دراسات
أحمد صلاح الملااليسار المصري وعبد الناصر 1952-1965
2024.12.14
تصوير آخرون
اليسار المصري وعبد الناصر 1952-1965
حين قامت حركة الجيش في 23 يوليو 1952، اتخذت معظم التنظيمات والتجمعات الشيوعية في مصر موقفًا سلبيًّا إزاءها واعتبرتها انقلابًا "فاشيًّا" رجعيًّا على نمط انقلابات أمريكا اللاتينية، لكن هذا التوجه انطوى على استثناء مهم، حيث اتخذت "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني-حدتو" أكبر التنظيمات الشيوعية، موقفًا إيجابيًّا من حركة الجيش، بسبب اتصالات كوادرها بعديد من ضباط الحركة قبل 23 يوليو واستخدام مطبعتها في طباعة منشورات الضباط الأحرار، إلا أن تفجر قضية عمال كفر الدوار وإعدام العاملين خميس والبقري أحرج موقف حدتو ودعم حجة القوى الشيوعية المناوئة للحركة، وهكذا سادت علاقة باردة بين الشيوعيين وبين حركة الجيش فيما بقي من عام 1952 وطوال عام 1953، زاد من برودها قيام حركة الجيش بحملات اعتقال عديدة في صفوف الشيوعيين في هذه المرحلة وإغلاقها عديدًا من صحفهم ومجلاتهم، خاصة وأن تلك المرحلة تميزت برغبة الحركة في إقامة علاقة طيبة مع الولايات المتحدة، وتميزت كذلك بقوة تأثير الإخوان المسلمين وأفكارهم في الحركة ووضوح ارتباط بعض قياداتهم بهم.
وفي السياق ذاته، كان دخول حركة الجيش في مفاوضات الجلاء مع الإنجليز سببًا جديدًا في تكريس عداء اليسار لها، حيث اعتبر اليسار التفاوض جريمة وطالب بخيار الكفاح المسلح، ومع التوصل لاتفاقية الجلاء عام 1954 هاجم اليسار الثورة واتهمها بالخيانة والتفريط، وفي مواجهة التنازلات التكتيكية المعروفة التي قدمها عبد الناصر للإنجليز في هذه الاتفاقية، طبع الشيوعيون كتيبًا صغيرًا باسم "الجلاء المزيف" تضمن انتقادات عنيفة لها.
لكن سرعان ما غيرت تطورات السنوات التالية مناخ العلاقة بين الطرفين في اتجاه أكثر إيجابية، وكانت البداية هي مشاركة عبد الناصر في مؤتمر "باندونج" ثم عقده صفقة السلاح "التشيكية" في عام 1955، فهاتان الخطوتان الكبيرتان قد أثارتا موجة حماس شعبي عارم، ولقيتا ترحيبًا كبيرًا من قوى اليسار المصري التي اعتبرتهما نقطة تحول أساسية في مسار السياسة المصرية، دون أن ينفي هذا استمرار تقييم بعض تلك القوى لهذه التطورات بنظرتها السلبية السابقة لعبد الناصر ونظامه.
وكان التطور الحاسم في هذا المسار الإيجابي للعلاقة، هو تأميم عبد الناصر قناة السويس في يوليو 1956 ثم مواجهته العدوان الثلاثي في أكتوبر-نوفمبر من العام نفسه، حيث قاد هذا التطور اليسار المصري للاعتراف النهائي بعبد الناصر كزعيم وطني تقدمي معادٍ للاستعمار، خاصة أنه ترافق مع انفتاح كبير من جانب عبد الناصر تجاه اليسار بإفراجه عن المعتقلين الشيوعيين وسماحه لهم بمشاركة واسعة في تنظيم وقيادة المقاومة الشعبية ضد العدوان، وهو ما أسس لمرحلة من التحالف الموضوعي بين الطرفين استمرت حتى منتصف عام 1958.
وقد تكرست حالة التحالف الموضوعي تلك عام 1957 على المستوى الاقتصادي، حين بدأ عبد الناصر في ذلك العام إجراءات "تمصير" عديد من الشركات والبنوك الأجنبية العاملة في مصر ونقل إدارتها للدولة، وهو ما اقترن بتوجه قوي ظهر في السنة نفسها نحو تخطيط الاقتصاد، نتج منه إنشاء "المؤسسة الاقتصادية" و"المجلس الأعلى للتخطيط القومي"، ما كان يعني دخول التخطيط الاقتصادي لأول مرة ضمن رؤية القائمين على الحكم في مصر.
