عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

دراسات

صفاء شاكر

المجر بين المحكمة الجنائية الدولية وتهمة العداء للسامية

2025.04.20

مصدر الصورة : AFP

المجر بين المحكمة الجنائية الدولية وتهمة العداء للسامية

 

لقد أثارت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نيتنياهو لبودابست في الثالث من إبريل 2025 كثيرًا من الجدل الدولي، إذ أعلنت المجر الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت مذكرة توقيف ضده.[1] وكشف أوربان رئيس الوزراء المجرى سبب الانسحاب قائلًا: "إن توقيع المجر لقرار الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية يرجع إلى أن المحكمة -خاصة في العام الأخير- أصبح قرارها لا يتعلق بالمسار القانوني، إنما أصبح سياسيًّا". لكن الوجه الآخر من العُملة يكشف وجود مصالح مشتركة بين المجر وإسرائيل، فهناك 150 مجالًا للاستثمار وخاصة في مجال التكنولوجيا، ولذلك أعرب أوربان عن تطلع بلاده إلى زيادة التبادل التجاري مع إسرائيل والتعاون العسكري والأمني، واستمرار التنسيق التجاري في المستقبل.[2] وفي كلمته توجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بالشكر إلى نظيره المجري على دعمه الواضح لإسرائيل "بفخر ودون تردد" في الاتحاد الأوروبي وفي الأمم المتحدة، وقال: "لقد اتخذتم موقفًا جريئًا من المحكمة الجنائية الدولية، وهذا ليس مهمًّا لنا فقط، بل لكل الديمقراطيات"، كما شنَّ هجومًا حادًّا على المحكمة الجنائية واصفًا إياها بأنها "منظمة فاسدة" تساوي بين دولة ديمقراطية تحارب من أجل وجودها، وبين قوى الإرهاب الأكثر وحشية في العالم. وأضاف: "المحكمة تستهدفنا بينما نخوض حربًا عادلة بوسائل عادلة، ولا تستهدف جلادينا، وهذا ليس أمرًا يخص إسرائيل وحدها، بل معركة حضارية ضد الهمجية".[3]

وكان أوربان قد وجَّه دعوة إلى نتنياهو في نوفمبر الماضي، بعد يوم واحد من إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة التوقيف بحقه بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وتعهد أوربان بألَّا تنفذ المجر -العضو في الاتحاد الأوروبي- مذكرة التوقيف رغم أنها من موقّعي معاهدة إنشاء المحكمة. واستُقبل نتنياهو في مراسم عسكرية وسار الرجلان على البساط الأحمر قبل أن يتوقفا أمام علميهما الوطنيين.

وطبقًا لنظام المحكمة فإن مفعول انسحاب أي دولة من المحكمة لا يسري إلا بعد مرور عام بعد عام من إيداع وثيقة الانسحاب، التي عادة ما تكون في شكل خطاب رسمي بهذا الخصوص، لدى مكتب الأمين العام للأمم المتحدة، من جهتها، أعربت الهيئة الحاكمة للمحكمة الجنائية الدولية عن أسفها وقلقها إزاء إعلان المجر انسحابها من المحكمة، قائلة إن أي خروج يضرّ "بالسعي المشترك لتحقيق العدالة". وقالت رئاسة جمعية الدول الأطراف، في بيان: "عندما تنسحب دولة طرف من نظام روما (الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية)، فإن ذلك يعكر صفو سعينا المشترك لتحقيق العدالة، ويضعف عزمنا على مكافحة الإفلات من العقاب". وأضاف البيان أن المحكمة "هي في قلب الالتزام العالمي بالمساءلة"، وينبغي على المجتمع الدولي "أن يدعمها دون تحفظ". وأشار إلى أن "العدالة تتطلب وحدتنا". وأكّدت الهيئة أن لكل عضو في المحكمة "الحقّ في التعبير عن مخاوفه أمام الجمعية". وأضاف أنّ "الرئاسة تشجع بشدة المجر على إجراء نقاش هادف حول هذه القضية". وحضّت الهيئة المجر على "الاستمرار في كونها طرفًا حازمًا في نظام روما الأساسي."[4]

هذا الموقف الذي اتخذته المجر تجاه إسرائيل، وضربها بقرارات المحكمة الجنائية الدولية عرض الحائط، لا ينبع فقط من التواطؤ العام للحكومات الغربية مع إسرائيل الذي شهدناه طوال حرب الإبادة في غزة، فالموقف المجري في حقيقة الأمر أكثر تعقيذًا وله جذور نابعة من تاريخ الوجود اليهودي في المجر. ولفهم الأمر لابد من التعرف على هذا التاريخ بمنعطفاته وتعرجاته المختلفة.

أصل الوجود اليهودي في المجر

من غير المعروف بالتأكيد متى استقر اليهود لأول مرة في المجر. ووفقًا للروايات المتداولة سمح الملك ديسيبالوس (حاكم داسيا 87-106) لليهود الذين ساعدوه في حروبه ضد روما بالاستقرار في إقليمه. وقد شملت داسيا جزءًا من المجر الحديثة.[5] وقد اجتذبت مملكة المجر بعد تأسيسها أعدادًا كبيرة من اليهود. ومع تزايد وفود المستوطنين اليهود من الخارج ظهرت تشريعات لتنظيم أوضاعهم. فقد تعهد الملك كالمان (1095-1116) بحمايتهم من هجمات الفرنجة، وقَبِل شهادتهم في المحاكم، كما حدد مكان سكنهم ومنعهم من استخدام العبيد، وتم استبعادهم من مهنة الزراعة. وحين قام صراع بين الكنيسة ومؤسسة الملكية، أو بين الملك والنبلاء، كان يهود المجر حلبة الصراع. فحين كانت الكنيسة تهدف إلى تشديد قبضتها، وهو ما كان يعني استبعاد اليهود، كان الملوك يريدون المحافظة على استقلالهم، وكان اليهود أداتهم في ذلك. فكانت الكنيسة تصدر التوجيهات والتحريمات التي كان يتجاهلها الملوك.

