غزة تقاوم

محمود هدهود

مولد المقاومة المسلحة في قطاع غزة - الجزء الثاني

2024.01.04

مصدر الصورة : CNN

غزة تقاوم 

مولد المقاومة المسلحة في قطاع غزة - الجزء الثاني

 

تناول الجزء الأول من تلك المقالة مولد المقاومة المسلحة في غزة منذ منتصف الثمانينيات، وإلى ما قبل الانتفاضة الأولى، مع التقاء عدد من الأشخاص الذين كان لديهم الحلم لتحويل المقاومة الفلسطينية المسلحة في الأراضي الفلسطينية من خلايا للعمل الفدائي إلى قوة قتالية مستقرة في قطاع غزة على الأقل.

"الخيال" كان هو العنوان الأهم لتلك المرحلة، فلا أحد كان يمكنه أن يتصور بناء قوة قتالية تقترب من أن تكون جيشًا صغيرًا وصل حجمه نحو ١٥ ألف مقاتل في قطاع غزة، بينما كان القطاع ما زال عمليًّا تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، لكن من الواضح أن خيال الثلاثي: الضيف والغول والجعبري؛ كان واسعًا بما يكفي لتحقيق تلك الطفرة الثورية في بنية العمل المسلح الفلسطيني في قطاع غزة.

باقتراب الانتفاضة الثانية من نهايتها، كانت قد بدأت عملية إعادة تنظيم مقاتلي كتائب القسام في قطاع غزة بين عدد من الألوية يضم كل منها نحو ٥ آلاف مقاتل موزعة على محافظات غزة الخمسة، كما جرى تشكيل مجلس أعلى للكتائب على غرار هيئة أركان القوات المسلحة، وقد برز عدد من قادة تلك الألوية: رائد العطار قائد لواء رفح الذي جرى اغتياله في عام ٢٠١٤، وباسم عيسى قائد لواء غزة الذي جرى اغتياله سنة ٢٠٢١، وأيمن نوفل قائد لواء الوسطى الذي جرى اغتياله قبل أسابيع. أما اليوم فمن أبرز قادة الكتائب: مروان عيسى الذي يعد قائدًا لأركان الكتائب، وعز الدين حداد قائد شعبة العمليات، ورائد سعد قائد لواء غزة، ومحمد السنوار عضو المجلس الأعلى للكتائب.

 العصامية وجدل التكنولوجيا:

 بدأ عدنان الغول مشروعه في توطين التصنيع العسكري بتصنيع القنبلة اليدوية، وكانت طريقته هي محاكاة نماذج أسلحة أمريكية أو روسية، وقد اتجه الغول بعد ذلك إلى تصنيع مضادات الدروع، وقد بدأها بالعبوات المتفجرة؛ وهي عبوات شواظ التي ما زالت الكتائب تستخدمها إلى اليوم ولكن بعد تطويرها، ثم قام بتصنيع صاروخ البنا وقاذف البتار المضادين للدروع، لكنهما لم يُثبِتا نجاحًا كبيرًا، ما دفعه إلى إنتاج قاذف ياسين، وهو نسخة محلية الصنع من القاذف الروسي RPG-7 الذي أثبت فعالية أمام دبابات ميركافا ٣ الإسرائيلية، لكنه فقد أهميته بعد إنتاج دبابة ميركافا ٤ الأكثر تدريعًا، لكن المقاومة الفلسطينية عادت فكشفت عن تطوير قامت به للياسين، أسمته: الياسين ١٠٥ نظرًا لقطر القذيفة الجديدة، وهو نسخة من القذيفة الروسية PG-VR7 التي تَستخدِم حشوة ترادفية؛ أي: حشوتين متفجرتين، الأولى مصممة لفتح درع الدبابة، بينما تنفجر الثانية داخلها. قام الغول كذلك بتطوير الهاون محليًّا.

