عدد 2-إسرائيل والعرب: الوعد، الدولة، المقاومة، السلام

NLR Editors

المقاومة في مأزق: حوار مع غسان كنفاني

2017.11.01

ترجمة : مروة الناعم
* نشر في.: 1971 June-May /67,I ,Review Left New

 

المقاومة في مأزق: حوار مع غسان كنفاني

 

تشتهر الجبهة الشعبية ويذيع صيتها في العالم غير العربي بعمليات اختطافها للطائرات التي قامت بها في سبتمبر عام 1970. وقد لاقت تلك العمليات العديد من الانتقادات، بعضها انتقادات برجوازية، إلا أن هناك نقدين آخرين أود إثارتهما هنا. قد تم طرح النقد الأول من قبل أطراف من داخل المقاومة الفلسطينية مثل المتحدث الرسمي للجنة المركزية، كمال رضوان، وكذلك من أشخاص خارج المقاومة الفلسطينية. وكان مضمون هذا النقد أن عمليات الاختطاف تلك قد أعطت لحسين ذريعة لشن الهجوم على المقاومة، وهو أمر لم يكن ليفعله في هذا التوقيت لولا عمليات الاختطاف. أما الانتقاد الثاني، فقد طرحه بالأساس أشخاص من خارج حركة المقاومة. وهو يقول بإن تلك العمليات أعطت شعورًا وهميًا بالقوة والثقة للجماهير الفلسطينية، الأمر الذي يبعد كل البعد عن واقعها التنظيمي والعسكري. وعلى ذلك النحو، باتت عمليات الاختطاف بديلًا لتنظيم الجماهير وعرضًا مسرحيًا يشجع على الخيال. إلا أن ذلك كله لا ينفي الأثر الايجابي الذي تركته تلك العمليات، كمنحكم جمهورًا عالميًا عريضًا عبر شاشات التليفزيون يمكنكم أن تشرحوا له الهدف وراء المقاومة الفلسطينية. تلك النقطة ليست موضع شك. ولكن السؤال هنا، هل مازلت تدافع الآن عن عمليات الاختطاف؟

أولًا وقبل كل شيء، أقدر حقيقة رفضك للأخلاقية البرجوازية وللانصياع للقانون الدولي. فهذه الأشياء هي سبب مأساتنا. والآن أود أن أجيبك على تساؤلاتك. أريد أن أتحدث بشكٍل عام حول ذلك النوع من العمليات. لطالما رددت أننا لا نقوم بخطف الطائرات بسبب ولعنا بالبوينج طراز 707. فنحن نقوم بذلك لأسباب محددة، في وقت محدد وفي مواجهة عدو محدد. فسيكون من العبث اختطاف طائرات في اللحظة الراهنة والهبوط بها في القاهرة أو الأردن على سبيل المثال. إذ أن ذلك كان سيصبح ضربًا من العبث ولن يكون له أي معنى الآن على الإطلاق. ولكن عليك أن تحلل الوضع السياسي الذي قمنا فيه بتنفيذ تلك العمليات، وكذلك الأهداف التي سعينا لتحقيقها. دعنا نتذكر الوضع. في 23 يوليو [1970]، قام عبد الناصر بالموافقة على خطة روجرز والتي أعقبها بأسبوع موافقة الحكومة الأردنية كذلك. ومرة أخرى تم تجاهل الفلسطينيين، ووضعهم على الرف. فإذا قرأت الصحف العربية والدولية ما بين الثالث والعشرين من يوليو والسادس من سبتمبر سترى كيف تم التعامل مع الفلسطينيين تمامًا مثل ما حدث في الفترة ما بين 1948 و1967. بدأت الصحف العربية الكتابة عن مدى بطولة الفلسطينيين، ولكن أيضًا عن مدى عجزهم وكيف أنه لا يوجد أمل أمام هؤلاء «الأبطال الشجعان». كانت معنويات شعبنا بالأردن والضفة الغربية وغزة منخفضًة للغاية. وعلاوًة على ذلك، توجه وفد من قيادة حركة المقاومة الفلسطينية، اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلى القاهرة للتفاوض مع عبد الناصر وحكومته حيث قضوا أيامًا وأيامًا في مناقشة إذا ما كانوا سيسمحون لنا بإعادة تشغيل البث الإذاعي من مصر مرة أخرى بعد إغلاق إذاعتنا في منتصف أغسطس. قام الوفد بعد ذلك بالشكوى إلى جامعة الدول العربية وحاول حملهم على مناقشة هذه المسألة. فيما قبل الثالث والعشرين من يوليو، كانت المقاومة الفلسطينية تُقدم في الصحافة العربية باعتبارها الأمل الكبير للشعب الفلسطيني؛ في نفس الوقت اعتبر كل العرب أن جامعة الدول العربية تمثل أدنى شكل من أشكال السياسة، وأنها الكيان السياسي الأكثر عجزًا في العالم العربي. فأصبحت أرفع النماذج السياسية تتقرب إلى ذلك «الملاذ القذر» الذي تمثله جامعة الدول العربية. الأمر الذي برهن على أن الثورة كانت مهددة بالتصفية سواء أن قام حسين بسحقها فعليًا أم لا. كان الجميع -بمن فيهم أولئك الذين انتقدوا عمليات الجبهة الشعبية- موقنين بأن تدمير المقاومة جزء أساسي من خطة روجرز.

