فنون

ناهد نصر

النساء في البيت والرجال في شريط كاسيت

2025.01.05

تصوير آخرون

سرديات عن السلطة والهشاشة وكيف تعيد السينما تشكيل الأدوار

 

- بتحب منير زي بابا؟

- لَفوا بِينَا، قالوا لِينا، قالوا لِينا عالمدينة، لما جينا التقينا كل شيء فيها ناسينا.

- حلمت إني في مكان ضيق خالص ماكنش فيه باب. نَفَسي ضاق. ماعرفتش أفكر إزاي أطلع.

- ابني حبيبي. باكلمك لأني لا شيء في مستقبلي كله إلا أنت. صحيح كلامي ده بقوله وأنا بعيد عنك ومش جنبك ومش مع ماما. لكن معلش استحمل.

- كل شيءٍ بِيَنسرِق مني، العُمر من الأيام والضَّي من النني، جُوّايَا بندهِلِك يا ترى بتسمعني؟

- الخوف بهلوان جعان، سجين وسجان، الناس من كتر الخوف خيالهم هرب.

- الرجالة سريعي الإحباط. أي حاجة تكسرههم.

- الخيال دوا بيخدرنا.

- بافتكر يا ماما طول الوقت إنك كنت بتقوليلي مش عاوزاك تبأى زيه.

ليس هذا نصًّا سرياليًّا ولا حوارًا مجتزأ من فيلم. وردت هذه العبارات على لسان الأبطال أو في خلفية مشاهد محورية في أفلام مستقلة ظهرت للنور في 2024. تتألف العبارات بدون ترتيب فتعكس الخيط الرفيع المتين الذي يربط بين هذه الأفلام من التساؤلات الملحة والفريدة والعميقة حول غياب/ انسحاب الأب/ الذكر في مقابل الحضور الملموس والمؤثر للأم/ الأنثى في واقع يعج بالخذلان. تعكس الأفلام جيلًا يحاول بوعي لا تنقصه الجرأة مراجعة وتفكيك هيمنة السلطة الأبوية على النطاق الضيق للأسرة وما هو أبعد لا سيما في سياق العلاقات المعقدة بين الأجيال. 'أبو زعبل 89'، و'سنو وايت'، و'البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو'، و'شرق 12'، و'رفعت عيني للسما'، و'ضي' كلها أفلام تقترب من حافة المرثية الجماعية في إدراك اهتزاز سلطة الأب، بينما تفسح المجال للتساؤل حول ما الذي قد ينشأ من قلب الهشاشة، أو ربما تبشر به.

أبناء الخذلان: السلطة، الذكورة، إعادة تعريف الذات

تدور حكايات أربعة من بين الأفلام الستة حول رحلة يخوضها بطل ذكر لاستكشاف ذاته وخياراته في علاقته بالماضي انطلاقًا من اللحظة الراهنة مواجهًا مخاوف وجودية ملحة وشكوكًا ضاغطة. وعلى اختلاف أعمارهم في سياق أحداث الأفلام، فإن الهواجس والأشباح التي تدفع الأبطال إلى خوض رحلتهم الاستكشافية والاستشفائية مرتبطة بمرحلة النضج (Coming of age). وهم أيضًا متشابهون في ظروف التكوين والنشأة مع اختلاف الروايات. فجميعهم أبناء ينتمون إلى أسرة انسحب فيها الأب/الذكر بشكل إرادي هاربًا من مسؤولياته التقليدية المتوقعة اجتماعيًّا وثقافيًّا.

في فيلم 'أبو زعبل 89'، يحاول بسام مرتضى مداواة ندوب طفولته نتيجة انسحاب والده، المعتقل السياسي السابق، الذي ترك الأسرة بعد خروجه من السجن. في هذه الرحلة، يسعى البطل، وهو مخرج الفيلم أيضًا، إلى فهم الأسباب وراء هذا القرار، بينما يحاول في الوقت نفسه التغلب على مخاوفه من أن يصبح صورة أخرى لوالده.