لم يكن الغول يعمل وحيدًا في وحدة التصنيع العسكري، وإنما عمل معه فيها عدد من المهندسين الشباب الذين التحقوا بالحركة كعماد عباس وتيتو مسعود ونضال فرحات، ويعود للأخيرين الفضل في إطلاق المشروع الصاروخي للمقاومة المسلحة في غزة؛ فقد أنتجا في منتصف عام ٢٠٠١ صاروخ قسام ١ قصير المدى، وقد جرى إطلاقه من قطاع غزة باتجاه مستوطنة سديروت لأول مرة في أكتوبر من عام ٢٠٠١، ثم جرى تطوير نماذج منه أبعد مدى هي القسام ٢ والقسام ٣.

رغم مقتل الغول وفريقه قبل عام ٢٠٠٥، استمر فريق التصنيع العسكري في الحركة في العمل بكامل طاقته، وظهرت فيه كوادر جديدة من المهندسين كوليد شمالي وحازم الخطيب وظافر الشوا، الذين واصلوا مشروع التصنيع العسكري الذي بدأه الغول ومجموعته، وبمرور الوقت، أخذت تنضم إلى المقاومة كوادر من مستويات علمية متقدمة جدًّا، كالدكتور جمال زبدة، أستاذ الهندسة الميكانيكية، الذي درس وعمل في عدد من الجامعات والمؤسسات الأمريكية، كما أخذت المقاومة المسلحة في غزة تسعى إلى تجنيد المهندسين الفلسطينيين النابغين حول العالم؛ كالمهندس فادي البطش أستاذ الهندسة الكهربية المقيم بماليزيا الذي قتلته المخابرات الإسرائيلية سنة ٢٠١٨.

أثمر ذلك طفرة في البرنامج الصاروخي للمقاومة بإنتاج صواريخ أطول مدى؛ كصواريخ مقادمة-٧٥ وجعبري-٨٠ والرنتيسي-١٦٠ وعياش-٢٥٠، أما الثمرة الأكبر فكانت مشروع تطوير الطائرات المسيَّرة، بدأ مشروع الطائرة المسيرة بمبادرة من محمد الزواري، المهندس التونسي الذي التحق بحركة حماس في سوريا أثناء إقامته فيها هربًا من نظام زين العابدين بن علي في تونس، وقد اعتمد الزواري على مشروع كان قد قدمه إليه مهندس عسكري عراقي لإنتاج طائرة مسيرة بدون طيار عام ٢٠٠٦، عمل الزواري بعد ذلك مع مُهندِسي حماس كحازم الخطيب على تطوير إنتاج الطائرات المسيرة لأغراض استخباراتية أولًا ثم قتالية لاحقًا، وسافر الزواري إلى إيران لنقل الخبرة الإيرانية في ذلك الحقل، وبدأ تشغيل المقاومة لتلك الطائرات عام ٢٠١٤ في مهام استطلاعية، نجحت خلالها المقاومة في التحليق فوق وزارة الدفاع الإسرائيلية رغم منظومات الدفاع الجوي شديدة التطور التي تحمي تل أبيب، كما قامت بالتقاط صور لمطار بن جوريون، قبل أن تبدأ المقاومة باستخدام الطائرات المسيرة لشن غارات هجومية في المعركة الجارية في غزة .

أما السلاح الاستراتيجي للمقاومة فهو سلاح الأنفاق؛ تم حفر الأنفاق في البداية جراء الفصل الذي أحدثته اتفاقية كامب ديفيد لأول مرة تاريخيًّا بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية، ويدل على ذلك اكتشاف إسرائيل لأول نفق بهذا الوصف في وقت مبكر جدًّا يعود إلى العام ١٩٨٣، لم تكن لتلك الشبكة أهمية عسكرية تُذكَر إلى اندلاع الانتفاضة الثانية، فمع الانتفاضة الثانية حدث تطوران مهمان؛ هما: بدء استخدام أنفاق رفح كنافذة لا تخضع للحصار الإسرائيلي، فضلًا عن اقتباس فكرة الأنفاق للقيام بعمليات هجومية ضد القوات الإسرائيلية، وكانت أول عملية من هذا النوع هي عملية ترميد العسكرية في يوليو ٢٠٠١، ويلاحظ أن هذه النقطة العسكرية الإسرائيلية كانت تقع على الحدود المصرية؛ مما يدل على أن التجربة ارتبطت في البداية بالتجربة الشعبية في رفح. لاحقًا تحولت الأنفاق إلى استراتيجية شاملة في قطاع غزة يجري استخدامها لأهداف متعددة، كالقيادة والسيطرة على القوات، وتخزين الأسلحة والمعدات، والتحرك بعيدًا عن رقابة العدو وقدراته على الاستطلاع، والأغراض الدفاعية والهجومية كالأكمنة والإغارات .

