ القرى الحكومة في تتبع رؤوس التمرّد والقبض عليهم.
وبعد عدة أشهر من المحاولات العنيفة لملاحقة المتمردين، ارتكب فاضل باشا مذبحة كبرى، كانت بمثابة الضربة القاضية لهم. في عام 1865، بعد أن نجح في القبض على عددٍ ضخم منهم، أمر فاضل باشا بأن "يستلقي أمامه المتمردون عشرة عشرة في كل مرة، ثم تقطيع أجسادهم وهم أحياء بالفؤوس نفسها التي استخدمها قادتهم"، وقد كانت الفؤوس هي سلاحهم الأوحد في القتال وقتها حيث لم يكن المزارعون يمتلكون بنادق البارود مما عند عسكر الخديوي الحديث. قتل فاضل باشا في هذا اليوم على الأقل 1600 شخص من الرجال والنساء والأطفال - بحسب ما قيدته الليدي لوسي في رسائلها.[20]
بعد نجاح المهمة وتمام سحق الثورة، تم ترحيل كل عائلة الطيب أو من له صلة قرابة به من قريب أو بعيد، من رجل أو امرأة أو طفل، في القيود والسلاسل إلى سجن مدينة قنا العمومي.
أما عن الشيخ الطيب نفسه، فقد هرب إلى قرية فاو التابعة لدشنا بالمديرية، وهناك قام بحشد الأهالي مجددًا لدعمه في معركته والاستمرار في القتال. ثم هرب شمالًا، خارج مديرية قنا كلها، إلى جرجا بمديرية سوهاج. قام جيش الخديوي بتتبعه، وعثروا عليه مختبئًا في جبال جرجا، وقتلوه في موضعه هذا.[21]
لم يهتم المؤرخون الرسميون للدولة في تلك الفترة بالكتابة عن أحداث تلك الثورة، إما تجاهلوها تمامًا أو كتبوا عنها بصورة مقتضبة للغاية وبشكلٍ سلبي. أورَد علي باشا مبارك وصفًا مختصرًا لها في كتابه الشهير "الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة"، والمطبوع في عام 1888 أي بعد ما يقرب من ٢٥ عامًا على انتهاء أحداثها. علي باشا مبارك كان وزيرًا في حكومة الخديوي ومؤرخ مصر الأول في ذاك الوقت، ولذلك لا يُخفي تسجيله القصير لوقائع الثورة عن تحيزه السياسي ضدها. كتب علي باشا مبارك عن الشيخ أحمد الطيب أنه رجلٌ كان قد ارتكب الذنوب العُظمى بأن دعا الناس لعصيان الله، وخالف الشريعة الإسلامية بأن خرج على طاعة "إمام" المسلمين، أي الخديوي. أتى علي مبارك على ذكر الثورة في معرض وصفه لقرية فاو، فتحدّث عن نزول الطيب فيها واتِّباع أهلها له. وقال الآتي:
إلى أن كانت سنة ثمانين أو إحدى وثمانين، فأتاهم من كان سببًا في إزالة تلك النعم عنهم وإبادة كثير من أنفسهم وأموالهم وتخريب بيوتهم، وهو رجل من الصعيد الأعلى كانوا يسمونه الشيخ أحمد الطيب، يزعم أنه شريف جعفري ويدَّعي العلم والولاية والمكاشفات. فلغفلتهم احتفلوا به، ودخلوا في طاعته وأعطوه العهود على أنفسهم بالطاعة لله ولرسوله ﷺ، فجرَّهم إلى معاصي الله تعالي، حتى جعلهم من البغاة الخارجين عن طاعة الإمام، فآل أمرهم إلى أن سلَّط عليهم الخديوي إسماعيل باشا شرذمة من العساكر مع بعض الأمراء، فقتلوا كثيرًا منهم وخرَّبوا بيوتهم وسلبوا أموالهم، وأمر بكثير منهم فنُفوا إلى البحر الأبيض مدة حياتهم، ثم عفا عن باقيهم، لكن ذهبت بهجتهم وقلَّت أموالهم وظهرت عليهم الكآبة والفاقة من يومئذ.[22]
وفي موضع آخر من كتاب الخطط التوفيقية، اختصر علي مبارك أحداث التمرد الكثيرة إلى مجرد واقعة طائفية بين شيخ مُسلم متعصب وتاجر قبطي، ثم وصف تفصيلًا لحاق جيش الخديوي به في جرجا وقتله هناك. كتَب:
رجل من الصعيد الأعلى يزعم أنه شريف جعفري ويتسمى بأحمد الطيب، وإنما هو الشقي كان يتردد على هذه الجهة قاو [أي فاو] والأهالي تعتقده واجتمع عليه كثير من الناس، وأعطوه العهود على أنفسهم بالطاعة، فكانت طاعتهم معصية وصلاحهم فسادًا ونصرهم للدين إذلالًا. وذلك أتت إليه ذات يوم أمة مُسلمة مملوكة لبعض نصارى فاو تشكو إليه أن سيَّدها يريد وطأها وهي ممتنعة منه، فأحضر النصراني وخيَّره بين بيعها وعتقها منعًا للحرمة، فامتنع النصراني وأصرّ على تملكها، فلم يحسن الشيخ التدبير وأخذها جبرًا من النصراني وآذاه وهمَّ بسلب أمواله، فرفع النصراني الشكوى للحكومة فطلب حاكم الجهة الجارية من الشيخ فامتنع من تسليمها فتوجه إليه ناظر القسم فلم يعبأ به وازداد في أذى النصارى وأظهر عدم المبالاة بالحكومة، واجتمع عليه كثير من أهل بلاد الشرق، فجاء مدير جرجا وأسيوط ورفاعة أغا صنجق الأربعمائة ومعهم بعض عساكر وعرب فرفعوا عليهم السلاح ونصبوا رايات الحرب.. فتعين عليهم الأمير شاهين باشا بشرذمة قليلة من العسكر ومعهم بعض مدافع وبوصولهم إلى هناك ضربوهم بمدفع مزقهم كل ممزق وقتل الشيخ وكثير من جماعته شر قتلة ونفي كثير منهم إلى البحر الأبيض.[23]
1- علي مبارك، نخبة الفكر في تدبير نيل مصر (القاهرة: مطبعة وادي النيل، 1879)، 166-169. وانظر كذلك:
Charles Issawi, An Economic History of the Middle East and North Africa (New
York: Columbia University Press, 1982), 30–31.
2- علي مبارك، نخبة الفكر في تدبير نيل مصر، 169.
3- دار الوثائق المصرية، صادر مضابط مجلس الأحكام، ميكروفيلم رقم 367، ص 125، 23 ربيع الأول 1280.
4- دار الوثائق المصرية، صادر مضابط مجلس الأحكام، الجزء 10، ص 65، 14 ربيع الأول 1279.
5- دار الوثائق المصرية، صادر مضابط مجلس الأحكام، الجزء الأول، ص 53، 4 ربيع الآخر 1279.
6- دار الوثائق المصرية، صادر مديرية قنا، الجزء الأول، ص 32-33، 25 ربيع الأول 1279.
7- دار الوثائق المصرية، مضابط مجلس الأحكام، ميكروفيلم 434، سجل 666، القضية رقم 682، ص 123، رجب 1275.
8- دار الوثائق المصرية، صادر مديرية قنا، ص 239، 23 صفر 1272، الجزء الأول، ص 13، 19 ربيع الأول 1279.
9- دار الوثائق المصرية، صادر مديرية قنا، الجزء 13، ص 67، 1275.
10- دار الوثائق المصرية، صادر مضابط مجلس الأحكام، ميكروفيلم 367، ص 166، 29 ذو الحجة 1280.
11- دار الوثائق المصرية، مضابط مجلس الأحكام، ميكروفيلم 434، قضية 842، ص 77-82، 18 شوال 1275.
12- دار الوثائق المصرية، مضابط مجلس الأحكام، ميكروفيلم 434، سجل 668، قضية 1217، 23 جمادى الأول 1275.
13- دار الوثائق المصرية، مضابط مجلس الأحكام، ميكروفيلم 421، 12 ذو القعدة 1288.
14- علي باشا مبارك، الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994)، الجزء 14، ص 95.
15- Duff-Gordon, Letters ftom Egypt, 364.
حادثة الجارية ومالكها القبطي مذكورة أيضا في: علي مبارك، الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة، الجزء 14، ص 53.
16- Duff-Gordon, Letters ftom Egypt, 364.
17- Duff-Gordon, Letters ftom Egypt, 345–46.
18- Duff-Gordon, Letters ftom Egypt, 345–46.
19- Duff-Gordon, Letters ftom Egypt, 346–47.
20- Duff-Gordon, Letters ftom Egypt, 341–71. Quote is on 369.
21- علي باشا مبارك، الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة، الجزء 14، ص 53 وص 95.
22- علي باشا مبارك، الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة، الجزء 14، ص 95.
23- علي باشا مبارك، الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة، الجزء 14، ص 53.
ترشيحاتنا