أما رحلة الفتى حسن بطل 'البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو' عبر شوارع القاهرة فتبدو ظاهريًّا بحثًا عن طريقة لإنقاذ كلبه رامبو من مصير دموي محتوم. لكن خلف المشاعر الأبوية الجارفة لحسن تُجاه رامبو ومحاولاته الجسورة لعدم خذلانه، يتكشف جرح عميق تركه هروب والده من حياته في طفولته دون تفسير. فكأن حسن يحاول من خلال علاقته برامبو تقديم نموذجًا للأب قائمًا على الحماية والمسؤولية في مقابل خذلان أبيه.

في فيلم 'ضي' لكريم الشناوي، تأخذ رحلة الفتى ضي من أسوان إلى القاهرة أبعادًا تتجاوز تحقيق حلمه في الغناء. ضي، الفتى الأمهق، يعاني من نبذ مجتمعي بسبب اختلافه، ويواجه شكوكًا دائمة بشأن استحقاقه لأي نجاح. لكن جرحه الأعمق يعود إلى انسحاب والده عند ولادته، هربًا من "وصمة" إنجاب ابن مختلف.

في رحلته الشاقة، يصحب ضي أمه زينب وأخته ومعلمته، ليصبح الطريق مساحة لمواجهة الذات. بدعم النساء الثلاث، يحاول تجاوز خذلان الأب وإثبات قيمته لعالم لم يمنحه فرصة للانتماء. هذه الرحلة لا تعيد صياغة استحقاق ضي فحسب، بل تقدم نموذجًا جديدًا للذكورة، يعتمد على مواجهة الواقع بشجاعة مستندة إلى قوة النساء في حياته.

في فيلم 'شرق 12' لهالة القوصي، يندرج عبده، بطل الفيلم، ضمن أبناء الخذلان الذين يعيدون البحث عن ذواتهم في مواجهة إرث السلطة الأبوية. عبده، الشاب المتمرد الذي يعيش داخل مستعمرة تحكمها سلطة مطلقة يجسدها "الأب" المستبد ونجم الاستعراض، يطمح إلى عالم أفضل خارج الأسوار التي تحيط به. في هذا العالم الأسطوري الذي يبدو خارج حدود الزمان والمكان، يواجه عبده ليس فقط قمع الحاكم، بل أيضًا محاولاته المستمرة لتكرار هيمنته الذكورية في جيل جديد، وكأن الأب يرفض السماح له بالتمرد أو بناء هوية مستقلة.

تُبرز حكاية عبده فكرة محورية حول طبيعة السلطة الأبوية، وهي أنها لا تعيش إلا من خلال إعادة إنتاج نفسها. فالسلطة التي يمثلها الحاكم/الأب في الفيلم تسعى دائمًا إلى فرض نموذجها على الجيل الجديد، بما يضمن استمرارها وبقاء سيطرتها. في هذا السياق، تصبح رحلة عبده في رفض هذه الهيمنة، ومحاولته بناء هوية مختلفة، ليست مجرد فعل تمرد فردي، بل محاولة لكسر دورة السيطرة التي تعتمد على التكرار وإعادة إنتاج نفسها عبر الأجيال.

ورغم الغياب الجسدي للآباء، فإن حضورهم في حياة أبنائهم يظل محصورًا في أشرطة الكاسيت التي تحمل أصواتهم. تلك الأصوات التي تبدو عذبة ومؤثرة في ظاهرها، لا تتجاوز كونها كلمات تُثير النوستالجيا لنموذج أب غائب، حاضر فقط في خيال المستمع. هذه الأشرطة لا تقدم إجابات بقدر ما تفتح أبوابًا لأسئلة مؤلمة حول أسباب الخذلان، وقد تتحول في بعض الأحيان إلى أداة للتمرد على هذا الوهم الذي تخلقه.

في فيلم 'أبو زعبل 89'، يحتفظ بسام بمجموعة من أشرطة الكاسيت التي أرسلها والده من منفاه الاختياري، كحد أدنى من التواصل معه. بينما يعيد حسن، بطل 'رامبو'، مرارًا وتكرارًا الاستماع إلى أشرطة الطفولة التي سجلها والده قبل أن ينسحب من حياته. تلك الرسائل الصوتية، رغم جمالها الظاهري، تُبقي على تساؤلات بلا إجابات حول معنى الأبوة، وكأنها مقطوعات رثاء لظل السلطة الأبوية الآخذة في التلاشي، ما يدفع الأبطال إلى التأمل في نماذج جديدة تعيد تعريف الواقع والمجتمع وموقعهم فيه.

