فنون
محمد هانيسينما الشعر وأفلام الشعراء
2025.01.26
تصوير آخرون
سينما الشعر وأفلام الشعراء
سُئل بازوليني في حوار عن الفارق بين السينما النثرية والسينما الشاعرية. أجاب، وهو مخرج وأديب يعي الفارق بين جماليات اللغتين الأدبية والسينمائية، بأنه بمعزل عن الحكم على أي منهما، يمكن القول بأن الشخصية الرئيسية في السينما النثرية عادة ما تكون القصة وأبطالها وبيئتهم. بينما يحتل الأسلوب مكانة الشخصية الرئيسية في السينما الشاعرية، وتصير الكاميرا أداة حاسمة في ذلك التناول. طرح بازوليني بعد تعريفيه مثال جون فورد ممثلًا عن السينما النثرية، وجودار عن الشاعرية.
لطرح بازوليني وجاهته الذي يوافقه كثير من التنظير حول ماهية فن السينما وكيفية التعبير من خلاله. فإن أردت إعادة صياغة تعريفاته لانتبهت إلى خضوع النوع الأول، السينما النثرية، للمحتوى المقدم. فالقصة، كاختيار سردي لمحتوى جذاب لعموم الجمهور، عبرت قرون بين فنون شتى. استوعبها الشعر والرسم والموسيقى والمسرح، والفن السابع الوليد. حكت رسومات مصر القديمة التاريخ. أخذ الفن التشكيلي في التطور في أسلوبه مستغلًّا محتوى قيمًا في عصور مختلفة. عبر فنانوه عن أساليبهم في حدود تصوير ما يهم الممول والمتلقي. رأينا توثيقًا لأحداث وشخصيات سياسية وتوراتية سمحت لمصوريها برؤية تجلت بها لحظة تتجاوز التسجيل المادي. خفتت تدريجيًّا أهمية المحتوى لاعتبارت كثيرة، منها اختراع الفوتوغرافيا، حتى تولى الأسلوب أمر المحتوى كما هو حال المدرستين الانطباعية والتكعيبية. أصبح التفاعل مع العمل الفني أنضج، والتفتت تجربة المتلقي لقيمة الأسلوب الذي صور بركة مزهرة أو جماعة من العازفين. يمكننا أيضًا رؤية تطور وتنوع في القوالب الموسيقية. يختلف دور الأسلوب ومركزيته بين الأغنية الحديثة والأوبرا من جانب، وبين السيمفونية وموسيقى الجاز من جانب آخر.
أضاف بازوليني أن السينمائيين يعملون تحت ضغوط كالروائيين، لكن يمكن للبعض أن يتجه إلى الشعر أحيانًا. فعلى الرغم من أن الشعر يستطيع التعبير عن سردية ما، فإن الشعر من الأساس تجلٍّ لغوي بليغ للتعبير عن مشاعر أو أفكار. تتنوع أدواته بين الجناس والمحاكاة الصوتيين، والسجع الابتدائي والقافية، والاستخدامات المختلفة للكلمات لخلق معانٍ مغايرة، وتكوينات إيقاعية تغازل انفعالات القارئ. من بين منظري فن السينما اللغوي كريستيان ميتز. أشار ميتز إلى اللغة السينمائية بأنها تعمل وفق بناء هيكلي مثلما تكوِّن اللغات معانيها. يصاغ المعنى من خلال العلاقة بين المفردات. وفي الفيلم، بين اللقطات، سواء تتابعيًّا أو في سياق العمل الكامل. تعمل اللقطة عمل الجملة في اللغة وليس الكلمة. وبالطبع لا تحمل اللقطة مدلولًا ثابتًا عابرًا للفيلم محل المشاهدة. فالسينما في هذه الحالة لغة وليست نظامًا لغويًّا. أما السابقون على ميتز، فقد وضعوا أيديهم على الفارق بين الفيلم وغيره من الفنون. وحددوه في إعادة تقديم الحياة، أو إعادة تشكيلها، عن طريق قدرة الفيلم على التحكم في الزمن المنقول. إما بتوجيه المشاهد إلى تفاصيل وجوانب لا يمكنه رؤيتها في الواقع إلا من خلال لقطات إضافية تتجاوز الزمان والمكان بانتقال لحظي نحو المستهدف، وهو باختصار المونتاج، وإما بالإخلاص للحظة المنقولة والانغماس فيها وخلق مساحة تأمل في اللقطة كأننا نحاول حفظ شعورنا بالوقت حينها، واستدعائه. إن أراد المخرج السينمائي أن يغلِّب الأسلوب، فعليه أن يختار بعناية تلك اللحظات التي تعبر عنها لغة السينما، ويشكل العمل الكامل من مجموع هذه اللحظات. مثله مثل الموسيقي الذي اختار مقطوعة جاز بدلًا من أغنية ذات هيكل بلحن يحمل فقرتين يليهما جسر يؤدي إلى ختام. حينها سيعتمد المخرج على هيكل أكثر سيولة من السرد القصصي، وربما السرد بشكل عام، ويتجه نحو الاستنباط الشعري.