هل تعتقد أن ناصر والنظام المصري كانا يدعمان ذلك؟

كان النظام المصري قاب قوسين أو أدنى من المشاركة المباشرة في تلك التصفية، فبما أنه لم يكن لديه أي اتصال مباشر مع الفلسطينيين؛ فقد كان في وضع أكثر أمانًا. وكانت الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للنظام المصري مساعدة حسين هي التزام الصمت: وهذا هو ما فعله، إلى الحد الذي مكنه من مقاومة ضغط الجماهير العربية. ففي الأيام الثلاثة الأولى من القتال [بين المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني] في سبتمبر التزمت الحكومة المصرية، وكذلك جميع الحكومات العربية الأخرى، الصمت ظنًا منهم أن حركة المقاومة لن تستطيع الصمود أكثر من ثلاثة أيام. ثم أُجبروا على التحرك لأن الجماهير في شوارع مصر وسوريا ولبنان كانوا غاضبين جرّاء المذبحة؛ إلا أن أول خمسة آلاف ضحية فلسطيني سقطوا في عمان في صمت ولم يشتكي أحد. افترضت خطة روجرز مسبقًا تصفية حركتنا، وكان هذا يقترب من الحدوث الآن وسط حالة من الاستسلام الفلسطيني. لذا كان لابد من القيام بشيء ما؛ أن نقول للعالم، أولًا وقبل كل شيء، إنه لن يتم تجاهلنا للمرة الثانية، وثانيًا، أن نعلن للعالم بأن تلك الأيام التي يمكن فيها للولايات المتحدة والرجعيين من العرب إملاء أوامرهم على شعبنا قد ولَت. وعلاوة على ذلك، كانت هناك مسألة الروح المعنوية وقدرة شعبنا على القتال. لم يكن بإمكاننا ترك الأمور تبقى في هذا الوضع بينما هناك مذبحة على الأبواب، حتى لو كنا قد جلسنا في هدوء على أعتاب بلاط فخامته نقبل يده.

إذن أنت لا توافق على فكرة أن حسين نفسه لم يكن متأكدًا مما يجب القيام به، لكن الجيش هو الذي دفعه للتحرك؟

