ثقافات
د. كمال مغيثالرقص في الثقافة المصرية
2024.05.18
مصدر الصورة : آخرون
الرقص في الثقافة المصرية
إن الرقص قديم في مصر قِدَم الحضارة المصرية نفسها، وقد وجدت في حفريات ما قبل التاريخ في آثار نقادة ودير تاسا وجرزة وعمرة ومرمدة بني سلامة، أدوات موسيقية متعددة، وتماثيل من الفخار لنساء ثقيلات الصدور والأرداف وهن يرقصن.
وتذخر جدران المعابد والمقابر في ظل حضارة الفراعنة بدولها الثلاث -قديمة، ووسطى، وحديثة- وإن كانت في الحديثة أكثر ثراءً وتنوعًا بالطبع- بمناظر الرقص الذي تصاحبه نحو ثلاث مئة آلة موسيقية ومغنٍّ أو مغنية، أو ممسكات بالصنجات والشخاليل، ومصفقات بالأكف، أو مطرقعات بالأصابع، كما يشير كتاب "وصف مصر" الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية، وتتعدد أشكال وأنواع وأغراض تلك الرقصات، فهناك الرقص الفردي المثير، والرقص الثنائي، والرقص الجماعي، والرقص الطقسي لأغراض دينية، وهناك رقص الرجال أيضًا، وكانت فرق الراقصات تذخر بهن المعابد وقصور الحكام، وكانت لهن معلمات معتبرات، وغالبًا ما كانت الراقصات يكشفن الكثير مما ينبغى أن يُستَر إذا رقصن في محيط من النساء.
الرقص الشعبي
وفي الأصل فإن لغة الجسد Body language"" قد سبقت لغة التعبير والكلام بعشرات القرون، فمن خلالها عرف الإنسان التعبير عن الحب والشوق والرغبة والحنان والخوف وغيرها، وفي تمثيليات المحاكاة السحرية التي كانوا يحاكون بها عمليات الصيد والقنص؛ فإنهم كانوا يرقصون بأجسادهم رجالًا ونساءً رقصات تعبر عن الهجوم والانقضاض والظفر، كما كانت تلك اللغة وسيلة للتعبير عن لوعة الفقد والحزن، وتمتلئ جدران كهوف جنوب الصحراء الغربية بمشاهد تلك الرقصات التعبيرية والسحرية والتمثيلية لهؤلاء البشر الأوائل، الذين كانو يسكنون الهضاب قبل أن يدفعهم عصر الجفاف إلى النزول لوادي النيل منذ نحو عشرة آلاف سنة.
ففي الكهف المسمى "كهف السباحين"، كانت تلك الرقصات ذات طابع سحري تمثيلي، يرتدي فيه بعض الراقصين والراقصات الأقنعة وجلود الحيوانات المختلفة، بينما يمثل الآخرون دور الصيادين، وكأنها تمثيلية لصيد ناجح قربانًا للآلهة.
كما كات لغة الجسد تلك جزءًا من العمل في الحقول من خلال عمليات الحرث والعزيق والبذر والحصاد والتذرية وغربلة الحبوب وغيرها، وكذلك في عجن العجين ولتِّه وتقريصه، ومختلف أشكال العمل المنزلي وأعمال المهن والصناعات المختلفة.
أنا لا أحاول في تلك المقدمة الحديث عن تاريخ الرقص، وإنما فقط التأكيد على أن الرقص عميق وقديم في ثقافتنا المصرية قِدَم تلك الثقافة نفسها.
