رؤى
كارولين كاملباربي تحتفل بالأبنودي
2025.09.07
مصدر الصورة : آخرون
باربي تحتفل بالأبنودي
"لأن التأخير أفضل من عدم الوصول"، كليشيه أستعيره دومًا لأبرّر مشاريعي المؤجلة. في الحقيقة، لم يكن التأخير يومًا ضمن عيوبي الكثيرة، بل العكس؛ أصل غالبًا قبل الموعد، فأقع في ورطات صغيرة.
لست أحد المصابين بـ"الكرونوفوبيا"، أي رهاب المستقبل والتأخر في تحقيق المراد، ولكني أقلق طبعًا من الوصول متأخرة، فأعكس عن نفسي انطباعًا خاطئًا بالاستهتار وعدم الالتزام، خاصة في ظل ما يشاع عن تأخر النساء الفطري.
مرة دعيت مع آخرين إلى تناول العشاء في منزل صديق متزوج بأجنبية، ووصلت قبل الموعد بنصف ساعة، ولم تكن المُضيفة قد انتهت من حمامها بعد، واستقبلني الصديق بود بعد أن شعرت بالحرج الشديد، ضحكت زوجته وأخبرتني أن الموعد الحقيقي للقاء سيبدأ بعد ساعة مما اتفقنا عليه، لأن غالبية الحضور مصريون ولن يصل أي منهم في الموعد.
وهكذا جلست بمفردي في غرفة الصالون، أعد الدقائق حتى يصل أحدهم فيشاركني الشعور بالإحراج، لكن صدقت الأجنبية، ووصل الضيف الأول بعد الموعد بنصف ساعة، تسليتُ فيها بالمكسرات والعصير.
وغير بعيد من تلك الحادثة، توقف علي الحجار، في حفله الأخير بدار الأوبرا الخميس الماضي، عن الغناء دقائق، منتظرًا أن يهدأ ضجيج الجمهور المتأخر، الذي سُمح له بالدخول بعد نصف ساعة من بدء الأمسية.
باربي على الشاطئ
بين همهمات الاستراحة، تداول المتأخرون فيما بينهم التبرير بزحام الشوارع في القاهرة، حتى بدا لي أنهم وصلوا حديثًا إلى المحروسة، فاصطدموا فجأة بتكدس شوارعه، وكأنهم لا يعرفون شيئًا عن الوقت المهدر من حياتنا اليومية في الزحام، خاصة ليلة الخميس، حيث تتحول الشوارع إلى مرآب ضخم، لا تتحرك فيه السيارات بسهولة.
كان حفل الحجار، السادس ضمن مشروع "100 سنة غنا"، الذي أطلقته وزارة الثقافة، للاحتفاء بميراث الغناء المصري، بينما خصصت تلك الليلة لأشعار عبد الرحمن الأبنودي، وفي كتيب الحفل، حيث تظهر الأغاني وأسماء الملحنين، يتضح أن علي الحجار ومطربي الأوبرا المشاركين في تلك الليلة، سوف يغنون فقط ما كتبه الأبنودي من أغنيات.
لكن، في أحد الفواصل، صاح عدد لا بأس به من الجمهور، يطالب "علي" بأداء أغنية "عارفة"، وهي من كلمات الشاعر بهاء جاهين، فتجاهل الحجار المطلب، لكن تجاهله لم يثنهم عن إلحاحهم، حتى اضطر في نبرة غاضبة، أن يعيد التأكيد على دوران قرص الشمس، وأن الحفل مخصص كله للأبنودي، ولولا ذلك وحده لما فارق هؤلاء مقاعدهم حتى يغني "مش عارف ليه"!