أما عبده، بطل فيلم 'شرق 12'، فيتخذ مسارًا مختلفًا تمامًا مع أشرطة الكاسيت. فبدلًا من الاحتفاظ بها كذكرى أو وسيلة تواصل، يستخدمها لتفكيك كلمات الحاكم وتحويلها إلى أداة للتحرر. يسجلها، ثم يعيد إنتاجها بتشويه متعمد لكلماتها ومعانيها، في فعل رمزي يعبر عن تمرده على السلطة الأبوية، فكأنه يثبت تمكنه من تقديم نموذج مختلف، أو يؤدي بروفات تمهيدية للحظة الخلاص.

سلطة البقاء: نساء تعيد تشكيل القيادة

وفي مقابل انسحاب الأب الذي يسكن جهاز التسجيل، تتمسك الأمهات بالبقاء، ليصبح البيت فضاءً لإعادة تشكيل القيادة ورمزًا للتحرر من التصورات الأبوية النمطية التي اعتادت استخدامه كقيد للنساء. ورغم تنوع الانتماء الطبقي والاجتماعي والجغرافي للأمهات، فإنه لا يتم تصويرهن كتابعات أو سنيدات للأبطال الذكور/الأبناء، بل كنموذج ومثل أعلى يمتلك هوية واضحة وعابرة للأدوار. لا يظهر تأثير الأم هنا في البطل الابن من خلال التصور التقليدي للأدوار الجندرية في الأسرة، التي تقسم الأدوار بين الأم كنموذج للحنان والرعاية مقابل الأب كنموذج للسلطة. على العكس، تظهر الأمهات في هذه الأفلام كنماذج مكتملة مستقلة بذاتها وملهمة، تتشكل هويتهن من نضالاتهن المستمرة في الدفاع عن حقهن في اتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية، ومن ثم لا يسقطن في خطيئة إعادة إنتاج النموذج الذكوري لسلطة الأب في أبنائهن.

فردوس، الأم في فيلم 'أبو زعبل 89'، تقرر التشبث ببيت حلوان بوعي وجسارة، رغم قرار زوجها الناشط السياسي، فور خروجه من المعتقل، ترك كل شيء وراءه، بما في ذلك الزوجة والابن، ليبدأ حياة جديدة بعيدًا. بالنسبة إلى فردوس، البيت ليس مجرد ملجأ آمن لتربية الابن أو وسيلة للتشبث بالماضي، بل هو تعبير عن رغبتها الواعية في الحفاظ على هويتها وخياراتها المستقلة. هذا القرار يمنحها مكانة مميزة في نظر ابنها بسام، الذي يرى فيها شخصية مؤثرة وملهمة. يتحول "بيت فردوس" بذلك إلى رمز لكينونة هذه المرأة، التي تتحدى أطر "السلطة الأبوية" وتطرح تصورًا جديدًا للقيادة، لا يعيد إنتاج تلك السلطة التقليدية.

يتذكر بسام مرتضى، مخرج وبطل فيلم 'أبو زعبل 89'، زيارته الأولى في سن الخامسة لوالده محمود المعتقل في سجن أبو زعبل، بينما كانت آثار المداهمة الأمنية التي رافقت اعتقاله لا تزال محفورة في ذاكرته. يقول بسام: "كانت تجربتي مليئة بعدم الفهم. لكن في السنوات التي تلت ذلك، تملكني شعور بالغضب والاستياء." وعندما أُطلق سراح الأب أخيرًا من السجن، بدا كشخص مختلف تمامًا. سرعان ما قرر الرحيل إلى فيينا، تاركًا خلفه بسام وفردوس والنضال، وهو ما عمّق شعور الابن بالاغتراب.

يصف بسام علاقته بوالده بأنها معقدة: "لطالما شعرت أنه خاننا عندما تركني، وترك أمي، وترك النضال". ومع ذلك، ومع مرور الوقت، بدأ بسام يشعر بتعاطف أكبر مع والده، ما جعله يعيد النظر في غضبه، ولكنه ولّد داخله إحساسًا متزايدًا بالذنب تجاه أمه فردوس.

