عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

دراسات

زينب أبو المجد

الليدي والدرويش: ثورة شيوعية في الصعيد – الجزء الأول

2025.03.02

مصدر الصورة : ويكبيديا

هذه الدراسة فصل من كتاب "إمبراطوريات متخيلة – تاريخ الثورة في صعيد مصر" الصادر عن المركز القومي للترجمة، من ترجمة: أحمد زكي عثمان – وقد تم النشر بتصريح من المؤلفة.
 

في عام 1864، اندلعت ثورة كبرى في مديرية قنا. أقدم الشيخ أحمد الطيب على نفس الذي فعله أبوه قبل أربعين عامًا ضد محمد علي باشا. قاد عشرات الآلاف من الفلاحين الغاضبين بهدف إسقاط حكومة الخديوي إسماعيل.

 شنّ المتمردون تحت قيادة الطيب الهجمات على البواخر النيلية للتجار الأوربيين وأبعديات الأثرياء بقنا، ثم دعوا إلى التوزيع العادل للثروة. مثل والده، خرج الشيخ الطيب في ثوب الصوفية على الناس من قرية السليمية، بل وادَّعى أنه المهدي المنتظر عينه. شحذ عواطف المزارعين بالخُطب الدينية العصماء، واستجابوا بسرعة له لأنهم كانوا ساخطين أشد السخط على انتشار التجار الأجانب في بلدانهم، وعلى استيلاء طبقة صاعدة من كبار الملاك على أراضيهم، كل هذا مع إجبارهم على العمل بالسخرة كأنفار في مشروعات الحكومة.

 لحسن الحظ، كانت هناك سيدة إنجليزية تقيم في المديرية وقت اندلاع الثورة، اسمها ليدي لوسي دف جوردون (Lady Lucie Duff-Gordon)، وشهدت أحداثها برؤيا العين ودوَّنت كل تفاصيلها يومًا بيوم. بينما تسكُن في بيتٍ لها في الأقصر لأجل التعافي في جو الصعيد الدفيء من مرضٍ ألمَّ بها في بلادها الباردة، كتبت الليدي عن اللحظة الأولى لاشتعال الشرارة، وقالت إن المتمردين:

 "هجموا على قارب بروسي وقتلوا كل من على متنه، ثم أشعلوا فيه النيران.. وفي أعقاب ذلك، أعلنت عشر قرى العصيان المفتوح. قاد هذا الشغب درويش مجنون.. فعل كمثل الذي أقدم عليه أبوه من قبل.. أخذ يُسَبّح بأسماء الله الحسنى، مثل "يا لطيف"، ثلاثة آلاف مرة كل ليلة طوال ثلاث سنوات، ثم أعلن نفسه معصومًا. وزعم أنه قد آخى أحد أفراد الجن، الذي علَّمه الكثير من الحيل الأخرى. خدع هذا الدرويش مطاريد الجبل وأفهمهم أنه المهدي المنتظر، ثم أعلن الثورة ضد الأتراك. شاركت ثلاث قرى جنوب قنا في هذا التمرد.[1]

وصفت ليدي لوسي الشيخ أحمد الطيب حرفيًّا بأنه "شيوعي"، بسبب دعوته العامة لتوزيع الثروة والأملاك على الأهالي.

سرعان ما أرسل الخديوي سفنه البخارية العسكرية، شقت النيل سريعًا قادمة من القاهرة إلى قلب وجه قبلي، لأجل أن تخمد الثورة الآخذة في الانتشار كالنار في الهشيم. بعد تعقبهم والقبض عليهم، قام عسكر الخديوي بتمزيق أوصال المتمردين إِرْبًا، مستخدمين الفؤوس نفسها التي كان يحملها قادتهم كسلاحٍ لهم.[2]