كما تمظهرت حالة التحالف الموضوعي تلك من خلال الصحافة أيضًا، ففي أجواء المصالحة مع الماركسيين بعد تأميم القناة، قرر عبد الناصر السماح لهم بمنبر صحفي علني يعبرون من خلاله عن أفكارهم ضمن مؤسساته وضمن الحدود التي يسمح هو بها -وكان أول هذه الحدود أن يكون هذا المنبر "مسائيًّا" للحد من تأثير وانتشار طروحات اليسار- وهكذا بدأت تجربة جريدة "المساء" التي صدرت في نوفمبر 1956 برئاسة تحرير خالد محيي الدين، وخلال تجربتها القصيرة كمنبر لليسار كانت المساء "مصنع التفكير الإيديولوجي" في مصر، حيث شارك فيها الشيوعيون والتقدميون والليبراليون، ونشر فيها الماركسيون المصريون أبحاثًا ودراسات جادة حللوا فيها أوضاع المجتمع المصري وقدموا الحلول لمشاكله.
وبالنظر إلى كونها جريدة مسائية، فقد حققت المساء نجاحًا لافتًا، حيث وصل توزيعها إلى أرقام فلكية بمعايير ذلك الوقت تجاوزت الـ 50 ألف نسخة يوميًّا، وقد شرح الأستاذ "لطفي الخولي" الذي كان ضمن الطاقم اليساري لمحرري المساء، طبيعة إدراك القائمين عليها لالتباسات العلاقة المعقدة بين عبد الناصر واليسار، فقال إنه مع تجربة المساء "عثرنا على مفتاح لإمكانية التحاور والاختلاف مع النظام ولكيفية أن نصوغ هذا الاختلاف على نحوٍ لا يستفزه، لكن دون تنازل عن المبادئ والقيم الأساسية"، مؤكدًا أن هذه العملية كانت صعبة "إذ كان عبد الناصر يتصل بخالد يوميًّا تقريبًا ويحدثه عن التقارير التي تأتيه ضد المساء وما يدور فيها".
ولعل ما ينبغي ملاحظته هنا، هو أن محاولة العثور على صيغة للحوار مع النظام ضمن السقف المتاح، والاختلاف معه دون الاصطدام به، شكلت بعد ذلك ملمحًا أساسيًّا في كل التجارب الصحفية العلنية التالية لليسار المصري في هذه المرحلة، سواء في صفحة الرأي بجريدة الأهرام أو في مجلة الطليعة، ولا شك أن لهذا الأمر علاقة أساسية بحدود سقف الحرية المتاح في ظل النظام الناصري.
أما على المستوى السياسي، فقد انعكست مرحلة التحالف تلك بين عبد الناصر والشيوعيين على علاقة التنظيمات الشيوعية نفسها بعضها ببعض، فتأييد معظم هذه التنظيمات لسياسة عبد الناصر الوطنية المعادية للاستعمار منذ عام 1955، والذي تأكد بعد تأميم القناة ومواجهة العدوان الثلاثي في العام التالي، قد أثار لديها الرغبة في توحيد نفسها تنظيميًّا، وهكذا وُضعت مسألة التوحيد منذ عام 1955 على نار حامية، خاصة على مستوى التنظيمات الأساسية الثلاثة "حدتو" و"الراية" و"طليعة العمال والفلاحين ع.ف"، وهو ما انتهى بتوحدها في 8 يناير 1958 في إطار "الحزب الشيوعي المصري"، وقد كانت لدى التنظيمات الشيوعية التي أقامت حزب 8 يناير خلافات نظرية وتباينات تكتيكية -وحتى خلافات شخصية- حول قضايا عديدة، وهكذا كان حدوث هذه الوحدة رغم كل ذلك تعبيرًا عن مركزية الموقف من عبد الناصر ونظامه في النقاش الداخلي بين القوى الماركسية.