استمر اليهود في التمتع بما تمنحهم المواثيق الملكية من مزايا، وتمتعوا بوضع ممتاز تحت حكم أسرة أرباد الذي انتهى بانتهاء حكم أندرو الثالث (1290-1302). وكان الملك أندرو الثاني (1205-1235) قد أصدر الفرمان الذهبي عام 1222 بضغط من النبلاء، وتضمن مادة تنص على أن اليهود والمسلمين لا يمكنهم أن يشغلوا وظائف جمع الضرائب والاتجار في الملح. لكن كثيرًا من اليهود استمروا في شغل وظائفهم الحكومية المالية، وهو ما اضطر البابا إلى طرد الملك أندرو الثاني من رعاية الكنيسة.[6] وعندما بدأ الملك بيلا الخامس (1305-1307) إعادة بناء مملكته، ودعا العناصر اليهودية التجارية إلى الاستيطان للمساهمة في هذه العملية، عهد إلى اليهود بدار سك النقود، ولتقنين وضعهم قام بإصدار ميثاق جعلهم أقنانًا للخزانة الملكية بكل ما تحمله من مزايا وحقوق وواجبات.

واستمر وضع اليهود مهمًّا، وظهرت أهميتهم في أن ريوش الأول أوجد وظيفة جديدة "قاضي كل اليهود الذين يعيشون في البلاد" يضطلع صاحبها بوظيفة تحديد الضرائب على اليهود وجمعها منهم وحماية امتيازاتهم وسماع شكاواهم.

ومنذ منتصف القرن الخامس عشر، بدأت المدن المجرية في غرب المملكة تشكو من منافسة التجار اليهود الغرباء الذين كانوا يتحدثون الألمانية. ولتهدئة الموقف، أعلن الملك أن من حقه إلغاء الديون المستحقة للمرابين التي استدانها النبلاء أو الأبرشيات أو المدن. وشهدت هذه الفترة منع رهن العقارات المسيحية لدى أعضاء الجماعة اليهودية.[7] استمر الوضع في القرن السادس عشر واحتدم الصراع بين الملك أولاسلو الثاني (1490-1515) من جهة، ومدينة سوبورون من جهة أخرى، إذ حاول الملك أن يمنع المدينة من جمع ضرائب اليهود، ولكنه -مع هذا- في عام 1503 اضطر إلى إلغاء سائر الديون اليهودية في المملكة تحت الضغط الشعبي عليه. وقد طلب جيكوب مندل رئيس اليهود إلى الإمبراطور الألماني ماكسيميليان الأول (1495-1519) أن يضع اليهود تحت حمايته، وذلك بعد أن ضُمت المجر إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وفي عام 1524 قام لاجوس الثاني (1516-1526) بتعيين يهودي مديرًا لدار سك النقود، كما عيَّن اليهودي المتنصر إمري فورتوناتوس وزيرًا لمالية المملكة. وقد أدى ذلك إلى تزايد كراهية الجماهير لأعضاء الجماعة اليهودية، إذ فرض فورتوناتوس ضرائب مزدوجة.

وفي 29 أغسطس عام 1526 وبعد معركة "موهاكس" أو "موهاج" التي انتصر فيها السلطان العثماني سليمان القانوني على المجر وتم مقتل لايشو الثاني تم تقسيم المجر بين العثمانيين وملكية هابسبورج التي ورثت لقب ملك المجر. وبعد انتصار العثمانيين ودخولهم العاصمة المجرية (بودا) انسحبوا من المجر لتظل المملكة تعيش فراغًا في السلطة، خاصة مع اختيار العثمانيين عدم فرض حكمهم بشكل مباشر. وبناء على ذلك حكم غرب المجر أسرة هابسبورج وحكم ترانسلفانيا النبلاء المجريون، وكان ملوك الهابسبورج متحيزين إلى سكان المدن الملكية الذين كانوا من أصل ألماني، فسمحوا لهذه المدن بطرد اليهود ولم يجددوا مواثيق الملك بيلا. أما في المنطقة التي وقعت تحت حكم النبلاء المجريين، فقد تمتع أعضاء الجامعة اليهودية فيها بحمايتهم. وكان الازدهار الحقيقي من نصيب اليهود الذين وقعوا تحت حكم العثمانيين، فقد فُرضت عليهم ضرائب باهظة ولكنهم تمتعوا بحرية الحركة والاتجار داخل الدولة العثمانية، ومن ثم تهوَّد كثير من المسيحيين ليتمتعوا بالمزايا التي يتمتع بها اليهود. كما أن مدينة (بودا) العاصمة أصبحت مركزًا لليهود الذين هاجروا إليها من مناطق المجر التي لم يحتلها العثمانيون. وعندما بدأ الصراع بين جون زابوليا أبرز أرستقراطيي المجر وقائد الجيش، وبين أرشيدوق النمسا فرديناند إمبراطور هابسبورج. في النهاية أعلن زابوليا نفسه ملكًا تحت اسم يانوش الأول ونتيجة استمرار صراعه مع فرديناند، اقترب زابوليا من العثمانيين ووافق على جعل المجر دولة تابعة لهم مقابل الاعتراف والدعم. وافق سليمان القانوني على هذا العرض فأرسل الجيوش العثمانية لغزو النمسا.[8]

وحينما قام الملك رودلف (1576-1612) بمحاولة استعادة بودا من العثمانيين، حارب اليهود بجانب العثمانيين وهو ما زاد من درجة السخط عليهم في مناطق المجر الأخرى حيث طالبت المدن بطرد اليهود. وفي عام 1647 منع فرديناند الثالث (1637-1657) اليهود من شغل وظيفة ملتزمي الضرائب. وحينما تم له استعادة مدينة (بودا) العاصمة، أنزل العقاب باليهود لموقفهم الممالئ للعثمانيين. وكان مخطط الملك ليوبولد الأول (1658-1705) -وهو الابن الثاني للملك فرديناند الثالث- هو تأسيس دول كاثوليكية خالصة، فكان على المسلمين واليهود والبروتوستانت أن يعتنقوا الكاثوليكية إن أرادوا البقاء فيها. فتم طرد اليهود من المدن الملكية ومُنعوا من ملكية الأرض، فاضطروا إلى العمل في تجارة القطاعي وأعمال الربا، كما فُرضت عليهم ضرائب باهظة، ولكن النبلاء المجريين قاموا بحماية اليهود فسمحوا لهم بالإقامة في المدن التابعة لهم ونمت بعض المدن نتيجة توطين اليهود فيها.[9]

النيولوج:[10] حركة الإصلاح اليهودي في المجر

حينما اندلعت الحرب التركية النمساوية (1682-1699) نجحت أسرة الهابسبورج النمساوية في طرد العثمانيين من المجر واعترف النبلاء المجريون عام 1687 بأحقية الهابسبورج بعرش المجر، ومن ثم بدأ حكم الإمبراطوية النمساوية المجرية.