قطعًا لا. هذا هراء. صحيح أنه لا تزال هناك أجزاء من حركة المقاومة التي تعتقد بأنه من الممكن «تحييد» النظام الأردني؛ ولكن هذا هراء. أما فيما يتعلق بالفكرة القائلة بأن اختطاف الطائرات عجل بهجمات حسين، فإن الإجابة المختصرة على ذلك هي أن النظام الأردني كان قد أوقف بالفعل أعمال الميليشيات [الفلسطينية] جنوب البحر الميت، واعترض طريق القوات المتجهة لإيلات. وفي الوقت نفسه وضع الجيش الأردني ألغامًا في معظم النقاط التي كانت تعبر من خلالها الميليشيات نهر الأردن، وأجبرها على المرور خلال ممرات محددة والتي كانت كمائن. كانوا يرسلوننا لنُقتَل على أي حال. كل ذلك كان يحدث قبيل مذبحة سبتمبر؛ لقد كانت مجزرة بشكل آخر. وهكذا كان الخلاف الحقيقي يحدث طيلة الوقت: كانوا يمنعوننا من ممارسة سبب وجودنا، كانوا يمنعوننا من شن الغارات ضد إسرائيل ويقمعون أنشطتنا السياسية داخل المدن. لذا لم يكن ما قمنا به، بما في ذلك عمليات الطائرات، أعمالًا استفزازية؛ فما قمنا به لم يكن سوى حركة ثورة تسعي للإفلات من شَرَك حُبست فيه.

كيف كانت أنشطتكم ستواجه هذا؟

كانت جميع أنشطتنا بمثابة محاولة للخروج من الأزمة المحيطة بنا. فعلى سبيل المثال، نظمنا مظاهرات تجوب شوارع عمان بهتافات "يسقط ناصر"، و"تسقط مصر"؛ ربما لم يكن ذلك من الصواب، إلا أنها كانت واحدة من الطرق العديدة التي حاولنا من خلالها الإفلات من ذلك الطوق المطبق.

لقد كان من الواضح أن حسين ينتوي الهجوم على المقاومة فور قبوله خطة روجرز. وكان أمامكم حينذاك خيارين: إما أن تنتظروا ليبدأ هو الهجوم أو أن تهاجموه أنتم أولًا. غير أنه في كلتا الحالتين، لا يبدو أنكم اعتزمتم الإطاحة به على الإطلاق، ولم تتخيلوا أبدًا أن ذلك بمقدوركم. ألم يكن هدفكم بشكل أساسي هو الحفاظ على الوضع التنظيمي للمقاومة؟ ألم يكن هذا هو الهدف من وراء عمليات الاختطاف؟

لا يجب أن تعزل عمليات الاختطاف عن السياق السياسي الكلي. فعلى سبيل المثال، قامت فتح بإطلاق قاذفات صواريخ على غور الصافي جنوب البحر الميت مما ترتب عليه نسف مصانع البوتاسيوم. كنا نحاول جميعًا كسر الحصار وأن نعطي للجماهير الفلسطينية المزيد من الأمل، ولكي نقول إن المعركة لازالت مستمرة، سعينا إلى الضغط على الحكومة الأردنية لكي تقوم بتأجيل هجماتها علينا. لا تقوم علاقتنا بالحكومة الأردنية على قناعات مشتركة، بل على الضغط فقط؛ فلا تجمعنا أرضية واحدة مشتركة معهم. كانت المسألة مسألة توازن قوى. فكان جميع ما قمنا به، بدايةً من ذلك الخطأ الفادح باللجوء لجامعة الدول [العربية] انتهاءً بعمليات خطف الطائرات (والتي مثلت أقصى صور الضغط)، ليس سوى أشكال من الضغط. بعضها أخطأ التقدير على نحو سلبي والبعض صح تقديره. وعلى صعيد آخر، لا شك أنه كان هناك أفراد ومنظمات داخل المقاومة على قناعة تامة بإمكانية الإطاحة بالملك. كانوا على خطأ.

لم تعتقدوا وقتها حتى أنه كان بمقدوركم الإطاحة بالملك إذا ما انتظرتموه ليبدأ هو الهجوم؟ كان الاعتقاد السائد أن الجماهير ستتوحد بمجرد التبني لموقف الدفاعي؟