وقد استمر الرقص بأشكاله الاجتماعية المختلفة في مختلِف القرى والبلاد، وبين مختلِف الأُسَر في مصر بعد انتشار المسيحية والإسلام -على الرغم من اختلاف مواقف الفقهاء والكهنة منه- كما كانت قصور الخلفاء والحكام تعج بالعازفات والمغنيات والراقصات والعوالم، ومنهن من أحبها هؤلاء الخلفاء ولعبت أدوارًا سياسية خطيرة، مثل: الراقصة والمغنية وضاربة الطبل "نسب الطبالة" التي ذاع صيتها زمن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، فوهبها تلك القطعة من الأرض "أرض الطبالة"، والتي عُرفت بحي الفجالة فيما بعد، كما انتقل الرقص إلى فرق الصوفية وأذكارها المختلفة، كذكر الطحاوية الذي يُضَم فيه الذراعان إلى الصدر، وينثني فيه الراقصون إلى الأمام والخلف، وكذكر الأولياء الذين يدور فيه الذاكر إلى اليمين واليسار دورات تتسارع مع تسارع الإيقاع، حتى يصل إلى مرحلة "الجذب" التي يذهل فيها عما حوله، وكنت أرى في صباي النساء يصنعن لهن صفًّا جانبيًّا في حلقات الذكر تلك، وهناك رقص المولوية الذي يرتدي فيه الراقصون تنورة ملونة تشير إلى الفلك الدوار، ويدورون هم رافعون كفهم اليمنى إلى أعلى، بينما تشير كفهم اليسرى إلى الأرض، وكأنهم يأخذون بيمناهم كرم الله وعطاياه لتمر عبر أجسادهم ويسراهم إلى الأرض فتملؤها خيرًا ونورًا، كما يُعَد الرقص الصاخب في حفلات الزار أحد الطقوس الأساسية، الذي تتسارع وتيرته مع تسارع دق الدفوف وارتفاع صرخات "الكودية".
وقد استمر الرقص في مختلِف القرى والبلاد والمدن والأحياء الشعبية حتى اليوم كتعبير عن الفرح والحرية والبهجة والسعادة، ويكفي أن تجتمع مجموعة من الفتيات -كالبنات في فصول المدرسة الإعدادية والثانوية إذا ما كان المدرس غائبًا، فما بالنا بغرفهن في بيوتهن؟- حتى يأخذن في التباري بالرقص، وتقييم بعضهن بعضًا، وتحديد مناطق المهارة والاختلاف في الرقص الثري.
والرقص في أفراح الأسر المتوسطة والفقيرة كان هو الفقرة الأساسية في حفلات زواجهم "خطوبة وشبكة وحنة وكتب كتاب ودُخلة"؛ فهو يشيع حالة من التفاؤل والبهجة، والتنافس اللذيذ بين الفتيات، وهو نوع من المجاملة والنقوط أيضًا من صاحبات وقريبات العروس، وهي فقرة مجانية إذا قورنت بالاتفاق مع راقصة محترفة أو مغنٍّ محترف، وأستطيع أن أقول: إن جميع فتيات مصر يُجِدن الرقص ويفخرن بذلك، كما يفخر الآباء والأمهات بذلك -طبعًا أتحدث عن مصر قبل أن تلوثها ثقافة البداوة والسلفية والكراهية للفن والجمال- وأنا أعرف أمهات مثقفات ومتعلمات كن يدربن بناتهن على الرقص، بل ومنهن من كانت تُعِد لطفلتها بدلة بهيجة للرقص، وعرفت فتيات مصريات متعلمات تعلمن في أوروبا كن يفخرن بإشادة الأجانب بالرقص المصري، ويقدمن لهم وصلة رقص شرقي رائعة في حفلات الجامعة، وخاصة بعد أن أمكن من خلال الكمبيوتر أن تستدعي أي فتاة المقطوعة الموسيقية الشعبية، التي تفضل الرقص على أنغامها، ويكون اختطاف الفتاة لإيشارب أو طرحة أو شال صديقة إيذانًا برقصة واعدة، وغالبًا ما تعقد الفتاة تلك الحزام وسط رِدفَيْها؛ فهو يبرز حركتهما جيدًا حتى ولو كانت محدودة المدى.
ومنذ نحو عشرين عامًا شهدنا مسرحية "حزمني يا بابا"، التي لقي اسم "بابا" في آخرها هجومًا شديدًا، فاكتفى المؤلف باسم "حزمنى يا"، وهي من تأليف: سيد حجاب، وإخراج: سمير العصفوري، وبطولة: فيفي عبده، ومحمد هنيدي، ومحمد منير.