***

تحت ضغوط أوروبية شديدة، قامت حكومة الخديوي سعيد وإسماعيل في منتصف القرن التاسع عشر بعملية "تحديث" شاملة للاقتصاد المصري. قامت "بتحريره" بأن طبقت سياسات السوق الحرّ فيه، حيث فتحت الباب واسعًا أمام دخول التجار الأوربيين له يبيعون ويشترون، ورحبت برأس المال الأجنبي. وقامت أيضًا بإصلاح شامل للقوانين، وصكت قوانين جديدة "للملكية الخاصة" في الأراضي الزراعية. زعمت الإمبراطورية البريطانية، التي كانت تهيمن على الحكومة المصرية وقتها بشكل "غير رسمي"، عبر السيطرة الاقتصادية دون أن تضطر للاحتلال العسكري بعد، أن تحرير الاقتصاد في مصر قد حقق النجاح المأمول، بأن جلب لها التقدُّم وجعلها تقترب كثيرًا من أن تشبه الاقتصادات الرأسمالية الصاعدة في أوروبا.

في صعيد مصر، ترك "التحديث" بالفعل أثرًا عميقًا على حياة الأهالي هناك، ولكن ليس بفضل نجاحه. وإنما بسبب فشله السحيق. على سبيل المثال، بالنسبة للطبقات الدنيا في مديرية مركزية في وجه قبلي مثل قنا، لم يكن نجاح اقتصاد السوق الحر في فترة منتصف القرن التاسع عشر سوى مَحْض خرافة لم تبرح كتب مُنظري الليبرالية البريطانية. فقد عجزت سياسات تحرير التجارة وتبديل قوانين ملكية الأراضي الزراعية بقنا عن جلب أي تقدم مزعوم لصعيد مصر في تلك السنوات الحالكة. بل أتت بالدمار لحياة الأهالي، وأدت لاندلاع ثورة شعبية كاسحة استهدفت جميع مظاهر اقتصاد السوق الحديث المـُختالة في ملبَسها الغربي والمتباهية بنفسها في المديرية.

تحكي هذه المقالة ثلاث قصص قصيرة، تدور حول القمع الذي تسبب فيه تحرير الاقتصاد ومقاومة الأهالي له في نجوع قنا ومدنها الصغيرة. تروي تلك القصص أخبار مراكب بخارية سريعة حملت البضائع من المديرية، وأبعديات كبرى استحوذت عليها النخبة الحاكمة ومعهم الوافدون من التجار الخواجات، ومناجم بعيدة في قلب الصحراء المجاورة يعمل فيها أنفارٌ بالسخرة. تكشف قصصنا الثلاث عن كيف أبدلت ودمرت كل تلك الأشياء حياة الطبقات الدنيا في نواحي قنا. أبطال هذه القصص هم المزارعون والأنفار الأُجراء. أما المكان الذي تدور فيه أو تخرج منه معظم أحداث تلك القصص فهو قرية السليمية، التي اندلعت منها شرارة الثورة الكبرى لعام 1864.  

السفن البخارية ترسو في بحر الصعيد

أول وجه لتحرير الاقتصاد رآه أهالي الصعيد، وهم لا يفهمون بالضبط ما يجري حولهم بعد، هو فتح الأسواق المصرية أمام التجار الأجانب. بمجرد أن استلم حكم مصر وفي الشهر الأول له، قرر الخديوي سعيد نجل محمد علي باشا تبني سياسات ليبرالية منفتحة بشكل كامل على أوروبا في جميع مجالات الاقتصاد، وبدأها بالتجارة.

بعكس أبيه الذي عمد إلى غلق السوق المصرية أمام الواردات الأوروبية بينما كان يحاول تطوير الصناعات المحلية بالبلد، فتح سعيد أبواب البيع والشراء في السوق المصرية بدون قيود أمام التجار الأوروبيين.[3] كان محمد علي باشا بالفعل قد وقَّع مع بريطانيا على اتفاقية تجارة حرة في عام 1838، والمشهورة باسم اتفاقية بالطة ليمان والتي كان طرفها الثالث تركيا، ولكنه لم يلتزم جِـديًّا بها. وبمجرد أن تولى السلطة، أصدر سعيد عددًا من القرارات الصارمة لموظفي الحكومة في أنحاء القطر، يأمرهم فيها بالتطبيق الحازم لتلك الاتفاقية وكل اتفاقيات التجارة الحرة التالية عليها، وتيسير نشاطات المشروعات الأجنبية.

