دراسات

أحمد زكريا الشلق

توفيق الحكيم ومعركة الفن القصصي في القرآن - الجزء الثاني

2024.09.21

تصوير آخرون

توفيق الحكيم ومعركة الفن القصصي في القرآن - الجزء الثاني

 

"تلك هي أم المسائل التي أنكرها من قرؤوا الرسالة في الجامعة ولم يجتمعوا لمناقشة ذلك، كما يقتضي نظام تأليف اللجان لتقدير الرسائل، ثم ما لبثوا أن اشتطوا في العناد فانطلقوا من طلبهم تعديل بعض فصول الرسالة، مع تقديرهم لجوانبها السليمة، إلى طلب تطبيق أحكام الردة على صاحبها! وتسرَّبَ الأمر إلى خارج الجامعة بيد من لا أعرف، فتلقف الناس أخبارًا طائرة وحكموا على ما لم يروا، ولم يقرؤوا، بل أخفوا ما عُرف ونُشر، فكتب من سَمَّوا أنفسهم جبهة العلماء، أن خبرًا نُشر في عددي 741، 742 من مجلة "الرسالة" عن بحث "خلف الله" ثم لم يكذّب، فأصبح الأمر جد خطير، وعدوه وباءً أشنع من وباء الكوليرا.. مع أن عدد "الرسالة" 743 يحمل مقالًا طويلًا في التكذيب، وبيان استحالة مخالفة البحث للدين..".

"وتوالى مثل هذا الاتهام على غير أساس، وخلف الله يكذّب ويبين ويتحدى فيضيع صوته في ضجيج عامي أهوج.. فلعل الأديب الفاضل -يقصد توفيق الحكيم- قرأ ما كتَبَتْه هذا الأسبوعَ مجلة أدبية تلوم الجامعة على أنها قبلت البحث في القرآن تحت عنوان "الفن".. ولعله قرأ ما أذاعه مفتٍ قديم من أن صاحب البحث قال: إن القرآن فن، وصانعه فنان؛ فهو كافر.. إن المحنة كما ترى عقلية ثم هي خلقية واجتماعية.. وجامعتها ترفض اليوم ما كان يقرَّر بين جدران الأزهر ويُنشَر منذ اثنين وأربعين عامًا، وتُخضِع البحث للأوهام لا للإسلام.. وأزهرها يسمع ويرى رجلًا يعلن "أن ربه الله، ورسوله محمد، ودينه الإسلام، وكتابه القرآن، وأنه إنما يفهم في القرآن السماوي فهمًا ما، بل يفهم في متشابهه فهمًا ما" فلا يقال له: أخطأت أو أسرفت، بل يقال له -قبل أي تحر أو تثبت-: كفرت، ولماذا؟ لأنك جعلت القرآن فنًّا!".

"تلك إجابتي عما سألت، فالأمر إنكار للحق الطبيعي للحي في أن يفكر ويقول، وإنه لحق عَرَفْنا الإسلامَ يقرره ويحميه، فلو لم يبقَ في مصر والشرق أحد يقول: إنه حق، لقلت وحدي وأنا أُقذَف في النار: إنه حق حق، لأبرأ أمام ضميري، ولا أشارك في وصم الإسلام اليوم هذه الوصمة.. والله يحمي الحق وهو خير الحاكمين" (توقيع: أمين الخولي).

وعلّق توفيق الحكيم على تلك الرسالة بقوله: إن شهادة الأستاذ الخولي خطيرة، ونقطة الخطورة فيها قوله: إن الأستاذ الإمام محمد عبده انتهى إلى مثل هذه الآراء منذ اثنين وأربعين عامًا! إذا كان ذلك صحيحًا، كما يؤكد الأستاذ الخولي، فلنا أن نطلب تعليلًا لما صرنا إليه، وعلى المسؤولين من رجال الدين أن يوضحوا الموقف، فلا يرضيهم أن نرجع اليوم -في عهدهم- القهقري، بعد نهضة إسلامية بعثها الأستاذ الإمام.