وتعتبر المهارة في تحريك وهز الأرداف والصدور والدوران أهم أجزاء الرقص والراقصة، ومع هذا تَبْرَع كثير من الفتيات في تحريك معظم عضلاتهن: في الرأس والشعر والرقبة والذراعين والأكتاف والوسط والبطن والسيقان، كما تعتبر النظرات وتعبيرات الوجه والشفاه أحد أهم أجزاء الرقصة، والرسائل التي ترسلها من ترقص لمشاهديها، وطبعًا يختلف شكل الرقصة تبعًا للعمر والحالة الاجتماعية والثقافة الأسرية وحالة حلقة الرقص، فكلما كانت الفتاة من أسرة متفتحة، أو غير متزوجة، أو في حلقة رقص تحضرها الفتيات فقط؛ فإنهن يخرجن أكثر ما عندهن من فتنة ومهارة، بينما يتحفظن بعض الشيء حين يحضر الحلقة الصبيان والرجال، أو حين تكون التي ترقص متزوجة رجلًا محافظًا، أو لديها شباب يحضرون الحلقة، فإنها تكتفي بتحريك ذراعيها ورأسها وبالميل بجذعها كله، وإن كانت الأم تخرج عن هذا الوقار وتبدع إذا كانت في فرح أحد فلذات أكبادها.
وأنا أعرف من الأطباء النفسانيين من ينصح الفتيات بالرقص منفردات أو مجتمعات كوسيلة لمواجهة الضغوط العصبية والخروج من حالات الاكتئاب، وفضلًا عن دوره العضوي في تنشيط المفاصل والعضلات والدورة الدموية، فهو يقوم بإشاعة حالة من المرح والبهجة والتفاؤل والثقة بالنفس والإقبال على الحياة.
والذكور أيضًا يرقصون صغارًا وكبارًا، وإن كنت لا أستطيع أن أقول: كلهم، كما قلت: كلهن عندما تحدثت عن الفتيات، وإن كان القليلون منهم من يحاولون منافسة رقص الفتيات أو تقليدهن، كما يرقص سعد الصغير مثلًا، وكثير منهم من يفضل ربط الحزام وإن كان حول وسطه لا على ردفيه، ومنهم من يفضل الرقص بالعصا لا بهز الوسط، وفي صباي رقص عم إبراهيم سيد أحمد -وهو فلاح خشن- في أحد أفراح إخوتي رقصة رائعة بهرتنا جميعًا لما يزيد على نصف الساعة.
الرقص في المجال العام
اختلف كثير من الكتاب حول تسمية ذلك النوع من الرقص، ويبدو أن المستشرقين الغربيين والأجانب هم من أطلقوا عليه "الرقص الشرقي" تمييزًا له عن الرقص الغربي كالباليه والفالس والبالو وغيرها، وهي تسمية من وجهة نظري غير دقيقة وغير صحيحة؛ إذ لا يُعرَف من بلاد الشرق كفلسطين وبلاد الخليج والشام والعراق مثل هذا الرقص، وأعتقد أنها لم تعرفه إلا بعد ظهور السينما وسفر المصريين إلى تلك البلاد، ويطلق عليه الكاتب حسين أحمد أمين "رقص البطن"، وهو ما أظنه اختزالًا قاصرًا ومخلًّا، ومن هنا فأنا أفضِّل أن أطلق عليه "الرقص الشعبي" أو البلدي.
أما حول الرقص في المجال العام؛ فقد كان للراقصات في المعابد الفرعونية وفي قصور الحكام والخلفاء نظام دقيق، يقوم عليه أسطوات وعوالم، وكان للراقصات في زمن المماليك نقابة تنظم أمورهن وتدافع عنهن، وتأخذ من أجورهن الضرائب المقررة، وبقضاء محمد علي على المماليك بعد مذبحة القلعة (1811)، فإن عشرات الراقصات والمغنيات والجواري اللائي كن يعملن في قصور هؤلاء المماليك قد خرجن من قصورهم إلى الشوارع للبحث عن رزقهن بما يمتلكنه من مهنة ومهارة، واستقر الكثير منهن في شارع محمد علي، فهو في المنطقة الوسطى بين القاهرة الخديوية الحديثة بمسارحها وملاهيها وسكانها الإفرنج والأفندية، وبين القاهرة الفاطمية بتجارها التقليديين وموالدها، وهكذا أصبح شارع محمد علي لصيقًا بمهنة الرقص والغناء والمهن المرتبطة بهما كصناعة أدوات الموسيقى والتعليم عليها، وفيه دارت أحداث فيلم "شارع الحب" لعز الدين ذو الفقار، ومسرحية "شارع محمد علي" لمحمد عبد العزيز.
