مراجعات

رياض حمّادي

الواقعية والغرائبية في رواية منفستو الديك النوبي

2018.10.01

مساءلات نقديّة: علم الاجتماع كما يراه فالرشتاين اليوم؟

طالما لجأت الرواية العربية الحديثة إلى السحر وخوارق الطبيعة عنصرًا أساسيًّا في الحبكة. لا يعني هذا بالضرورة إغراقها في الفضاءات الوهمية على نحو مطلق أوقطعها كل علاقة بالواقع.نذكر من الروايات التي استخدمت هذا النوع من الحكي على سبيل المثال روايات سليم بركات «أرواح هندسية»، و«فقهاء الظلام» و«الأختام والسديم».  والغرائبية جانب أساسي في أعمال الروائي الكردي السوري بركات، والبعد الواقعي السحري إحدى سمات روايات الطيب صالح. ومن الروايات العربية التي تعتمد بنيتها السردية على الغرائبية رواية فرانكشتاين في بغدادللروائي العراقي أحمد سعداوي، ورواية طائر أزرق نادر يحلق معي للروائي المغربي يوسف فاضل، ونجدها في أعمال اليمني محمد مثنىفي روايته مدينة المياه المعلقة، ورواية الواحد لليمني طلال قاسم، ورواية حشرات الذاكرة لجمال حسن، ورواية ضريح أبي للروائي المصري طارق إمام، كما نجدها في أعمال الروائي المصري أشرف الخمايسي؛ منافي الرب وانحراف حاد وضارب الطبل، وغيرهاكثيرًا من الروايات العربية.

سمات الغرائبية وأهدافها

تُعرف الغرائبيةبأنها تقنيةتخييلية، أو «طريقة في الحكي يمتزج فيها الواقعي باللاواقعي والطبيعي باللاطبيعي عن طريق تركيب احتمالين خارجيين، الأول عقلي والآخر لاعقلي، بمعنى استثمار ما هو علمي، وما هو ميثولوجي». وتُعرِّف إرينبسييرالفانتازيا بقولها إنه «ينبني على المفارقة والتناقض وبسط انسجام لغوي أسلوبي.» في حين يعرفها تودوروف بأنها «تردد كائن لا يعرف سوى القوانين الطبيعية أمام حادث له صبغة فوق طبيعية».  الفانتازياعند روجي كايوا هي «فوضى وتمزيق ناجم عن اقتحام لما هو مخالف للمألوف، وتقريبًا غير المحتمل، في العالم الحقيقي المألوف.. إنه قطيعة للانسجام الكوني، إنه المستحيل الآتي إلى الفجأة»().

الشرط وجواب الشرط في الخطاب الروائي الغرائبي يشكلان معادلة، حيث الشرط هو الحدث الفوق طبيعي، وجوابه إما التفسير العقلي أو الفوق طبيعي. وفقًالتودوروف فالقارئ والحدث ونهايته «عاملان في تحديد فانتاستيكية العمل الروائي، فإذا انتهت الرواية إلى تفسير طبيعي، فإنها تنتمي إلى الأدب الغرائبي، بعد حدوث أحداث ذات بعد فوق طبيعي، لكنها تجد لها حلًا طبيعيًّا». أما العجائبي فهو حدوث أحداث وبروز ظواهر غير طبيعية، مثل تكلم الحيوانات ونوم أهل الكهف لزمن طويل، والطيران في السماء أو المشي فوق الماء، هذه الأحداث تنتهي بتفسير فوق طبيعي ().

التفسير المتعدد والمفتوح سمة من سمات الخطاب الفانتازي، وهو تعدد ينتقل إلى مرحلة أعلى هو التأويل، وفي هذا المستوى يمكن تقديم تأويلات تتصادم فيما بينها، «فكل المحكيات الفانتاستيكية تتكون من مجموعة أفعال غامضة تؤول إلى تفسير كما يمكن ألا تؤول إليه، فتظل غامضة تخفي أسرارها وعالمها الداخلي الخاص بها». والهدف الأدبي في الرواية الغرائبية»لا يجيب، بالضرورة عن أسئلة علمية بأجوبة علمية ولكنه مفتوح، وهي سمة الرواية عمومًا والتي لا تقدم أجوبة للمجتمع بقدر ما هي رؤية يُنظر منها إلى الواقع.» أو كما يقول جان بول سارتر بأن «جوهر الفانتاستيك أن يعطي صورة مقلوبة لاتحاد الروح بالجسد».