وإذا كانت فردوس في 'أبو زعبل 89' تعكس قوة الأم المتشبثة بهويتها، فإن زينب في 'ضي' تجسد النسخة الريفية لهذه القوة، حيث تتحدى مجتمعها وتعيد صياغة صورة الأم الملهمة. زينب تقود الأسرة منفردة في ظل غياب الأب، لتصبح الداعم الأساسي والأهم لابنها المختلف، مانحةً إياه شعورًا بوجود من يؤمن به، وسط مجتمع ينبذه ويعاديه بعنف. رغم قوة زينب واستقلالها بمقاييس قريتها الفقيرة في الجنوب، فإنها تحمل أيضًا كثيرًا من القيم التقليدية المحافظة والذكورية لمجتمعها.

رحلة زينب من الجنوب إلى العاصمة لدعم حلم ابنها ضي تتحول إلى مختبر للإرادة. تشاركها التحديات والأحلام أخت ضي ومعلمته، فتكتسبن وعيًا جديدًا وأصيلًا بقوتهن ودورهن، ما يعيد تشكيل رؤيتهن لأنفسهن ولموقعهن في الحياة. هذا التحول يمتد تأثيره إلى ضي، حيث يمنحه دعمهن المشترك الثقة لمواجهة العالم، وشجاعة للتصالح مع ذاته والتغلب على الوصم الاجتماعي الذي لطالما أثقل كاهله.

لا يقدم الفيلم شخصيات نسائية هامشية أو ثابتة، ولا يصورهن كضحايا خاضعات أو أبطال خارقين، بل كنماذج مرنة، حيوية، ومنفتحة على التغيير. هذه الشخصيات تتطور من خلال التجربة وتصبح مصدر إلهام بفضل قدرتها على التكيف ومواجهة التحديات بجرأة وإصرار.

"كما في 'ضي'، تُجسد الأم في 'البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو' قوة محورية تواجه الخذلان بشجاعة. ألطاف، الأم الوحيدة التي تنتمي إلى حي شعبي فقير في القاهرة، تخوض رحلتها دفاعًا عن البيت بالتوازي مع رحلة ابنها حسن لحماية كلبه رامبو من الخطر. يتحمل كل من ألطاف وحسن عبء غياب الأب الذي انسحب من حياتهم بلا تفسير، حيث يتبادلان الدعم ويتشاركان الأدوار في مواجهة قسوة العالم من حولهم. ومثل فردوس في 'أبو زعبل 89'، تقدم ألطاف نموذجًا مختلفًا للقيادة، لا يعيد إنتاج السلطة الأبوية، بل يعتمد على الشراكة والدعم المتبادل ليصبحا نموذجًا لعلاقة غير نمطية تعيد تشكيل مفهوم الأسرة.

حسن، الابن الشاب الذي تطارده مشاعر القلق والخوف من أن يصبح نسخة ثانية من والده الذي تخلى عنه، يمثل نموذجًا مغايرًا للذكورة، ذكورة تركز في الحماية والمسؤولية، لا الهيمنة والسيطرة. في المقابل، يمثل كارم الجار البلطجي نموذجًا عنيفًا للذكورة التي ترى في القوة المطلقة والهيمنة على الآخرين دليلًا على الرجولة، حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب الجرائم.

يعبر خالد منصور، مخرج الفيلم، عن رؤيته لجيله ومدينته من خلال عالم وشخصيات 'رامبو'. يقول منصور: "رامبو ليس فيلمًا عن العنف ضد الكلاب، بل عن علاقتي وعلاقة جيلي بالمجتمع. تلك العلاقة المتناقضة التي تجمع بين الحب الشديد والخوف المغلف بالكراهية. حيث نشعر بأننا دائمًا مطاردون في مدينتنا مثل الكلاب الضالة، لكننا لا نعرف أي ملاذ آخر ننتمي إليه."