في شهر يوليو سنة 1854، أرسل الخديوي القرار التالي لعموم الموظفين: "على الرغم من بداهة حرية التجارة كما تقتضي المعاهدات، فقد اتضح من الخطابات الواردة للدواوين وقوع مشاكل بمعاملات الأخذ والإعطاء في بعض الجهات خارجة عن حدود الحرية والأصول، وحيث إن من الواجب عدم توقيف المعاملة وإيقاع الغدر والصعوبة للبائع والمشتري في التعامل بعد الآن، مع إجراء التسهيلات اللازمة والممكنة موافقة للأصول والمعاهدات... عندما تحيطون علمًا بذلك تجب المبادرة والعناية بإدارة الأمور على الوجه المحرر، والحذر من الإيذاء والغدر بأي أحد كان في معاملة الأخذ والإعطاء، وعدم وقوع التسامح في وقاية حقوق العباد".[4]

وجد التجار الأوروبيون سريعًا سبيلهم لقلب الصعيد، لمديرية قنا. وصلوا إليها على متن سفنهم البخارية السريعة، ذات التكنولوجيا الجديدة الفائقة وقتذاك، حيث تدور بمواتير وقودها القوي والمكتَشف حديثًا وهو الفحم. حتى الماضي القريب، اعْتَادَت بواخر السائحين الأجانب المرور بموانئ قنا مرة واحدة كل أسبوعين. ولكن الآن أصبحت السفن التجارية التي تعمل بوابورات الفحم تصل كل يوم من أيام الأسبوع، تحمل البضائع وتفرغها دون توقف.[5] حوَّل التجار الخواجات قنا إلى سوق كبير للغلال، وعلى رأسها القمح. وانتشر في مدن وقرى قنا القناصل التجاريون الممثلون لدول مثل بريطانيا وفرنسا والنمسا واليونان والولايات المتحدة. قام هؤلاء القناصل بتعيين وكلاء لهم من نخبة الأقباط على الأغلب، لأجل مساعدتهم في أعمالهم مع التجار العرب. ثم سرعان ما استقرت مجموعات من الأجانب للحياة بشكل كامل في المديرية، خاصة في مدن مثل الأقصر وقوص. بنوا هناك المنازل الفسيحة ليسكنوها مع عائلاتهم، واستعانوا بالعمالة المحلية الرخيصة لتأدية الخدمات لهم.[6] أرسلت الحكومة المركزية في القاهرة عددًا لا نهائيًّا من القرارات والأوامر إلى مدير مديرية قنا، لحض المسؤولين لأن يعملوا بجِدّ على ضمان أمن وسلامة السكان الأجانب.[7]

وفي حين بذلت الحكومة الجهود لتسهيل أعمال الأجانب في قنا، قامت في المقابل بقمع الأهالي المشتغلين عندهم. فبينما كان المسؤولون المحليون يجمعون الأنفار للعمل بالسخرة في الأشغال العمومية في المديرية، كانوا يجمعون معهم أيضًا العمالة الرخيصة لخدمة القناصل الأوروبيين ووكلائِهم. حدث ذات مرة أن أرسل أحد القناصل طلبًا لمدير قنا لأجل أن يجمع له أربعة عمال لتشييد مركب نيلي خاص به. استجاب المحافظ على التوِّ لطلب الخواجة، ولكنه أكَّد للأنفار أن القنصل هو من سيتحمل دفع أجورهم وليس خزانة المديرية، حتى لا يلتبس الأمر عليهم ويطالبوا الحكومة فيما بعد بمستحقاتهم. وفي واقعة مشابهة، منح مسؤولون لتاجر أوروبي عددًا من الجَمَّالين لمساعدته في أعمال النقل بين الصعيد والسودان. بينما تمتع التجار الأجانب بمنافع تشغيل العمالة رخيصة الأجرة، لم يحظَ العمال الشغالون معهم بأي مزايا مالية إضافية مقابل الخدمة لديهم، فلا تزيد أجورهم هنا على ما تدفعه الحكومة أو التجار العرب، لأن المديرية كانت قد حددت معدلات الأجور سلفًا وصارت ثابتة على الجميع. ذات مرة اكترى وكيل القنصل الفرنسي بعض الأنفار من قرية السليمية وقرى أخرى ليؤدوا بعض الأشغال له. وتأخر هؤلاء العمال في دفع الضرائب المستحقة عليهم للحكومة، فيما يبدو لأن أجورهم من القنصلية كانت ضئيلة لا تكفي للمعيشة والضريبة معًا. لم تعفِهم المديرية مما عليهم، وألقت بمسؤولية جمع الضرائب المتأخرة منهم على عاتق شيوخ طوائف الحِـرَف التي ينتمون لها ومشايخ القرى التي يسكنون بها.[8]