وشهد زمن محمد علي أول منع لرقصة مصاحبة لأغنية؛ فقد شهدت البلاد رواجًا اقتصاديًّا صاحَبَ مشروعات محمد علي الكبيرة في الري والزرعة والصناعة وغيرها، وهو الأمر الذي أدى لانتعاش فرق الرقص والغناء التي تجوب الشوارع والميادين والمقاهي، وكانت بعض تلك الفرق تتقدم للمقهى، وبعد بعض المواويل التي يطلقها "صييت" الفرقة لتحية صاحب المقهى وفتوة الحي، تتقدم الراقصة أو العالمة التي ترتدي زيًّا مناسبًا لتغني: النحل النحل النحل يا هووه.. وقرصني في إيدي النحل يا هووه.. ثم وقرصني في كتفي.. في صدري .. في بطني، وهي تهرش في المكان الذي تشير إليه وتكشف عنه من شدة الألم الذي يصاحب قرص النحل طبعًا، وكلما اطمأنت الراقصة وزادت النقوط بالغت في ذكر أجزائها وتعريتها، ويبدو أن أحد الشيوخ الواصلين قد شهد تلك الرقصة وهاله ما فيها من فحش، فوصل أمرها إلى محمد علي باشا الذي أمر جنوده وشرطته بمنع غنائها في المقاهي، ومعاقبة من تؤديها من الراقصات.
ومع النقلة النوعية التي أحدثها الخديو إسماعيل للقاهرة ثقافيًّا وماديًّا وإعلاميًّا راحت أسماء الكثير من الراقصات تذيع، ويرتفع شأنهن بما يَجْنِينَه من ثروة وما يحكى عنهن من حكايات، مثل: شفيقة القبطية، وبَمْبَة كَشَّر اللتين رقصتا في أفراح الخديو وحازتا القصور، وركبتا عربات تجرها الخيول وأمامها "الأمشجية" الذين يفسحون لها الطريق، ومثل: بديعة مَصَابْني التي تزوجت نجيب الريحاني لبعض الوقت، وكان لها الكازينو الخاص بها والملاصق للكوبري الواصل بين الجيزة والجزيرة، وأطلق عليه "كوبري بديعة" زمنًا طويلًا وتغير بعد الثورة إلى "كوبري الجلاء".
وقد أدخَلَت تلك الراقصات إلى الرقص طرائق جديدة، فمنهن من ترقص برشاقة وهي تحمل شمعدانًا ثقيلًا، أو من ترقص وعلى رأسها صينية عليها أكواب ممتلئة، أو قُلَّة من الفَخَّار، ومن تستطيع أن تميل إلى الخلف حتى تصنع من جذعها القبة وهي لا تتوقف عن الرقص، أو من تثني ركبتيها حتى تنام على ظهرها وهي لا تتوقف عن الرقص أيضًا، أو تجيد استخدام الصاجات في تجميل الإيقاع.
وإلى مثل هؤلاء الراقصات تنسب حكايات عجيبة، فمنهن من كانت تركب عربة تجرها ثمانية خيول لتتفوق على عربة الخديو التي تجرها ست خيول فقط، ومنهن من كان يتسابق عشاقها من الباشاوات الأثرياء لشرب الخمر في حذائها، أو يشعلن لها السيجارة بورقة العشرة جنيهات، ومنهن من تزوجت الابن الوحيد لهدى شعراوي التي رفضت -رغم قيادتها للحركة النسائية- أن تعترف بحفيدها من تلك الراقصة، ومنهن "جليلة" التي هام بها سيد درويش حبًّا وصاغ لها أجمل ألحانه، حتى اكتشف أنها امرأة لعوب فهجاها هجاء مرًّا في لحنه "الصاغة: "أما بقى سادس دكان / استنى عنده يا ابو القمصان / بيقولو مرة عمل خلخال ينفع ركاب لتلاتة بغال/ سألت: مين لبسته يا عيال؟/ قالوا: جليلة أم الركب".
وقد ارتبط بازدهار مهنة الرقص في القاهرة ازدهار مهنة البلطجة والفتونة، وظهور فريق من البلطجية والفتوات الذين تحتاجهم الراقصة للدفاع عنها ولحمايتها من المتطفلين، وكثيرًا ما كان هؤلاء البلطجية يفرضون سطوتهم على الراقصات، ويفرضون عليهن الإتاوات الباهظة، ولقد دفعت الراقصة الكبيرة امتثال فوزي حياتها ثمنًا لرفضها دفع الإتاوة لبلطجي شارع عماد الدين فؤاد الشامي.