على غرار 'البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو'، حيث تتحول علاقة حسن بكلبه رامبو إلى مساحة لإعادة تعريف الذكورة، نجد في 'شرق 12' أن الفن نفسه يصبح ساحة للصراع. تلعب جلالة، راوية الحكايات، دورًا محوريًّا، تتحرك فيه بخفة على الخط الفاصل بين كونها أداة بيد السلطة المطلقة التي تُغيِّب وعي مجتمع المستعمرة، وبين كونها أداة للتحرر تحمل بذور التمرد والتغيير. من خلال حكاياتها، تقدم جلالة بارقة أمل تلهم الفتى عبده، بطل الفيلم، في سعيه إلى عالم جديد.

تعكس هذه الثنائيات تساؤلات هالة القوصي، مخرجة الفيلم، حول دور الفن في مواجهة استحقاقات السلطة. تقول هالة، في حوار أجرته القَيمة الفنية والباحثة الهولندية أستريد كوربورال: 'عندما بدأت التفكير في الفيلم لأول مرة، سألت نفسي: لماذا أنا هنا؟ العالم الآن ليس مكانًا جيدًا جدًّا. فكرت في أن تأثير ما نقوم به كفنانين محدود، إلى درجة تصل بنا إلى التفكير في الفن على أنه فقط أمر غير ضار. صحيح أننا لسنا في خدمة الدولة، ولسنا متورطين في صناعة البروباجاندا. لكن يظل هناك هاجس بأنه، من خلال الاستمرار في إنتاج هذه المنتجات "غير الضارة"، فإننا ندعم الوضع القائم بطريقة ما.'

وتشير هالة إلى أن الفيلم ينبع من دافع ذاتي يتناول العلاقة بين الأجيال، كما يتجسد في العلاقة بين الفتى المتمرد عبده ونجم الاستعراض شوقي، الذي يمثل الحاكم/الأب. وتضيف: 'أربي ابنًا يقترب من عمر عبده. صوت الشباب في أعمالي يمثل حامل شعلة المستقبل. يتعلق الأمر بإعادة اكتشاف معنى أن تكون شابًّا، ولكن من خلال عينيه. أعتقد أننا لا نُقدّر الشباب بما يكفي، على الرغم من أن أعظم الأحداث في التاريخ وقعت بسبب طاقتهم الجامحة التي لا تضع العواقب في الحسبان."

الاقتراب من حافة المعجزة

وبينما يتشارك في هذه الأفلام الأربعة الأبطال من الرجال والنساء أدوارًا محورية تسعى إلى كسر التصورات النمطية الذكورية لسلطة الأب، وتتناول المرأة النموذج بصورة مغايرة، فإن 'رفعت عيني للسما' إخراج ندى رياض، وأيمن الأمير، و'سنو وايت' للمخرجة تغريد أبو الحسن يتخذان اتجاهًا أكثر راديكالية في التركيز في نموذج المرأة في مواجهة المفاهيم المهيمنة في المجتمع.

'سنو وايت' يقدم نموذجًا متطرفًا لاستبدال سلطة الأب الذكر بإحلال امرأة لا تنطبق عليها الشروط التقليدية للأنثى المقبولة اجتماعيًّا في دور قيادة الأسرة. إيمان، بطلة الفيلم، فتاة بطول استثنائي يبلغ 125 سم، ما يجعلها في نظر المجتمع خصمًا مستهدفًا للنبذ والتمييز. رغم ذلك، تتحمل إيمان مسؤولية الوالدين الراحلين، وتصبح الراعية والموجهة لأختها الصغرى التي لا تشاركها نفس قصر القامة.

لا يظهر رجال العائلة إلا كظلال باهتة، متخلين عن أدوارهم الاجتماعية التقليدية حتى في اللحظات الحاسمة. وفي العمل الحكومي الذي يشكل جزءًا من عالمها، تواجه إيمان قمعًا ممنهجًا من رئيسها الفاسد، لكنها تنتصر عليه بحسم وقوة. يضع الفيلم المشاهدين أمام مرآة أنفسهم، ليعيدوا التفكير في جوهر الاختلاف وعلاقته بالإنسانية. واقعيًّا لا تختلف إيمان عن زينب، وألطاف، وفردوس وجلالة في الأفلام المشار إليها سابقًا، غير أنها تبدو وكأنها تمثل خيارًا أكثر تطرفًا في التعبير عن المرأة النموذج الملهم في مواجهة هشاشة النموذج النمطي لسلطة الأب/الذكر المكتسبة.