وقد خضع يهود المجر لمحاولات الملكية النمساوية المطلقة التي استهدفت تحديث اليهود وتحويلهم إلى عناصر نافعة، حيث تأثروا بشكل عميق بمحاولات إمبراطور النمسا جوزيف الثاني (1780-1790) في هذا المضمار والذي أصدر براءة التسامح عام 1782.

والإمبراطور جوزيف الثاني هو من أشهر حكام أوروبا ممن أُطلق عليهم "المستبدون المستنيرون"، فكان من المتحمسين للتجارة الحرة، وتقليل نفوذ الكنيسة. وقد وجَّه اهتمامه إلى المسألة اليهودية، في محاولته لتحديث إمبراطوريته، فحاول أن يجعل أعضاء الجماعات اليهودية أكثر نفعًا للدولة، فأصدر قوانين تحظر عليهم بيع الخمور أو جمع الضرائب كما فرض عليهم أن يتَّسَموا بأسماء ألمانية يتم اختيارها من قائمة أُعدت خصوصًا لهذا الغرض وذلك حتى يتسنى دمجهم في المجتمع، بالإضافة إلى منع استخدام العبرية أو اليديشية في المعاملات التجارية أو الوثائق الرسمية، وألغى المحاكم الحاخامية والزي اليهودي الخاص، وللإبقاء على عدد اليهود قليلًا كما هو، لم يلغِ جوزيف الثاني القوانين التي كانت تهدف إلى الحد من حجم العائلات اليهودية. وقد بلغ عدد اليهود في المجر عام 1840 نحو 200 ألف نسمة فكانوا يشكلون 2,34% من مجموع السكان وحاولوا إثبات ولائهم، فتخلوا عن ميراثهم الألماني أو البولندي واكتسبوا ثقافة المجر ولغتها، خاصة بعد أن كانت قد ظهرت حركة استنارة في المجر عام 1830 ترمي إلى صبغ اليهود بالصبغة المجرية. وبناء على هذه البراءة، تم إعتاق اليهود سياسيًّا بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل بين منطقة وأخرى.

ظلت قوانين جوزيف الثاني هي أساس التعامل مع أعضاء الجماعات اليهودية في إمبراطورية النمسا/المجر حتى نشوب ثورة 1848. وحينما اندلعت الثورة المجرية ضد حكم الهابسبورج، انضم اليهود إلى الثورة وحاربوا في صفوفها، وحينما استسلم الجيش المجري، أوقعت القوات النمساوية عقوبات على يهود المجر من بينها فرض غرامة كبيرة، وقرر الإمبراطور فرانز جوزيف الأول (1848-1916) أن تُنفق هذه الغرامة على إصلاح اليهود بتأسيس مدرسة لاهوتية للحاخامات، كلية تربية، ومدرسة ابتدائية، ومؤسسات للمعوقين اليهود.[11] بعد أن كان هذا الإمبراطور قد اعترف باليهودية باعتبارها إحدى الديانات الرسمية في المجر مثل الكاثوليكية والبروتستانتية. ومن ثم كان من أبرز شخصيات المجر: مؤسسا الحركة الصهيونية تيودور هرتزل، وماكس نوردو، اللذان ولدا في بودابست وقضيا سنوات حياتهما التكوينية هناك، ووصف هرتزل يهود المجر بأنهم "غصن جاف على شجرة اليهود"، وحينما أُسست حركة صهيونية في المجر عام 1897 لم ينضم إليها سوى أعداد قليلة جدًّا.[12] في عام 1910 بلغت نسبة اليهود في المجر 5% من عدد السكان الإجمالي، وكان يُشار إليهم دائمًا في الإحصاءات الرسمية باسم "المجريين من أتباع الديانة الإسرائيلية".[13]

وعندما اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى، انقسم العالم إلى جبهتين: انضمت النمسا/المجر إلى الجبهة الألمانية، وشارك فيها يهود المجر دفاعًا عن وطنهم وسقطت أعداد كبيرة منهم، ولكن على الجانب الآخر قام بعضهم بتزويد الجيش بالإمدادات واستفادوا من الحرب، فأدى ذلك إلى ظهور شعور معادٍ لليهود بين بعض قطاعات المجتمع المجري.[14] وبعد نهاية الحرب كان الاتفاق تامًّا حول مبدأ تقسيم إمبراطورية النمسا/المجر، ولم يبقَ أمام مؤتمر الصلح سوى اتخاذ القرارات التي يحدد فيها كيفية التقسيم. وتم إجبار المجر على توقيع الهدنة في 3 نوفمبر 1918 واختلفت الشروط فيها عن حالة ألمانيا، لأن المجر سعت إلى الصلح بعد هزائم مُنكرة لا مراء فيها، وتقبلت الصلح على أساس استسلام غير مشروط. وبالتالي فعقب ذلك، انفصلت النمسا والمجر وأصبحتا دولتين منفصلتين مستقلتين، فوقعت المجر معاهدة أخرى للصلح (معاهدة تريانون في 4 يونيو 1920).

كما كان من نتائج الحرب أن تطورت مملكة الصرب القديمة إلى دولة يوغوسلافيا الجديدة، وكان جزاء معاناة جيش الصرب في أثناء الحرب أن زادت بلادهم إلى ثلاثة أمثال رقعتها الأولى حيث أُضيف إلى المملكة القديمة الجبل الأسود ودلماشيا والبوسنة وسلافونيا، وتضخم عدد السكان من 4 ملايين إلى 13 مليونًا، وكان جزء من هذا التضخم على حساب النمسا، ولكن الجانب الآخر على حساب المجر. وحظيت رومانيا -مثل يوغوسلافيا- بوفرة من الثروة والسكان على حساب المجر.[15] هكذا أصبحت مساحة المجر 192 ألف كيلومترًا مربعًا، يقيم عليها حوالي 8 ملايين نسمة، أما جيشها فقد حُدد بخمسة وثلاثين ألف جندي على الأكثر. وكان الإجحاف اللاحق بالمجر قد خلق لديها نقمة على مقررات مؤتمر الصلح وأوجد نوعًا من الدول عُرفت بالدول غير المكتفية، في حين أن الدول الأخرى التي تحققت مطالبها بموجب قرارات مؤتمر الصلح أمثال: يوغوسلافيا، رومانيا، تشيكوسلوفاكيا، بولونيا، عُرفت هذه الدول بالدول المكتفية. ولهذا قام منذ الأيام الأولى، لانتهاء المؤتمر، بين هذين النوعين من الدول مواجهة أساسية: النوع الأول يطالب بتعديل اتفاقية الصلح والثاني يتمسك بهذه الاتفاقيات.[16]