تضخمت شبكة الأنفاق بمرور الوقت، وتحديدًا منذ عام ٢٠٠٥ بعد الانسحاب الإسرائيلي، وبحلول ٢٠١٢ صار واضحًا أن المقاومة الفلسطينية تستثمر منذ ٢٠٠٥ على نطاق واسع في تأسيس شبكة أنفاق ضخمة تحت قطاع غزة تشكل نقلة للعمل العسكري المقاوم في القطاع، كان هذا الحلم أيضا وليد خيال مقاوم يصعب تصديقه للوهلة الأولى، فعملية حفر الأنفاق تتطلب جهدًا هائلًا من الناحيتين الأمنية والهندسية؛ إذ يجب إخفاء عمليات الحفر والتأسيس عن عيون الاستطلاع الإسرائيلي من جهة، فضلًا عن أن عملية الحفر والتأسيس تتطلب عملًا هندسيًّا مدنيًّا ضخمًا، ثم بعد ذلك يُطرح سؤال صعب عن كيفية التشغيل الهندسي للنفق: معدات تركيز الأكسجين في الأنفاق، وإضاءة الأنفاق وإمدادها بالطاقة وصيانتها، وتوفير ضرورات العيش فيها كشبكات محدودة للصرف الصحي.

يقدِّر كثير من الخبراء امتداد أنفاق غزة على مدى أكثر من ٥٠٠ كم، ويقدرون كذلك عمق الأنفاق بأنه يصل أحيانًا إلى ٣٥ مترًا تحت الأرض، ويزعم آخرون وصولها إلى عمق ٦٠ مترًا تحت الأرض، وهي تحديات هندسية تنم عن مدى التطور الهائل للوحدة الهندسية لدى المقاومة المسلحة في قطاع غزة.

نمَّت تجربة المقاومة في غزة في مساحة التصنيع العسكري عن عدة أمور، الأول: هو التمسك الصارم بالمنهجية العلمية التي تعبر عن ثقافة مقاومة حديثة وشديدة التطور تدفع إلى إعادة النظر في ركام الإنتاج الثقافي العربي الذي ظل على مدى نحو نصف قرن يصم الثقافة العربية بخرافيتها وغيبيتها؛ فقد حاولت المقاومة في غزة أن تلتزم بأحدث التطورات في العلوم العسكرية والتكنولوجية، وأسست لعناصرها برامج دراسية عسكرية أطلقت عليها المقاومة «جامعة فلسطين العسكرية» التزمت بتخريج عناصرها القيادية فيها.

الأمر الثاني الذي تُعبِّر عنه تلك التجربة: هو تمسك المقاومة باستقلالها، فرغم استفادتها من خبرات عربية وإسلامية وعالمية مختلفة ودعم متنوع، فإن المقاومة في غزة اتسمت بطابعها المستقل والعصامي، وحرصها على امتلاك إمكانات قتالية مستقلة، بحيث تضمن القدرة على الصمود ومواصلة رسالتها حال ما إذا حدثت أي تغيرات دولية أو إقليمية أثرت على هذا الدعم الخارجي، أو جعلته سببًا لفرض شروط سياسية لا تقبل بها المقاومة.

