فنون

محمد هاني

الديالوج والصورة في السينما

2024.10.12

تصوير آخرون

الديالوج والصورة في السينما

 

تسمى السينما بالفن السابع وينسب إليها الجمع بين فنون عدة سابقة عليها. تطور اختراع الكاميرا لتسجل الحركة وارتبطت أسماؤها بهذه المهمة الأساسية. يرجع أصل كلمة سينما في اليونانية القديمة إلى كلمة "كينما" وتعني الحركة. أما "جراف"، الشق الثاني من "سينماتوجراف"، فتعني التدوين أو التسجيل. تم توظيف الاختراع كغيره لدر الربح. كانت أسرع الطرق لجذب المستهلك هي الترفيه. والترفيه يبحث عن المألوف لجمهوره. إذن لم تكن مصادفة أن تسجل الأفلام الأولى ما يشبه الإسكتشات المسرحية. اعتاد الناس المسرح لآلاف السنين. وجاءت كاميرا السينما لتنسخ وتعرض وتتيح ما حجَّمته لوجيستيات العرض المسرحي. انتبه صناع الأفلام لقيمة جديدة في التسجيل، وهي الإيحاء بالاستمرارية. في فيلم يصور عملية إطفاء حريق لرجال المطافئ، نرى زاوية خارجية للمنزل ورجل المطافئ يتسلقه ويدخل عبر النافذة لإنقاذ أهل البيت. عندما ننتقل إلى رؤية زاوية داخلية في الغرفة، نشاهد تسلق رجل المطافئ ودخوله عبر النافذة مرة أخرى. بعد عدة تجارب، اكتشف المخرجون وقتها أن التخلي عن إعادة ما تم عرضه من اللقطة الأولى في الثانية لن ينتقص منها. على النقيض من ذلك، وهم الاستمرارية يدعم واقعية ما نشاهد. 

في المرحلة اللاحقة، صنعت الأفلام بشكل قريب إلى ما نراه اليوم. واهتم منظرون سينمائيون بالإجابة عن سؤال "ما يميز السينما عن باقي الفنون؟" وفي ظل تطور الحرفة نما وعي بإمكانيات الفن الوليد. ثم تطورت الصناعة وشاهد المتفرج أفلامًا صوتية. ومرة أخرى استغل رجال الصناعة الميزة الجديدة في صالح رأس المال. وعادوا يقحمون المألوف على حساب التجريب. وزادت جرعة المسرحية والاستعراض في الأفلام. وكثفت الإنتاجية دور الصوت في السينما من خلال سردية درامية يلعب الحوار دورًا مهمًّا بها، وأحيانًا من خلال الغناء والموسيقى التي كانت تسجل أثناء التصوير قبل أن يتم تسجيلها بشكل منفصل وتركيبها على الصورة. لم تتوقف صناعة الأفلام، وبالتالي لم يتوقف التجريب. وظل المنظرون متابعين لحركة السينما. قاموا بالاستشهاد بما يحدث في الميدان للإجابة عن سؤال ماهية السينما، وكيفية تكوين معنى بصري سينمائي. علاقة نظرية الفيلم بالأفلام تشبه علاقة اللغويات بنحو اللغة. النظرية لاحقة التنفيذ وليس العكس. تكلم الناس ثم صيغت قواعد لحديثهم ثم نشأ علم يبحث في فلسفة تلك الصياغة. 

يمكننا في ضوء ذلك التراكم أن نرصد بعضًا من التوصيفات التي تفرد بها فن الفيلم. هناك من المخرجين من أخلص للسينما وحالتها الفريدة. وصار همهم تطوير الفن واختبار حدوده وإمكاناته، سواء بشكل بنائي، مثل هيتشكوك، أو بمنهج تفكيكي، مثل جودار. في كل الأحوال، بقيت معظم المحاولات داخل إطار السرد كهيكل لمحتوى الفيلم. السرد هو تسلسل أحداث مترابطة. تنوع الطرق السردية من القصة، الأسهل والأكثر ألفة، إلى السرد غير الخطِّي. خرج البعض عن المألوف واستخدم الاستنباط الشعري وسيلة لصياغة محتواه، مثل تاركوفسكي وبراجانوف. وبغض الطرف عن الهيكل المتبع، بقي للحوار بين الممثلين في الأغلب مجال تتباين مساحته وفقًا للأسلوب والنوع والهيكل. والحوار موروث مسرحي وقاعدة أداء الممثل لجمهوره. وجوده بصورته الأصلية في السينما ينتقص منها كفن. قال هيتشكوك في هذا الصدد إن المشاهد من هذا النوع لا علاقة لها بالسينما، فهي صور لناس يتكلمون. ولذلك، قد تكون دراسة التعاملات المختلفة للمخرجين السينمائيين مع عرض الحوار فرصة لإبراز جوهر اللغة السينمائية كما تأملها منظرون كلاسيكيون ومعاصرون.