وفي عام 1917 وأثناء الحرب احتفل يهود المجر باليوبيل الخمسين لتحررهم، وتم التأكيد على كيف ناضل قادة الأمة المجرية بشجاعة الرأي العام في المجر بين عامي 1848 و1867 من أجل المساواة في الحقوق لمواطنيهم من بني إسرائيل، وقد أبدى اليهود امتنانهم وأصبحوا السند الرئيس للمجر في نضالها ضد القوميات. فلم تكن هناك قضية يهودية في المجر، لذا فقد دافع عنها بالإجماع اليهود وغير اليهود على حد سواء. ولذلك كانت المجر أول دولة في أوروبا الشرقية يرأسها رئيس وزراء من العِرق اليهودي، وصاغ الدكتور فيلموس فاسوني الزعيم البرلماني المرموق بصفته وزيرًا للعدل عام 1917 القوانين الانتخابية الجديدة. وفاز رجال آخرون من أصل يهودي بمناصب مرموقة في الحياة العامة. ولكن على الجانب الآخر كان هناك بعض أعضاء الحكومة ينظرون إلى اليهود كغرباء ومنبوذين، وبدأت سلسلة من الاضطهادات والتمييز ضدهم.[17]

بدأت أول مذبحة ضد اليهود في المجر الحديثة التي ارتكبها "فرسان الإرهاب الأبيض" في خريف 1919، مع امتدادها التشريعي المعروف باسم "نوميروس كلوسوس".[18] الذى حدَّ كم قبول الطلاب اليهود في الجامعات بنسبة 6%، وبالتالي كان للتقارب بين التعليم العالي والمسألة اليهودية تأثيرًا أكثر خطورة في المجر مما كان متوقعًا في عام 1920.

فبعد عام 1919 لم يعُد النظام المجري ليبراليًّا في طابعه، بل كان تحالفًا بين رجال الدين الرجعيين وعناصر معادية لليهود من الطبقة العليا والمتوسطة. وفي الجامعات أصبح عدد الطلاب اليهود أقل بموجب قانون "العدد المشروط" بين عامي 1920 و1933 فنشأ جيل جديد من المثقفين المجريين في جو أكاديمي مليء بالتحريض على اليهود، بل وتحريض من بعض الأساتذة، بل أصدرت جامعة بودابست إعلانًا به عبارة "لا يُسمح للكلاب واليهود بدخول الجامعة" فكانت أول مؤسسة تعليمية تمارس معاداة السامية، ولذلك أُغلقت جامعة بودابست لأنهم أعلنوا أنهم لن يتسامحوا مع وجود أساتذة أو طلاب يهود بها.[19] كما تلقى المحامون والمهندسون والإداريون المجريون الشباب، وحتى الكهنة الكاثوليك والقساوسة البروتستانت، الذين التحقوا بالمهن في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات تدريبًا على معاداة السامية. وقد نتج شعور بالنقص في الجامعات بعد هزيمة المجر في الحرب، فالطبقة الحاكمة التي خضعت للمنتصرين، وتوسلت للحصول على قروض أجنبية في بنوك لندن ونيويورك، اضطرت إلى التنفيس عن غضبها على الأقلية اليهودية، ورغم أن يهود المجر رفضوا وطنيًّا تسمية الأقلية اليهودية، واختاروا تعريف أنفسهم بالمجتمع الوطني، فإن هذا لم يُحدث فرقًا يُذكر بالنسبة إلى ما عُرف آنذاك بالنازيين الأوائل.[20] وقد أرجعت بعض المصادر هذه الهجمة من المجتمع المجري على اليهود في أعقاب الحرب العالمية الأولى إلى غلبة اليهود في النظام الشيوعي لبيلا كون مؤسس الحزب الشيوعي المجري.

العداء للسامية في المجر

شهد عام 1932 سقوط الحكومة الأرستقراطية في المجر، وما صاحبه من صعود للطبقة الوسطى الألمانية غير المندمجة بقيادة الزعيم المعادي للسامية والمدافع عن "العِرق المجري" الجنرال جيولا غومبش رئيس الوزراء اليميني المتطرف والمعادي لليهود، الذي أعلن في البرلمان أنه "راجع أراءه بشأن اليهود".[21] وعلى الجانب الاقتصادي كان للكساد الكبير أثر ربما أكبر من عديد من الدول الأوروبية الأخرى، وذلك بسبب انهيار أسعار المنتجات الزراعية، حيث كانت المنتجات الزراعية هي السلعة التصديرية للمجر فترة ما بين الحربين العالميتين، وتجاوز معدل البطالة مستوى 200 ألف، أي ما يقرب من ثلث حجم القوى العاملة الصناعية. وقد خلقت البطالة المرتفعة في المناطق الحضرية -التي شملت أيضًا أصحاب الياقات البيضاء- فرصًا مثالية لأولئك الذين سعوا إلى فرض حل جِذري للمسألة اليهودية في المجر. وخلال النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين أعطى الرأي العام في المجر أهمية مركزية هائلة للمسألة اليهودية، إذ خلق الوضع الاجتماعي والسياسي -الذى تطور نوعًا ما- من التوتر الاجتماعي حيث اعتُبر "حل المسألة اليهودية" معادلًا لتصفية الهيمنة الاقتصادية اليهودية، وبالتالي ظهرت باعتبارها المشكلة الاجتماعية الأولى في البلاد.