وعلى جانب آخر، يدفع القناصل الأوروبيون ووكلاؤهم المحليون أثمانًا بخسة للغلال التي يجمعونها من مزارعي المديرية. لهذا يمتنع تجار الجملة الذين يتعاملون معهم في بعض الأحيان عن تسليم البضائع، ويقومون بالتفاوض معهم لرفع السعر قليلًا أو كثيرًا. ذات مرة في عام 1858، شبّ نزاع كبير بين وكيل القنصل الفرنسي وتجار جملة الغلَّة في مدينة فرشوط، فرفضوا تحميل مراكبه التي تقف في انتظار البضاعة على مرسى البلد. كان وكيل القنصل قد عقد الاتفاقات مع التجار بسوق فرشوط لأجل أن يجمعوا له شحنات الحبوب من القُرى المُحيطة، ولكنهم اكتشفوا قبل التسليم أنه قد قدم لهم سعرًا بخسًا للغاية بالمقارنة بالسعر الذي سوف يبيع فيما بعد به. فقاموا بالإضراب جماعة عن تنفيذ الاتفاق ورفضوا التحميل على بواخِره. أخبرهم وكيل القنصل بأنه لا يحق لهم القيام بهذا الإضراب، لأن العُرف الجاري في البيع والشراء في أسواق الصعيد لا يسمح برجوع طرف عن السعر الذي تم الاتفاق عليه. ولكن أصرّ تجار الجُملة على رفض الثمن الظالم لهم، وأبوا إلا الحصول على حقِّـهم.[9]

وبعد مرور الوقت، وجدت الحكومة نفسها في مشكلة عويصة: النقص فيما يلزمها هي من غلال، وعدم القدرة على جمع الضرائب الكافية من المزارعين لأنهم لا يبيعون حصادَهم بأسعار جيدة. وجدت الحكومة نفسها في موضع منافسة شرسة مع التجار الأجانب للسيطرة على محصول قنا الوفير من الغلال. انقسم "الخراج" أو ضرائب الأرض التي تـُحصلّها الحكومة من المزارعين إلى نوعين: خراج نقدي يسددونه بالفلوس، وخراج عَيني من الغلَّة يوردونها إلى صوامع الدولة أو "الأشوان" الهائلة المنتشرة في مُدن قنا. تحتاج الحكومة لهذه الغلَّة لأغراض مختلفة، منها إمداد القاهرة والحجاز بالمؤن، ودفع جزء من أجور العمال المشتغلين لديها عينيًّا. لا تستطيع الحكومة تحديد أسعار الحبوب لضبط الأسواق، وذلك لأن تحديد الأسعار يُعد مخالفة لاتفاقية التجارة الحرة الإنجليزية-التركية التي وقعتها مصر، وقد يترتب عليه العقوبات الدولية عليها، وأيضًا لأن تحديد حركة السوق يتعارض مع مبادئ الاقتصاد الحر الذي تتبناه الآن مصر. تلتف الحكومة على ذلك بأن تراقب عن قرب صعود وهبوط الأسعار في الأسواق المحلية بقنا، وتُعدّ قائمة كل 10 أيام بأسعار السلع فيها، ثم تقوم بتشجيع المزارعين على دفع ضرائبهم بالغلَّة، بدلًا من بيعها للأجانب بأسعار السوق، حيث تعرض عليهم أشوان الحكومة أسعارًا أعلى من أسعار السوق مقابل تسديد الضرائب في شكل حبوب. أي أن الحكومة أصبحت تنافس التجار الأجانب، ولكن بشكل غير مباشر. كان هذا الإجراء نافعًا إلى حدٍّ ما للمزارعين لأنه أعانهم على تسديد جزء كبير مما عليهم من ضرائب ثقيلة، ولكنه في النهاية لم يترك لهم سوى الكفاف من المؤن ليعيشوا عليه في بيوتهم المـُعدَمة بعد استغلال الطرفين لهم.[10]