وبعد ثورة 1919، وازدهار المسرح الغنائي، وظهور السينما وتصدر الأفندية للمشهد السياسي والاجتماعي، ظهرت مجموعة جديدة من الراقصات اللاتي يتميزن بالثقافة والرشاقة والجمال في نفس الوقت، مثل: تحية كاريوكا، وسامية جمال، وببا عز الدين، ونبوية مصطفى، ونعيمة عاكف، اللاتي ساعدتهن مؤهلاتهن تلك للانتقال بسرعة من عالم الكازينوهات وصالات الرقص إلى المسرح وإلى السينما، ويقترنَّ بفانين كبار ورجال أعمال ويصبحن من سيدات المجتمع الراقي.
وكان من الطبيعي أن تستفيد السينما من شهرة تلك النجمات الراقصات، فتصنع مجموعة من الأفلام التي تعتمد على رقصهن أو على أسمائهن الرنانة، مثل: "لعبة الست" و"شباب امرأة" و"خلي بالك من زوزو" لتحية كاريوكا، و"تعالى سلم" و"حبيب العمر" و"عفريتة هانم" لسامية جمال، و"لهاليبو" و"فتاة السيرك" و"بلدي وخفة" و"تمر حنة" لنعيمة عاكف، وكان لأنور وجدي الفضل في اكتشاف الطفلة الموهوبة "فيروز" التي برعت في التمثيل والرقص والغناء وتقليد الراقصات الكبار في فيلم "دهب"، بالإضافة إلى راقصات محترفات انتقلن للسينما لشهرتهن في الرقص؛ كسهير زكي، وزيزي مصطفى، وهياتم، وفيفي عبده.
وهناك فنانات لعبن الأدوار كلها رقصًا وتمثيلًا وغناء، مثل: نعيمة عاكف، ولبلبة، ونيللي، وشيرهان.
وهناك العديد من الأفلام التي تناولت حياة الراقصات، مثل: "شفيقة القبطية"، و"بمبة كشر" و"امتثال" وكلها من إخراج المخرج الكبير حسن الإمام، الذي كان مولَعًا بالراقصات وعوالمهن المثيرة.
وبرعت كثير من الراقصات في وضع بصماتهن على مهنة الرقص كلها، فمنهن من برعت في الرقص التعبيري، الذي يعتمد على حركة الجسم كله، متجنبة فكرة الإثارة من الأساس كسامية جمال، ومنهن من ركزت على مظاهر أنوثتها وبروز أعضائها، ومنهن من نجحت في اللعب بذراعيها كراقصي الباليه، وطبعًا مع الوضع في الاعتبار كثرة وتنوع أجزاء الجسم التي توظفها الراقصة في الرقص كالعمود الفقري طبعا، والرأس والرقبة والكتفين والذراعين والكفين والساقين والفخذين والبطن والأرداف؛ فإن الراقصات قد تميزن فيما بينهن في شكل "الهارموني" الذي تصنعه من تلك الأجزاء، كما تتميز بنوع وشكل دوران جسمها أثناء الرقص، كما كانت الراقصات يتنافسن في قفلة الرقصة.
واهتمت كثير من الراقصات بالموسيقى التي تصاحبهن ليرقصن عليها، فمنهن من عملت على تأليف موسيقى خاصة بها، والاستعانة بملحنين كبار لعمل مقطوعات جذابة لها، ومنهن من تكتفي ببعض موسيقى الأغاني الشعبية، ومنهن من ترقص على أغنيات شهيرة لفنانين كبار كأم كلثوم وموسيقى أغنية "انت عمرى" مثلًا، وقد أثارت الراقصة سهير زكي الدنيا عندما رقصت على موسيقى أغنية "القلب يعشق كل جميل"، وهو ما أغضب المحافظين أن ترقص راقصة تتعرى وتتلوى على موسيقى أغنية دينية صوفية، كتبها بيرم للتعبير عن مشاعره وهو يزور بيت الله الحرام.
ويعد ضابط الإيقاع أو الطبال أهم أفراد الفرقة الموسيقية للراقصة؛ فهو بإيقاعاته المختلفة السريعة والصاخبة أو الهادئة، هو الذي يتحكم في حركات الراقصة، وهو الأمر الذي يُلزِم الراقصة باختيار طبال بارع تستطيع التفاهم معه ولو بالنظر.
