فنون
محمد هانيتضافر الفنون وتطور الوسيط
2025.03.01
مصدر الصورة : آخرون
تضافر الفنون وتطور الوسيط
يناقش جيل دولوز، في كتابه "الاختلاف والتكرار"، فكرة التطور من منظور جديد. ينتمي دولوز إلى منهج المابعد هيكلية. الفلسفة التي نشأت من منطق لغوي يسند المعنى إلى علاقته بالهيكل. تستمد الكلمات مدلولها، طبقًا للمفكر دي سوسير، من علاقتها بما هو مختلف. على سبيل المثال، لا يوجد علاقة بين كلمة "أزرق" واللون الأزرق سوى ما يميز اللون عن غيره من الألوان، واستخدام تلك الكلمة في الإشارة إليه. تم استخدام هذه الفلسفة في دراسات مختلفة، مثل: علم النفس والعلوم الاجتماعية والسياسية والدراسات التعليمية. اهتم دولوز، بدراسة حركة التغيير في عدة مجالات بمنهج مشابه. كان تركيزه من الأساس في الرؤية المختلفة لحركة التغيير، بعيدًا عن نقاط التحول البارزة.
يمكننا إدراك ما بين التليفزيون واليوتيوب من علاقة تطورية. إنْ تأملنا هذا المثال وجدنا عوامل كثيرة ومكونات بعيدة عن كلا الاختراعين ساهمت في ذلك التطور. مكونات مثل الآلة الكاتبة ونشأة لوحة التحكم في الكمبيوتر، والكمبيوتر، والإنترنت ونشأتها في إطار الاستخدام العسكري قبل طرحها للاستهلاك العام، والتليجراف والراديو كمراحل بث، والأجهزة الكهربائية والرقائق الدقيقة، هذا على سبيل المثال لا الحصر تعدد غني، بعضه مواكب للآخر وبعضه لاحق. تتكرر الأفكار والتجارب والاستخدامات في إطار التواجد. وتتكرر بتكرار التفاعل. وتنمو تغيرات غير ملحوظة عبر خطوط التماس بين التفاعل الرتيب. يسمي دولوز ما يخلقه هذا التفاعل بـ"الافتراضي". الافتراضي كثافة ينشئها التفاعل النمطي ووجوده يهيئ المجال لـ"احتمال". الاحتمالات التي تظهر بفعل البيئة والاستعداد الواعي للاختبار. استعداد الفاعلين في جانب ما يقوم بدور العامل المحفز للتغيير. تغيير يمكن أن يكون طفيفًا في مجال لكنه يخلق اختلافًا معتبرًا في الآخر.
هذا التضافر له وجوده في مجالات تطور شتى، أهمها الطبيعة. نهج شبيه يمكن إحلاله لوصف تطور الكائنات. وإن كنا نتحدث عن مجال الإنسانيات ومخزونه الثقافي، فالكلام عن نقاط التحول قد يصير أكثر خفوتًا. أمَّا إن كان محل دراستنا هو الفنون، فإن المادة المقصودة ليست دومًا محل إنتاج واعٍ. الفن تعبير من الأساس ويدفعه جانب لا شعوري. لكن ما زالت محاولات تأمل التغيير تعمل عمل "الافتراضي"، وربما خلفت لدى دارسها "احتمالات" يستغلها لاوعيه في تجربة تعبيرية مختلفة.
***
"لا بد للسينما أن تتطور. لا يمكنها أن تبقى كما هي إلى الأبد. يمكن للسينما أن تتضخم. لا بد أن تتطور. هذه كلمتي الأخيرة."
حاول المحاور استدراج المخرج روبرت بريسون، إلى سؤال أخير حول نصيحته للمخرجين الشباب، فرفض وأضاف: "سأنهي حديثي بعبارة عظيمة لـ ستندال -الذي تعرفه جيدًا بالتأكيد- الفنون الأخرى هي من علمتني فن الكتابة."
يُعد ستندال، الروائي المذكور، واحدًا من أهم علامات الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر. اتسمت كتابته بحس تحليلي نفسي عميق لشخصيات رواياته، وكان لذلك روح واقعية أكثر من الرومانسية التي غلبت على كتابات عصره. إلى جانب ذلك، كتب ستندال نقدًا وتحليلًا موسيقيًّا لافتًا. اعتبر الموسيقى أرقى أشكال الفنون، وأن بقية الفنون تحاول أن تكون موسيقى. وهو رأي استعاره ستندال من الفيلسوف شوبنهاور. عاش فترة في إيطاليا وتأثر بالفن التشكيلي الذي زين مدنها، وخاصة فلورنسا، حتى أنه نسب إليه متلازمة باسمه، وأحيانًا باسم المدينة، تعد حالة من الإرهاق من فرط التعرض لجماليات الفنون.