***
كان قيام الوحدة المصرية السورية في فبراير 1958 بداية لعودة التمايز بين الشيوعيين المصريين وعبد الناصر، بشكل ألقى بظلاله على علاقة التحالف التي كانت قائمة بين الطرفين آنذاك، فالحزب الشيوعي المصري رغم تأييده الوحدة، كان ميالًا إلى وجهة نظر الحزب الشيوعي السوري التي طالبت بأن تكون الوحدة "فيدرالية" لا اندماجية، بشكل يراعي الظروف الموضوعية الخاصة لكلا البلدين، كما أنه تبنى وجهة نظر معارضة لحل الأحزاب في سوريا، الذي كان شرط عبد الناصر الأساسي لقبول الوحدة، لكن هذه التباينات لم تكن ذات تأثير كبير في تلك اللحظة، لأن الحزب سار مع الخط العام في تأييد الوحدة.
إلا أن ما فجر التناقضات بالفعل، أن على مستوى العلاقة مع عبد الناصر أو داخل حزب 8 يناير نفسه، كان قيام ثورة العراق في يوليو 1958 وبداية الصراع بين عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، فتقارب قاسم مع الشيوعيين العراقيين جعل موسكو تمتدحه باعتباره حاكمًا "ديمقراطيًّا" حقيقيًّا، وتم تقديم الثورة العراقية باعتبارها المسرح الأكثر قدرة في العالم العربي -أكثر من الثورة المصرية- على إنجاز تطور سياسي واجتماعي تقدمي، وعلى هذه الخلفية بدأ الشيوعيون المصريون يعتبرون هذه الثورة أكثر "ديمقراطية" من نموذج عبد الناصر، وهو ما أثار حساسية هذا الأخير بشدة.
وقد أدى هذا التمايز الحاد بين الشيوعيين وعبد الناصر إلى خلاف داخل الحزب الشيوعي المصري نفسه، بين رجال "حدتو" الذين رأوا ضرورة استمرار التحالف مع عبد الناصر وعدم استفزازه بشعارات من نوع "زي قاسم يا جمال"، وبين رجال "الراية" و"ع.ف" الذين أيدوا العراق بشكل حماسي ضد عبد الناصر، وقد كانت بداية هذا الخلاف وتصاعده أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى انقسام حزب 8 يناير بخروج مجموعة حدتو منه بعد شهور قليلة من تشكيله.
وفي أجواء الخلاف المصري العراقي والتباين الحاد بين عبد الناصر والشيوعيين المصريين، قام نظام عبد الناصر بحملة اعتقالات طالت عددًا من شباب الحزب الشيوعي المصري في سبتمبر 1958، وطالبت الدولة الشيوعيين بحل الحزب مهددة بسحقهم إذا استمروا في التمسك بالتنظيم المستقل ومؤكدة رفضها لأي تنظيم سياسي خارج الاتحاد القومي، وقد رفض الشيوعيون ذلك العرض بوضوح مؤكدين حقهم في التنظيم، وبلغت المواجهة ذروتها حين شن عبد الناصر في خطبة عيد النصر في بورسعيد في 23 ديسمبر 1958 هجومًا عنيفًا على الشيوعيين وأكد أنهم لا مكان لهم في مصر.
وهكذا، انزلق الجميع نحو الصدام الكبير، وفي فجر أول يناير 1959 شنت قوات الأمن حملة اعتقالات استهدفت قيادات الحزب الشيوعي المصري بجناحيه، وفي 28 مارس شنت السلطة حملة اعتقالات أخرى أوسع بكثير استهدفت المستويات القاعدية في الحركة الشيوعية المصرية كلها، لتبدأ بذلك مرحلة استمرت خمس سنوات من التناقضات والعنف غير المبرر بين عبد الناصر واليسار الماركسي المصري.
وقد كان التوجه اليساري لجريدة "المساء" ضحية لذلك الصدام الكبير أيضًا، فمع اندلاع حركة "عبد الوهاب الشواف" في العراق ضد حكم قاسم في أوائل مارس 1959 -والتي كانت مدعومة من القاهرة- عرضت المساء تطوراتها بشكل تقريري بارد اعتمادًا على وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية ورفضت أن تشارك في الحملة التي شنتها الصحافة المصرية آنذاك ضد الشيوعيين العراقيين، وعندما فشلت الحركة صدر عدد المساء في 11 مارس 1959 معلنًا "انتهاء ثورة الموصل" وعودة الحياة إلى طبيعتها في العراق، فاعتبر عبد الناصر كل ذلك خروجًا على خطه وقرر عزل خالد محيي الدين من رئاسة تحرير المساء، وتم فصل أفراد طاقم تحريرها اليساري واعتقالهم في حملة مارس 1959.