بيرجمان

يعد بيرجمان مخرجًا ذا أسلوبية لا تخطئها عين. يمكن للمشاهد من لقطة واحدة تبيُّن أنه في عالم المخرج السويدي. بيرجمان مخرج من خلفية مسرحية لم يتخلَ عنها. كان للمسرح جانب من نشاطه طوال الوقت، وتجلت جمالياته في أعماله السينمائية. إن روح إبسن في كثير من أعماله. كما أن سرد بيرجمان درامي يقوم على حوار منظوم وأداء يتجاوز الواقعي، وحدث اقتصادي محدود المكان والزمان. في فيلمه "ضوء الشتاء" على سبيل المثال، تدور الأحداث على مدار يوم في ثلاثة أماكن، الكنيسة والمدرسة وبيت أحد الشخصيات. ويدور معظم الفيلم في الكنيسة. نرى من خلال المشاهد بين القس، الشخصية الرئيسية، وباقي الشخصيات في سياقات مختلفة، الحالة العامة في القرية الصغيرة وأزمات المجتمع الصغير المنغلق. لكل شخصية آلامها وشكوكها، بما في ذلك القس نفسه.

تحاول مدرسة القرية، صاحبة علاقة سابقة مع القس، التقرب منه. يصدها وتترك الكنيسة بعد أن تركت له جوابًا تقول في محتواه ما لم تستطِع قوله بين يديه. يجلس القس على مكتبه بعد لحظات صارع فيها نفسه وأربكت أعصابه. يستجمع إرادته ويهدأ قبل أن يشرع في قراءة الرسالة بصوت المدرسة. اللقطة التالية للمدرسة في لقطة قريبة تواجه الكاميرا وتتلو ما ملأ أوراقها. يصبح محتوى الرسالة حديث صاحبتها، ويحل المشاهد مكان القس. تنظر المدرسة إلى الكاميرا وأحيانًا تسرح بعينها بعيدًا عن عين المتفرج. تملأ جوفها مرارة فتور علاقتهما وتوحي ابتسامتها غير المكتملة بألم ابتعاده عنها. نلاحظ سكوتها القصير الذي تستجمع به أنفاسها. تتبدل ملامحها عندما تتقلب روحها. وتلمع عينها حينما تداعبها الدموع ولا تنفرج. تفصلنا عنها لقطة تسترجع فيها ألمًا مرت به في يديها واستفز حقيقة ما بينها وبين حبيبها. اللقطة قريبة تركز في يديها متشنجة بينما تدعو الرب الشفاء والراحة. نرجع إليها وتكمل ما تبقى من رسالتها. تنتهي على لقطة قريبة، ليدي القس المتوترة وهو يلملم صفحات الرسالة. 

يأتي التتابع السابق في سياق مشهد حواري. هو حديث امرأة. البناء من هذا المنطلق بناء مسرحي من الأساس. يقوم بيرجمان بتحويله سينمائيًّا إلى لغة خاصة بالفن الذي ارتضاه للتعبير. وفي هذه الحالة تلعب اللقطة القريبة دور المادة المحفزة لهذا التحول. اللقطة القريبة أداة خاصة باللغة السينمائية في تكوين الجمل البصرية. توجه اهتمام المشاهد وتكشف لحظات لولاها لمرت مرور الكرام. وفي فلك الإيهام بالاستمرارية، يمكن لتتابع اللقطات أن يؤثر في الشعور بالزمن. قد يجعل من لحظة قصيرة في الوقت لحظات طويلة في الزمن. انتبه منظران مؤسسان لقيمة اللقطة القريبة. هما بيلا بلاش وجون إيبستين. وسلطا الضوء على ما يمكنها إضافته وافتقار الفنون الأخرى إليه. فإن نظرنا إلى المشهد المذكور فسنجد أن اللقطة القريبة قامت بعدة أشياء. جعلت من وجه الممثلة منظرًا جماليًّا مثل اللقطات البعيدة لوادي مونيومنت في أفلام جون فورد. صار معلمًا ومكانًا له تضاريسه، وتميز عن غيره بالحركة. هذه التحولات والمشاعر التي تنعكس على وجه الممثلة. هي حركة نراقبها ونتفاعل مع تعاقبها. تنكشف تفاصيل الملامح والإيماءات، وتخلق حياة في مجملها مثل النواة والجزيئات. تبرز الأثر وتجذب المشاهد إلى بعد آخر. يحضر بعد الزمن والإحساس بحال الوقت. وكأن اللقطة القريبة تمهلنا وقتًا إضافيًّا لتكثيف المشاعر حول المعروض. 