عالممنفستو الديك النوبي

تتسمرواية منفستو الديك النوبي، للروائي السودانيعبدالعزيز بركة ساكن،بالمفارقة وبعث الحيرة والشك عن طريق إبراز ما هو فوق طبيعي،وتوظيف دور ما هو طبيعي بهدف الإيهام. في مقارنة ضمنية بين نموذجين أخلاقيين تسرد الرواية قصة أسرتين مع الفقر، أسرة فتح الله فراج وأسرة جاره وصديقه جبريل كيري. أسرة فتح الله مثال لعدم القناعة وتعليق الإخفاق على شماعة الفقر ولمحاولة كسب المال بطرق سريعة غير مشروعة، وأسرة جبريل مثال على الكفاح والكسب المشروع. وفي خلفية القصص الاجتماعية ثمة دولة ينخر فيها الفساد. كل ذلك مُقدم بقالب غرائبي وواقعية سحرية تتميز بها روايات ساكن.

وجهان للفقر

تتكون أسرة فتح الله من زوجته (نصرة) وابنتهالمراهقة (ميرم) وابنهالشاب (السر). وتتكون أسرة جبريل من زوجته (ملكة الدار) وابنته (رشا) وابنتين توأم. الوضع المادي لعائلة جبريل أفضل قياسًا لأسرة فتح الله.لكن بعد محاربة الحكومةلمهنة الجِزارة التي يحترفها جبريل تتساوى الأسرتان في الفقر.إغلاق الحكومة لمصادر الكسب المشروعقاد فتح الله وجبريل للبحث عن لقمة العيش بوسيلة غير مشروعة هي التنقيب عن ذهب الموتى في المقابر.

صفقة الشيطان

نقطة التحول بين الواقعية والغرائبية نجدها في عقد فتح الله اتفاقًاغامضًا مع ديك نوبي يبيض ذهبًا. يقضي الاتفاقأن يختار فتح الله إما الديك أو الفقر،يختار فتح الله الديك، معتقدًا أن المال يجلب الحياة والسعادة وإذا بالثراء غير المشروع يأتي مصحوبًابالتعاسة والموت. عند هذه النقطة يتقاطع التقدم والانهيار، يصعد فتح الله ماديًّا ويسقط أخلاقيًّا، ويحدث العكس مع عائلة صديقه جبريل الذي يموتمسمومًابسبب خاتمين ذهبيينابتلعهما وهو في القبر في أول عملية لهما.

فقدان الأسرة لعائلها أدى لخسارة نفسية، لكن أخلاقها الراسخة لم تتأثر سلبًا حتى بعد حصول الأسرة على الخاتمين وعلى بيضتين ذهبيتينوضعهما فتح الله خفية في بيت جبريل. دلالة ذلك أن المال زائل والأصل هي المبادئ التي نشأت عليها الأسرة،إضافة إلى العائد المادي القليل من عمل الأم في مقهاها الصغير تحت الشجرة، ومن عمل رشا الحر في تصفيف الشعر في أوقات الفراغ. في المقابل تنحدر أسرة فتح الله أخلاقيًّا، ودخول المال في حياتها لم يكن إلا عاملًا مساعدًا. فالثراء المفاجئ حرم فتح الله من النوم وأدخله في كوابيس متواصلة تسببت في موته في آخر المطاف.وللمال دور سلبي في تغيير الضمير،هذا ما حدث لضمير نصرة حين أنبها في البداية؛ فالديك الذي باض لهم ذهبًا هو مِلكُ جارهم جبريل. لكن المال سيتدخل عبر حيل العقل التبريري ليقترح تعويض عائلة المرحوم جبريل بالمالبعد استثماره في السوق. تقول نصرة»إن مالهم سلفيَّة مستردَّة ستعيدها إليهم مليمًا مليمًا، وحنديهم زيادة عليها مليون مليونين بإذن الله» (الرواية).

