فنون
محمد هانيالصورة السينمائية وبناء الدراما
2024.11.28
مصدر الصورة : ويكيبديا
الصورة السينمائية وبناء الدراما
لاحظت أني أرجع دائمًا إلى مشاهدة الأفلام التي تؤثر فيَّ بدون أن أدرك بشكل واعٍ عوامل هذا الأثر. أعود إلى تلك الأفلام آجلًا أم عاجلًا. أراجعها بعين جديدة في كل مشاهدة. حتى وإن لم أكن استمتعت في المرة الأولى. لا أهتم بها لما تحظى به من تقدير نقدي أو جماهيري بقدر تفاعلي معها من الأساس. إن لم أتفاعل مع العمل الفني، مهما كانت قيمته، فلا ألتفت إليه مرة أخرى. استطيع أن أقدره، لكني لا أجد مساحة انفعالية ولا تأملية معه. إن وجدت تلك المساحة عدت بحماس وتساءلت عمَّا نجحت فيه جماليات الفيلم المقصود، خصوصًا إن لم أجد مبررات درامية. والمقصود بالدراما هنا الحكي المتصل ظاهريًّا ذو الأحداث المسببة. والمتبع في عموم رواية القصص في المسرح والأدب والسينما.
المثالان الأقرب إلى الذاكرة هما الفيلمان "ستسيل الدماء" لبول توماس أندرسون و"لا بلد للعجائز" للأخوان كوهن. صدرا في نفس العام 2007 وتشاركا الاحتفاء والتقدير، وأحيانًا مواقع التصوير. قمت بمشاهدتهما عديدًا من المرات. استحوذا على كثير من مواضع نقاش بيني وبين أصدقاء متذوقين للسينما وبعضهم فاعلون. بعدما استنزفت استحضارات المشاهد التي استوقفتنا، وأداء الممثلين وجملهم البليغة في سياق الأحداث، وسحر التصوير وتكوين الجمل السينمائية، انتبهت لشعور بداخلي تجاه بعض الشخصيات لم أرَ مصدره فيما أفصح عنه السيناريو من تاريخهم أو مواقف تغذي ذلك الشعور. كنت متفهمًا لشخصية "دانيال بلاينفيو". لا أكرهه على الرغم من انتهازيته وقسوته. بل وأرى فيه شيئًا أشرف من نده، القس "إيلاي". أما في "لا بلد للعجائز"، وجدت نفسي لست منحازًا لطرف ما. كنت أنتظر عثور "أنطون" على "للوين"، وفي الوقت نفسه أتمنى أن ينجو "للوين". وبعد مناقشات ومشاهدات، أظن أنني أدركت مصدر ذلك الانطباع.
يدور "ستسيل الدماء" حول مستثمر حفر آبار بترول أمريكي يسعى إلى بناء إمبراطوريته في بداية القرن العشرين. يقدم أندرسون شخصيته الرئيسية في جوف الأرض. يشق جدرانها بحثًا عن الفضة. نتابع دقات فأسه وثقل ما يحمله صعودًا وهبوطًا. تخونه خطوته ويسقط في بئر مشقته. تصاب قدمه ويجر نفسه بعد أن تمخضت الحجارة عن كنوزها حتى يقبض ثمن معاناته، وتلازمه عرجة بقية حياته. يدور هذا الفعل على الشاشة بدون حوار لمدة سبع دقائق. نشاهده بكل تفاصيله. ويتركنا مؤمنين باستحقاق دانيال لهذه الثمار. نريد له النجاح في القرية التي رحل إليها مستكشفًا. نواجه العقبات من موقعه. وربما نشعر بارتياح عندما يسفر التنقيب عن غزارة الذهب الأسود في تلك البقعة. على الجانب الآخر، يروي "لا بلد للعجائز" عن صراع على ثروة عثر عليها أحد الشخصيات الأساسية في مسرح جريمة. تطارده شخصية ثانية، قاتل مأجور، وتحاول الثالثة، شرطي، منع جرائم جديدة من هذا الصراع. نراقب "للوين"، الشخصية الأولى، وهو يحضر أدواته ويخفي حقيبة المال في ممر التهوية بين غرفتين في موتيل على الطريق. كما نشاهد "أنطون"، الشخصية الثانية، وهو يداوي جروح إصابته بطلق ناري ويلتقط الشظايا الدقيقة واحدة تلو الأخرى. فنريد لحامل الحقيبة الأمان وننتظر شفاء مطارده.