وبعد وفاة الجنرال جيولا تم تعيين السياسي المحافظ كالمان داراني في منصبه في إبريل 1937 والذي أعلن عن آرائه فيما يتعلق بالطبيعة الاقتصادية للمسألة اليهودية، وبعد حوالي عام أوضح خططه لمواجهة "جوهر المسألة... أن اليهود الذين يعيشون في المجر يلعبون دورًا بارزًا بشكل غير متناسب في بعض فروع الحياة الاقتصادية" واقترح أن "الحل القانوني للمسألة شرط أساسي لإقامة وضع عادل". فقدَّم أول مشروع قانون يهودي إلى البرلمان في إبريل 1938 وسُنَّ بعد حوالي شهر كقانون رقم 15 لسنة 1938 وكان هدفه المعلن هو "ضمانات أكثر فعالية للتوازن في الحياة الاقتصادية" و"ظروف لمكافحة البطالة بين المثقفين". صُممت الأداة الرئيسة للقانون لتكوين شبكة من "الغرف المهنية" وربما كان مفهوم العضوية الإلزامية في الغرف المهنية، وهو تعديل حديث للنقابات، هو احتواء المحامين والأطباء والمهندسين والصحفيين والممثلين اليهود، في جميع هذه المهن، فكان اليهود ممثلين فيها بشكل كبير.[22] ولم يكن تقارب الطبقة المتوسطة اليهودية في المهن الحرة عرضيًّا، فاعتبارًا من أواخر القرن التاسع عشر، كان هناك تقسيم للعمل، لم يُعلن عنه صراحة قط، ولكنه كان عمليًّا، حيث أصبحت وظائف القطاع العام حكرًا على طبقة النبلاء الشباب، بينما ظل ما يُسمى بالمهن الحرة متاحة لأبناء الطبقة المتوسطة اليهودية.

نص القانون الخامس عشر لعام 1938 على أنه لا يمكن قبول اليهود في الغرف التجارية المحلية إلا عندما تكون نسبة اليهود في تلك الغرفة أقل من 20%. أصبح الممارسون عند سن القانون أعضاء مؤسسين في غرفهم النقابية تلقائيًّا، بحيث شمل القانون الخريجين اليهود الشباب والممارسين اليهود المهاجرين، كما أضرَّ القانون بالمهنيين اليهود ذوي الرواتب، الذين وفقًا لما نص عليه البند 18 من لوائح التنفيذ، كانوا عُرضة لعملية فصل إجباري نصف سنوي. سمح القانون بفترة تكيف مدتها خمس سنوات، واعتمد تعريفًا دينيًّا في جوهره، وليس عنصريًّا، لليهودية. ومثَّل هذا القانون نوعًا من معاداة السامية "الدستورية اليمينية" التي اعتبرها بعض اليهود أقل شرًّا، واقترحوا التغاضي عنها كدرع واقية ضد معاداة السامية الأكثر تطرفًا وعنفًا.[23]

على أي حال، لم يُطبق القانون قط، وبحلول نهاية عام 1938 قُدم مشروع القانون اليهودي الثاني إلى البرلمان، صُمم هذا القانون من قِبل رئيس الوزراء الجديد بيلا إمريدي (14 مايو 1938-16 فبراير 1939) والذي انجرف سريعًا إلى اليمين الشعبوي المتطرف. ثم خلفه الكونت بابلو تيليكي (16 فبراير 1939- توفي أثناء وجوده في المنصب يوم 3 إبريل 1941) وهو نفسه معادٍ للسامية وإن كان من المدرسة اليمينية الدستورية.

وقد اختلف القانون اليهودي الثاني عن سابقه بالمبدأ الأساسي لمفهوم "اليهودي"، فلم تعد اليهودية تعتبر دينًا، بل أصبحت عِرقًا، على غرار النموذج الألماني النازي. وظل الهدف الرئيس لمشروع القانون هو "تقييد الأداء العام والاقتصادي لليهود" ولكنه تجاوز بكثير الاحتواء الاقتصادي، فلم يعُد في إمكان أي يهودي اكتساب جنسية مجرية، ولم يكن أي يهودي مؤهلًا للانتخاب في مجلس الشيوخ بالبرلمان (باستثناء الممثل الرسمي للدين الذي كان يجلس هناك بحكم منصبه) ولم يكن في إمكان أي يهودي ممارسة حقه في التصويت ما لم يثبت أن عائلته كانت تقيم باستمرار في المجر منذ عام 1867 فصاعدًا، ولم يكن في إمكان أي يهودي أن يصبح مرشحًا لأي منصب بلدي منتخب أو معين، ولا حتى أعضاء مجموعة "المواطنين الذكوريين" (المواطنون الذين تحملوا العبء الرئيس لميزانية البلدية).

وهكذا، على الرغم من أن القانون كان عبارة عن مجموعة من اللوائح التمييزية العامة، فإن أشد قيوده حدة كانت اقتصادية. وكان القيد الأكثر إلحاحًا هو الاستبعاد المطلق لليهود من جميع المناصب في القطاع العام، بما في ذلك وظائف التدريس في المدارس الثانوية العامة، فكان لا بد من فصل جميع الموظفين اليهود في القطاع العام أو إجبارهم على التقاعد المبكر. وكانت القيود المفروضة على الأداء الاقتصادى لليهود في القطاعين الخاص وشبه الخاص ذات أهمية بالغة، فقد نصت الفقرة 12 من القانون على وجوب إلغاء جميع التراخيص الممنوحة لليهود في تجارة التبغ والمشروبات الكحولية خلال عامين، وفي السلع الأخرى الخاضعة لسيطرة الدولة خلال خمس سنوات، وفي الصيدليات خلال ثماني سنوات. وكان لا بد من تخفيض حصة شركات النقل اليهودية في نقل بضائع القطاع العام إلى 10% حتى عام 1941 وإلى 5% من البضائع العامة حتى عام 1943، وكان لا بد من تقليص حصة الحرفيين أو التجار اليهود المستقلين الذين يديرون ورشًا ومتاجر صغيرة أو متوسطة بشكل جذري. ولم يُسمح لأي يهودي بالحصول على ترخيص لإدارة ورشة أو متجر في أي بلدية طالما أن عدد المرخص لهم اليهود في تلك البلدية كان أعلى من 6% من إجمال المرخص لهم، وبالمثل كان لا بد من إلغاء جميع التراخيص الصادرة لوكالات التوظيف بحلول عام 1940، وكان من المقرر أن تبقى حصة الموظفين اليهود ذوي الياقات البيضاء في أي شركة فردية في القطاع الخاص منخفضة إلى 12% أو أقل، ولتجنب المواقف التي يتم فيها كفاية "الحصة اليهودية" بموظفين كبار السن وذوي رواتب عالية، نص القانون على أن الأجر الإجمالي لجميع الموظفين اليهود في إجمالى فاتورة الأجور لا ينبغي أن يتجاوز حصتهم في إجمالي عدد الموظفين، كما كانت المؤسسة العسكرية الملاذ التقليدي لمعاداة السامية، فكانت أول من طرد اليهود القلائل الذين وظفتهم، ما جعل الجيش "خاليًا من اليهود".[24]