أما الأمر أو الدرس الثالث من تلك التجربة؛ فهو الرؤية الجدلية للتاريخ وتطوره. قدمت التكنولوجيا لقوى الهيمنة تفوقًا هائلًا، ويظهر هذا بأوضح ما يمكن في حالة إسرائيل التي تعد من أكثر بلدان العالم تقدمًا في مجال تكنولوجيا المعلومات والصناعات العسكرية، لكن الرؤية الجدلية للتاريخ جعلت المقاومة ترى للتكنولوجيا نفسها وجهًا جدليًّا آخر هو إتاحة فرصة لقوى المقاومة لتطوير أدوات رخيصة؛ لإبطال فعالية التفوق الهائل للخصم أو تقليلها على الأقل، ورفع كلفة الاحتلال والهيمنة على الاحتلال كما كانت هذه مهمة أي مقاومة دومًا عبر التاريخ.

 قرار ٧ أكتوبر:

 

بقي أن نشير إلى تحولات مهمة شهدتها قيادة حركة حماس، أبرز حركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، منذ ٢٠١٣، مع صعود عدد من القادة الذين لعبوا أدوارًا في تأسيس العمل المقاوم في غزة في الثمانينيات قبل أن يدخلوا السجون الإسرائيلية لسنوات طويلة، وخروجهم في ٢٠١١ في إطار صفقة وفاء الأحرار لتبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل، وكان من بين من خرجوا في تلك الصفقة يحيى السنوار وروحي مشتهى وتوفيق أبو نعيم، وكلهم من القيادات الأمنية التاريخية لجهاز "مجد" كما سبقت الإشارة إليه، وسرعان ما صعد هؤلاء في قيادة حركة حماس في قطاع غزة.

سرعان ما استعاد يحيى السنوار نفوذًا واسعًا في غزة مع تولي توفيق أبو نعيم إدارة الأمن في القطاع، وانضمام السنوار ورفيقه روحي مشتهى إلى قيادة الحركة في القطاع، ومع عضوية شقيق السنوار، محمد السنوار، في المجلس الأعلى للكتائب كما سبق أن أشرنا إليه، ومع استعادة الحركة صِلاتها بإيران في ظل إخفاق الثورات العربية التي عوَّلت الحركة عليها للعثور على حلفاء جدد لها، وتراجع نفوذ قائد المكتب السياسي للحركة السابق خالد مشعل، وصعود نفوذ عدد من السجناء السابقين كذلك في تنظيم الضفة الغربية وعلى رأسهم صالح العاروري وزاهر جبارين، كل ذلك أفضى إلى صعود سريع للسنوار انتقل معه من عضوية قيادة الحركة في غزة وتمثيل الجناح العسكري في تلك القيادة، إلى أن يتولى السنوار قيادة الحركة في القطاع سنة ٢٠١٧.

امتلك السنوار خيالًا واسعًا أيضًا تمامًا كما كان محمد الضيف، وظهر ذلك في روايته «شوك وقرنفل» التي كتبها أثناء سجنه، وقد ضاعف السجن من صلابة شخصيته، وهي السمة المعروفة عنه، وسرعان ما حدد سياسته في إدارة الحركة في القطاع بإعطاء الأولوية للعمل العسكري، ومحاولة التخلص من أعباء الإدارة الحكومية للقطاع، وهو ما فشل في تحقيقه رغم محاولته تقديم تنازلات عديدة للسلطة الفلسطينية.

كان صعود السنوار، بما يتمتع به من خيال جامح وقدرة على الاندفاع نحو قرارات صعبة وصِلات عميقة بالكتائب، محركًا على الأرجح نحو خطوة عسكرية طموحة كعملية ٧ أكتوبر، بعد أن وصلت القضية الفلسطينية عمومًا وحركة حماس تحديدًا إلى طريق مسدود باندفاع الدول العربية ليس نحو التطبيع، وإنما نحو إقامة تحالف وثيق ومحور إقليمي مع إسرائيل، قررت حماس أن «تقفز إلى المجهول» كما وصف الخبير الأمريكي ناثان براون عمليتها في السابع من أكتوبر، بعد أن نفدت كل خيارات «المعلوم».