تلك كانت معضلتنا، وكنا في أزمة. كانت المقاومة وكذلك جميع الحكومات العسكرية العربية تعاني أزمة كانت ثمنًا لخطة روجرز. لو كنا قد قررنا محاربة حسين، لكنا اخترنا المكان والزمان. لكن بمجرد أن هاجمنا حسين، لم يصبح لدينا خيار، كان علينا أن نقاتل في وقت ومكان من اختياره هو. لذلك كانت عمليات اختطاف الطائرات جزءًا من فسيفساء شديدة الخطورة شكلت الخريطة العربية والفلسطينية بداية من يوليو عام 1970 وحتى وقتنا هذا. كان هناك العديد من العوامل الأخرى أيضًا. فقد كانت ظهورنا للحائط ولم يكن لدينا سوي خيارين ممكنين للخروج من الأزمة. إما أن نتمكن من الدفاع عن أنفسنا ضد حسين حتى النصر، أو أن "نخسر المعركة بالفوز فيها" إذا ما قمنا بمهاجمة حسين. بيد أننا لم نكن الطرف الوحيد الذي يحدد النتيجة، فقد كان للجانب الآخر أيضًا دور في تحديدها؛ فقد فاقت خططهم عددًا ما كان لدينا. يجب أن تتذكر بأنه كان على حسين أن يثبت للأمريكيين بأنهم لم يكونوا في حاجة لإقامة دولة فلسطينية. كان الأمريكيون في حيرة من أمرهم بشأن استبدال حسين بضابط على شاكلة سوهارتو عن طريق عمل انقلاب بعمان، والذي كان يمكن أن يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية هناك. ناقش الإسرائيليون ذلك أيضًا. كان حسين راغبًا في استعادة هيبته، وهذا ما قام به بالفعل، مما جعل نيكسون يعدل عن فكرته، وأصبح الأمريكيون مرة أخرى يعتقدون أن حسين قادر على معالجة الموقف.

أما بخصوص عمليات اختطاف الطائرات، كانت أهميتها النفسية أكبر بكثير من أهميتها كعمليات عسكرية في تلك المرحلة من الثورة. أما إذا كنا في آخر مراحل الثورة أو حتى مراحلها الأولى المتقدمة وقمنا باختطاف طائرات، لكنت أول من استنكر وشجب ذلك الأمر. ولكن في المرحلة التحضيرية للثورة، تكون  للعمليات العسكرية أهمية نفسية خاصة.

إذن، لازلت تعتقد بأنكم كنتم على صواب بتنفيذكم لعمليات اختطاف الطائرات؟

بوجه عام، نعم أعتقد بأن تلك العمليات كانت صائبة. ربما قمنا ببعض الأخطاء التكتيكية. ربما كان يجب علينا أن نجعل المقاومة الفلسطينية بأكملها تتقاسم المسؤولية عنها أكثر مما كان الأمر عليه، وعندها وإذا ما قرروا بعدها بساعتين أن يطلقوا سراح الطائرات، ربما لكنا أطلقنا سراحهم بالفعل. ربما كان يجب ألا نكون على هذا القدر من العند. ولكنك لا تستطيل أن تتخيل ما كان يعنيه ذلك كله للشعب آنذاك. لقد أثرت مسألة ما إذا كانت عمليات الاختطاف قد أوجدت مناخًا بين الجماهير الفلسطينية التي لم تتمكن حركة المقاومة من استيعابها وتنظيمها. ربما كان تلك هو الوضع بالفعل. ولكن حتى إذا كان الأمر صحيحًا، فقد قاتلنا لمدة اثنى عشر يومًا في سبتمبر وحملنا الجيش الأردني على الاستمرار في الحرب الأطول في تاريخه جراء ما فعلناه.

في سبتمبر، ظن العديد من المعلقين على الأحداث بأن الفرصة الوحيدة لفوز الفلسطينيين تعتمد إما على انشقاق الجيش الأردني نفسه، بحيث يذهب قطاع منه حليفًا للمقاومة، أو بتدخل نظام خارجي عربي كسوريا أو العراق لتقديم المساعدة. هل كنت تتوقع حدوث أي من هذه الاحتمالات؟

لا أعتقد بأن أيًا من هذين الأمرين كان ليمنح النصر للمقاومة. فالأوضاع تختلف في حرب العصابات، ذلك أن الأهمية تكمن في الهدف من أي عمل بعينه. كان هدف النظام الأردني هو القضاء على المقاومة تمامًا. بينما لم يكن هدف المقاومة الفلسطينية هو الإطاحة بالنظام الأردني، بل مجرد الضغط عليه. لم يتحقق أي من هذين الهدفين، لذا لم ينتصر أحد في نهاية المطاف. بالطبع، وإلى حد ما، كان علينا الاستسلام والتراجع عن بعض النقاط والعمل سرًا. لكن المعركة لا تزال مستمرة؛ فالانسحاب نحو الجبال أو العمل سرًا هما مجرد أمر تكتيكي لتنظيم توازن القوى.