الأخوان كوهن 

نجح الأخوان كوهن في أن يصيرا علامة مسجلة. حققا تقديرًا على المستويين النقدي والتجاري. وعرف الجمهور عن أفلامهما طابع الجريمة ومفارقتها. تدور أفلامهما كذلك في عالم خاص بهما، عالم عبثي لا يمكن توقعه. شخصياته في عزلة داخلية وكثير منهم يطمح في تغيير مصيره، وعادة ما يفشل في ذلك. يرسمان مسارًا لكل شخصية، ويزرعان حالة عدم رضًا في داخلهم. في رحلة شخصياتهم نحو محاولة رسم مسار مختلف، تقترب الشخصيات أكثر من مصيرها المحتوم. وكلما زادت مقاومتهم اقتربوا أسرع مما كرهوا ملاقاته.

من بين بصمات الأخوان كوهن السينمائية، الحوار المربك. يخلق الأخوان موقفًا مؤرقًا أو محرجًا. تتواصل الشخصيات خلال هذا الموقف بحوار يحمل تهديدًا، أو استفزازًا أو سوء تفاهم، ولا يخلو من حس فكاهي خاص. في "الرجل الذي لم يكن هناك" يقوم بيلي بوب بحلاقة شعر، أو باروكة، زبون يطمح في أن يكون رجل أعمال. يحلم بمشروع مغسلة (دراي كلين). لديه الخبرة وينقصه رأس المال. يبحث عن شريك ممول صامت. يتحمس بيلي للفكرة ويزور صاحبها في مسكنه ليبدي استعداده للشراكة. يتذكره المستثمر وينتفض لارتداء الباروكة. يجيب على أسئلة بيلي التوضيحية ويعيد السؤال عن المال اللازم. يخبره بيلي بقدرته على توفيره. يجلس بيلي مترددًا ملولًا بصوته الرتيب، بينما يفعم جليسه حماس مبالغ فيه وحديث حيوي. يشربان نخب الشراكة. يغمز إلى بيلي مبديًا إعجابه وميوله المثلية. يصده بيلي فيتراجع سريعًا. 

بغض الطرف عن الإبداع في صياغة الحوار، يستخدم الأخوان المونتاج كأداة أساسية لترجمته إلى لغة سينمائية. يصوران كل طرف على حدة، ويبادلان بين اللقطتين. يفضلان اللقطة المتوسطة من مسافة قريبة حتى يرى المشاهد الشخصية وسط محيطها ويتضامن مع شعورها بالانحصار. تتجلى حرفية الأخوين في الإيقاع. في أي لحظة ينتقلان إلى الزاوية العكسية؟ واللحظات بين دور كل شخصية في الحديث. مثل تلك اللحظات التي استلقى فيها صاحب فكرة المشروع واسترخى وخاطر بمغازلة شريكه المستقبلي. والثانية أو الثانيتان اللاحقتان بعد انتقال الكاميرا إلى بيلي قبل استنكاره الفعل. هنا المعنى صار مركبًا. وأصبح رهن علاقة بين لقطتين. وهي صياغة لغوية سينمائية سميت باسم أول من أشار إليها، المخرج والمنظر ليف كوليشوف. يخلق التلقي معنى عند رؤية لقطة وبعدها أخرى. إن شاهدنا امرأة تأكل في مطعم، ثم توقفت وتبينت المكان حولها، واللقطة التالية رأينا لقطة قريبة لمشروبات على صينية، سنستنتج أنها عطشانة. في حالة كوهن، العلاقة بين اللقطتين التبادليتين علاقة بين فعل ورد فعل، بين إيماءة، أو تعبير، وتعليق، أو تعبير آخر. وأحيانًا العكس، بين جملة وأثرها على متلقيها. وقتها يصبح تفاعل المشاهد مبنيًّا على شعور غير واعٍ بالتأزم والانفراج. يبني هذا الإحساس الترقب الذي خلقه المونتاج، والإيقاع الذي بلور رد الفعل.

عباس كيارستامي

يرتقي عباس إلى مصافِّ السينمائيين الرواد. أضاف إلى فن السينما وترك علامة فارقة في لغتها. تعد السينما بعد كيارستامي بجديد وله أثره في مخرجين عالميين من بينهم ميشل هانكه. هذا إضافة إلى تقدير فنه من قبل عظماء مثل كوروساوا وجودار. اختزل عباس الدراما في عقبات صغيرة ملموسة. رحلة طفل إلى قرية مجاورة بحثًا عن زميله، وآخر إلى الإستاد لمشاهدة مباراة. بدلًا من صراع وتحديات، نرى من عين الطفلين أهوالًا تهملها عين البالغ. وينجح في وصل تعاطف وتفهم المتفرج لغاية أبطاله القصر. حتى وإن اختار لفيلمه بالغين للعب الدور الرئيسي، ظلت غايتهما بسيطة والحدث محدودًا ينكشف تدريجيًّا من كثافته بمعالجة بصرية خافتة وشاعرية. يوظف كيارستامي ممثلين غير محترفين عادة ما كانوا من أهل الميدان الذي يختاره موضوعًا لفيلمه. ينمي ذلك الخلط بين الواقع والخيال في تجربته السينمائية. ويستخدم لقطات تسجيلية بجانب لقطات معدة. 

