رؤى
نجلاء عبد الجوادألمانيا وإنكار هولوكوست غزة
2025.01.18
تصوير آخرون
ألمانيا وإنكار هولوكوست غزة
يقول الكاتب الإسرائيلي بوعز إيفرون: "إن الوعي بالمحرقة هو تلقين دعائي رسمي، وإنتاج شعارات ورؤية زائفة للعالم، والهدف الحقيقي منها ليس فهم الماضي على الإطلاق، بل التلاعب بالحاضر."
يُعد اغتصاب فلسطين وتأسيس الكيان الصهيوني (إسرائيل) عام 1948 واحدًا من المحطات المفصلية في تاريخ الشرق الأوسط، خاصة بما أفضى إليه من تداعيات خطيرة على الشعب الفلسطيني. خلال هذه الفترة، تداخلت عدة عوامل تاريخية وسياسية، وكان للدور الألماني بعد الهولوكست تأثيرًا مهمًا في صياغة هذا الواقع المعقد. فالهولوكوست حدث محوري في تاريخ اليهود، شهدت خلاله أوروبا واحدة من أبشع عمليات الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية. نتج عن هذا الحدث الصاخب تأثيرات عميقة ليس فقط في الذاكرة الجمعية للشعب اليهودي، بل أيضًا على الساحة السياسية العالمية، لا سيما في دعم نشأة إسرائيل ككيان استيطاني عنصري على حساب الشعب الفلسطيني. ليس لفظاعته بل لاستغلاله من قبل الحركة الصهيونية العالمية وتسخير مؤسسات إعلامية وصحفية والعديد من دور النشر وقطاعات واسعة من المجالات الثقافية والفنية للترويج له. لقد شهد التاريخ عديدًا من المذابح، منها ما يفوق مذابح اليهود على يد النازية، والحقيقة إن الهولوكوست لم يقتصر على اليهود فقط، بل كان قتلًا جماعيًّا لبشر ينتمون إلى مجموعة محددة بيولوجيًّا. وكانت الوراثة هي التي تحدد اختيار الضحايا. وقد طبق النظام النازي سياسة إبادة متسقة وشاملة -على أساس الوراثة- ضد ثلاث مجموعات فقط من البشر: المعوقين واليهود والغجر.
لكن العقلية الصهيونية استطاعت إخفاء باقي الضحايا وظهر اليهود دون غيرهم كضحايا لا منافس لهم. يقول المؤرخ الأمريكي بيتر نوفاك في كتابه الهولوكوست في الحياة الأمريكية: "إنه كان هناك إجماع مذهل بين الوكالات اليهودية في شتى بقاع العالم يتمثل في التركيز في نقطة واحدة وهي الترويج المكثف واسع النطاق بالهولوكوست حتى يعزز صورة اليهودي باعتباره الضحية الوحيدة".
رغم أن الهولوكوست والصراع العربي الإسرائيلي لهما تاريخ منفصل. ولكن بقدر ما أثرت محرقة الهولوكوست في اليهود والقوى العظمى والرأي السياسي العالمي في تشكيل إسرائيل، فإنها أثرت أيضًا بشكل لا مفر منه في الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. قال جون فوستر دالاس، الذي أصبح فيما بعد وزيرًا للخارجية الأمريكية في حكومة دوايت د. أيزنهاور، للوفد اللبناني في الأمم المتحدة في عام 1948: "إن الشعب والحكومة الأميركيين مقتنعان بأن إنشاء دولة إسرائيل في ظل ظروف صالحة للعيش كان ضرورة تاريخية. وهذا ينطوي على بعض الظلم الذي لحق بالعالم العربي."