أنت لا تنكر أن كلًا من إمكانية القيام بعمليات ضد إسرائيل من الأردن وكذلك مساحة المناورة السياسة العسكرية لدى المقاومة داخل الأردن قد تقلصت بشكل كبير بسبب أحداث سبتمبر؟ ألم تستمر المملكة الهاشمية في محاولاتها لنزع سلاح الميليشيا في عمان ولفرض سيطرتها المباشرة على مخيمات اللاجئين خاصتكم، وغيرها من نقاط القوة؟

أعلم ذلك. أنا لا أنكر أن النظام الأردني قد حقق بعض المكاسب وأجبرنا على التراجع. لكنني أود الإشارة إلى أمرين لوضع أحداث سبتمبر في سياقها. نجح النظام الأردني تقريبًا في منعنا من شن أي غارات ضد إسرائيل قبل سبتمبر؛ لم يكن ذلك نتيجة لأحداث سبتمبر بل أحد العوامل التي أدت إلى سبتمبر. كان علينا أن نقول لشعبنا أننا نقوم بشيء ما؛ إذ لم نكن نستطيع الجلوس بعمان بدون عمل شيء. الآن نحن في الجبال، في مرحلة تحضيرية،  وقد اتخذت الثورة شكلًا أكثر واقعية مما كانت عليه عندما ظن الناس أنها في مراحلها المتقدمة. أنا أرفض القول إننا هزمنا، ذلك لأن قوتنا الحقيقية في الماضي كان مغالى فيها أما الآن فلدينا الحجم المتناسب مع قوتنا. لم تكن لدينا أبدًا مساحة للمناورة أمام شعبنا والرأي العام العالمي، ولم يكن لدى بعض القادة مثل تلك المساحة حتى أمام مقاتليهم. سوف يستغرق الأمر وقتًا طويلًا لاستعادة توازن القوى السابق مع الحكومة الأردنية وسوف نستمر في التراجع حتى نصل إلى إدراك صحيح لقوتنا.

هناك العديد من الأمثلة في التاريخ عن آناس يحملون بنادق ويسكنون الجبال، ينصبون كمينًا لشاحنة ويطلقون الرصاص على جندي شارد، ولا يحققون شيئًا آخر. تلك هي مشكلتنا، وهناك نقاش جاري داخل المقاومة حول ذلك؛ بالفعل يتم اتهام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعدم الرغبة في تسليم أسلحة الميليشيات. في الواقع، لا أظن أن مقاتلًا من فتح قد يسلم سلاحه.

إلى أي مدى قامت الجبهة الشعبية بتغيير استراتيجيتها منذ سبتمبر؟ كان قد نقل عن جورج حبش في يناير أنه قال إن الوقت قد حان للإطاحة بالمملكة الهاشمية. فهل هذا صحيح؟

لطالما أكدت الجبهة الشعبية على أننا نواجه أربعة أعداء متساوين: إسرائيل، والصهيونية العالمية، والإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والرجعية العربية. إن الإطاحة بهذه الأنظمة العربية الرجعية هي جزء من استراتيجيتنا، وهي جزء من تحرير فلسطين. يجب أن تكون الإطاحة بالنظام الأردني جزءًا من برنامج لجبهة شعبية لتحرير فلسطين. يجب أن نقوم ذلك، ولكن ليس غدًا بالضرورة. فلطالما أكدنا على ضرورة القيام بذلك، إلا أن ذلك يجب أن يشكل جزءًا من خط استراتيجي عام.