المال يغير نظرتنا إلى الأخلاق وإلى الأحكام المتعلقة بها. هذا ما حدث لنصرة حين حكى لها زوجها فتح الله عن العلاقة الجنسية بين ابنتهما ميرم وابن عمها أحمد زكي. «قال لها الحقيقة كاملةً وبكلِّ تفاصيلها التي لا تحبُّها، وتخشاها، بل وترعبها جدًّا». لكن نصرة «لم تقل شيئًا، تنفست بصعوبة، أعطته ظهرها، وبعد لحظاتٍ وعلى غير العادة: عَلا شخيرها.» (الرواية) وتشير عبارة «على غير العادة» إلى ما كان لنصرة أن تفعله في الماضي القريب، عندما كانوا فقراء.

وجهان لحواء

الفوارق بين الأسرتينتتضح أكثر في شخصية رشا وميرم. استطاعت رشا على الرغم من الفقر أن تواصل دراستها الجامعيةوتدرس الهندسة المدنية. أما ميرمفتوقفت عن التعليم،على الرغم من أن «كل المعلمين والمعلمات بالمدرسة الابتدائية والثانوية كانوا يتوقَّعون لها مستقبلًا باهرًا في التعليم، إلا إن الفقر أوقفها عن مواصلة الدراسة». والسبب الحقيقيأن ميرم»لم تقاوم مطلقًا، بل استكانت لوضعها الجديد، وسمعت كلام والدتها، بأنه ليس التعليم هو كلُّ شيء، والفقر قد يمنعكِ من أن تفعلي ما تحلمين به» (الرواية).

يتضح هذا الفارق بعد ثراء الأسرة. تعرض نصرة على ابنتها إكمال تعليمها فترفض مفضلة الزواج. وفي ذلك دلالة على أن الطموح وليس الفقر هو الفارق بين الفتاتين.كما أن ميرم تكره التعليم بسببحقدها على رشا التي واصلتتعليمهاوبسبب «القوة الإيجابية والطاقة الكبيرة لدى رشا،لذا غالبًا ما كانت لا تحبِّذ الاقتراب منها كثيرًا» (الرواية). وتُلمح الرواية إلى دور التعليم والثقافة في بلورة شخصية رشا الإيجابية مقارنة بشخصية ميرم السلبية. ففي حالة رشا أمكن للتعليم والثقافة أن يقهرا المال. «كانت رشا تعلم تمامًا أن الخاتمين هما إرثٌ ثقافيٌّ قوميٌّ لا يُستهان به، وأن التصرَّف فيهما ببيعهما يعتبر جريمةً أخلاقيةً وإنسانية، وأنها لن تقوم ببيعهما، على الرغم من الفقر الذي تعاني منه أسرتها، وهي أيضًا لن تسلِّمهما إلى أية جهة حكومية، لأنها تخشى من أن يصبحا ضحيةً لفسادٍ وإفسادٍ منظَّمَين» (الرواية). في المقابل نجد ميرم وقد تغيرت رائحة عرقها إلى العطور الباذخة، ويظهرالبذخ في غرفتها وفي رفضها العيش مع زوجها في منزله المتواضع الذي يملكه من حر ماله.

علاقة ميرم بحبيبها أحمد زكي اتخذت طابعًاجنسيًّا منذ البداية، بينما علاقة رشا بصديقها الكاتب أدومة اتخذت طابعًامختلفًافبالنظر إلى الجسد من منظور ثقافي وفني. خوف رشا من الجنس يعود إلى الطفولة،لكن الذي منع صديقها من إغوائها أو الضعف أمام جسدها الفاتن وهي عارية هو المستوى الثقافي الذي يعتبرالجنس علاقة بين طرفين لا من طرف واحد هو الرجل.  ويكشف موقف الأب من ابنته الفارق الأخلاقي بين فتح الله وجبريل. شاهد فتح الله ابنته ميرم وهي تمارس الجنس مع أحمد زكي، قبل زواجهما، لكنه لم يقل لها شيئًا،أخبر زوجته، وفي ذلك دلالة على ضعف شخصيته.بينما يوصي جبريل ابنته رشا قبل موته بأن تحافظ على نفسها وشرفها.»صورة والدها... ووصيته لها قبل وفاته بيومٍ أن تعتني بأختيها وأمها، وأن تحافظ على نفسها وشرفها، كانت ترنُّ في أذنيها»(الرواية).