أما رجال الجامعة فقد اتهمهم زميلهم الأستاذ الخولي في عقليتهم وخلقهم، تهمة لا يدفعها عنهم غير دليلهم.. وهي إن صحت لكانت قديرة على هدم "التعليم الجامعي" من أساسه واقتلاع أهدافه من جذورها![1]

هذا الاتهام الصريح لجامعتنا من أستاذ بها وعضو لجنة فحص الرسالة فيها، كان لا بد أن يَعقُبه بيان من المسؤولين في الجامعة، وهذا ما كنت أنتظره وينتظره معي الرأي العام، ولكن الذي حدث أن الأستاذ أحمد الشايب -أحد أعضاء فحص الرسالة وأستاذ الأدب بالجامعة- اتصل بي وأخبرني أنه يُعِد بيانًا يوضح به حقيقة الأمر، غير أنه عاد في اليوم التالي واتصل بي أيضًا ليخبرني آسفًا أنه مُنع من الكلام منعًا باتًّا، وأنه مرغَم إرغامًا على الاكتفاء بتقديم هذا الخطاب الآتي نصّه[2]:

"سيدي الأستاذ الحكيم: بعد التحية، قد كنت على وعد أن أكتب إليك بيانًا لحقيقة الأمر في موضوع "الفن القصصي في القرآن الكريم"، ولردِّ هذه التهم التي وُجِّهت إليّ، ولكنني منعت من الجهات الرسمية من الكتابة في هذه المسألة، وأحب أن أقول لك: إني لم أتهم أحدًا بالارتداد عن دين الإسلام ولا أفتيت بذلك، وكل ما في الأمر أني عرضت المآخذ التي تثير الظن في هذه النقطة على الأستاذ المشرف، وتركت له الحكم والتقدير. وعلى كل حال فإن هذه المسألة كلها من حق الجامعة؛ تقضي فيها بما ترى وفقًا لتقاليدها، وما كنا نحب أبدًا أن تنزل إلى ميدان الصحافة فتثير الجدل، وتشوش الأذهان، وسيعلم الناس حقيقة الأمر ومصيره عما قريب.." (توقيع: أحمد الشايب).

وقد علق توفيق الحكيم على خطاب الأستاذ الشايب المختصر قائلًا:

"أستاذ يتهم الجامعة بأنها تخنق الفكر، وتدفع مصر في سلم الرقي من أعلى إلى أسفل، فتلوذ الجامعة بالصمت.. ويقوم أستاذ فيها يريد توضيح الحقيقة فتضع الجهات الرسمية كفها على فمه! وقد علمت أن هذه الجهات الرسمية هي السلطات الخارجة عن "الجامعة"... مهما يكن من أمر هذا الأسلوب في السياسة، فإن على الجهات الرسمية أن تفتح فمها بإيضاح لحقيقة هذا الحدث؛ فالموضوع الآن لم يعد مخفيًّا عن الناس، والصحف تخوض فيه والرأي العام موزَّع بين فجيعتَينِ: فجيعة في الجامعة، وفجيعة النهضة الفكرية التي كان يحسب أن الأستاذ الإمام قد بعثها وأقام منارتها راسخة على صخرة الإسلام."

وذكَّر الحكيم الجهات الرسمية بجهات رسمية أخرى منذ نَيِّف وعشرين عامًا في موضوع كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، حين استقال وزراء احتجاجًا على خنق حرية البحث العلمي؛ كما هدد عدلي يكن رئيس الوزارة آنذاك بالاستقالة حماية لحرية البحث العلمي بسبب كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين[3].

وأضاف الحكيم أن على وزير المعارف (عبد الرزاق السنهوري باشا) الرئيس الأعلى للجامعة؛ أن يوجه الجامعة إلى واجبها بأن تتوجه إلى الرأي العام ببيان يُدخِل الاطمئنان إلى النفوس. ولكن الوزير جزء من هذه "الجهات الرسمية" التي تتحلى بالصمت! ثم توجَّه الحكيم إلى النقراشي باشا رئيس الوزراء قائلًا بأن الذي يخيف الإنجليز هو هذه النهضة الفكرية التي اعتقدوا أنها تضيء من الجامعة، وهذه النهضة الروحية التي سرت في الشرق من مصباح الإمام، وأن التقدم الفكري والروحي في مصر هو وحده مفتاح القضية المصرية.. الأمر خطير يا رئيس الحكومة إلى حد أن أطالبك بواحد من أمرين: إما أن تدرأ في الحال الخطر المحيق بهذه "المنارة الفكرية والروحية"، وإما أن تستقيل[4].