يهود المجر والحرب العالمية الثانية

في 19 مارس 1942 وفي أول خطاب له كرئيس للوزراء، طمأن ميكولوش كالاي (9 مارس 1942- 22 مارس 1944) الألمان بإعلانه أن الحرب "حربنا" وأن المجر تقاتل من أجل مصلحتها الخاصة[25]. وسعى كالاي إلى إلغاء ما اعتبره شعب المجر "مظالم تريانون" وحماية سيادة البلاد واستقلالها، والحفاظ على القوة العسكرية للمجر لضمان تسوية مواتية بعد الحرب. وفي سعيه لتحقيق هذه الأهداف، اتبع خطًّا مؤيدًا لألمانيا بشكل عام خلال عامه الأول في منصبه، وكان يستند في ذلك إلى إيمانه بالتفوق العسكري للرايخ الثالث آنذاك. وبالنسبة إلى سياسته تجاه اليهود فقد أعلن أن الإجراءات المعادية لليهود التي اتخذت خلال فترة ولايته كانت تهدف إلى تعزيز المصالح الوطنية. وفي 12 مارس كان قد ألقى خطابًا قال فيه: "أنا شخصيًّا أعتبر المسألة اليهودية أشد المشاكل الاجتماعية ضراوة في عصرنا". وفي 20 إبريل 1942 وفي بيان سياسي، كان يهدف إلى تهدئة العناصر النازية في الداخل والخارج، قبيل زيارته المرتقبة لهتلر في 6 يونيو، ذكر كالاي أنه من أجل حل المسألة اليهودية في المجر، فلا بد من طرد ما يقرب من 800 ألف يهودي من السكان، وباستثناء الفظائع التي ارتكبت ضد عمال الخدمة في أوكرانيا، التي كانت خارجة عن سيطرته المباشرة، لم يتعرض اليهود لأي عنف جسدي جماعي خلال ولايته، ومع ذلك، وسعيًا إلى تحقيق أهدافه السياسية الخاصة، ومحاولة استرضاء الألمان، فاقم كلاي القانون القانوني والاجتماعي والاقتصادي لليهود، وتسامح مع التحريض المعادي للسامية، فبادر إلى اعتماد قوانين جديدة معادية لليهود، وأصدر سلسلة من التصريحات المعادية لهم، وأذن بتخصيص عدة آلاف من العمال اليهود الألمان للعمل في مناجم النحاس في بور، يوغوسلافيا، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من العمال في أوكرانيا.

بحلول شهر يونيو عام 1942 كانت الإبادة المنهجية ليهود أوروبا على قدم وساق، كانت قطارات الترحيل من جميع أنحاء أوروبا التي يهيمن عليها النازيون تتجه نحو معسكرات الإبادة في بولندا، كما نصت الخطة النازية الرئيسة -بالطبع- على إدراج ما يقرب من "مليون يهودي" من المجر في برنامج (الحل النهائي) السريع والفعال للقضية اليهودية في الداخل، والموافقة على إدراج اليهود المجريين المقيمين في الخارج في الإجراءات المعادية لليهود المطبقة في مختلف البلدان المتضررة.

وعلى المستوى السياسي الأيديولوجي غير الرسمي بمشاركة مكتب أمن الرايخ الرئيسي وبعض عناصر اليمين المتطرف في المجر، الذين عملوا دون علم كالاي شجعوا على البدء بخطط سرية للترحيل التدريجي لجميع يهود المجر.[26]

ثم حاول الألمان التسريع بإجلاء اليهود من مختلف دول أوروبا بما فيها المجر، لأن اليهود كانوا يحرِّضون ضد النازي في كل مكان، وكان لا بد من تحميلهم مسؤولية أعمال التخريب والاغتيال. ولكن كالاي رأى أن المجر التي يبلغ عدد سكانها أربعة عشر مليون نسمة، كان بها 800 ألف يهودي، وأن القضاء عليهم سيلحق ضررًا بالغًا باقتصاد المجر، وأن هذا الأمر ذو أهمية أيضًا لأن 80% من الصناعة المجرية كانت في خدمة الاقتصاد الألمانى.[27] ونظرًا إلى الموقع الإستراتيجى المهم للمجر في أوروبا الوسطى، وخوف هتلر من استسلام وشيك من المجر على غرار الاستسلام الإيطالي، وُضعت الخطة الألمانية لاحتلال المجر ونزع سلاحها في 30 سبتمبر 1943. وخلال حرب هتلر مع الاتحاد السوڨييتي تم وعد المجر بأن مطالبها الإقليمية في يوغوسلافيا سوف تُلبى[28] ولكن مع تدهور الجبهة الشرقية واكتشاف هتلر أن المجر في مفاوضات سرية للسلام مع الولايات المتحدة وبريطانيا، قام باحتلالها في 9 مارس 1944.[29] ثم أعقب هذا الاحتلال سلسلة من المراسيم المعادية للسامية التي أصدرتها حكومة "دوميه ستوياي"[30] العميلة، ومُنع الاستماع إلى جميع المحطات الإذاعية الأجنبية، ومنع اليهود من استخدام جميع وسائل النقل إلا داخل حدود المدينة أو بتصريح خاص، ومنع توظيف خدم المنازل غير اليهود في المنازل اليهودية، وطُرد اليهود القلائل المتبقون من العمل في الخدمة المدنية، والوظائف البلدية والحكومية، والمحاماة والمسرح وصناعة السينما، وكان على جميع الأشخاص المصنفين كيهود ارتداء شارة صفراء مميزة، باستثناء بعض الفئات، مثل رجال الدين ذوي الدم اليهودي، واليهود المعمدين المتزوجين بغير اليهود وأطفالهم المعمدين. على جانب آخر، صودرت الممتلكات اليهودية بالكامل، وأُنشئ نظام "غيتو" في جميع أنحاء البلاد، باستثناء العاصمة.[31] وتم تجميع اليهود من المقاطعات المجرية خارج بودابست وضواحيها وبدأت عملية النقل الأولى إلى معسكر أوشفيتز في أوائل مايو 1944 واستمرت حتى مع اقتراب القوات السوڨييتية من المجر. ولقي حوالى 420000 إلى 600000 حتفهم بين عامي 1941 و1945 وذلك من خلال الترحيل إلى معسكرات الإبادة التي تديرها ألمانيا النازية.[32] وفي نهاية عام 1944 دخلت القوات السوڨييتية أراضي المجر واحتلتها.