يعد لـ"طعم الكرز" مذاقًا خاصًّا بين رحلات كيارستامي. يدور الفيلم على تل في يوم. تقود الشخصية الرئيسية السيارة ويروح ويجيء، صعودًا وهبوطًا، باحثًا عن متطوع يساعده في أن يدفن في بقعة على التل إن قرر أن يقتل نفسه. رحلته صراع مثل مطهر دانتي. يحاول إقناع من يقابلهم، ويُبدون استعدادًا للاستماع إليه. ويبقى هو غير متأكد إن كان سينهي حياته أم لا. تنحصر الحياة بمنحنياتها في هذا التل وطرقه الملتوية. ويُبنى الترقب خلال محاولات الإقناع والوصول المتكرر إلى البقعة المختارة للدفن في حالة الموت. 

يدور حوار داخل السيارة في كل محاولة. ويتبع عباس سلوكًا آخر حتى لا يقع في فخ الرتابة. نشاهد جزءًا من الحديث في لقطات تبادلية داخلية قريبة بين السائق والمصاحب له. يستغل عباس حركة السيارة والإطار الذي شكلته النافذة خلف كل شخصية. يتنوع المنظر المصور ويعطي انطباعًا بمرور الوقت، ويبرز لحظات الترقب والشك والحرج بين طرفي الحديث. ثم يتخلى عن كليهما ويقوم بتصوير السيارة من زاوية بعيدة وهي تعبر طرقًا تشق التل. يركز كيارستامي في جانبٍ من التل ويعود إليه ثلاث مرات مع ثلاثة ركاب. يصوره مرتين وهو يتابع السيارة تتحرك من يسار إلى يمين الشاشة، ويصور الثالثة وهو يتابع الحركة في الاتجاه المعاكس بسرعة أقل. تقتصر اللقطة الثانية عن الأولى على عدة ثوانٍ. وتهبط حدة الشمس تدريجيًّا بين ثلاثتهم. 

يتحول الحوار إلى تعليق على الصورة، ويصير المتكلم راويًا. تتكون جملة من لقطات متباعدة على طول الفيلم. تصبح اللقطة وحدة لغوية في كيان، وتستمد معناها من وضعها في هذه المؤسسة. هو تطبيق لمنهج الهيكلية اللغوي الذي استعاره كريستيان ميتز ووجد مساحة لقراءة السينما عن طريقه. اللقطة لا تحمل معنى في جوهرها. تستمد معناه من السياق، مثلما تتكون اللغة، وعلاقتها بغيرها. عندما نشاهد لقطة للسيارة وهي تمر من نفس المكان، نكتشف المنطقة في المرة الأولى، ثم نرى النقطة نفسها بعينٍ مختلفة لما تحمله كلمات الراوي من أثر مصاحب ولدلالة التكرار على المجهود والزمن الماضي. وفي المرة الثالثة اتجاه مغاير في صحبة مختلفة لها رأي مغاير وكأنها صورة لما يدور في صدر السائق من صراع بين الأمل واليأس. وربما إشارة ضمنية إلى احتمالية رجوعه عمَّا نوى.

النماذج السابقة ليست الوحيدة. الإبداع لم يتوقف. فإن الأمثلة لم تذكر بترتيب زمني. هي مجرد أمثلة. وطريقة كل منهم، في التعامل مع الديالوج في فيلمه، عاصرت طرقًا أخرى لمخرجين آخرين. هناك من تخلى عن الحوار بشكل كامل. وآخر استخدمه كمكمل لأجواء المشهد، كأنه موسيقى تصويرية، بدون أن يضيف معلومة إلى المتفرج. وثالث يقوم بتحريك الممثلين ويموضعهم في بقع بتراتبية تعكس ديناميكية ما يقال. وعلى الرغم من محاولات التلسنة العديدة، فما زال التجديد في هيكل الفيلم محدودًا. والهيكل قاعدة البناء التي تشكل القالب. ربما كان البدء من هنا فرصة لرؤية مختلفة لما تستطيع السينما الوصول إليه. وهو بالفعل ما قام به البعض مثل جودار وعباس كيارستامي. لا يمكن إغفال تحدي أنه فن جماهيري مربح ومكلف. وبالتالي لا يتحمس ممولوه للمجازفات. ومع ذلك تراهن قلة كل فترة على تطعيم المألوف بالتجريبية.