اعتمد البناء في الحالتين السابقتين على الجهد البدني. استثمر المخرج الوقت في الحركة فسيولوجيًّا. كأنها مطاردة لباستر كيتون أو مبارزة لجاكي شان. تكثف انتباه المشاهد وتخلق العوائق لكيتون، وموقع الضعف الذي عادة ما يبدأ منه جاكي النزال، تعاطف وترقب لتجاوز الأزمة. عوضًا عن إبراز الحدث إخباريًّا، أخلص الصانع للزمن وما تحمله التجربة سينمائيًّا. إن كنا رأينا الأدوات "للوين" في "لا بلد للعجائز" وانتقلنا إلى النتيجة مباشرة، كنا أدركنا ما حدث، ولكن التفاعل معه ومع رغبته كان سيظل ناقصًا. نسب ذلك الإخلاص إلى الزمن إلى الواقعية. الواقعية هنا أكثر ارتباطًا بعلاقة السينما بالواقع (الحياة)، واقتناص وتحنيط الزمن أو لحظات بعينها. ليست الواقعية التي يشار بها إلى الموضوعات الاجتماعية أو الشخصيات القريبة من عموم الجمهور. بدأت النظرية مع الناقد أندريا بازان عندما التفت إلى رغبة الإنسان في تسجيل اللحظة من خلال الرسم والفوتوغرافيا، والأفق الجديد الذي أتاحته السينما في محاكاة الحياة وسير الزمن بها. واستشهد بمخرجين مثل أورسون ويلز في رائعته "المواطن كين". حيث غلبت المشاهد اللقطة الواحدة والأطر التي احتوت حدثًا في المقدمة وآخر في الخلفية. تصير حينها الحركة في فضاء الوقت. في حين أن المونتاج يطارد فضاء المكان. يظل هناك إعادة تمثيل للزمن في الحالتين، لكن في حالة المونتاج غالبًا ما وصف بتحول وليس تمثيلًا.
انتبه سيجفريد كراكور، وهو منظِّر آخر للواقعية، إلى الوجود المادي وسينمائيته. العالم الذي فتحت آفاقه أمام عدسة الكاميرا ولم تحجمه خشبة المسرح. يعود إلى الحركة ثانيًا. يشير إلى التباين بينها وبين السكون. التقاط النشوء يصور شيئًا سينمائيًّا. عندما تتوقف الحركة الظاهرية تفعل الحركة الداخلية. ينمو ترقب لما سيحدث، وبالتالي فرج ما لوقوعه. يكشف هذا التصوير، مثل التلصص، جوانب لم نكن لننتبه لها عادة. ذكر كراكور العابر والمألوف. كل ما يبدو طبيعي ومسلَّم به، تستطيع الكاميرا الكشف عن غير العادي به. تراه من زواية مختلفة وتتحكم في الوقت اللازم لتأمله. قد يكون ذلك لصغره المتناهي أو لحجمه الهائل. الواقع الفسيولوجي للإنسان يحد من استنباطه جوانب المفهوم مرة واحدة. تأتي السينما لتكشف الجديد والمختلف. تكون هذه التفاصيل الدقيقة أسبابًا وخطوات على طرق فعلية أو مجازية مؤدية إلى نتائج. تحافظ على استمرارية وتدفق يحاكي الحياة، ولكن بعين كاشفة. تتم حينها صياغة مرتبة لما هو غير منظم وتلقائي. حينها تتكون فرصة لتفاعل إيجابي بين المشاهد والعرض بدلًا من التلقي الاعتمادي.