جودار قطعًا مثال موفق. هو صانع أفلام له باع لا يضاهى في التجريب واكتشاف أفق جديدة للفيلم كفن مستقل. كان مشروعه التفكيكي يعيد النظر فيما سميت بقواعد اللغة السينمائية وصناعة الأفلام. وامتد أثره إلى كثير من معاصريه وأجيال لاحقة. فقد كانت تجربته مكثفة وتحتاج إلى من يوظف كمًّا مما طرحته بشيء من الاستفاضة والتأمل. تنوع المحتوى الذي قدمه جودار والهيكل الذي احتوى موضوعاته. وافقت اختياراته تجربته السينمائية، لكن في أغلب الأوقات لم تكن مألوفة أو مستساغة للمتلقي الذي يأمل في تفاعل عاطفي مع شخصية أو أزمة، أو حتى طرح عميق لفكرة "جادة". ولأن تحليل أمثلة من أعماله قد يتطلب وفرة من التوضيحات والإشارات إلى مراجع متنوعة حول أفكار ونظريات عديدة، يمكن الاعتماد على نموذجين آخرين يعكسان السينما الشاعرية. أحدهما معاصر لجودار والثاني لاحق له.
قدم أندريا تاركوفسكي فيلمه "المرآة" في منتصف سبعينيات القرن الماضي. المرآة تجربة ذاتية فريدة. تسبقها تجربة فيلليني الثورية "ثمانية ونصف"، لكن تاركوفسكي انفرد بأسلوبٍ وتناولٍ يميزه بين كل تجارب السينمائيين، سواء على مستوى صناعة الفيلم أو نوعه. الفيلم لا يقدم صاحبه كشخصية رئيسية، وليس لصناعة الأفلام وجود بيئي في أحداثه. يدرك المشاهد ضمنيًّا ذاتية الفيلم، وتؤكدها بضع دلالات عابرة. وإن لم يتم ربط المعروض بصاحبه فلن ينقصه شيء. الفيلم، كما وصفه المخرج الدنماركي لارس فون تريير، تجربة روحية تشابه الطقس الديني ولكنك لا تعلم عمَّا تدور أحداثه. هي نفسها التجربة العاطفية المتجاوزة التي طمح إليها وقدرها تاركوفسكي في السينما والفن بشكل عام. يراها حالة تواصل شعوري مع المتلقي، يتفاعل معها الأخير بكامل حريته ويكون انطباعه الخاص عنها. يمكن حينها لمحتوى العمل أن يدرك ويُأوَّل بأشكال عدة، وتنتقل خصوصيته من صانعه إلى مشاهده إن تركت جماليات الأسلوب أثرها في المتلقي. لا يمكن وصف محتوى "المرآة" بالقصة، ولا يوجد به صراع أو غاية واضحة تدفع الأحداث. إن هيكله يثير الشكوك حول تسميته تحت مظلة السرد من الأساس لفقدانه الروابط بين أجزائه. بناؤه أقرب إلى البناء الشعري. يتكون من مشاهد وتتابعات متفرقة، تجمعها شخصيات بلا غاية ظاهرة، وأفكار، أو تيمات، ضمنية بين كل فقرة وأخرى، ولكن بدون تطور تصاعدي نحو ذروة.
الشخصيات محدودة ولاختيارها اعتبارات ضمنية. تقود الأم بضعة تتابعات، والزوجة، التي تجسدها نفس الممثلة التي تلعب دور الأم، مشهدان، والابن، الذي يقوم بدور الراوي الشاب في تتابع آخر، مشهدان. ويتلاقوا أحيانًا في بعض المشاهد. أما الراوي الناضج، الزوج والمخرج، فلا نراه، نسمع صوته في حواره مع الزوجة، ومكالمة مع الأم المسنة، وفي بداية التتابع الأول في الفيلم كراوٍ. انسحب تاركوفسكي إلى الخلفية وترك لنا ما يعبر عن وجوده. مثلما عرض مشاهد كأبياتِ شعرٍ مكثفة قد يعكس أثرها ما لم يصور. أحداث وعلاقات وتفاعلات تدور في زمن ممتد يمكن للمتلقي تخيلها وما بها من دراما على أثر ما حمله المعروض من مشاعر.