***
ذكرني حديث الأديب عن الموسيقى بعلاقة تمت بين الشكلين الفنيين في عمل أدبي عظيم. في رواية يوليسيس لجيمس جويس فصل يسمى سيرين، وهي الحوريات التي تغوي من يستمع لصوتها العذب وتقوده إلى الهلاك. تصدى أوديسيوس في ملحمة الأوديسا لهذا الإغواء عندما سد أذنيه بالشمع أمام ذلك النداء الغامض. بينما قام جويس بخلط الإغواء نفسه بلغته. جرد لغته في هذا الفصل إلى حدود الصوت. كانت تجربته حول مدى المعنى المنبثق من صوت اللفظ. يبدأ الفصل الحادي عشر بمقدمة مختلطة من العبارات، وهي في الواقع أجزاء من النص الذي سيأتي. ويستخدم أيضًا تقنية مشابهة للفصل العاشر، حيث تقاطع أقسام النص التي تصف أحداثًا تجري في مكان آخر السرد الذي بين أيدينا. إن القسم الافتتاحي من العبارات المنفصلة يعمل كنوع من المقدمة الموسيقية أو الإحماء. إن "الرنين" المتخلل لسيارة ، جنبًا إلى جنب مع صوت "النقر" المتكرر لعصا موالف البيانو الأعمى، يوفر نوعًا من قسم الإيقاع الأساسي للفصل نفسه. من خلال تصوير هذا الفصل لأداءات الغناء إلى جانب عناصر النثر الموسيقي (مثل المحاكاة الصوتية، والمقاطع اللغوية، والنحو المتقطع)، فإن الفصل يتعامل بشكل مباشر ويسعى إلى تكرار صفات الموسيقى. عناصر مثل المحاكاة الصوتية، وهي المشابهة بين الصوت نتيجة لفظ كلمة وصوتها المسموع في الطبيعة. واللازمات اللغوية التي تحاكي اللازمات الموسيقية. أي التكرار الذي يواكب تناغمًا أو لحنًا. والجمل ذات الإيقاع المتزامن. الجمل التي تحمل إيقاعات متنوعة تتناغم معًا وتخلق وحدة أشمل في الهيكل الذي تكونه.
بين الفن التشكيلي والرواية يبرز اسم إميل زولا. عَلَم آخر في الأدب الفرنسي في القرن نفسه، وصديق للفنان التشكيلي پول سيزان، الذي مجد المخرج روبرت بريسون إسهاماته الفنية. اتسمت كتابة زولا بمسحة سميت بالطبيعية. وهي دلالة على تفاعل الإنسان الغريزي ودوافعه النفسية وانعكاساتها على سلوكه السطحي. إضافة إلى ذلك، كتب زولا كتابة انطباعية، مستلهمًا التيار التشكيلي وعلاقته بأحد رموزه في وصفه البصري للمكان. اعتمد الرسامون في هذا التيار على التعبير عن انطباعهم عن المشهد المصور بغض النظر عن الدقة والتفاصيل. استثمروا في ما تركته الألوان والضوء وروح اللحظة كأنهم اطلعوا على المنظر المستهدف لحظات ثم تنحوا عنه واسترجعوا ما تركه في نفوسهم من أثر. في روايته "بطن باريس"، ينقل زولا صورًا انطباعية شتى بطول الرواية. يبني من خلالها تاريخ وجغرافيا المكان. ويعكس سلوك شخصياته في علاقتهم بوصفه لتلك البقع وتفاصيلها.
نقرأ مثلًا في هذا المقطع: "وعلى الرصيف، كانت أكوام الشحنات تمتد حتى قارعة الطريق. وبين الأكوام، يحرص تجار الخضراوات على ترك ممر ضيق يتيح للناس التنقل. والرصيف العريض المغطى من ناحية إلى أخرى يمتد بالأكوام المعتمة للخضراوات. لا يرى بعد في الضوء الشحيح والمرتعش للمصابيح سوى التفتح النضر لربطة من الأرضي- الشوكي، والأخضر الرقيق للخس، والوردي المرجاني للجزر، واللون العاجي الخافت لللفت، هذه الومضات من الألوان الكثيفة كانت تنساب على امتداد الأكوام مع أضواء المصابيح. كان الرصيف قد ازدحم، جموع استيقظت، والتفت حول البضائع، واقفة، تتحدث، تنادي."