وقد قدم محمد عبد المطلب أغنية جميلة تتناول جمال الرقص البلدي، من تأليف: وليم باسيلي، ولحن: محمد عبد الوهاب، وهي أغنية "اعمل معروف":
يا اخوانا الرقص البلدي، دا بلدي يهز القلب يا هوه
ودا فن لطافة ورقة وذوق البيه والباشا عشقوه
حركات غزل وآلام وعتاب بتخلي العقل يتوه
والرقص رواية بتمثلها عيون وخصور وقدود
دا انا احب الرقص البلدي وهو البلدي أحبه يا هوه
حبك على فين حيوديني
ومع المد الوطني بعد ثورة يوليو، والسعي لاستثمار قيمة الرقص في القضايا الوطنية، وإحياء أنماط الرقص الشعبي -صعيدي وبحراوي وبدوي- شكل الأخوان علي ومحمود رضا سنة 1959 "فرقة رضا للفنون الشعبية" التي أتحفتنا بفيلمين: "الكرنك" و"أجازة نص السنة"، كما شكلت وزارة الثقافة بعدها "الفرقة القومية للفنون الشعبية".
وهناك ممثلات برعن في الرقص وهن يلعبن أدوارهن في الأفلام، ففضلًا عمَّا سبق ذكره، برعت نبيلة عبيد في فيلم "رابعة العدوية" و"الراقصة والطبال"، كما برعت نادية الجندي في فيلم "خمسة باب"، وسعاد حسني في الرقص في فيلم "خلي بالك من زوزو" وفي فيلم "شفيقة ومتولي"، وبرعت هند رستم في فيلم "إنت حبيبي"، وبرعت نادية لطفي في فيلم "السكرية" و"أبي فوق الشجرة"، وسهير المرشدي في فيلم "البوسطجي"، كما برعت ميرفت أمين برقصة بارعة في فيلم "نغم في حياتي"، وإلهام شاهين في فيلم "الصديقتان"، ومنة شلبي في فيلم "الساحر".
ولم يتأخر الرجال عن الرقص أيضًا في أفلام عديدة؛ فقد رقص "شرفنطح" رقصة رائقة في فيلم "فاطمة" حاملًا كرباج العربجي وأم كلثوم تغني "نصرة قوية وفرحة"، كما رقص محمود شكوكو في فيلم "عنتر ولبلب"، وتوفيق الدقن في فيلم "الفتوة"، ورشدي أباظة في فيلم "الزوجة 13"، وفؤاد المهندس في فيلم "أخطر رجل في العالم"، وسمير غانم في فيلم "أميرة حبي أنا"، ومحمد سعد في معظم أفلامه، وقد شهدت في شبابي رقصة بارعة للفنان القدير بدر نوفل في مسرحية "بين القصرين" بالأبيض والأسود.
ويبدو أن بعض الراقصات قد تجاوزن الحدود في كشف المستور من مفاتنهن وأجسادهن المثيرة، وارتدين بدلات للرقص تظهر أكثر مما تخفي، وما أشيع عن أن بعضهن رقصن بدون ملابس داخلية، وهو ما ألجأ حكومة ثورة يوليو لتحديد مواصفات بدلة الرقص في القانون رقم 430 لسنة 1955، وهو القانون الذي أعدته مصلحة الفنون -إبان رئاسة الأديب يحيى حقي لها- التابعة لوزارة الإرشاد القومي، فهو يلزم الراقصة ببدلة تغطي الصدر والبطن، وأن تكون بلا فتحات جانبية ونصفها الأسفل يغطي الساقين، وقد استبدل تغطية البطن بوضع نجمة على السُّرة.
وإزاء استمرار الطلب على الرقص والراقصات رغم تغير الظروف، فقد سعت نجوى فؤاد منذ عقود لفتح مدرسة لتعليم الرقص الشرقي للفتيات، وفُتِحت بعدها مدارس يتولى التدريس فيها رجال بارعون في الرقص وتقليد غالبية راقصات مصر الشهيرات، ولكن يبدو أن موجات المد السلفي والإخواني المتطرف قد حالت دون استمرار تلك المدارس، وهو ما فتح الباب أمام هجمة هائلة من الراقصات الروسيات والأوكرانيات وغيرهن من بلاد أوروبا الشرقية سادت كازينوهات الكثير من الفنادق، وخاصة فنادق شواطئ البحر الأحمر.
ورغم هذا سيظل للرقص البلدي أو الشعبي للفتيات المصريات سحر خاص، وألفة نادرة، ورباط وجداني صاغته القرون منذ فجر التاريخ.