***
خلال المرحلة الأولى من الاعتقال، التي امتدت حتى وفاة شهدي عطية الشافعي تحت التعذيب في يونيو 1960، عومل الشيوعيون المصريون في المعتقلات معاملة بشعة وتعرضوا لأشكال بالغة القسوة من التعذيب، مع أن كثيرين منهم كانوا يقيمون حكم عبد الناصر بشكل إيجابي.
ورغم حدة التعذيب والعنف، فقد اتخذ عبد الناصر في تلك المرحلة بعض الإجراءات التقدمية المهمة التي أنعشت التيار الداعي إلى التقارب معه في الحركة الشيوعية، فدعمه لدور الدولة في الاقتصاد منذ عام 1957 توج بإعلان الخطة الخمسية الأولى، كما تم تأميم بنك مصر والبنك الأهلي في فبراير 1960 بعد أن تأكد الرجل من عدم جدية القطاع الخاص في المساهمة في التنمية، ما مكن الدولة من السيطرة على جانب مهم من قطاع الصناعة الكبيرة.
وقد فتح تأميم البنكين الكبيرين في فبراير 1960 مناقشات إيديولوجية حادة بين الشيوعيين في السجون حول طبيعة النظام، فقيادات الحزب الشيوعي المصري -الراية وع .ف- نظرت إلى ما حدث كإجراء "بورجوازي" يستهدف وضع يد الدولة على مصادر التمويل، مشددة على أن نظام عبد الناصر هو مجرد ممثل لـ"رأسمالية الدولة الاحتكارية"، أما قيادات "الحزب الشيوعي المصري - حدتو" فقد شددت على الطابع الوطني والتقدمي لما حدث معتبرة إياه دليلًا على وجود "مجموعة اشتراكية في قمة السلطة بقيادة عبد الناصر" تمارس نوعًا من "الاشتراكية غير العلمية".
ولم يقتصر ذلك الجدل الأيدولوجي حول طبيعة النظام الناصري على الشيوعيين المصريين وحدهم، بل امتد إلى مراكز التنظير الماركسي في العالم الاشتراكي، وهو ما تجلى في "مؤتمر الأحزاب الشيوعية والعمالية" في موسكو عام 1960، الذي بلور المنظرون السوفييت فيه نظرية "طريق النمو اللارأسمالي للثورات الوطنية الديمقراطية في بلدان العالم الثالث"، وهي النظرية التي اكتمل تبلورها في السنوات الأولى من الستينيات.
***
مع اعتقال الشيوعيين في بداية عام 1959، أدرك النظام الناصري سريعًا أنه وقع في ورطة على مستوى معين، فهو يتخذ إجراءات لتقوية دور الدولة في الاقتصاد ويدعم العلاقات مع دول المعسكر الاشتراكي، لكنه في الوقت نفسه يعادي بقوة الشيوعية المحلية، وهو فوق ذلك يعاني فراغًا أيديولوجيًّا شديدًا، وتحت وطأة هذا الإدراك توصل النظام -ربما بدفع من رئيس تحرير الأهرام والصديق المقرب من عبد الناصر محمد حسنين هيكل- إلى استنتاج مفاده ضرورة إقامة حوار من نوع ما مع المثقفين اليساريين والتقدميين المعتقلين.
وقد كان هيكل نفسه هو من بدأ أول خطوة عملية في مسار الانفتاح على اليساريين المعتقلين، من خلال الصحفي الماركسي المستقل لطفي الخولي، الذي كان يرتبط معه بعلاقة صداقة قديمة، فاستصدر لزوجة الخولي إذنًا خاصًّا لزيارة زوجها في محبسه "بمعتقل العزب" بالفيوم في أغسطس 1959، ثم تدخل بعد شهور لنقله إلى عنبر المعتقلين بمستشفى قصر العيني، وفي ذلك العنبر زار هيكل الخولي، الذي طلب منه التدخل لحل التناقض الثانوي بين الشيوعيين وعبد الناصر حول الديمقراطية، مؤكدًا أنهم يؤيدون سياسته الوطنية المعادية للاستعمار وأن موقف نظامه العدائي منهم غير مبرر، فأخبره هيكل بأنه طرح الموضوع على عبد الناصر وأنه في طريقه للحل.
