رؤى

راجي مهدي

عبد الناصر ودور الفرد في التاريخ

2024.08.17

مصدر الصورة : ويكيبديا

عبد الناصر ودور الفرد في التاريخ

 

تمثل ذكرى ثورة 23 يوليو مناسبة سنوية لتجديد الجدل بشأن الدور الذي لعبه جمال عبد الناصر في التاريخ المصري، الدور الذي تُختزل فيه ثورة 23 يوليو بكامل أحداثها ومسارها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. عادة ما ينجرف الناصريون إلى فخ ساذج في دفاعهم عن عبد الناصر، فمن جهة يعيدون التأكيد على إبراز دوره الشخصي في صناعة تاريخ تلك الفترة التي يختزلونها في كل ما أنتجته الثورة من إيجابيات، غير أنهم حين ينفتح الحديث عن أخطاء وخطايا المرحلة، فإنهم يلجؤون إلى التشبث بتحليل العوامل والظروف التي دفعت الأحداث وأنتجت الخطايا حيث يغيب الزعيم ويتوارى أو أنه يصبح مغلوبًا على أمره. هذا التعامل الانتقائي لا يفيد القضية التي يدافعون عنها، بل إنه يطرح تساؤلًا عن ماهية تلك القضية، أهي الانتصار لعبد الناصر أم لقضية التحرر الوطني المصري كمسألة تاريخية كان لعبد الناصر جهد أساسي في محاولة حلها.

ليس هذا مقالًا لإعادة سرد قصة ثورة يوليو، ولا محاولة للدفاع عنها كحلقة في النضال المصري للتخلص من التبعية والتخلف بعد قرون من الحكم الأجنبي للبلد. كما لا يحاول هذا المقال إصدار أحكام على عبد الناصر بناءً على النتائج التي أفرزتها الأعوام الثمانية عشر من وجوده على مسرح الحكم في مصر، بل هو محاولة لفتح سجال حول دور عبد الناصر وتموضعه في التاريخ المصري الحديث لا بتعداد مناقبه الشخصية الإيجابي منها والسلبي، لكن محاولة لتحديد موقع عبد الناصر في جملة الظروف الموضوعية والعوامل التي صاغت تلك الفترة والتي كان هو جزءًا منها.

ليس التاريخ صناعة فردية، ولا يتوقف على مصادفات سعيدة أو سيئة فيما يخص مصائر الأوطان، كما أن التطور الاجتماعي لا يسير خبط عشواء، إنه خاضع لقوانين موضوعية ولا يعني هذا القول جبرية التاريخ، وإلا كان المعنى المباشر لهذه الجبرية هو تسليم البشر مصائرهم لجلاديهم والكف عن مقارعتهم، إن التاريخ خاضع لحتمية القانون الموضوعي التي تعني أن توافر عدة احتمالات يتوقف تحقق إحداها على توافر شروط تاريخية معينة.

ولنحاول تبسيط الموضوع، فإن قرارًا كتأميم قناة السويس هو قرار توفرت الظروف الموضوعية لنجاحه، وهي ظروف الموقف الدولي المتمثلة في تراجع الاستعمارين البريطاني والفرنسي لصالح الاستعمار الأمريكي الطامح إلى الحلول محل بريطانيا وفرنسا في مناطق نفوذهما التاريخي، وصعود الاتحاد السوفييتي كقطب مناوئ للقوى الاستعمارية، أي إن سمة هذا العصر كانت إعادة تشكيل النظام الاستعماري الدولي، وصعود كتلة مناوئة للمنظومة الاستعمارية تُحد من حرية حركتها، بينما كانت المنطقة تشهد غليانًا ثوريًّا يتمثل في صعود حركات التحرر في الجزائر وسوريا والعراق. 

على المستوى المحلي انتقل تحالف الحكم من أيدي كبار الملاك الزراعيين والسراي والاحتلال الإنجليزي إلى يد كتلة عسكرية تمثل الطبقة الجديدة الصاعدة التي تسعى إلى تأميم السوق المحلي وتوفير مصادر لتراكم رأس المال داخليًّا تصطدم برفض الاستعمار تمويل السد، وهي كتلة تستند إلى ظهير شعبي يناضل منذ سنوات لطرد الإنجليز والتخلص من حكم السراي وكبار ملاك الأراضي الزراعيين، ما يعني أن هذا الظهير لم يكن ليقبل باستبدال الاستعمار الإنجليزي بالاستعمار الأمريكي ولا بالاستسلام لمظاهر الهيمنة الأجنبية التي ترسخت في مصر على أيدي أسرة محمد علي، ولا بمزيد من الاحتجاز لتطوره الاجتماعي. كانت الظروف الموضوعية ناضجة تمامًا لموجة تأميم المصالح الأجنبية خصوصًا في ظل إحجام البرجوازية المصرية الكبيرة عن المشاركة في تنمية مخططة. تلك الظروف تعلن عن تحققها من خلال سلطة تمثل طبقة أو تحالفًا طبقيًّا ممثلة في فرد كان هو جمال عبد الناصر. إن إعلان التأميم كان تعبيرًا عن مجمل هذه الظروف التي حتمت التأميم، ليس عبد الناصر هو خالق ظروف التأميم وقراره، لكنه كفرد مؤهل، التقط الحلقة الرئيسية لعصره، التقط اتجاه التطور الموضوعي وكان معبرًا عنه -بشكل جيد أو ردئ- ليست تلك هي المسألة. فالتأميم في عصر هيمنة القطب الاستعماري الأوحد كان لينتهي بهزيمة محققة، برغم أنه الحق التاريخي للشعب المصري. 