نهاية الحرب وتطور مشروع المحكمة الجنائية الدولية

انتهت الحرب العالمية الثانية ووقعت معاهدات الصلح بين دول الحلفاء وبين المجر في باريس في 10 فبراير 1947 وعنيت أكثر ما عنيت بالحصول على وعود من المجر بأن تكفل لرعاياها "الحقوق الإنسانية والحريات الأساسية"، يضاف إلى ذلك، أنها التزمت بضمان الحقوق المتساوية لليهود من رعاياها.[33]

وأهم المنظمات التي ينتظم بها يهود المجر: منظمة التمثيل القومي لليهود المجريين، وهي المنظمة المركزية للجماعة اليهودية في المجر والجهة التي تمثلهم لدى المؤتمر اليهودي العالمي، وأيضًا اللجنة المركزية للرفاه الاجتماعي، وتقوم برعاية فقراء اليهود، وتمولها اللجنة الأمريكية المشتركة للتوزيع، ومنظمة ويتي، وهي مؤسسة التمثيل القومي ليهود المجر، التي تقوم برعاية المصالح الدينية لهم منذ 1904 وأغلب أعضاء هذه المؤسسات من المحافظين، إلا أن هناك قسمًا خاصًّا باليهود الأرثوذكس. وبعد وفاة آخر حاخام أرثوذكسي 1982، تم إحضار حاخام من إسرائيل ليحل محله. وهناك محكمة شرعية خاصة باليهود الأرثوذكس، وأخرى خاصة باليهود المحافظين.[34]

ولمَّا كان الحلفاء قد أنشؤوا بعد الحرب العالمية الثانية، محكمتين مختصّتين لمحاكمة قادة دول المحور المتهمين بارتكاب جرائم حرب: محاكمات نورنبيرغ التي عقدت في نورنبيرغ للقادة الألمان، والمحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى التي عُقدت في طوكيو للقادة اليابانيين عام 1948، أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة لأول مرة بالحاجة إلى محكمة دولية دائمة للتعامل مع الفظائع المماثلة لتلك التي خضعت للمحاكمة بعد الحرب العالمية الثانية وبناء على طلب الجمعية العامة، صاغت لجنة القانون الدولي نظامين أساسيين بحلول أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، لكنهما أُجّلا أثناء الحرب الباردة، ما جعل إنشاء محكمة جنائية دولية أمرًا غير واقعي سياسيًّا.

في يونيو 1989، أُعيد إحياء فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة من خلال اقتراح إنشاء محكمة لمعالجة تجارة المخدرات غير المشروعة. فكلفت الجمعية العامة لجنة القانون الدولي بصياغة قانون جديد لإنشاء محكمة دائمة. عام 1994، قدمت لجنة القانون الدولي مسودة النظام الأساسي النهائي للمحكمة الجنائية الدولية إلى الجمعية العامة وأوصت بعقد مؤتمر للتفاوض على معاهدة تعمل بمثابة النظام الأساسي للمحكمة، أنشأت الجمعية العامة اللجنة التحضيرية لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية لإعداد مشروع نص موحد. وأخيرًا، عقدت الجمعية العامة مؤتمرًا في روما في حزيران/يونيو 1998، بهدف وضع الصيغة النهائية للمعاهدة لتكون بمثابة النظام الأساسي للمحكمة. في 17 يوليو 1998، تم اعتماد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بأغلبية 120 صوتًا مقابل سبعة، وامتناع 21 دولة عن التصويت. ومن الدول السبع التي صوتت ضد المعاهدة إسرائيل، وقد نبعت معارضتها للمعاهدة بسبب إدراج "أعمال نقل السكان إلى الأراضي المحتلة" في قائمة جرائم الحرب، وهو بندٌ أضيف خلال مؤتمر روما بناء على إصرار الدول العربية.

صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 ديسمبر 1999 ومرة أخرى في 12 ديسمبر 2000 لصالح تأييد المحكمة الجنائية الدولية. وبعد 60 مصادقة، دخل نظام روما حيز التنفيذ في الأول من يوليو 2002، وأسست المحكمة الجنائية الدولية رسميًّا. وقد انتخبت جمعية الدول الأطراف أول هيئة من 18 قاضيًا في فبراير 2003.[35] وقد وقعت المجر عام 1999 على نظام روما الأساسي، المعاهدة الدولية التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية، وصادقت عليها بعد عامين. ومع ذلك لم تصدر بودابست أمرًا تنفيذيًّا لتفعيل الالتزامات المرتبطة بالاتفاقية لأسباب دستورية، وبالتالي فهي تؤكد أنها ليست ملزمة بالامتثال لقرارات المحكمة.[36]

وفي عام 2013 دفعت مؤشرات تصاعد معاداة السامية في المجر، المؤتمر اليهودي العالمي إلى عقد اجتماعه العام في بودابست تعبيرًا عن تضامنه مع اليهود الذين يشعرون بالاستياء في البلاد، وقد افتتح المؤتمر رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان نظرًا إلى الانتقادات الحادة التي وجهها اليهود إلى حكومته بالتساهل حيال انتشار ظاهرة معاداة السامية في المجر. ولكي ينفي عن نفسه هذه التهمة، دعا الحزب اليميني المتطرف المعادي لليهود "يوبيك" إلى الامتناع عن المساس بالأقلية اليهودية، محذرًا من أن الدولة "لن تتسامح" في هذا المجال.[37] وعندما صرَّح زعيم الحزب المجري المعارض جوبيك عام 2014 بضرورة إعداد الحكومة قائمة بأسماء اليهود الذين يشكلون خطرًا على الأمن القومي للمجر، هاجمه الزعماء اليهود بالمجر وبرروا مطالبه بأن لها أهدافًا سياسية قبل الانتخابات، لكنه عاد واعتذر عمَّا صرَّح به، كما أعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتنياهو من خلال لقائه الرئيس المجري يانوش أدر في القدس، عن قلقه من عودة ظهور معاداة السامية في المجر، وأضاف: "من المهم جدًّا استئصال هذه الظاهرة الخطرة من جذورها قبل أن تتمكن من الانتشار".[38]

هكذا، كانت المجر تخشى من مقصلة الاتهام بمعاداة السامية التي تعلقها إسرائيل على رأس كل من يعارضها أو يعلن موقفًا إيجابيًّا من القضية الفلسطينية، خاصة وأن المجر كانت حليفة لألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية وشاركت في التنكيل باليهود سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.