يستعير زولا فرشاة الرسام الانطباعي ويخط للقارئ أثر الضوء وتدرج وتناسق الألوان لمحتويات المشهد. يصفها ولا تستدرجه التفاصيل بقدر الحالة. فيبدو معنيًّا بالشعور الذي سيبقى مع القارئ المشاهد أكثر من التوثيق والمسح البصري لخغرافية سوق "ليهال". ويكمل ما بدأه مع الخضراوات لمنتجات متنوعة تقابل رحلة الشخصية الرئيسية على مدار الرواية. نرى ونشعر بأجواء أسواق لحوم متنوعة، وبعدها أسماك من كل شكل وصنف. أصوات الأماكن المصاحبة وروائحها ومنافذها تورطنا بما تشعر به الشخصيات وتخلق تناغمًا بين سلوكها وألوان بيئتهم.
استمر الأدب في استيعاب غيره من الفنون كما قال ستندال، وذكرنا بريسون. وفي بداية القرن العشرين، مع ولادة السينما، اخترق فن الرواية العمل الفذ "البحث عن الزمن المفقود" للروائي مارسيل پروست. انتمى عمله الممتد على سبعة مجلدات إلى تيار الوعي. تيار تحرر من القالب المألوف للحكي وأخلص لما يمكن للغة أن تعبر عنه. استخدم الحوار الداخلي للشخصيات، الذي يبدو مترهلًا وغير منمق وربما مربكًا، ضمن أدواته في تأمل اللحظات ووقع الزمن على ساكنيه. هذا الاهتمام بالزمن تبدى مع السنوات وتطور الفيلم في تفرد اللغة السينمائية بإعادة تقديمه أو إعادة إنشائه من الواقع. واحتوت دراسات متأملي فن الفيلم على ملحوظات متنوعة عن علافة الفن الاستثنائية بالزمن. يمتلك أداة مثل المونتاج تتجاوز شروط المكان والزمان وتشكل لقطاتها بحرية محافظة على الإيحاء بالاستمرارية. لقطة تليها أخرى في مشهد، يتابع المتلقي سلاسة الانتقال ولا ينتبه للفاصل بين اللقطتين اللتين ربما استهلكتا ساعات أثناء تصويرهما. إضافة إلى الانتقال من حجم إلى آخر، مثل التقريب. توجيه المشاهد بين مفردات المشهد لتكوين معنى وخلق الحالة التي يريدها الصانع للمتلقي. السينما فن يعيد تقديم الزمن. يستطيع إطالة لحظة قصيرة، والعكس. تحدث اثنان من هؤلاء المفكرين، سيجفريد كراكور وجيل دولوز، في موضعين مختلفين حول پروست وأثر السينما في أسلوبه.
قارن دولوز بين نوعين من الأفلام وأسماهما صورة الزمن وصورة الحركة. صورة الزمن يخضع فيها الحدث للزمن، بمعنى أن التطور يأتي من تباين الشعور بالوقت بين مراحل الفيلم المتتالية. أما صورة الحركة فهي الأفلام التي تحكي قصة تدفعها أحداث مترابطة يخضع لها الزمن. وأشار إلى كتابة بروست بأنها كتابة زمن. في السطور التالية من مجلد پروست الخامس، بعنوان "السجينة"، مثال:
"وحدها أنفاسها كانت تبدل فيها كل من ملامساتي كما لو أنها كانت آلة أعزف عليها فأجعلها تبعث تنغيمات إذ أستخلص بالنقر على هذا ثم على ذاك من أوتارها أنغامًا مختلفة. كانت غيرتي تهدأ إذ أحس أن ألبرتين أضحت كائنًا يتنفس وليس شيئًا آخر كما كانت تدل على ذلك الأنفاس المنتظمة التي هي التعبير عن هذه الوظيفة الفيزيولوجية البحتة التي لا تملك، وهي متهربة تمامًا، لا سماكة الكلام ولا سماكة الصمت وكانت، في جهلها للشر أيًّا كان، وهي الأنفاس المستخلصة من قصب مجوف أكثر منها من كائن بشري، ومن دنيا النعيم حقًّا بالنسبة إليَّ أنا الذي يحس ألبرتين في تلك اللحظات في مأمن من كل شيء، لا على الصعيد المادي فحسب، بل على الصعيد الأخلاقي أيضًا، كانت نشيد الملائكة الخالص. وكنت أقول في نفسي فجأة: إنه لا بد ربما لأسماء بشرية كثيرة تحملها الذاكرة من التردد داخل هذه الأنفاس.