هناك طرف آخر خرج مستفيدًا من تلك المنافسة الحامية بين الحكومة والتجار الأجانب، وهم كبار تجار الجملة من الأثرياء. كان هؤلاء يمنحون القروض للمزارعين في مقابل احتكار ما سيحصدونه في نهاية الموسم مُسبقًا. فقد اعتادوا إعطاء المزارعين غير القادرين المال اللازم لتكاليف الزراعة في شكل قروض آجلة، يسددونها عند نهاية كل موسم من حاصلاته، أي بعد مرور من شهرين إلى أربعة من حصولهم على تلك القروض. وأباح الفقه الإسلامي المُطبَّـق وقتها هذا الشكل من الديون، وأسماها عقود "السَّلَم"، وكانت في الحقيقة ديون بفوائد عالية بها شبهة الرِّبا، ولكن أباحها المذهب الحنفي المطبق في القانون المصري آنذاك. ثم بعد ذلك يبيع تجار الجملة المحاصيل بأسعار أكثر بكثير مما قدموه من قروض، فيربح الدائن وينال المزارع المدين الفتات.[11]

في ذلك الوقت، كان القمح تحديدًا هو المحصول "النقدي" الوحيد بيد المزارعين بالصعيد، أي الذي يتمتع بالطلب عليه في السوق المحلي والعالمي بسعر معقول، ولذلك أقدموا على بيعه برغم حاجتهم له للمعيشة في بيوتهم. خلت بيوت الصعيد من القمح، حتى صار الخُبز المعمول منه سلعة ثمينة نادرة تُقدم للضيوف تعبيرًا عن الترحيب والكرم. أصبح خبيز أرغفة العيش بدقيق القمح مصدرًا للفخر في الأسر ميسورة الحال. وامتلأت المحكمة الشرعية في قنا بالكثير من قضايا النساء من الطبقات الدنيا اللاتي قُمن بشكاية أزواجهن، لأنهم لا يوفرون القدر الكافي من الغذاء لأبنائهن. لا تدرك هؤلاء النساء أن سبب المشكلة أكبر من الزوج، بل هو سوق عالمي لا تقوى الحكومة نفسها على أن تغلبه.[12]

تفاقمت بوتيرة متسارعة حدة الغضب ضد التجار الأجانب في مديرية قنا، حتى صارت حوادث الهجوم على المراكب البخارية التي يمتلكونها تكاد تنشب بشكلٍ يومي. تخصصت بعض عصابات "الفلاتية"، وهم مطاريد الجبل، في سرقة مراكب التجار اليونانيين على وجه التحديد، التي تحمِل الغلال من قنا إلى وجه بحري. ذات مرة في سنة 1859، أطلق عدد من الفلاتية النيران في منتصف الليل على مركب تجاري لخواجة يوناني يُدعى جورجي أنطون. هاجمت عصابة المطاريد طاقم الباخرة، واستولت على الأموال والبضائع الموجودة على متنها.[13] وفي حادثة أخرى مشابهة، قام الفلاتية بالسطو على مركب مملوكة لخواجة آخر بمجرد رسوِّها في إسنا، بينما هي في منتصف طريقها قادمة من أسوان ومتجهة لمدينة قنا.[14]