لقد انقضى الآن خمسة أشهر على أحداث سبتمبر. في رأيك، ما هي الآثار التي خلفتها تلك الأحداث على الشعب الفلسطيني؟

من الطبيعي أن يغادر البعض أثناء فترات القتال المحتدمة. تكون الفترات المتقدمة للنضال مغرية، فينضم البعض لأنهم لا يكونون مضطرين لتكبد ثمن نظير انضمامهم للثورة. هم يقبعون في المنازل، ويواصلون الذهاب إلى أشغالهم؛ إذا كان أحدهم يدرس بجامعة دمشق على سبيل المثال، فبمقدوره أن يحصل على إجازة لمدة عام وينضم للعمل مع المقاومة. ومن ناحية أخرى، تقوم صدمات كسبتمبر ببلورة قوة الثورة، إذ أنهم دفعوا بها نحو الجبال. فهناك الآن جنود المغاوير-كوماندوز- يقطنون غابات عجلون بشمال الأردن؛ يعيشون داخل كهوف مع كميات محدودة من الماء والطعام والذخيرة. في هذه الحالة، لا يمكننا أن نتوقع أن الآلاف ممن كانوا يجوبون عمان بزيهم الكاكي حاملين أسلحة الكلاشنكوف سيعيشون على ذلك النحو. فالتنظيم والتجنيد في المدن أمر مختلف. فقد كان لدينا مكتب معروف، وكان باستطاعتنا تجنيد وتدريب الأهالي علنًا في المخيمات. الآن تربطنا بالجماهير علاقات مختلفة: فلم نعد نرتدي الكاكي ونجوب الشوارع، ولا نلقي خطابات في المخيمات. فعلينا أن نعمل بطريقة مختلفة، وهنا تحديدًا تصبح هناك ضرورة لوجود حزب. على الرغم من صعوبة الأمر في الجبال، إلا أن الوضع في المدن أكثر صعوبة. فكان لدي العديد من الأهالي حسًا برجوازيًا متهورًا، لكننا الآن في مرحلة تراجع. لا يشكل ذلك خطراً سواء عسكريًا أو سياسيًا، إلا أنه يثير مشاكل نفسية بسبب الحاجة لإبقاء الأهالي في صفوفنا. تدعو بعض العناصر في الضفة الغربية الآن إلى إقامة دولة فلسطينية. كنا نعلم أنهم كانوا يناقشون هذه الخطة سرًا فيما بينهم لثلاث سنوات بعد حرب يونيو وبأنهم كانوا على اتصال مع الإسرائيليين، والرجعيين العرب وكذلك الإمبرياليين. ولكن فقط منذ اضطرت المقاومة للتراجع، جرؤت تلك العناصر على مناقشة ذلك المشروع علنًا. وفي الوقت نفسه، جعلت الأحداث التي وقعت في سبتمبر الجماهير في الضفة الغربية على علم بما تعنيه عودة حسين مرة أخرى [لحكم الضفة الغربية]، فأصبح رد الفعل الناتج عن ذلك لشعب تحت الاحتلال وبدون تنظيم سليم هو القول: "أي شيء عدا حسين مرة أخرى". فبالنسبة للضفة الغربية، تصبح الدولة الفلسطينية أفضل من عودة نظام الملك حسين مرة أخرى. وهذا رد فعل مؤقت تمامًا ناجم عن صدمة نفسية.

أما غزة، فهي قصة مختلفة تمامًا. كانت المقاومة متحفزة للدفاع في الضفة الغربية والضفة الشرقية، إلا أنها تصاعدت فجأة في غزة على نحو استثنائي. كان للجبهة الشعبية أقوى نفوذ في غزة، لذلك تحركنا. دعني أذكر لك حالة محددة، تلك التي تخص يوسف الخطيب أبو دهمان. كان يوسف رئيسًا للعمليات العسكرية للجبهة الشعبية في غزة وقتل في بداية ديسمبر. اجتاحت الاضرابات والمظاهرات الجماهيرية شوارع غزة لستة أيام متوالية؛ لذا علم الجميع بأن الرجال لا يزالوا يقاتلون. وقد أدى ذلك إلى تصعيد مستوى العمليات في غزة، على الرغم من أن ذلك كبَّدَنَا خسائر فاقت كل ما تكبدناه فيما مضى.