بعد مشهد تقديمي، تقدم الكاميرا وصوت الراوي المكان. تجلس الأم على سور خشبي قرب منزل ريفي أمام حقل واسع تحده غابة بلوط. يمهل تاركوفسكي اللقطة وقتها. يظهر غريب من خلف شجيرة وسط الحقل، نتابعه يتقدم صوبنا، في اتجاه مجلس الأم. يقترب ويسأل عن وجهته. يشاكسها ويستدرجها إلى حوار فارغ. تحمل الكاميرا زمن اللقطة، وتتشبع بباقي الحواس المحيطة: النسيم، حفيف الخضرة، صوت الحشرات، صرير أرجوحة معلقة بين شجرتين نام عليها طفلاها. يتكرر الصرير كدقات عد تنازلي لوقوع ما نجهله. تراقبها الكاميرا بينما يتحدث الزائر وتحاوطها مبرزة ضفيرة شعرها الملفوفة على خلفية رأسها لتصبح دلالة في لقطات لاحقة. تتغير المسافة بين الغريب والأم، يقترب ويجلس بجوارها، يقعان، تقوم ويتبعها بعد لحظات من تأمل المحيط وحيويته التي بالفعل برزت خصائصها لنا بالصوت والصورة. يغادر وفي منتصف طريقه تهب موجات رياح عبر حشائش الحقل في اتجاه الأم. نحت تاركوفسكي الزمن، كما كان يحب أن يُسمى فن السينما، وشكل أثر مرور الوقت النفسي بإيقاعه الخاص ولقطاته التأملية. وظف الطبيعة كما فعل سابقه كوروساوا، وعكس بعنصر منها، الريح، المزاج الطاغي في المشهد وتحسبات الأم الداخلية. نتبعها بعد لحظات سكون إلى داخل منزل طفولة الراوي. يلقي الشاعر أرسني تاركوفسكي، والد المخرج، قصيدته الأولى في الفيلم. يشتاق فيها إلى حبيبته ويتلو مشاهد من حلم رأى لقاءهما فيه أشبه بالغطاس. يتأمل مظاهر الطبيعة في مكان اللقاء الخيالي، ويتوجس ما يخفيه القدر. تُتلى الأبيات على خطوات الأم وتقديمنا لمحيط المنزل والأطفال في مشاهد تبدو وكأنها حفرت في ذاكرة الراوي. نرى طفلة نائمة في ساحة المنزل داخل صندوق، ثم نلاقيها مع أخيها على طاولة الغداء تشاركهما قطة بعض اللبن المسكوب جانب طبقيهما. نعود إلى الأم التي تعبر بنا، نلاحقها إلى مجلسها قرب النافذة تتأمل الأفق. تسقط دموعها وهي وحيدة في مجلسها. تصاحب القصيدة تلك الوصلة كيفما استخدم ألان رينيه صوت أبطال "هيروشيما حبي" على حركة الكاميرا الاستكشافية للمكان، وصوت الراوي المصاحب للعين التي تتأمل معسكر أشفيتز في فيلمه التسجيلي "الليل والضباب". كأنها موسيقى مصاحبة لتعبير بليغ مقتصد، لا يوجه بقدر ما يقلل من احتمالات ضلال المشاهد. يختتمها بحريق لكوخ الجيران، يمهده صوتيًّا قبل بصريًّا، ويؤخره خلف أمطار تساقطت على عتبة باب المنزل. مرة أخرى يوظف عناصر الطبيعة وما بها من صراع وتناغم موروث. ننتقل بعدها إلى فراش الابن. يقوم كأنه سمع حركة ما، نرى في المقابل شجيرات حول المنزل تحركها نسائم ولا يكسر الفراغ شيء. نعود ويتكرر مشهد الابن لكنه هذه المرة يقوم ويتجه إلى خارج الغرفة لنرى الأب وكأنه يعمِّد الأم كما قالت القصيدة. بعدما انتهت نبتعد عن الأم بخفة الروح لنتابع سقف الغرفة ينهار وتصاحبه مياه كالأمطار التي تناغمت مع حريق الكوخ في المشهد السابق. تأخذ ركنًا بعيدًا عن الانهيار وتجفف ما بها من بلل. نعود معها بخطواتها إلى حائط عاكس كالمرآة لتظهر الأم المسنة بدلًا من الشابة تمسح بيدها على الحائط وتتجلى صورتها.