تتسم المرأة في الرواية بشخصية قوية، فهيتعرف ماذاتريد، ولا تخضع لسلطة الذكر أو الدين.تلك الشخصية نجدها في نصرة التي تخطط لاستثمار المال بدلًا عن زوجها، وملكة الدار التي تخرج للعمل بعد موت زوجها، ورشا التي تكافح في عملها وجامعتها ومجتمعها،وميرمالتي تصر على اختياراتها حتى لو كانت سلبية. صورة المرأة القوية نجدها أيضًا في صديقتها سهى؛ رشا نموذج للمرأة التي تختار الطريق الصعب، على الرغم من أن جمالها يمنحها فرصة كسب المال بطرق سهلة. استطاعت رشا توفير مصاريف المواصلات وتغطية حاجياتها الصغيرة ومتطلبات التوأم اليومية من خلال عملها في أوقات فراغها بتمشيط الطالبات ورسم الحناء. وقد «عجزت كلُّ قوَّادات الجامعة الماكرات عن أن يجررنها إلى وحل الغواية» (الرواية). تستمد رشا مثابرتها من أصلها ومن ثقافتها،كما أنها تريد أن «تجرِّب حظَّها في عمل يديها، وتجد متعةً بالغةً وهي تقاوم الفقر بهذه الطريقة الخشنة، وساعدتها كثيرًا قراءة الروايات والقصص في توسيع إدراكها بالحياة، كانت دائمًا ما تجد نفسها في البطلات الفقيرات، وكيف أنهنَّ يعشن الحياة مستثمراتٍ فقرهنَّ ذاته بتحويله إلى ثروةٍ ضاربة» (الرواية).

يظهر التأثير الإيجابي للوالدين والتعليم والثقافة في شخصية رشا، وغياب هذه العوامل له تأثير سلبي على شخصية ميرم. الثقة التي تمتعت بها رشا من قبل والديها لم تجدها ميرم التي دفعتهارقابة الأم إلى إدمان «المحادثات الطويلة عبر التليفون، وسكايب Skype، ومشاهدة الأفلام الجنسية التي تتداولها طالبات الفصل الأكبر سنًّا. تعلَّمت الاستمناء الذاتي... دخَّنت السجائر مع الطالبات في الحمامات والحفلات المباحة التي تنظِّمها المدرسة، وتستغلُّها الفتيات في نزقهن... في غرفتها لا تلبس شيئًا على جسدها» (الرواية). لكن الرقابة ليست السبب الرئيسي في تشكيل شخصية ميرم، فهناك الفراغ، إضافة إلى فارق جوهري هو أن «ثقافتها ثقافة مشاهَدةٍ واستماع، أمَّا القراءة، فهي أمرٌ ثقيلٌ لا تحبِّذه ولا تميل إليه. هي مغرمةٌ بالصورة والصوت وهذان لا يتوفَّران في الكتاب» (الرواية).

ويظهر أثر التعليم في تكوين الشخصيات من خلال شخصية فتح الله الضعيفة؛ لأنه أُميّ، مقابل الشخصية القياديةلزوجته التي تعرف القراءة والكتابة والحساب،مما جعلها تتولى إدارة تجارة زوجها بعد وفاته.بعد موت جبريل تبحث(ملكة الدار) عن عمل ولو خادمة في البيوت،ثم تفتح مقهى تحت الشجرة إلى جوار بقية الفقراء المكافحين مثل عم عبدالرحيم الحلاق وأونور الحداد وغيرهم من العمال الذين يحاولون العيش على الرغم من محاربة الحكومة لهم ولمهنهم الشريفة.