1- سكاى نيوز عربية: 3 إبريل 2025. المجر ليست الأولى... انسحابات سابقة من الجنائية الدولية. في 2017 أصبحت بوروندي أول دولة تنسحب من المحكمة الجنائية الدولية، التي فتحت تحقيقًا على خلفية تقارير عن عمليات قتل وتعذيب واغتصاب بها، أما الفلبين فقد انسحبت من المحكمة الجنائية عام 2019 بناء على تعليمات رئيسها السابق "رودريجو دوتيرتي" الذي أُلقي القبض عليه بموجب مذكرة اعتقال صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في الحرب التي شنها على تجار المخدرات.

2- الأهرام: 3/4/2025. رئيس وزراء المجر يكشف سبب انسحاب بلاده من الجنائية الدولية.

3- الغد: 3/4/2025. من المجر... نتنياهو يشكر أوربان ويهاجم المحكمة الجنائية الدولية.

4- الشرق الأوسط: 3/4/2025. مع زيارة نتنياهو لبودابست... المجر تنسحب من "الجنائية الدولية".

5- Mason, John W., Hungrays Battle For Memory, History Today, Vol. 50, March 2000.

6- مأمون كيوان: المسألة اليهودية في المجر: عود على بدء. العدد 134، مجلة الوحدة الإسلامية، شباط 2013. Wahdaislamyia/ ia/org

7- المرجع السابق.

8- مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والإستراتيجية. لندن. الفتح العثماني للمجر. 24/8/2020. Asharkalarabi.org.uk

إيرما لافوفنا فادييفا: اليهود في الإمبراطورية العثمانية. صفحات من التاريخ. مؤسسة هنداوي 2017.

9- مأمون كيوان: المسألة اليهودية في المجر... مرجع سابق.

10- حركة النيولوج: هو الاسم العُرفي غير الرسمي الذي كان يُطلق على أعضاء الجامعة اليهودية في المجر، والمنتمين إلى اليهودية الإصلاحية.

خالد بن سيف سعيد آل ناصر: الحركة الإصلاحية اليهودية. دراسة تحليلية. العدد 37، المجلد 1، مجلة الدراسات العربية، كلية دار العلوم، جامعة المنيا، يناير 2018.

11- محمد حامد الناصر: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب. ط1، مكتبة الكوثر 1417هـ (1996م)، عرفان عبدالحميد: اليهودية. عرض تاريخي. والحركات الحديثة في اليهودية. ط1، دار عمار ودار البيارق، بيروت 1417 هـ (1996م).

12- مأمون كيوان: المسألة اليهودية في المجر: عود على بدء. العدد 134، مجلة الوحدة الإسلامية، شباط 2013.

13- Neo-Antisemitism in Hungary Author(s): János Kovács Source: Jewish Social Studies , Jul., 1946, Vol. 8, No. 3 (Jul., 1946), pp. 147-160 Published by: Indiana University Press, p. 150.

14- مأمون كيوان: المسألة اليهودية... مرجع سابق.

15- أ.ج. جرانت، هارولد تمبرلى: أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين 1789-1950. ترجمة: محمد علي أبو درة، لويس إسكندر، مراجعة: أحمد عزت عبدالكريم، مؤسسة سجل العرب، القاهرة 1967، ص 284- 290.

16- رياض الصمد: العلاقات الدولية في القرن العشرين. تطور أحداث الفترة ما بين الحربين 1914-1945. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط3، سنة 1986، ص 108- 109.

17- Bernard G. Richards, AGONY OF THE JEWS IN HUNGARY, Current History (1916-1940), MAY, 1923, Vol. 18, No. 2 (MAY, 1923), pp. 227-230 Published by: University of California Press, p.227.

18- Yehuda Don, The Economic Effect of Antisemitic Discrimination: Hungarian Anti-Jewish Legislation, 1938-1944, Jewish Social Studies , Winter, 1986, Vol. 48, No. 1 ,pp. 63-82 Published by: Indiana University Press, p. 64.

19- Bernard G. Richards, AGONY OF THE JEWS IN HUNGARY..op. cit< p. 228.

20- Ibid. p. 228.

21- János Kovács, Neo-Antisemitism in Hungary, Jewish Social Studies , Jul., 1946, Vol. 8, No. 3 (Jul., 1946), pp. 147-160 Published by: Indiana University Press, p. p. 151- 152

22- Yehuda Don, The Economic Effect of Anti-Semitic Discrimination: Hungarian Anti-Jewish Legislation, 1938-1944,

Jewish Social Studies , Winter, 1986, Vol. 48, No. 1, pp. 63-82 Published by: Indiana University Press, p. 65.

23- Ibid. p. 66.

24- Ibid, p.p. 67- 73.

25- لقد شاركت المجر دولة ألمانيا عام 1941 في غزو يوغوسلافيا لاسترداد الأراضي التي تم انتزاعها منها بعد الحرب العالمية الأولى، كما استفادت المجر من علاقتها مع ألمانيا النازية وإيطاليا في الحصول على مزيد من الأراضي من جيرانها في سلوفاكيا ورومانيا خلال الأعوام ما بين 1938 و1941.

26- Randolph L. Braham, The Jewish Question in German-Hungarian Relations during the Kállay Era, Jewish Social Studies , Summer, 1977, Vol. 39, No. 3 (Summer, 1977), pp. 183-208 Published by: Indiana University Press, p.p. 185- 188.

27- Ibid, p.p. 191- 195.

28- محمود صالح منسي: الحرب العالمية الثانية. القاهرة 1989ن ص 219.

29- ar.wikipedia.org مملكة المجر (1920- 1946)

30- Asher Cohen, Continuity in the Change: Hungary, 19 March 1944, Jewish Social Studies , Spring, 1984, Vol. 46, No. 2 (Spring, 1984), pp. 131-144 Published by: Indiana University Press, p.p.131- 144.

31- János Kovács, Neo-Antisemitism in Hungary.. op. cit, p. 155.

32- ar.wikipedia.org. تاريخ اليهود في المجر، الهولوكوست في المجر

33- أ.ج. جرانت وآخرون: أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين... مرجع سابق، ص 551.

34- مأمون كيوان: المسألة اليهودية في المجر... مرجع سابق.

35- ar. Wikipedia.org. المحكمة الجنائية الدولية

36- سكاي نيوز عربية: 3 إبريل 2025. المجر ليست الأولى. انسحابات سابقة من الجنائية الدولية.

37- رويترز: 5/ 5/ 2013. المؤتمر اليهودى العالمى يلتئم في المجر في ظل تصاعد معاداة السامية.

38- مأمون كيوان: المسألة اليهودية في المجر.. مرجع سابق.