على غرار التأميم في إمكاننا تعداد كل قرارات يوليو الكبيرة، وشرح تحقق الشروط الموضوعية من عدمه، إلا أننا سوف نكتفي هنا بمثال آخر -سلبي هذه المرة- لقضية الشروط الموضوعية. في 1958 أعلن عبد الناصر وشكري القوتلي تأسيس الجمهورية العربية المتحدة عبر وحدة اندماجية بين مصر وسوريا، والتي انتهت في 1961 بالتفكك. تلك حالة حاولت فيها إرادة الفرد ممثل تحالف الحكم لي عنق الواقع الموضوعي، حالة فشل فيها هذا التحالف وعبد الناصر على رأسه في التقاط تحقق الشروط الموضوعية للوحدة من عدمه، أو أنه كان منذ البدء يدرك عدم توفرها غير أنه قرر تجاهل مؤشرات عديدة تؤكد أن التفاوت في التطور الاجتماعي بين البلدين لا يعوضه الحماس الشعبي الجارف، وأن الشكل الاندماجي للوحدة لم يكن ملائمًا للظرف التاريخي، ليس التطور الاجتماعي فقط، بل الهيئات السياسية الراسخة العاملة في سوريا أيضًا لم تكن لتقبل باندماج يعني تصفيتها بما هي هيئات ممثلة لشرائح طبقية مختلفة. إن هذا الجهل أو التجاهل للظروف الموضوعية قد أحال سقوط دولة الوحدة -في التفسير الناصري- إلى المؤامرة، لكن ما هي المؤامرة؟ أليست هي فعل قوى اجتماعية معادية، معروفة ومحددة؟ إن تلك القوى كانت دائمًا موجودة منذ اليوم الأول للوحدة، في سوريا وفي الإقليم، وعداؤها أمر منتظر ومتوقع فكيف بوغت عبد الناصر بمؤامرة توصف بما يوحي أنها ظهرت من العدم؟ إن القوى المعادية هي جزء من حركة الواقع الموضوعي الذي نتعامل معه، تجاهلها هو تجاهل شروط تاريخية محددة تفضي إلى فشل، فشل عاد هيكل ليرده إلى التعجل في إتمام الوحدة وعدم صلاحية الشكل الاندماجي لكن متأخرًا ثلاث سنوات كاملة.

ومثلما تنبع عظمة الفرد من قدرته على التقاط اتجاه التطور التاريخي والتفاعل معه لا على أرضية قدرة الفرد على الإتيان بالأعاجيب، بل الاستجابة الملائمة للشروط التاريخية وما تطرحه من ممكنات، فإن تلك العظمة تهتز بالإخفاق في تقدير الظرف التاريخي، والتفاعل معه بما يرتد سلبًا على الكفاح الوطني. 

إن الهزائم كما الانتصارات، لها شروط موضوعية وذاتية، فثورة يوليو ذاتها -لسنا بصدد بحث التسمية- بالشكل الذي قامت به، كانت شروطها الموضوعية تتشكل منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، التي ما إن انتهت، حتى انفجرت مصر ضد السراي والإنجليز وملاك الأراضي، وحاول الشارع إنتاج قياداته غير أن ظروفًا موضوعية حالت دون ذلك، وكان عبد الناصر هناك، عبد الناصر الذي تشكل هو ذاته كفرد من خلال شروط موضوعية واضحة ومحددة، مرارة استبعاده للمرة الأولى من الكلية الحربية، قمع انتفاضة 1935، حادثة فبراير 1942، هزيمة 1948 وضياع فلسطين، عدم ثقته بالقوى السياسية نتيجة فشلها المتكرر، وعدم ثقته كعسكري بالمدنيين، كل هذا خلق عبد الناصر وغيره من زملائه في الضباط الأحرار، ولكل واحد منهم ظروف تكوين ذاتي أنتجت التباينات بينهم، وأنتجت في عبد الناصر تلك القدرة على المبادرة والاستباق واكتساب مهارات تنظيمية وبلانكية آمن من خلالها بأنه يمكن بمجموعة عالية التنظيم شديدة السرية أن تستغل الغليان الجماهيري وتُحدث انقلابًا اجتماعيًّا. ولم يكن مقدرًا له النجاح مهما كانت إرادته وقدرته إن لم تكن هناك شروط موضوعية محددة، لكن الأكيد أن ناصر لو لم يظهر فإن نفس الشروط كانت ستولد أشخاصًا وهيئات قادرة على التعبير عن اللحظة التاريخية. ليس في هذا أي جبرية كما أسلفت، فإن العامل الذاتي، الفرد، هو شرط ضروري لتحقق الشرط الموضوعي في الفعل، غير أن هذا الفرد يلعب في الحدث دور الفتيل، لا يمكن للفتيل تفجير قنبلة خاوية، بينما يمكن الاستعاضة عن الفتيل بوسيلة تفجير أخرى.