وأحيانًا كان ينضاف إلى تلك الموسيقى الصوت البشري. كانت ألبرتين تتلفظ ببضع كلمات. وكم وددت لو أدرك معناها! كان يتفق أن يرد على شفتيها اسم شخص سبق أن تكلمنا عنه وكان يثير غيرتي، ولكن دون أن يوليني ذلك تعاسة لأن الذكرى التي تجيء به كانت تبدو وكأنها ليست سوى ذكرى الأحاديث التي سبق أن جرت بينها وبيني بهذا الشأن."
هذا المستقطع من بين سطور طويلة تخلو من الحدث التقليدي. يسترجع پروست بها على لسان الراوي أوقات تشكلها تجربة. تنحت التجربة والإحساس الذي خلدته شكل الزمن وتميزه. يرجع بها في الزمن، يستحضرها، يجمع تلك اللحظات ويبني بها هيكله الهائل برقة. تستوقفه لحظة مثل التي ذكرتها ويسلط حواسه عليها. مثل اللقطات القريبة التي تطيل ثواني في الواقع إلى دقائق على الشاشة. كتب كراكور عن استخدام بروست للقطات القريبة، لكننا لا نملك إلا أن نقرأ ونخمن تفاعل الكاتب مع سياقه. لا نجزم بتأثر لم يذكره صاحبه.
***
على الجانب الآخر، استحضرت السينما ما يطورها من فنون سابقة لحداثتها. شاهدت استخدام سرديات وظفتها الرواية في سيناريوهات أراد مخرجيها تحميل القالب السينمائي ما يقدمه المحتوى في أفلام التيار العام. أفلام وصفها بريسون بأنها مسرحيات مصورة. تعتمد على الدراما والأداء، وتترك القليل لما قد تتفاعل من خلاله اللغة السينمائية. بين المخرجين المعنيين بالأسلوب واكتشاف مدى الشكلية الفنية اثنان: مايكلانجلو أنطونيوني وفيدريكو فيلليني. انشغل كلاهما في عالم ما بعد الحرب وما يحمله من عبث وخواء. تعرضوا لحيوات فارغة ضل أصحابها عن أنفسهم وهواياتهم. صورها الأول وسط الفراغ والثاني وسط الزخم. وليكن النموذجان "الخسوف" لأنطونيوني و"الحياة الحلوة" لفيلليني. يمكننا رصد حكايات شبيهة فيما كتبه فيتزجيرالد في "جاتسبي العظيم" و"رقيق هو الليل"، وشخصيات تشارك الشخصيات الرئيسية في الأفلام أزماتها. انقطاع وارتباك وبحث يائس عن مخرج، ينتهون بتورط واستسلام لدائرة مفرغة ومصير شبه محتوم. بينما تسرح شخصيات "الخسوف" وسط مدينة مترامية الأطراف وغرف خاوية، نشاهد انعكاس حيرتهم في علاقة أجسامهم بالمكان وحجمها مقارنة به في لقطات بتكوين هندسي يحافظ على حدة الخطوط والهاوية بينهما، ينتفض بطل "الحياة الحلوة" بين السهرات الصاخبة وضجيجها العنيف وازدحاماتها بلا غاية واضحة. تسلم ليلة أخرى. يصاحب جماعته الثرية بلا خيار. حتى وإن استوقفته مأساة، ارتبك وانغمس وسطهم محاولًا التناسي. ويختمها بصَمِّ أذنه، أو التكاسل عن سماع، نداء الفتاة البريئة في المشهد الأخير رافعًا يديه عاجزًا قليل الحيلة أمام كل فرص النجاة. مثل جاتسبي الذي أفنى حياته محاولًا اقتحام تلك الطبقة والتظاهر بانتمائه إليها، أو انهيار الراوي الذي وجد نفسه شاهدًا على رحلة جاتسبي وسط هذا العالم وقسوته.
أحيانًا كانت استعارة نوع، كما حدث مع الاستعراض. اقتبست الأفلام الموسيقية من المسرح. التفت مخرجون مثل بوب فوسي وكارلوس ساورا إلى سينمائية الرقص وما به من إيقاع وتعبير. خلقت مساحة لتلاعب جديد بالزمن وعرض مغاير لما تحمله اللحظات من أحاسيس ترسمها حركات بمدلول شاعري. وهو فن نتاج تطور وإدماج فنون أخرى في دوره، رقص وموسيقى ودراما. مثلما دمجت الأوبرا الموسيقى والدراما وخلقت إيقاعًا خاصًّا لأداء من الممكن رصده في مبارزات سرجيو ليوني في أفلام الغرب الأمريكي وخطوات الترقب والصمت قبل اللحظات الحاسمة بين أبطاله الأسطوريين. تلك الخطوات التي تصاحبها مقطوعات إنيو موريكوني كأنها فصل من ملحمة أوبرالية، تحمل غايات مكثفة للخصمين، مثل شارلز برونسون وهنري فوندا في نهاية "كان ياما كان في الغرب". وفي سياق آخر، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، استلهم المخرج الياباني كينجي ميزوجوتشي الأوبرا وفن الكابوكي في تصميم مشاهده وإيقاع حركة الممثلين. ووظف الكاميرا في تتبع ذلك في حركات مطولة يفرد بها زمن اللقطة الكاملة للممثلين وبيئتهم المحيطة. لقطات حافظ بها على انغماس المتلقي في المعروض وصعَّد بها حدة الحدث، الذي غالبًا ما كان خافتًا بطبعه، وقام بتطعيمه بالمناخ التلقائي نتيجة ما يبدو في الوهلة الأولى زائدًا على الحد. يترك شيئًا مستمرًّا بعد انتهاء اللقطة والنسيج الذي صممته من وحدات زمنية ينقل بناؤها ما تعجز القصة عن حكيه.