غرائبية الموت والميلاد

بحسب زمن السرد القصة تبدأ بموت فتح الله على نحو غرائبي، فتجعله وسطًا بين الموت والحياة. والوصف الغرائبي لميلاده يوحي بأن أمه جنية، فبحسب زمن القصة يولد فتح الله من أم غامضة لم يعلم عنها شيئًا. كانت تنام مع أبيه في الليل وتنصرف دون أن يعرفهويتها، وبعد تسعة أشهر جاءته وهي تحملفتح الله ورحلت. وما بين ولادة فتح الله وموته احتوت الرواية على أحداث غرائبية أخرى:

الفرس الذهبي الضخم الذي خرج من النفق، بكاء الجبل، صفات الرجل الميت في مغارة جبل (عضو الكلب) التي تجمع بين النقيضين فهو ميت والحي الوحيد، «لا يأكل ولا يشرب ولا يُخرج ولا يتنفس ولا ينمو ولا يصغر ولا يبكي ولا يضحك ولا يتألم ولا يفرح، ولكنه الفاعل الأول للعمل الإنسانيِّ على وجه الأرض...إنه صاحب الأرض، صاحب باطن الأرض أيضًا، الذي تنتهشون لحمه وتشربون دمه كلَّ يوم، وهو صاحب السماء وباطن السماء» (الرواية).

وحين يصف بحث الجدود عن الصورة المادية للرب يعثرون على الشيطان، فتتماهى صفات الرجل الميت مع صفاتالربوالشيطان،فيعرفون الرب بأنه»الشيطان منذ اللحظة التي عثروا عليه فيها، ولو أنهم ما كانوا يعرفون ما الفرق بين الربِّ والشيطان» (الرواية). تتماهى هذه الصفات مع صفات الديك حين يصف نفسه قائلًا: «أنا لستُ كالجنِّ ولستُ كالشيطان.لستُ كالرب.ولستُ كالعبد.لأنني الجنُّ والشيطان والربُّ والعبد، أنا الملك والمملوك والملكة» (الرواية).

مثال آخر للغرائبية نجده في شخصية المرأة العجوز (أجاك)، فهي «يهودية، ومسيحية، ومسلمة، ولا دين لها أيضًا. ويُقال إنها ماتت أكثر من مرة في القرية ذاتها، وفي بيتها ذاته، ولا يُستبعد أن تموت مرةً أخرى في أيِّ وقتٍ كان، في البيت ذاته، أو في مكانٍ آخر لا يدري به أحدٌ...يظنُّ البعض أنها هي ذاتها الجدة، وجدة الجدة، والأم أيضًا، والبنت التي ستكون في المستقبل وتقيم في ذات المكان، وبنتُ البنتِ والسلالة القادمة من نساءٍ غريباتٍ حكيماتٍ ومرعباتٍ سيُقِمْن في القُطية ذاتها... أسنانَها ناصعةَ البياض الجميلة الساحرة. على الرغم من سنوات الصعوط والتوباكو الكثيرات التي عبرت فمها، ظلَّت الأسنان كما خلقلها الله لها أوَّل مرةٍ في تاريخ لا يستطيع أيٌّ كان تخمينه، وربما يكون قد انمحى من دفاتر الرحمن نتيجةً لتكالب الأزمان عليه» (الرواية).

تقنيات السرد

هذه الرواية الرابعة التي أقرأها لساكن، وفيها يعطي للشكل والتجريب أهمية كبيرة ينتج عنه تنوع المواضيع وتقنيات السرد. الانشغال بالشكل مصدره مفهوم ساكن للرواية، فهي في تعريفه: «ليست حكاية وإنما فن كتابة الحكاية». وأهم ما يعتمده في هذا الفن هو التجريب والغرائبية، دون أن يخل ذلك بالمضامين الواقعية.

يستثمر الكاتب في هذه الرواية قصة فاوست وعهده مع الشيطان، ولعنة الفراعنة، ويعرض كل ما سبق من قضايا بأسلوب يمزج الواقعية بغرائبيةلا تخلو منالتهكموالفكاهة.يستهل السرد هذا المزج بالتشكيك في موت فتح الله،ثم في حقيقة ولادته، ثم حينيسردقصة الديك،متسائلًا»ما قصة هذا الديك الغريب؟ الديك الذي يبيض ذهبًا؟ أهو شيطان؟وهل حدث هذا الاتفاق فعلًا أم هي الكوابيس؟» (الرواية).