إيمان، بطلة 'سنو وايت'، مثل شخصيات 'رفعت عيني للسما'، تقف عند حافة تحقيق "المعجزة". بينما تواجه إيمان تحديات نابعة من اختلافها الجسدي والنظرة المجتمعية، تعبر فتيات 'رفعت عيني للسما' عن مقاومة جماعية للنظام المجتمعي المهيمن. في قرية البرشا بالصعيد، تختار سبع فتيات تكوين فرقة مسرحية للتعبير عن أحلامهن، متحديات قيود المجتمع الصارمة. وكما تتحول حكايات جلالة في 'شرق 12' رغم رغبة الحاكم إلى أداة للتغيير، تصبح حكايات فتيات 'رفعت عيني للسما' صرخة ضد الصمت المفروض عليهن.

في الفيلم، يظهر الرجال كعقبات أو دعم ثانوي، لكن حضور الفتيات يطغى على أدوارهم. ورغم التحديات التي تواجهها الفتيات، يجسدن نموذجًا ملهمًا يمتد تأثيره إلى بنات أخريات في القرية.

ندى رياض وأيمن الأمير، مخرجا 'رفعت عيني للسما'، يدركان تمامًا أهمية الدور الذي تلعبه بطلات الفيلم في مواجهة السلطة الأبوية. يقول أيمن: "بطلات الفيلم يحاولن توسيع الحدود من خلال خلق مساحة تعبير فنية. في مصر، الفن يتركز في القاهرة والإسكندرية. لكن ماجدة، هايدي، ومونيكا يمثلن جيلًا من الفنانات الشابات اللواتي يسعين إلى الإبداع دون الحاجة إلى مغادرة مدنهن الصغيرة."

وصَفتْ ندى لقاءها الأول معهن بأنه كان أشبه بمعجزة: "لقد خلقن لأنفسهن مجتمعًا يحررهن من الأدوار المفروضة عليهن." ومع ذلك، لم تكن محاولاتهن في مواجهة التحديات بعيدة عن وطأة الواقع الضاغط وغير العادل. تقول ندى: "النظام الأبوي لا يعمل فقط بالعنف الجسدي، بل أيضًا بالتلاعب وتغيير العقول. يمكن للنظام الأبوي أن يتجسد في الحب ذاته."

ورغم كل شيء، يواجه الفيلم حقيقة مؤلمة. تقول ندى: "لا يمكننا اختلاق نهاية سعيدة. بعض الفتيات اضطررن إلى الاختفاء، وهذا هو ما يفعله النظام الأبوي بالنساء: يجعلهن يختفين. توثيق هذا الواقع كان ضرورة أخلاقية."

السينما كأداة للتغيير

في حوار مع مجلة Feminist Review 2012، تشير عالمة الاجتماع النسوية الأسترالية راوين كونيل إلى أن مكافحة العنف ضد المرأة تبدأ بتوثيق ونشر تجارب حقيقية لرجال يتبنون أنماطًا مغايرة للذكورة السائدة. تقول كونيل: "علينا أن نُظهر أن الفكرة القائلة بأنه إذا لم تكن عنيفًا فلا يمكنك أن تكون رجلًا، هي فكرة خاطئة. هناك أشكال أخرى من الرجولة لا تعتمد على العنف أو الصدام، وهي جديرة بالانتشار والتبني."

من هذا المنظور، يمكننا أن نقرأ الأفلام الستة كجزء من مشروع سينمائي يسعى إلى إعادة النظر في الأنماط الاجتماعية الراسخة. هذه الأفلام لا تقدم مجرد حكايات فردية، بل تنسج معًا كولاجًا من التأملات والمراجعات التي تتناول الذكورة، الأدوار الاجتماعية، السلطة الأبوية، والهوية، مع تسليط الضوء على موقع النساء في المجتمع. الخيط الرابط بين هذه الأفلام هو جرأة صناعها في تقديم تصورات بديلة، ووعيهم المتزايد بدور السينما كأداة للتغيير والتحرر من القوالب الراسخة.