ترى ما الذي خلق تلك النضالية الأعلى في غزة؟

يبلغ عدد سكان غزة 360000 نسمة؛ معظمهم لاجئون فلسطينيون. في غزة تآلف الناس مع الأسلحة. كان يتم تدريبهم من قبل جيش التحرير الفلسطيني في ظل الإدارة المصرية على عكس الضفة الغربية. هناك عامل آخر وهو قمع المصريين للحركة القومية العربية داخل غزة، ولكن ليس إلى الحد الذي كان عليه الأمر في الضفة الغربية. عندما احتُلَّت غزة، كان للحركة القومية العربية خلايا هناك؛ بينما سلم حسين الضفة الغربية للإسرائيليين "نظيفة"، على حد قوله- فلم تبق هناك خلية واحدة للحركة هناك. لذا كان لدينا الحد الأدنى الذي يمكننا البدء منه في غزة. هناك أيضًا عامل نفسي: يحيط البحر غزة غربًا، وتحدها سيناء جنوبًا، والنقب شرقًا، ودولة إسرائيل من الشمال. يرزح الفلسطينيون هناك تحت حصار نفسي، مجبلون على تحمل الصعاب. كانت الاتصالات في الضفة الغربية تتم على نحو أيسر في الشهور الأولى من الاحتلال؛ فكان من السهل إرسال النقود والرجال والأسلحة إلى المنطقة. اعتاد سكان الضفة الغربية طرقًا أكثر سهولة، ولم يكن باستطاعتهم مقاومة الإجراءات الإسرائيلية المضادة. أما في غزة فكان السكان أكثر صلابة ومهنية. ثمة عامل آخر وهو أن النظام الأردني في عمان استمر في دفع رواتب المعلمين والمخبرين وموظفي الدولة وما شابه؛ وتلك كانت الطريقة الوحيدة التي يستطيع من خلالها نظام رجعيّ الاحتفاظ بولاء هؤلاء الناس. دفع الإسرائيليون أيضًا رواتب لهؤلاء الناس. ليس صحيحًا أن معظمهم كان ضد المقاومة، لكن الأكيد أنهم لم يكونوا في عجالة من أمرهم؛ أما في قطاع غزة فقد عاش الناس تحت ضغوط أكبر.

أود الآن أن أدلي ببعض التعليقات العامة. في كل ثورة هناك نوبة أولية من الحماس لا تلبث أن تخفت بعد مرور وقت، وذلك لأنه لم يتم تجذيرها بعمق. أعتقد أن موجتنا الأولى بلغت ذروتها في معركة الكرامة، في مارس عام 1968؛ وبعد ذلك بدأ الهبوط، ذلك أننا كنا نتقلص لنقترب من أبعادنا الحقيقية. وفي مثل هذه الفترات من الانتكاس، دائمًا ما يكون هناك انقسامات ومبالغات رومانسية وميول نحو الفردية ونحو تحويل الثورة إلى أسطورة، وما إلى ذلك. تلك هي أمراض العالم المتخلف، وهي تعبر عن نفسها في وقت لا يكون فيه الشخص منغمسًا في عمل ثوري حقيقي، وبالرغم من ذلك يُنظَر إليه باعتبار أنه يصنع ثورة. وإذا لم تجد الثورة مخرجًا من تلك الشرنقة، وإذا لم تفعل شيئًا مثل المسيرة الطويلة لماو تسي تونج، أو تكتسب المزيد من القوة من الخارج عن طريق تحرير إحدى الدول العربية، فسوف تكون للهزائم آثارًا فادحة على معنويات الجماهير. لم تبدأ مرحلة التدهور في سبتمبر، إنما بدأت بعد معركة الكرامة.

هل يمكن أن نتطرق الآن إلى مسألة إسرائيل نفسها؟ هل تعتقد بأن هناك شيئًا حقًا كدولة إسرائيل؟ ترى مجموعة ماتزبن وغيرها داخل إسرائيل أنه ربما لم يكن هناك شعب يهودي، لكن المهاجرين اليهود الذين جاؤوا إلى فلسطين قد أسسوا هناك مجتمعًا جديدًا يمكن أن يطلق عليه دولة إسرائيل.