فقد الكثير من المراكبية القناوية مصدر رزقهم بسبب غزو السفن البخارية السريعة للمديرية، وتحوَّل العديد من هؤلاء البؤساء إلى فلاتية شرسين، يسطون على أملاك الأثرياء ويسرقون موظفي الحكومة. ذات مرة، على مقهى يملكه عبدٌ مُحَرَّر في مدينة قنا، قام فلاتي يُدعى عثمان علي بسرقة ملابس ومحفظة ممتلئة بالنقود من موظف بالحكومة. كان عثمان عضوًا بعصابة ارتكبت العديد من جرائم السرقة الكبيرة، وتمكنت من الهروب من السجن بعد القبض عليها، ونجحت في الفرار من أحكام الحبس لسنوات. في حقيقة الأمر، لم يكن عثمان سوى مراكبي سابق يعمل على قارب شراعي بدون موتور، ولكنه فقد مصدر رزقة بسبب سيطرة بواخر الخواجات صاحبة وابورات البخار الكبيرة على أعمال الشحن والنقل بالمديرية.[15]

في عام 1858، قادت عصابات الفلاتية مجتمعة عمليات كبرى في مديرية إسنا، إلى الجنوب من مديرية قنا، وأجبرت الخديوي سعيد على إجراء إصلاحات إدارية شاملة في وجه قبلي. كانوا يقطعون الطريق على بضائع الأجانب ويعتدون عليهم بشكل متكرر دون وازع، ثم كالعادة يفرّون هربًا للجبال ويختبئون بها بعيدًا عن أيدي السلطات. وردًّا على تلك الهجمات، قام بعض الأوروبيين بإطلاق النيران عشوائيًّا على الأهالي. فشلت الشرطة في القبض عليهم، ودفع حاكم إسنا حسين صبري بك الثمن غاليًا، حيث تم رفده من منصبه. وبناء عليه أصدر سعيد قرارًا بدمَج مديرتي قنا وإسنا تحت لواء مدير مديرية واحد، وقرر أيضًا رفد جميع المسؤولين الأتراك القائمين على رؤوس المناطق وتعيين موظفين محليين من أولاد العرب محلَّهم. أمَر سعيد باشا مدير قنا موسى بك بما يلي:

نظرًا لما شاهدناه فيكم هذه المرة من الغيرة والهمة العالية في أمور الضبط والربط وحسن الإدارة، وحيث إن مدير إسنا الحالي [حسين صبري بك] عجز وقصّر في مسألة التغلب على الأشقياء الذين التجؤوا إلى الجبل واعتصموا به ولم يتوفق إلى أي وسيلة من الوسائل للقبض عليهم... فقد اقتضت إرادتي فصله من المديرية وضم مديرية إسنا لمديرية قنا وتعيينك مديرًا عموميًّا عليها... وأن تعزل كافة نظار الأقسام الموجودين في مديرية إسنا وتعين بدلهم نظارًا من أولاد العرب.[16]

ومن أجل تيسير مهمة المدير الجديد للتفتيش على والتحقيق في أعمال التمرد والعصيان في مديرية قنا، بعد أن توسعت حدودها الآن جنوبًا وصارت تمتد عبر شريط طويل يبلغ مئات الأميال على ضفتي النيل، خصَّص له سعيد باشا مركبًا بخاريًّا سريعًا ووضعه تحت تصرفه لاستخدامه في التنقُّل. وكذلك أرسل له وحدة عسكرية وضعت تحت إمرَته. وأكد له سعيد باشا على أن المهمة الأساسية لمدير مديرية قنا وإسنا الآن هي ضمان سلامة الأوروبيين وحماية الأمن العام. أما بالنسبة للأجانب الذين اقترف بعضهم جرائم إطلاق النيران على أهالي قنا، فقد أمر الباشا بأن يتم التصرف معهم باللِّين، وأن تتم إحالتهم إلى القناصل الخاصة بدولهم.[17]

لم يُكتَـب النجاح للنظام الإداري الجديد الذي وضعه الخديوي سعيد، لم يُوفق في إخضاع المتمردين. استمر الشعور بالغَبن والغضب تجاه التجار الأجانب في التفاقم لدى الأهالي، حتى وصل لذروته عند لحظة اندلاع الثورة الكبرى عام 1864.