وفي هذا السياق، يتعين علينا أن نأخذ في الاعتبار أن تأكيد إسرائيل لذاتها عن طريق العنف في عملها التأسيسي، الذي هزم في حربي 48 و67 الجيوش العربية، أدى أيضًا إلى فرار وطرد الآلاف من الفلسطينيين أصحاب الأرض، بما في ذلك المذابح التي ارتكبت بحق المدنيين العزل، وتدمير مئات القرى العربية، والاستيلاء على الأراضي في الريف والعقارات في المدن، وقمع كل مظاهر الحضارة والثقافة العربية. كل هذا أنتج كيانًا صهيونيًّا استيطانيًّا صنع بإنكار حقيقة أن سبع مئة ألف إنسان فقدوا منازلهم ووطنهم. أسدود تصبح أشدود، وعقير تصبح عكرين، وباشيت تصبح أسريت، وتل الربيع تصبح تل أبيب، وهاديتا تصبح حديد. وبالتالي فإن الفلسطينيين أصبحوا بالفعل ضحايا ثانويين للقومية الأوروبية ومعاداة السامية في وقت مبكر جدًّا، ولعجز أوروبا أو عدم رغبتها في دمج مواطنيها اليهود أو سكانها. وهذا لا ينفي بأي حال من الأحوال مسؤوليات ألمانيا الناجمة عن المحرقة تجاه اليهود في إسرائيل، بما في ذلك دعم أمنهم فضلًا عن الحماية ضد معاداة السامية والمقارنات غير العادلة أو حتى الشيطنة فيما يتصل بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
لذا يرى الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي أن ما يحرك العنصرية والكراهية تجاه العرب هو "التضحية بالذات". لأن إرث الهولوكوست ألحق ضررًا مصيريًّا بإسرائيل فبعد المحرقة أصبح مسموحًا للإسرائيليين أن يفعلوا أي شيء، وبالطبع باستخدام القوة فقط، فقد عزز القومية وشرع العسكرة، بدلًا من تشكيل الإنسانية والعدالة والأخلاق والامتثال للقانون الدولي، والتي تعتبر في إسرائيل بعد إقرار قانون الدولة اليهودية عام 2018 خيانة أو ضعفًا.
على مر العقود، استخدمت إسرائيل الهولوكوست كوسيلة لتبرير سياساتها وممارساتها العنصرية تجاه الفلسطينيين. هذا الاستخدام يعكس تأثيرات نفسية سلبية، حيث تم تصوير الفلسطينيين كأعداء يعادون الذاكرة اليهودية ويهددون وجودهم. كما يسهم هذا التصوير في تعزيز شعور الضحية لدى الإسرائيليين، ما يمنح القادة الإسرائيليين تخويلًا من الداخل لتبرير الخطوات القاسية ضد الفلسطينيين، لكن الحقيقة التاريخية تؤكد أن الاحتلال الصهيوني لفلسطين بدأ في عام 1882، أي قبل نحو ستين عامًا من وقوع المحرقة. واليوم تستغل إسرائيل المحرقة كسلاح ضد منتقديها لما تفعله من إبادة جماعية في حق غزة.
في المقابل سعت ألمانيا إلى إقامة علاقات وثيقة مع إسرائيل لتحسين صورتها الدولية، ما أدى إلى تعزيز موقف إسرائيل على الساحة الدولية. تمثل هذا الدعم في الاتفاقيات الفنية والعسكرية، ما مهد الطريق لتأسيس جيش إسرائيلي قوي. حبث شهد التعاون العسكري بين ألمانيا وإسرائيل زيادة ملحوظة في السنوات الأخيرة. وفقًا للتقارير، تم بيع لإسرائيل ما قيمته أكثر من مليار يورو من الأسلحة الحديثة. ما يعكس التزامًا قويًّا من الحكومة الألمانية تجاه دعم إسرائيل في مجالات الأمن والدفاع وقد زادت كمية الأسلحة المتطورة التي تتلقاها إسرائيل من ألمانيا، ما ساهم في تصاعد العنف خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة وتنفيذ عمليات عسكرية موسعة، شكلت إبادة جماعية ألحقت الأذى وسقط فيها عديد من الضحايا المدنيين.
جرائم ألمانيا النازية متجذرة في تاريخها، أول إبادة جماعية في القرن العشرين قامت بها ألمانيا بين عامي 1902 و1908 قتل الجيش الألماني فيها تحت قيادة الجنرال لوثار فون تروثا 65 ألفًا من قومية الهيريرو و10 آلاف من قومية الناما في جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا حاليًّا). وتم حشد الآلاف في معسكرات الاعتقال، حيث مات أغلبهم. لم تكفر ألمانيا عن هذه الإبادة ولم تفرد لها المراكز البحثية والمناهج الدراسية حيزًا، ولا قامت بدفع التعويضات إلى الضحايا كما فعلت وتفعل لإسرائيل التي تشاركها استغلال المحرقة ليس لشيء غير حماية إسرائيل، فمنذ أن اعترف الألمان بالمآسي التي ارتكبها النازيون ضد اليهود، بدءوا عمليات بناء الذاكرة الجمعية والنقد الذاتي. وضعت حكومات ما بعد الحرب العالمية الثانية أسسًا ثقافية وقانونية تهدف إلى منع تكرار تلك الجرائم، بما في ذلك تشديد قوانين مناهضة النازية ومكافحة معاداة السامية. وصل الأمر إلى أنه في عام 2008 ربطت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أمام الكنيست الإسرائيلي مصيري البلدين ألمانيا وإسرائيل أحدهما بالآخر، بقولها إن أمن إسرائيل جزء من الأمن القومي الألماني. وكررها المستشار أولاف شولتز بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، وأكدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك أن لإسرائيل الحق في قصف المواقع المدنية إذا كان ذلك جزءًا من دفاعها عن نفسها وأمنها.