هذا هو حل ماكسيم رودنسون. إنه حل وسط فكري رائع؛ فذلك يعني أن أي مجموعة من المستعمرين تحتل منطقة ما وتقبع فيها لفترة من الزمن يمكنها تبرير وجودها ذلك بالقول بإنها تتطور لتصير شعبًا ودولة.

إذن أنت لا تعتقد بأن الإسرائيليين شعب؟

لا. لا أعتقد. فهذا موقف استعماري. الذي لديك هو مجموعة من الناس، جاؤوا لأسباب مختلفة، مبررة وغير مبررة، إلى منطقة بعينها من العالم. هم جميعًا يتشاركون في فرض وضع استعماري، وفي نفس الوقت هناك أيضًا بينهم علاقات استغلال. أنا أوافق على أن العمال الإسرائيليون يتم استغلالهم. ولكنها ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك. كان العرب في إسبانيا في نفس الوضع. كانت هناك طبقات بين العرب في إسبانيا، إلا أن التناقض الرئيسي كان بين العرب في إسبانيا ككل وبين الشعب الإسباني.

إذن أنت ترى تناقضات فيما بين الإسرائيليين قد تقسمهم في المستقبل، وتقدم للمقاومة الفلسطينية حلفاء داخل المجتمع الإسرائيلي؟

بالتأكيد. ولكن لن يحدث ذلك بسهولة. فأولًا وقبل كل شيء، يجب علينا تصعيد الثورة إلى المرحلة التي تشكل فيها بديلًا لهم، إذ أنها حتى الآن لم تصل إلى ذلك. من العبث أن نبدأ في المرحلة الراهنة بالحديث عن "فلسطين ديموقراطية"؛ فمن الناحية النظرية يضع ذلك أساسًا جيدًا لمناقشات مستقبلية، إلا أن هذه المناقشة لا يمكن أن تحدث إلا عندما تصبح المقاومة الفلسطينية بديلًا واقعيًا.

هل تقصد أنها يجب أن تكون قادرة على تقديم بديل عملي للبروليتاريا الإسرائيلية؟

نعم. ولكن من الصعب جدًا في الوقت الراهن أن تنال أصوات المقاومة الفلسطينية آذان الطبقة العاملة الإسرائيلية، فهناك العديد من الأسباب التي تعوق ذلك. تتضمن تلك الأسباب الطبقة الحاكمة الإسرائيلية والطبقات الحاكمة العربية. فالطبقات الحاكمة العربية لا تقدم سواء للإسرائيليين أو العرب احتمال للديمقراطية. ربما يتساءل المرء: أين توجد ديمقراطية في العالم العربي؟ ومن الواضح أن الطبقة الحاكمة الإسرائيلية تشكل عقبة هي الأخرى. إلا أن هناك عقبة ثالثة، وهي المنفعة الحقيقية، وإن كانت ضئيلة، التي تستمدها الطبقة العاملة الإسرائيلية من وضعها الاستعماري داخل إسرائيل. ذلك أن وضع العمال الإسرائيليين ليس فقط وضعًا استعماريًا، بل أنهم ينتفعون كذلك من حقيقة أن إسرائيل ككل قد تم تطويعها للعب دور محدد بالتحالف مع الإمبريالية. وهناك حاجة لنوعين من الحركات لتقويض هذه العوائق من أجل حدوث تواصل مستقبلي بين بروليتاريا إسرائيلية مناهضة للصهيونية وحركة المقاومة العربية. تتمثل تلك الحركات في حركة المقاومة من ناحية وحركة معارضة داخل إسرائيل نفسها من ناحية أخرى؛ إلا انه لا توجد حتى الآن أية علامة حقيقية تبشر بمثل هذا الالتقاء، فبالرغم من وجود منظمة ماتزبن، إلا أن ذلك يستلزم وجود حركة بروليتارية جماعية.