نعود مرة ثالثة إلى فراش الابن. هذه المرة لا نرى الفراش ولا الابن. نسمع صوته وقد صار رجلًا يجيب مكالمة وصلته من أمه في شقته التي علق على إحدى حوائطها غلاف فيلمه "أندريا روبليف". نستكشف المكان بحركة الكاميرا التي تعبر الغرف في خط مستقيم بينما يدور حديث تستعدي به الأم سيرة زميلة لها تظهر في التتابع التالي كرابط بين الذكريات.
بعد التتابع الأول وما به من حنين وطول انتظار وقلق الاحتمالات، تتوالى ذكريات وأحلام، تتوغلها انعكاسات من حاضر الصانع ولقطات أرشيفية لأحداث تاريخية. نعود مرة أخرى إلى منزل الطفولة. يكتمل الفيلم في حالة تصالح تبدو في عالم آخر. يجمع بها المخرج الشخصيات في أعمارها المختلفة في تلك البقعة البريئة، بعد أن كشف حالة كل منهم في لحظة رأى تاركوفسكي سينمائيتها ومناسبتها للغة الزمن في التعبير عنها. بدت تجربة اعترافية لها مردود متفاوت. وصلت المخرج رسائل مدح وذم من فئات المجتمع كافة. كما اختلف النقاد المحليون حول أسباب استيائهم مما شاهدوه. ظل تاركوفسكي متمسكًا بعدم فرض رؤية أو تفسير للفيلم إلى أن طال وقت أحد النقاشات بعد عرض ما. اقتحمت حينها عاملة بدور العرض تسأل الحاضرين إن كان ما زال أمامهم وقت كثير. واندهشت أن النقاش يدور حول ماهية محتوى الفيلم. أجابتهم حينها بأن الأمر بسيط؛ الفيلم عن شخص يحاول مصالحة دائرة قريبة منه. أُعجب أندريا برأي العاملة لأنه تلقائي وقائم على تفاعل عاطفي مثله مثل تفاعل الطفل مع الفن. وهو ما تمناه دومًا، أن يتلقى المشاهد الشعور ويستوعبه بطريقته الخاصة.
بعد سنتين، عرضت شانتل أكرمان فيلمها "أخبار من الوطن". وإن اعتبرنا تقديم تاركوفسكي للمرأة الأم والزوجة، على الرجل الابن والزوج والمخرج، ونظرته إليها، التي على الرغم من تركيزها وتأملها، بعيدة كل البعد عن التلصص والتشيُّؤ وذات مسلك نسوي غير موجه، فإن ما طرحته أكرمان في مشروعها الفني كان نسويًّا ذاتيًّا في أغلبه. وأخذت على المستوى الفني في فيلمها المذكور خطوات جديدة فيما يخص الهيكل ولامركزية العرض. ربما لذلك يصنف الفيلم بأنه دراما تسجيلية. الفيلم مكون من لقطات طويلة متربصة. اللقطة الواحدة تكون مشهدًا. لا يحدث شيء لافت داخل اللقطة. هي دفقات من الحياة، من اليوم وناسه العاديين في المدينة. يصاحبها صوت أكرمان، وتغيب صورتها، وهي تقرأ رسائل والدتها من الوطن. رسائل من بلجيكا باللغة الفرنسية إلى المخرجة التي قصدت نيويورك تطارد حلمها السينمائي. شبيهًا بقصائد الأب في "المرآة"، يؤطر إلقاء ما في الرسالة الحالة العامة لما نشاهده على الشاشة. تصبر أكرمان خلف الكاميرا حتى تتشبع اللقطة بالمحيط، وتنمو من رتابة الحركة الخافتة وأصوات المكان إيقاع خاص، يلعبان ملاحظته واستقراره دور البداية والنهاية. مثل ذلك المشهد الشهير، في "ستوكر" لتاركوفسكي، الذي ركب فيه الشخصيات الثلاثة عربة على قضيب تنقلهم إلى "المنطقة". تتحرك الكاميرا، بتقنية السيبيا (درجات البني)، بهدوء على وجوه ثلاثتهم وفي الخلفية إيقاع صرير القضبان وتناثر صدى أصوات فرعية يتشكل في تناغم متصاعد على مهل، حتى ينتهي المشهد/اللقطة بلقطة جديدة ملونة للوجهة المقصودة.