ركز السرد على تقنية الاستباق،فبدأ بموت فتح الله، وإخبار القارئ ببعض الأحداث القادمة، مثل: الإشارة إلى سبب طلاق السر وسهى قبل الإعلان عن زواجهما، وقصة زواج تابان ورشا، في مفارقة دالة جعلت زواجهما «في اليوم الذي حدث فيه انفصال جنوب السودان عن شماله، وإعلانه دولة مستقلة» (الرواية).

ويتدخل الروائي بين الراوي والقارئ فيُنَظِّم عملية السرد جاعلًا من نفسه شخصية لها تاريخ غرائبي شبيهبميلاد فتح الله. فبعد سرد حكاية ميلاد فتح الله، يتدخل صوت الروائي قائلًا»ربما الراوي يريد أن يقول لنا، إنه ليست ﻟفتح الله فراج أُم، وهذا ليس بالغريب؛ آدم أبو البشر ليس له أم، كما في الأسطورة الإغريقية إن «زيوس» أنجب «أثينا» من رأسه بدون أم. أمَّا في واقع البشرية الحديثة، فجدي (أنا الروائي) اسمه «برمرجيل»، حيث تتكون الكلمة من كلمتين «برم» و«رجل»، وتعني في أسرتنا الشخص الذي تمَّ إنجابه عن طريق بَرْمِ رجل أبيه؛ يعني أن أباه هو الذي أنجبه بعدما حمل به في رجله اليُسرى، وظهر الحمل مثل ورمٍ ضخمٍ أشبه بداء الفيل، وعندما تمَّ بَرْمُ الرِّجل انشقَّت وخرج منها الجدُّ الكبير الذي أُطلق عليه «برمرجيل»؛ فليس غريبًا أن ينجب «فتح الله فراج» ابنه «فتح الله» من خيالات ما قبل النوم!» (الرواية).

كيف أصبحت غنيًّا – فتح الله وأنطوان

أثر المال في التحولات الاجتماعية والأخلاقية نكتشفه عند مقارنة شخصية فتح الله فراج في رواية (منفستو الديك النوبي) لعبدالعزيز بركة ساكن، وشخصية أنطوان في رواية (كيف أصبحت غبيًّا) للفرنسي مارتن باج. ما يجمع بين الشخصيتين هو السهولة التي يحصلان بها على المال. في رواية باج يفوز أنطوان بصفقة مالية ضخمة نتيجة اندلاق كوب قهوة على لوحة المفاتيح. تتكرر الحادثة مرتين في دلالة تستبعد دور المصادفة وتشير إلى طبيعة الاقتصاد الرأسمالي. وفي رواية ساكن يحصل فتح الله على المال من خلال ديك يبيض ذهبًا، وهو يبيض عدة مرات، في دلالة على طبيعة الفساد المستشري في الدول الفقيرة.

وفي الحالتين لا يحتاج المرء إلى الذكاء. فالهوة بين المال والذكاء، كما جاء في رواية ساكن «لا تردمها سوى معرفة القراءة والكتابة والحساب». بعدها يصبح الطريق سالكًا فتُغلق دائرة العلاقة بين المال والذكاء. والمال،كما جاء على لسان السارد، «يُعلِّم الإنسان التفكير» في المال، والمال يولد المال كما يقول المثل. وهذا ما فعله فتح الله عبر صفقات الفساد مع الجيش التي يلعب فيها الجنرال، أخو زوجته، دور الوسيط.

ويصف أنطوان الذكاء قائلًا «كون المرء مثقفًا مزية. ولكن هذه كذبة: الذكاء عاهة... أعتقد كون المرء ذكيًّا أسوأ من أن يكون أحمقًا، لأن الشخص الأحمق لا يفهم، في حين أن الشخص الذكيّ، وإن كان متواضعًا ووضيعًا، مرغم على ذلك... للمسيحيين منذ نعومة أظفارهم الفرصة ليُحذروا من خطر الذكاء؛ وبالتالي سيُجيدون طيلة حياتهم اجتنابه، ويكونون سعداء بسذاجتهم. إن الذين يعتقدون أن للذكاء شيءٌ من النبالة ليس لديهم بالتأكيد ما يكفي منه ليدركوا أنه ليس سوى لعنة... الذكاء هو إخفاق في الارتقاء» (الرواية56).