جهل الجمهور بطبيعة الحفل لا تلام عليه الوزارة، ولكن التجليات البصرية، التي تفنن في إظهارها مخرجه على
يحتفي مشروع "100 سنة غنا" بالشعراء وباللغة العربية، بينما تعكس شاشات العرض مشاهد لشخصيات كارتونية خيالية من موسوعة ديزني لاند، باربي ترتدي ملابس -تخدش حياء الأسرة المصرية- تَستر قليلًا من جسدها، بينما تمسك بيد أشقر ويسيران بخطى رومانسية، في هيئة أقل ما توصف به أنها فعل فاضح في الطريق العام، ويعاقب عليها القانون المصري. قبل أن تنهال عليهما مئات القلوب الحمراء، التي لن تجد مثيلًا لها إلا في شاشات مراكز التسوق في احتفالات عيد الحب.
لم يكن المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية -للأسف- ساحة تعذيب لبطلة أفلام التحريك وصديقها الأشقر على فعلهما، وهو ما أفسد متعة الحفل، وشغلني شخصيًّا بأسئلة، أهمها: من المسؤول عن جريمة كهذه؟!
خسرت جزءًا كبيرًا من استمتاعي بفعل التشتت والغضب!
اللاسلم واللاحرب
وبعيدًا من السخرية، وبغض النظر عن أن شاشات تعكس فسادًا في الذوق، وانفصال تام بين الشق الموسيقي والبصري لمشروع فني يُفترض أنه ضخم ومدعوم من وزارة الثقافة. فإن الليلة كانت تتسع لحدث أخير كي يكتمل طابعها العبثي.
كتب عبد الرحمن الأبنودي "أحلف بسماها وترابها"، وغناها عبد الحليم حافظ لأول مرة في عام 1970، بعد ثلاثة أعوام من نكسة 1967، وهي واحدة من أغانٍ وطنية كثيرة يمكن قراءتها ضمن مشهد أكبر يؤطر واقع هزيمة مُنكرة وحلم باسترداد الأرض وسحق العدو، اللاحرب واللاسلم، لكن مشهد الحفل الختامي كان مُربكًا بالنسبة إليَّ، حيث وزع علم مصر على الجمهور، قبل أن يبدأ الحجار أغنيته، وما إن بدأت الأوركسترا في عزف ألحان كمال الطويل، حتى صارت رفرفة الأعلام مسموعة في القاعة!
غنى عبد الحليم حافظ الأغنية لشحذ الروح المعنوية للشعب المصري ورجال الجيش على الجبهة، ولكن في سهرة غنائية في قاعة مكيفة بدار الأوبرا عام 2025، حيث الحروب والموت والخسائر حاضرة بالفعل لدى دول الجوار، ولكنها بعيدة عن مصر، ما الغرض من استحضار ذكرى الهزيمة؟ ما الحاجة المُلحة إلى شعارات التحفيز التي قضت على حيادية تلك السهرة المعنية بالاحتفاء بالموسيقى والشعر؟
سخر مني البعض لأني صرت سريعة الغضب من أشياء هي في صميم النسيج المصري، ولم تعد جديدة مثل القبح والفساد والمحسوبية التي جاءت بالمسؤول عن إخراج حفل علي الحجار، ليعذبنا بصريًّا بشاشات عرض لا معنى لوجودها، ولم تستخدم حتى بشكل فني مفهوم، وكانت ستارة سوداء لامعة في الخلفية كافية كديكور لسهرة موسيقية تحتفي بأغانٍ قديمة، دون الحاجة إلى هدر موارد وتكاليف إضافية أساءت إلى الحفل وإلى وزارة الثقافة شخصيًّا.
كان علي الحجار كعادته متألقًا وحاضرًا صوتًا وصورة، مقدمًا عددًا من الأصوات المصرية التي شاركته الغناء، وكانت من أجمل ما يكون. وعلى الرغم من أن رضا "العميل" عن الخدمة من عدمه غير مهم في "المحروسة"، فإن علي الحجار ومشروع "100 سنة غنا" كانا يستحقان مشهدًا أفضل، لا تلهو في خلفيته "باربي" وصديقها الأشقر.