على قضبان مشابهة، نرى عربة مترو من الداخل. نتابع اهتزازها الهادئ من زاوية سيمترية تمتد إلى عمق عربات أخرى، ويصطف ركابها على الجانبين. بعد مشاهد لشوارع فارغة نهارًا ومحال عاطلة ساعة الغروب ومطاعم نادرة الزبائن ليلًا، تغلف أجواء الوحدة والركود والغربة رسائل تشير إلى ما تمر به الابنة ضمنيًّا. تتمايل أجساد الركاب مع الاهتزاز وإيقاع صرير القضبان. ترتعش الإضاءة فوق سكون الجالسين والواقفين. نصل إلى محطةٍ ما، فيتشكل تكوين جديد بعد حركة المغادرة والركوب، والقيام والجلوس، في مقدمة وعلى امتداد البصر في خلفية اللقطة.
تتكرر الفقرة مرة وأخرى، ثم يبدأ مشهد الوصول. لقطة لإشارة مرور تقابل العابرين من الجانبين. آلاف من المشاة والركاب يوميًّا في حالة سعي. أعداد غفيرة لا تكوِّن جماعة، بل أفرادًا يجمعهم الاغتراب. تقرأ أكرمان رسالة عن حالة الأهل المتعثرة ويتم الإشارة إلى أنها نفسها تركت عملها الذي ضايقها. يحل الليل في الشارع ونعود إلى القضبان مرة أخرى. هذه المرة يعتمد المشهد على لقطة خارجية تصور أرصفة المترو. تقف الكاميرا على رصيف مواجهةً أبواب القطار، وفي العمق رصيفان آخران. الإطار ثابت، يبدأ من فراغ ويملؤه الركاب تدريجيًّا، يصل قطار إلى أحد الأرصفة، يصعد البعض ويغادر القطار، نتابع الوصول وهم يتركون المشهد، ثم تعاد الكَرَّة على رصيف آخر. بينما تغلب الآن حالة الرجوع، على عكس السابقة التي أوحت بالذهاب، نستمع إلى رسائل توحي بانفراجة. حال الأسرة أفضل والدعم المادي يصل إلى الابنة. إضافة إلى ذلك، تبدو الأم أكثر اطمئنانًا على ابنتها التي أجابتها على أسئلة معلَّقة في رسائل سابقة.
تكمل أكرمان تلك الرحلة، وتغذيها بعد قليلٍ بحركة كاميرا محدودة توطد علاقتنا بالمكان. ترجع بعد ذلك للكاميرا الثابتة، لكنها تجوب الشوارع بها من داخل سيارة. نقابل من نافذتها سائقي سيارات مجاورة ومشاة على الأرصفة، وفي العمق نرى كلما مررنا بتقاطعٍ مبنى أو أكثر من علامات المدينة. تطوقها شانتل وكأنها تألفها وتربط أطرافها. تتأزم وحشة الأم وافتقادها لابنتها في رسائل متتالية. تعود أكرمان وتطوف بالمدينة بسرعة أعلى من فوق سطح القطار. وتغادر في لقطة تمتد لعشرة دقائق من فوق ظهر سفينة بعد أن اعتدنا المدينة معها. تبدأ الصورة من مخرج الميناء، وينكشف الساحل رويدًا وأبراجه الشهيرة إلى أن يكتمل كبطاقة بريدية.
كل ما نريده من الجملة هو أن تكون جملة مفيدة. تقدم شيئًا وتتمه. ينطبق ذلك على ما تكونه الجمل من فقرات، وما تشكله الفقرات من موضوع. يأتي بعد ذلك تصنيف الشكل الذي اختبرناه، أهو شعر أم نثر، تقريري أم خيالي، قصة أم مقالة، بحث استنتاجي أم مقارن. يُخلق المعنى داخل سياق أحد التصنيفات، أو حتى من خلال سياق هجين عابر للتصنيف. إن عدنا إلى جودار، وجدنا في أفلامه محاولات من هذا القبيل، كلها تخدم تجريبه فيما يمكن لفن السينما أن يدركه. ما تم تنميطه في صورة قواعد للغة لم يكن إلا دراسة لما تم فعليًّا وتحديدًا يسهِّل انتقال الخبرة إلى ممارسين جدد. في الفن، كما في اللغة، التجريب قائم ما دامت الممارسة. تكمن المخاطرة في البعد عن المألوف. المألوف يروض التوقعات، وربما كان ذلك في صالح الصناعة بالمنطق الاقتصادي. لكن النجاحات المفاجئة تضع الخيارات الآمنة محل شك. وإن كان أمثال جودار تكلفوا ثمنًا باهظًا جراء اكتشافاتهم، فثمار جهودهم أفادت فنانين كُثرًا من بعدهم استساغهم جمهور واسع. الحكم الحقيقي يبقى للزمن. الزمن الذي يتجاوز الموضوعات والسياق، ويحتمله الفن الخالص.
ترشيحاتنا