إحدى العواقب الرئيسية في هذا السياق هي تغييب تفاصيل الصراع العربي الإسرائيلي في الوعي العام الألماني. يواجه كثير من الألمان صعوبة في فهم أبعاد المأساة الفلسطينية بسبب التركيز المكثف في الهولوكست، ما يؤدي إلى اختزال القضية الفلسطينية في إطار الصورة الأحادية.
بينما يشعر كثيرون بمسؤوليتهم تجاه المجتمعات المتضررة من الدكتاتوريات والانقسامات، فإن الصراع العربي الإسرائيلي يظل مشوبًا بكثير من الأسئلة والتعقيدات. يغيب الوعي العميق بالتجارب الفلسطينية، فيحرم المجتمع الألماني من فهم جذور الصراع وآثاره الراهنة.
ونتيجة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وصناعة إبادة جماعية لسكان القطاع ارتفعت الأصوات التي تطالب بتضامن دولي مع الفلسطينيين. جعل الحكومة الألمانية لكي تحافظ على التوازن بين تاريخها المؤلم وموقفها السياسي تستخدم الهولوكوست كأداة لتحصين موقفها، حيث تحذر من معاداة السامية وتعتبر أي انتقاد لإسرائيل خطرًا محتملًا لإحياء تلك الأفكار وأنماط التفكير العنصري. في هذا السياق، يُنظر إلى التعاطف مع غزة والقضية الفلسطينية كنوع من التشكيك في شرعية الدولة الإسرائيلية، وهو ما يؤدي إلى عكس جهود الحكومة الألمانية في تعزيز إحداث التوازن. لذا لجأت إلى استخدام مشاعر الذنب التاريخية كوسيلة لردع أي محاولات لتصعيد التعاطف مع ما يحدث في غزة. وبالتالي عملت على تشكيل سرديتها الخاصة بالهولوكست بما يتناسب مع التزامها التاريخي تجاه إسرائيل ومناهضة معاداة السامية، غير مكترسة للإبادة التي تقترفها إسرائيل للفلسطينيين، ليس من منطلق الشعور بالذنب تجاه المحرقة بقدر ما هو نتيجة رغبة في تطبيع الهولوكوست ووضعه في مقارنة مع هولوكوست آخر حديث قد يساعدها في الخلاص من أنها وحدها المجرمة أو أن ما فعلته شنيع لا يغتفر، بل إنها ترى في دعم هولوكوست إسرائيل لقطاع غزة دعمًا للهولوكوست الخاص بها، كعمل ضروري للدفاع عن النفس، يسمح لها بالتمسك بالادعاءات التي خلقتها حول محارقتها.
ألمانيا لم تتخلص من النازية بشكل كامل. ولم تحاول قط أن تتصالح مع السياسات التي أدت إلى صعود هتلر، لذا فإنها تدرك تمام الإدراك أن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية، وأنها بدأت هذه الحرب بنية التطهير العرقي وإبادة الشعب الفلسطيني. لقد شاهدوا اللقطات من غزة. وهم على علم بالقصف العشوائي والتجويع. وهم مشاركون في الإبادة يالأسلحة المتطورة التي تتلقاها إسرائيل من ألمانيا، والتي تساهم في عمل عمليات عسكرية موسعة، وهو ما يؤدي إلى إلحاق الأذى وتصاعد العنف ضد المدنيين من سكان قطاع غزة. كما أن ألمانيا استمعت إلى الأدلة التي قدمتها جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية. وهى تعرف كيف بدأ وزير الدفاع يوآف جالانت الإبادة الجماعية من خلال وصف الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية" وهي نفس العبارة التي استخدمها هتلر لتبرير إبادته لليهود. باختصار، تعرف السلطات الألمانية ما تفعله إسرائيل، فهي تعلم أن حليفتها ترتكب هولوكوست آخر، وأنهم يحاولون ببساطة تصوير هذا على أنه أمر طبيعي وعادل ولا مفر منه، لأنهم فعلوا نفس الشيء عدة مرات في تاريخهم غير البعيد.
ترشيحاتنا