لا يجب أن يوحي هذا التناول المفرد للحظات تاريخية معينة بأن حدود الحدث تنتهي عند ما تنتجه استجابة الفرد سلبًا أو إيجابًا، فتلك الاستجابة التي هي عامل مهم للتحقق التاريخي للحدث، تدخل بدورها في جملة عوامل تشكيل الشروط الموضوعية من جديد، أي تؤثر تلك الاستجابة في إعادة تشكيل الواقع الموضوعي وفق ظروف جديدة وهكذا دواليك في جدلية لا تنتهي، فقرار التأميم أدى إلى هجوم القوى الاستعمارية الذي صلَّب الموقف الشعبي وأنتج ممكنات موضوعية للصمود الذي كان من نتيجته أن أنتج موقفًا دوليًّا متشددًا ضد الدول المعتدية. 

تلك الجدلية التي هي جملة من الشروط الموضوعية والاستجابات هي ما أنتجت ما يُعرف بالحقبة الناصرية. وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد على أن أولوية الظروف الموضوعية في تحديد مجال الحركة لا تلغي أهمية دور الفرد بل تعني أن دور الفرد الذي لا يمكنه لي عنق التاريخ يساهم في صنع التاريخ سواء بالاستجابة أو عدم الاستجابة لشروط التطور. أي إن الفرد فاعل ومفعول به تاريخيًّا، إرادته شرط أساسي ومفصلي وقد يؤدي إلى تغير مجرى الأحداث بتفعيل أحد الاحتمالات التاريخية المطروحة وفق الظروف الموضوعية أو بتفعيل غيرها ما يدفع التاريخ على المدى المتوسط صعودًا أو نكوصًا. وهذه الاستجابة الفردية محكومة بمجموع المصالح الاجتماعية التي يمثلها الفرد، تتسع أو تضيق، وبآليات تمثيلها. ففي الريف كان نير كبار الملاك ثقيلًا على الفلاح المصري، وقد كان الإصلاح الزراعي ضرورة لكسر نفوذ كبار الملاك وسلطانهم الاجتماعي والسياسي، ومع أن حل الثورة كان توزيع الأرض على الفلاحين أي ترسيخ الملكية الخاصة التي لم يكن يعرفها الفلاح المصري حيث ظهرت الملكيات الخاصة في نهاية عهد إسماعيل، هذا الحل لم يكن جبريًّا بمعنى أنه كان في الإمكان نقل الملكيات الكبيرة إلى ملكيات فلاحية جماعية بضربة واحدة، إن تفعيل احتمال دون آخر أدى إلى تفعيل مسار تطور واستبعاد آخر.

إن استخدام هذا المنهج في تحديد دور عبد الناصر التاريخي يساعد على تخليص التاريخ الناصري من النزعة الإرادوية التي تخلع على عبد الناصر صفات تؤدي إلى رهن التاريخ المصري لأفعال المُخلّصين، وترسيخ الاتكالية وكأنه لا بد من عبد الناصر جديد أو شبيه له فيما يخلعه عليه الناصريون من نبوة، بينما عبد الناصر هذا العصر لن يكون شبيهًا لعبد الناصر الذي توفي عام 1970، لأن الظروف الموضوعية حينها تختلف عن ظروف اليوم. كما أن هذا المنهج يؤدي إلى الخروج من فخ الشيطنة التي تمارسها قوى معادية للتغيرات الأساسية التي شهدها المجتمع المصري بعد ثورة يوليو، وتحمل عبد الناصر بشكل موضوعي نصيبه من الأخطاء التي نتجت من سلسلة من الاستجابات للشروط الموضوعية الممكنة في زمنه أنتجت بدورها وضعًا اجتماعيًّا وسياسيًّا قاد إلى هزيمة عسكرية فادحة في 1967.