يعاني أنطوان من لعنة العقل فهو ذكي ويفرط في التفكير ويسعي للفهم، خجول ولديه قليل من الأصدقاء. ولأن مجتمعه الاستهلاكي يرى في الذكاء عيبًا ومدعاة للفقر، قرر أن يعيش على طريقتهمالموصوفة في عنوان الرواية ومضمونها بالغباء. يبدأ بتناول الكحول، ولأنه لم يكن قد مس قطرة من الكحول، يصاب بتسمم كبدي. فشله في أن يصبح سكيرًا يدفعه للانتحار. لكن تجارب الانتحار الفاشلة تجعله يتخلى عن الفكرة فيذهب إلى طبيب نفسي يصف له دواء يجعله في حالة خدر. يقابل صديقه القديم رافائيل ويلتحق بالعمل في شركته التي كان لأنطوان الفضل في فكرة تأسيسها قديمًا. وفي رواية ساكن ينظر المجتمع السوداني إلى الفقر على أنه عيب، وهو ما جعل فتح الله يفكر بوسيلة للخلاص من الفقر وهذا ما تحقق عن طريق عهد عقده مع الديك ليبيض له ذهبًا. عهدٌ يذكرنا باتفاق فاوست مع الشيطان.

دخول المال في حياة أنطوان جعله يملأ شقته وبراده بأشياء لا يحتاجها. وكذلك تغير حال فرج الله الذي انتقل إلى حي الأثرياء واشترى فيلا بدورين وأصبح «يستأجر عربة (أمجاد) أو يستقل تاكسي في تجواله، لأن مواصلات (زقلونا) المزعجة المزدحمة دائمًا تضيِّع وقته، وقد تعرضه للَّصوص والنشالين، لا يدري كيف كان يتحمَّل في الماضي أيام العوز والفقر اللعينين والوقوف في باب الحافلة العجوز معلَّقًا مثل ديكٍ على الحبل، يمسك بوعاء البيض بيدٍ والأخرى على باب الحافلة، ويقبض على طرف جلبابه بأسنانه حتى لا يتمزَّق من الزحام» (الرواية).

ما يجمع بين أنطوان وفتح الله هو انتقالهما للعيش وسط المجتمع الاستهلاكي. والفارق بينهما أن التحول في حياة أنطوان أتى بقرار واعٍ منه، بينما تحوُّل فرج الله أتى صدفة. ولهذا التحول أثر سلبي سيظهر على السطح من خلال الجشع الذي لا يتورع عن ارتكاب الجرائم، كما في رواية ساكن. ومن خلال ثقافة الاستهلاك كما في رواية باج. لكن تدَخُّل أصدقاء انطوان في النهاية ينقذه من الغرق في المستنقع الاستهلاكي. بينما تفشل الشعوذة في إنقاذ فتح الله من «داء الديك» الذي استفحل وظهرت أعراضه على كثيرين، في دلالة على أن فتح الله ليس سوى مثال على ظاهرة فساد اجتماعية واقتصادية وسياسية.

تتضمن الطرق السحرية في الثراء الفاحش تلميحات إلى طبيعة اقتصاد السوق، حيث تلعب الحرب، في رواية ساكن، والرأسماليةالمتوحشة، في رواية باج، دورًا رئيسيًّا في إفقار دول ومجتمعات وثراء دول وأفراد، فتتسع الهوة بين الأثرياء والفقراء. في هذا السياق تقدم السينما هذه الظاهرة من خلال فيلمين مقتبسين عن قصتين واقعيتين. فيلم (The Wolf of Wallstreet) 2013، وفيلم (The Big Short) 2015. الفيلمان يعرضان قصة صعود فردين من قاع المجتمع إلى قمته بحيل اقتصادية، أو ثغرات، توفرها طبيعة الاقتصاد الرأسمالي والفساد المستشري في كثير من الدول الفقيرة، وهي طرق لا تختلف كثيرًا عن الطريقة السحرية التي حصل بها أنطوان وفتح الله على المال.

الهوامش

1 نقلًا عن د. شعيب حليفي: شعرية الرواية الفانتاستيكية، ص 24، 25، 29، 31.

2 السابق، ص 50

3 السابق ص 90

4 السابق، 70، 183