سأستحضر هنا مثالًا مألوفًا لمحبي السينما. هو مشهد التخلص من آثار الجريمة في فيلم "سايكو" لهيتشكوك. يخرج نورمان من المنزل المجاور للموتيل ويقترب من الكاميرا حتى يصل إلى باب الغرفة. يدخل مندفعًا ويصل إلى عتبة الحمام. ما زالت مياه الدش سارية. يقف مذهولًا ويلتفت مستندًا إلى الحائط فتقع إحدى لوحاته التي رسم عليها عصفور. يستخدم هيتشكوك هنا لقطتين قريبتين بعد أن التزم لقطات متوسطة حافظ على استمراريتها بالحد الأدني من القطع. يعود نورمان ويجلس لحظات مرتعشًا ثم يقوم ويغلق الباب ويطفئ النور. يخرج ونراه من خارج الموتيل لحظات ثم يدخل حجرة الاستقبال المجاورة. ننتظره بالخارج حتى يعود بأدوات النظافة ويدخل الغرفة مرة أخرى. يستجمع عزيمته أمام عتبة الحمام ثواني ثم يدخل. يقف مرعوبًا أمام الجثة. يغلق المياه ويسحب الستار المشمع الذي سقط وقت الجريمة ويفرشه على العتبة. يرجع ويستخدم المخرج هنا لقطات قريبة لأيدي نورمان. نراقبه يسحب الضحية ويرقدها على المشمع. تتلوث يداه بالدماء. يغسلها في الحوض، ثم يقوم بتنظيف البانيو والأرض من الدماء. يعود وينشف البلل. يخرج ويركب سيارة الضحية ويعيد ضبط موقعها حتى تواجه حقيبتها باب الغرفة. نرجع للقطات متوسطة مراقبة. يفتح الحقيبة مستعدًّا ويدخل لحمل الجثة. يخرج ويضعها في الحقيبة. يعود ويضيء الغرفة ويجمع متعلقات الضحية. يعلق اللوحة التي سقطت في مكانها. يرجع إلى السيارة حاملًا حقيبة السفر وأدوات التنظيف. يتردد عندما يلاحظ مرور سيارة نرى انعكاس ضوءها عليه. ينتهي من عمله ويقود السيارة ويصل إلى بركة طينية. يدفع بالسيارة نحوها ويراقب البركة تبتلعها. تقف لحظات ثابتة فيتجمد وجهه في لقطة قريبة. تظل ثابتة فينظر حوله. تعود وتكمل غرقها فيبتسم ارتياحًا.
اقتصد هيتشكوك لغته في هذا المشهد. كان يراقب تفاصيل ما يقوم به نورمان وما بدا من مشاعره عند كل محطة. يرصد إحساس نورمان بالوقت، وينقل لنا ثقل الزمن. نتجاوب مع ما لم يكن في الحسبان مثل وقوع اللوحة كحدث عابر. ونتأكد مثل نورمان من عدم نسيانه لأي متعلقات قبل أن يغادر. نخوض معًا ذلك الطريق المؤدي إلى التخلص من آثار الجريمة، والآخر المؤدي إلى قاع البركة. وعندما تتوقف السيارة للحظات عن الغرق ويتوتر نورمان، نريد لا إراديًّا لها أن تغرق. لقد تورطنا معًا في التستر على الجريمة، نصدقه لما رأينا به من تردد وتلقائية تستدعي تماسك وإعادة ترتيب. ونريد لمجهود نورمان البدني على مدار الدقائق السابقة أن يثمر غرضه.
تتفوق الدراما لألفة المتلقي لها. هي نموذج سردي يقوم على مراحل محددة تتخطاها شخصيات ذات أهداف واضحة. لكن ما يميز السينما من جماليات يتطلب أحيانًا تحايلًا على هذا النموذج، وربما استبداله. إن بلاغة اللغة السينمائية تتجلى في جمل من لقطات تتلاعب بالزمن. توجه انتباه المتفرج وتحفز تفاعله بالمشاعر المناسبة للمعروض. قد يتطلب ذلك قليلًا، أو كثيرًا، من صبر المشاهد. لأن الإجابة المتأخرة، وربما في قالب ضمني، تحتاج تفاعلًا إيجابيًّا من الجمهور. المتفرج في هذه الحالة لا يرى ولا يسمع كل اللازم. يجب أن ينشط خياله، وبالتالي تفاعله مع العمل الفني. تتكون حينها علاقة أقوى بين المرسل والمستقبل. وإن استغل صانع العمل هذه العلاقة جيدًا، فسيترك عمله أثرًا ممتدًّا متجاوزًا الزمن.