هنا ينبغي أن نوضح مسألة مهمة، فرغم التباس المصطلحات فإن جوهر الخلاف بين الشيوعيين وعبد الناصر في تلك اللحظة لم يكن فعليًّا حول "الديمقراطية"، وإنما حول ما يمكن تسميته "المشاركة المتكافئة"، أي التحالف مع قبول الحق في التنظيم المستقل.
وضمن ذلك السياق من الانفراج، تم الإفراج عن عدد من الشخصيات الماركسية واليسارية التي لا صلة لها بالتنظيمات الشيوعية خلال أسابيع من تأميم بنك مصر والبنك الأهلي، فغادر المعتقل سعيد خيال ويوسف حلمي ثم لطفي الخولي ولويس عوض وعبد الرازق حسن، وفي لقاء مع هيكل رتبه وحضره لطفي الخولي تم الاتفاق على إنشاء "صفحة الرأي" بجريدة الأهرام وعهد بالإشراف عليها إلى الخولي نفسه، بالتعاون مع مجلس تحرير يضم الدكاترة محمد الخفيف وعبد الرازق حسن ومجدي وهبة وعبد الملك عودة، ثم انضم إليهم فيما بعد ميشيل كامل ولويس عوض، وهكذا أصبح لطفي الخولي ومجموعته من الماركسيين المستقلين -من خلال صفحة الرأي- صوت اليسار المصري داخل المؤسسة الناصرية.
ولا شك أن إصرار عبد الناصر على إدارة حواره مع الشيوعيين من خلال "الماركسيين المستقلين" كان نتيجة شكوكه الدائمة في التنظيمات الشيوعية وفي أي صيغ تنظيمية مستقلة عنه بشكل عام، وفي هذا الإطار يجب الانتباه إلى أن التعاون بين عبد الناصر والماركسيين من خلال "صفحة الرأي" كان في نهاية المطاف تعاونًا تحكمه معادلة قوة محددة، تبقى فيها شروط عبد الناصر بالطبع هي المرعية بحكم كونه الطرف الأقوى.
ولعل الحوار الشهير حول "أزمة المثقفين" الذي استهلت به صفحة الرأي عملها في مارس 1961 كان أوضح تعبير عن طبيعة هذه المعادلة، حيث لم يستطِع لطفي الخولي في مقالاته التي افتتح بها ذلك الحوار أن يناقش السبب الحقيقي لحذر المثقفين وابتعادهم عن التفاعل الجدي مع الثورة وهو الطابع القمعي للنظام وانخفاض سقف الحريات، بل راح يدور حول الموضوع متهمًا المثقفين أنفسهم بالجمود وعدم القدرة على الحركة والانفصال عن الواقع السياسي والاجتماعي، وهو الاتهام الذي طرحته بشكل أكثر صراحة مقالات آخرين ممن شاركوا في هذا الحوار، بشكل اقترب أحيانًا من "جلد الذات".
وفي مقالاته الست التي شارك بها في الحوار -والتي جمعها بعد ذلك في كتابه الشهير "أزمة المثقفين"- حسم هيكل الأمر تمامًا، فاتهم منذ البداية المثقفين بالعزلة والعجز عن إدراك طبيعة النضال الجماهيري ومطالبه، مشددًا على أن "القيادة الثورية" قد تجاوزتهم بنجاحها في التعبير عن مطالب الجماهير، وتأسيسًا على ذلك المنطق الذي يعتبر المثقفين أنفسهم سببًا في الأزمة حدد هيكل ما يريده منهم بالضبط، إن المطلوب ليس مجرد الولاء السياسي، بل الذوبان الكامل للمثقفين في تيار الأفكار التي تطرحها القيادة، لأن "الدور الطبيعي الواجب للمثقفين ليس مجرد أن يتعاونوا مع الثورة وإنما أن يتفاعلوا مع الثورة، أن يتبنوا قضيتها، أن يعطوها من فكرهم نظريتها الوطنية، أن يصوغوا من أعماق ضميرهم وعلمهم عقيدتها الثورية".