تابعوا الجزء التالي من الدراسة...


1- Lady Lucie Austin Duff-Gordon, Letters ftom Egypt, 1863-1865 (London: Macmillan, 1865), 341–42.

2- Duff-Gordon, Letters ftom Egypt, 345–69.

3- See: Roger Owen, The Middle East in the World Economy 1800–1914 (London: I.B. Tauris, 1993), 122–26.

4- أمين سامي، تقويم النيل (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، ١٩٣٦) المجلد الأول، الجزء ٣، ص ٨٠.

5- دار الوثائق المصرية، صادر مديريات، قنا، عام 1275، وانظر كذلك:

Duff-Gordon, Letters ftom Egypt, 332.

6- دار الوثائق المصرية، صادر مديريات، قنا، الجزء 10، ص 9، 29 صفر 1279، والجزء الأول، ص 34، 4 صفر 1275، والجزء الثاني، صفر 1275، والجزء السابع، ص 88، 15 ذو الحجة 1278، وانظر أيضًا: مضابط مجلس الأحكام، صادر الأقاليم القبلية، ميكروفيلم رقم 367، ص 6، 19 المحرم 1276.

7- دار الوثائق المصرية، صادر مديريات، قنا، ص 118، 13 شعبان 1270.

8- دار الوثائق المصرية، صادر مديريات، قنا، الجزء السابع، ص 88، 15 ذو الحجة 1278، والجزء الثاني، سفر 1275، والجزء السابع، ص 90، 19 ذو الحجة 1278.

9- دار الوثائق المصرية، صادر مديريات، قنا، الجزء الثاني، ص 12، صفر 1275، وصادر مديريات، قنا، 1272.

10- دار الوثائق المصرية، صادر مديريات، قنا، 1270.

11- عقد "السلم" نوع من عقود الإقراض المسموح بها شرعًا، وكان التعامل بهذه العقود شائعًا في المناطق الريفية في العالم الإسلامي. انظر: دار الوثائق المصرية، محكمة فرشوط، سجل إشهادات 1، ص 3، جمادى الثاني 1273، ومحاكم فرشوط ونجع حمادي، سجل إشهادات 1، القضية 516، ص 56، 14 المحرم 1274.

12- انظر مثال للزوجات اللاتي رفعن قضايا ضد أزواجهن بسبب فشل الأزواج في توفير القوت: دار الوثائق المصرية، محاكم فرشوط ونجع حمادي، سجل إشهادات 2، قضية رقم 3، ص 1، 12 جمادى الأول 1273، وانظر أيضًا: علي باشا مبارك، الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة، الجزء الثامن، ص 175، وانظر كذلك:

Duff-Gordon, Letters ftom Egypt, 45.

13- دار الوثائق المصرية، مضابط مجلس الأحكام، صادر الأقاليم القبلية، ميكروفيلم رقم 367، ص 6، 19 المحرم 1276.

14- دار الوثائق المصرية، مضابط مجلس الأحكام، صادر الأقاليم القبلية، ميكروفيلم رقم 434، سجل 666، القضية رقم 690، 16 رجب 1275.

15- دار الوثائق المصرية، مضابط مجلس الأحكام، صادر الأقاليم القبلية، ميكروفيلم رقم 434، سجل 434، القضية 115، ص 52، 20 صفر 1274.

16- الاقتباس من: أمين سامي، تقويم النيل، المجلد الأول، الجزء الثالث، ص 298.

17- أمين سامي، تقويم النيل، المجلد الأول، الجزء الثالث، ص 298.