تشير لورا مولفي، في مقدمة مقالتها "المتعة البصرية والسينما الروائية" 1999، إلى أن السينما ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل هي نظام معقد يعكس القيم الاجتماعية ويعيد تشكيل الوعي البصري. فالتحولات التكنولوجية أسهمت في ظهور السينما البديلة، التي تعمل على تحدي الأنماط التقليدية للسينما السائدة. تقول مولفي: "تتيح السينما البديلة تقديم رؤى أكثر راديكالية، سياسيًّا وجماليًّا، وتسعى إلى مواجهة القواعد الراسخة التي شكّلت عماد السينما التقليدية."

الأفلام الطليعية، بحسب مولفي، تحمل رؤى سياسية وجمالية جديدة، لكنها لا يمكن أن تكون جزءًا من التيار السائد، بل توجد كبديل يعيد صياغة الواقع من موقع مختلف. في هذا السياق، تشكل الأفلام الستة رؤية طليعية للسينما المصرية المستقلة، تفتح المجال لإعادة التفكير في قضايا مجتمعية عميقة، وتؤكد أن السينما ليست فقط أداة للتعبير، بل أيضًا أداة للتغيير. السينما المستقلة ليست مجرد وسيلة لرواية الحكايات، بل هي دعوة صريحة للتأمل والتغيير، حيث يمكن للأفلام أن تكون نقطة انطلاق لإعادة تشكيل مفاهيمنا المجتمعية، ومساءلة الأنماط السائدة، واستبدال بها نماذج أكثر إنسانية وعدالة.

روابط الصور والفيديو:

فيلم "ضي"

https://www.youtube.com/watch?v=16HJgIdoYkw&ab_channel=RedSeaInternationalFilmFestival

https://fms.redseafilmfest.com/files_secured/films/14472/files/Day%202.jpg

https://fms.redseafilmfest.com/files_secured/films/14472/files/Daye%201.jpg

فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"

https://www.youtube.com/watch?v=gCcgByV_kiw&ab_channel=FilmClinic

https://fms.redseafilmfest.com/files_secured/films/11896/files/02.jpg

https://fms.redseafilmfest.com/files_secured/films/11896/files/FINAL%20EN%20copy.jpg

فيلم "شرق 12"

https://www.youtube.com/watch?v=EyXabPZTogg&t=8s&ab_channel=RedSeaInternationalFilmFestival

https://fms.redseafilmfest.com/files_secured/films/10442/files/EoN-still-300dpi-240415-01.jpg

https://fms.redseafilmfest.com/files_secured/films/10442/files/poster%2007-05-2024.jpeg

https://www.quinzaine-cineastes.fr/en/film/east-of-noon

فيلم "سنو وايت"

https://www.youtube.com/watch?v=yhz03J-xJ_4&ab_channel=RedSeaInternationalFilmFestival

https://fms.redseafilmfest.com/files_secured/films/12036/files/Mannequins.png

https://fms.redseafilmfest.com/files_secured/films/12036/files/SelectionLogo%20Snow%20White.jpg

فيلم "رفعت عيني للسما"

https://www.youtube.com/watch?v=x-DVKKdMvAE&ab_channel=FeluccaFilms

https://www.youtube.com/watch?v=WlyBPhwmQms&ab_channel=FeluccaFilms

https://www.semainedelacritique.com/en/edition/2024/movie/les-filles-du-nil

https://drive.google.com/file/d/1NRw1BsFQU1MJ4qN4R4M2Aywzp4t2O0LV/view?usp=sharing

https://drive.google.com/file/d/1r1sbvDr-KJM7SikBDgX-EVGba3m7XecR/view?usp=sharing

https://drive.google.com/file/d/1DgfK2HiM1ZI-b07wguju1EZfv6y8OHni/view?usp=sharing

فيلم "أبو زعبل 89"

https://www.youtube.com/watch?v=DJ1ZdfrxVeQ&ab_channel=IDFA

https://drive.google.com/file/d/1RuhurQnRKUuxMzZgjTsJyPMC6q71oNmx/view?usp=sharing

https://drive.google.com/file/d/13_veCrWIfTumOAl-bgUCYCfd8t_owV9-/view?usp=sharing

https://drive.google.com/file/d/1-mmISj4Gx2c8gvGk2P11Pcpk_M8D_R0t/view?usp=sharing