ومن الضروري هنا أن نستوعب بوضوح، أن المثقفين المعنيين بحوار الأزمة كانوا تحديدًا "الماركسيين المصريين"، الذين كان يراد منهم مساعدة النظام الناصري في تجاوز ما يعانيه من "فراغ أيديولوجي"، خاصة مع اقتراب إقدامه على خطوات كبرى تتجه يسارًا، ولعل إدراك المثقفين الماركسيين لهذا الأمر هو ما جعل بعضهم -مع استمرار الاعتقال والتوجس إزاء السلطة- يتهمون القائمين على صفحة الرأي بالعمل لحساب النظام ومحاولة استقطاب اليساريين والتقدميين بالاتفاق مع هيكل، في وقت كان هيكل نفسه قد بدأ يتعرض فيه لاتهامات من دوائر في السلطة وأجهزة الأمن بأنه يسعى من خلال صفحة الرأي على تكتيل اليسار حوله "ليصفي حساباته مع علي صبري وآخرين يختلفون معه".
***
بعد أيام قليلة من انتهاء الحوار الذي فجرته "صفحة الرأي" حول أزمة المثقفين، بدأ عبد الناصر انعطافته الكبرى نحو اليسار، فابتداء من 19-23 يوليو 1961 صدرت مجموعة القوانين المعروفة باسم "قوانين يوليو الاشتراكية" التي سيطرت الدولة بمقتضاها على جزء كبير من قطاع الصناعة وعلى مؤسسات المال، واتسع بمقتضاها القطاع العام بشكل كبير، لتوجه هذه القوانين بذلك ضربة شديدة إلى الرأسمالية الكبيرة وتدمر تمامًا بقايا قوة وسلطة كبار ملاك الأرض.
وقد فجرت هذه التأميمات من جديد السجال بين الشيوعيين في المعتقلات، حيث شكلت انتصارًا لمقولة "المجموعة الاشتراكية في السلطة" التي تتبناها "حدتو"، بينما ظلت بقايا "الحزب الشيوعي المصري" متمسكة برؤيتها المتحفظة تجاه النظام وإجراءاته، ومشددة على طابع برجوازي ورأسمالي معين لما حدث، جوهره استمرار علاقات الإنتاج الرأسمالية.
وكان ما حسم الأمر لمصلحة فريق التقارب مع عبد الناصر، هو أنه نتيجة لهذه التأميمات شهدت العلاقات المصرية السوفييتية تحسنًا كبيرًا وتكرست بشكل نهائي في الأوساط الأكاديمية السوفييتية نظرية "طريق النمو اللارأسمالي لأنظمة الديمقراطية الوطنية في العالم الثالث" وفي طليعتها نموذج عبد الناصر.
ودفعت تطورات العامين التاليين نحو مزيد من التقارب، ففي مايو 1962 صدر "ميثاق العمل الوطني" مكرسًا -بلغة ذات إيحاء ماركسي- "الاشتراكية العلمية" باعتبارها "الصيغة الملائمة لإيجاد المنهج الصحيح للتقدم"، ليبدأ بعد ذلك بناء "الاتحاد الاشتراكي العربي" وتنظيمه الطليعي، باعتبارهما معا يشكلان الأداة الملائمة لقيادة "التحول الاشتراكي" في مصر.
وفي هذا المناخ الإيجابي، بدأت الضغوط تزداد على عبد الناصر من عديد من أصدقائه من الزعماء اليساريين بهدف إقناعه بالإفراج عن المعتقلين الشيوعيين، على أساس أنه لا يمكنه بناء الاشتراكية كطريق للتطور مع استمراره في العداء للماركسيين في بلاده، وهو ما قاده في منتصف عام 1963 إلى إعلان نيته الإفراج عنهم في حديث للصحفي الفرنسي إيريك رولو، ويبدو أن ثمة دورًا مهمًّا لعبه كل من هيكل ولطفي الخولي في الوساطة لاستصدار هذا الوعد.
وفي مارس وإبريل 1964 توجت كل هذه التطورات بالإفراج عن المعتقلين الشيوعيين بالفعل، وأُطلق سراح بقيتهم الباقية عشية زيارة خروشوف لمصر في مايو من العام نفسه، وقد كان هذا التطور طبيعيًّا، خاصة بعد أن صار الخط السياسي لكلا التنظيمين الشيوعيين الأساسيين هو التأييد الواضح للنظام ولشخص عبد الناصر، بحيث لم يعد ثمة معنى لاستمرار الاعتقال.