***
ورجوعًا إلى بريسون: لقد انتقل من عالم الفن التشكيلي إلى عالم السينما بعد أن رأى في أعمال سيزان غاية لا يمكنها تجاوزها أو الإضافة إليها. وهو ما كان نواة لما صرح به بأن مشروعه السينمائي يتلخص في فتح آفاق جديدة في هذا الفن الوليد. الآفاق التي حجمتها لعقود تأثيرات فنون سابقة مثل المسرح. كانت أفلام بريسون تمردًا على السابق واكتشافًا لاحتمالات وكيانات حريصة على تفرد فن الفيلم. يمكننا إذن القول بأن أثر الفنون الأخرى في تطور السينما في حالة بريسون هو أثر مضاد، يعود من الأساس إلى الوعي به والتخلص منه قدر الإمكان.
أدرك بريسون لغة السينما الفريدة التي تكون معناها من علاقة اللقطة بالأخرى. وهو توافق مع شرح سيرجي أيزنشتاين المخرج والمفكر السينمائي الروسي صاحب "المدرعة بوتمكين". سن بريسون قواعد لنفسه تنحي استعارات الفنون الأخرى جانبًا، وتصيغ فيلمًا يتواصل مع متلقيه، قدر الإمكان، بلغة الوسيط. فمثلًا، تجنب بريسون اللقطات التي تحمل معنى في حد ذاتها ورأى أن ذلك شبيه بالمسرح وربما الفن التشكيلي. قام أيضًا بتحييد الأداء في أفلامه، وعمل على تلقائية الممثلين. حتى إنه اعتمد على ممثلين غير محترفين. وكتب حوارًا أشبه بالحوار الذاتي، لا ينشئ تواصلًا بين شخصية وأخرى. يلاحظ كل من شاهد فيلمًا لبريسون أنه يراقب بشكل أساسي سلوك الشخصيات الجسدي، وخصوصًا حركة أيديهم. حتى استخدامه للموسيقى، لم يكن لتغذية شعور ما معروض على الشاشة بقدر ما كان بمثابة لقطة عكسية لما يعرض. كأن الموسيقى ترد على ما يصور، والعلاقة بينهما تدل على شيء ثالث. كانت تلك العلاقة الاعتمادية هي عمود أسلوبية بريسون. فن السينما يشجع تكاسل المتلقي. فهو يعرض تصورًا جاهزًا على النقيض من الأدب الذي يستدعي فعل القراءة والتصوير الذهني للمكتوب. كان الإيحاء والتلميح هما أداة بريسون، وشكلهما بتلك العلاقة بين اللقطة والأخرى، أو الصوت والصورة. تلاعب بانتباه المشاهد بين الوحدة والأخرى ليدفعه إلى تفاعل إيجابي. تنشط به مشاعره وخياله، ويترك حينها دوره السلبي في التلقي.
إن تقاطع الفنون وتشابكها أمر عام وتاريخي. هناك دائمًا حراك لنمو كل فرع. أدوات ومصادر هذا النمو غزيرة. أحيانًا تلعب دوافع السياق دور المحفز. قد يكون النجاح التجاري أو تطورًا تكنولوجيًّا، وقد يكون قلة موارد أو محظورًا ثقافيًّا. تبقى الحركة غير مرصودة في ظل ذلك التكرار. يتيح التلاقي بين الفروع مجال لفرص. تنشأ الفرص في لحظة واعية. يتجرد حينها الفرع من دعامات سابقة. يثبت وجوده ككيان مستقل. ثم يعود إلى الفضاء ليتفاعل مع التكرار، ويخلق الحيز الافتراضي لاختلاف جديد.
ترشيحاتنا