***
بعد الإفراج عن المعتقلين الشيوعيين، حاول بعض المحيطين بعبد الناصر دفعه إلى التحالف معهم والاستفادة من خبراتهم الفكرية والتنظيمية في إنجاز التحول الاشتراكي في مصر، فأصر هو في المقابل على ضرورة حل التنظيمات الشيوعية وانضمام الشيوعيين فرادى إلى الاتحاد الاشتراكي.
وفي هذا السياق، مارس النظام منذ لحظة الإفراج ضغوطًا قوية على قادة التنظيمين الشيوعيين الأساسيين لإقناعهم بفكرة الحل، تراوحت بين الترغيب بالانضمام الواسع إلى الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي والمساهمة من الداخل في بناء الاشتراكية، والترهيب بالعودة إلى المعتقلات من جديد في حال الرفض، وقد استخدم النظام في هذا الضغط بعض الشخصيات اليسارية المستقلة القريبة منه، وهكذا لعبت أسماء، مثل: أحمد حمروش وإبراهيم سعد الدين وميشيل كامل ولطفي الخولي أدوارًا في هذا الإطار.
لكن من الخطأ الجسيم مع ذلك، النظر إلى حل التنظيمات الشيوعية كنتيجة لضغوط عبد الناصر وحدها، فثمة عوامل ذاتية وموضوعية دعت الشيوعيين إلى القبول بالحل في النهاية، ومن أبرز هذه العوامل ما أحس به الشيوعيون من عزلة بعد خروجهم من المعتقلات، فالمجتمع يتغير بالفعل، ومستوى حياة الناس يتحسن، ويزداد إعجابهم بعبد الناصر واشتراكيته دون اهتمام بالتحليلات الماركسية، وقد لخص الدكتور فؤاد مرسي جوهر هذا الإحساس بالعزلة حين أكد أن أكثر ما كان يشغله آنذاك هو شعوره بأن "المجتمع يمكن أن يعيش بدوننا".
وعلى مستوى آخر، كان استقرار نظرية "الطريق اللارأسمالي" في تقييم عبد االناصر وعودة العلاقات المصرية السوفييتية إلى التحسن، عاملًا مهمًّا جعل السوفييت يحسون بأن استمرار وجود تنظيمات شيوعية مصرية قد يصبح سببًا لتعقيدات لا يريدونها في علاقتهم بمصر، ولهذا وسّط السوفييت الحزب الشيوعي الإيطالي للتدخل لدى الشيوعيين المصريين من أجل حل تنظيماتهم.
إلا أن أكثر العوامل تأثيرًا كان حديث عبد الناصر المستمر في تلك اللحظة عن ضرورة "تجمع القوى الاشتراكية"، وحتمية فتح آفاق العمل السياسي أمام العمال والفلاحين، وهو ما وجد انعكاسه العملي -على ما يبدو- في بذل وعود محددة للشيوعيين آنذاك بالدخول فورًا إلى التنظيم الطليعي، بل وأن يصبحوا قادة فيه، مقابل حل تنظيماتهم.
وقد صادفت هذه الوعود هوى في نفوس قطاع كبير من الشيوعيين، حيث كانت تتلاقى مع فكرة تبناها كثير منهم منذ كانوا في المعتقلات حيث تأثرا بنموذج فيديل كاسترو في كوبا، ومفادها تحقيق نوع من الاندماج بين الشيوعيين وبين عبد الناصر في حزب واحد على أساس الماركسية اللينينية، باعتبار أن عبد الناصر يمكن أن يتحول إليها.
وتأسيسًا على كل ما سبق، واستنادًا إلى تبريرات نظرية صدرت في أواخر 1964 من جانب كلا التنظيمين الشيوعيين الأساسيين، وارتكزت على الثقة بقيادة عبد الناصر وجدية "التحول الاشتراكي" الذي يقوده وعلى ضرورة بناء "حزب واحد للثورة" تتوحد داخله كل القوى الاشتراكية، قرر تنظيم "حدتو" إنهاء وجوده التنظيمي المستقل في مارس 1965، ثم تلاه "الحزب الشيوعي المصري" -الراية وع .ف- في إبريل من العام نفسه.