* * *

أشرنا إلى اقتناع الأستاذ الشيخ أمين الخولي بموضوع الرسالة، ووقوفه إلى جانب تلميذه وتضامنه معه في هذه القضية المثارة.. فإنه بالرغم من سحب الطالب للرسالة، وإعداد رسالة أخرى عنوانها: "أبو الفرج الأصفهاني الراوية" حصل بها على درجة الدكتوراه عام 1953، فإنه طبع الرسالة المرفوضة عن "الفن القصصي .." في كتاب عام 1953 صُدِّر بتقديم للأستاذ الخولي، ثم أُعيدَ طبعه في أغسطس عام 1957 بمقدمة أخرى للأستاذ الخولي أيضًا عنوانها: "بين يدي الكتاب" تحدث فيها "عن الضجة التي أثيرت من سنوات من أولئك البعيدين عن الحياة والعصر.. وبينما آخرون آمنوا بالعلم وآمنوا بالحق وآمنوا بالتطور.. وآمنوا بالسنن الفنية، كما آمنوا بواجبهم في أداء الأمانة الاجتماعية والجهر بما عرفوا مهما يكن تقبُّل الناس له، أولئك آمنوا بأن الإسلام وكتابه أقوى صدرًا من أن يقتله التعرض للهواء الطلق، فمضوا يدرسون القرآن، كتاب العربية الأكبر، دراسة فنية متجددة مستفيدين من التقدم الفني والعقلي والاجتماعي، فانتهوا بذلك إلى أن يقدموا التفسير الأدبي للقرآن خطوة إلى الأمام بعيدة الأثر.. سيقول المستنير بعد أن يفهم خطة الدرس الفني لقصص القرآن الكريم: إن للقرآن أن يسلك السبل الفنية في عرضه لقصص السابقين كما يشاء، دون أن يقصد إلى مساس التاريخ بشيء؛ لأنه إنما يعرضها العرض الفني الذي لا يقوم على التفاصيل والروايات والتحديات، بل يقصد إلى ما قرر أنه يقصده بصراحة، ألا وهو العبرة، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف].

"لقد قلت منذ بضعة أعوام، في مقدمة الرسالة التي نال بها الدكتور خلف الله درجة الدكتوراه بدل رسالته عن الفن القصصي في القرآن الكريم، قلت في مقدمة الرسالة البديلة: "إن حادثة رسالة الفن القصصي وما اتصل بها من أحداث عقلية وخلقية واجتماعية، صارت اليوم من حق التاريخ العقلي لمصر الحديثة، الذي يترفع عن أن يقود أحد خطاه، أو يوجهه وجهة ما في تدوين هذه الصفحة من تاريخ الحركة الفكرية والحرية العقلية في مصر والشرق الأوسط، إن كان من واجبنا بلا مراء أن نسلمه الوثائق الرسمية عن هذه الأحداث ليصدر في نزاهة سامية حكمه الأخلد من حكم أي سلطة تحمي حقًّا في الأرض أو تقيم عدلًا، فأحاول أن أضع شيئًا من هذه الوثائق بين يدي التاريخ.. فأضع واحدة منها تمتاز بأنها تلقي بعض الأضواء الفنية على موضوع الفن القصصي.. وتلك هي البيان المفصل الذي ألقيت به إلى الصحف خلال غمرة غامرة ظلت تغمر الصحف المصرية بضعة أشهر صباح مساء، على اختلاف ألوانها وميولها"[5].

ويضيف الأستاذ الخولي تعليقًا نهائيًّا يقول فيه: وإني إذ أُودِعُ هذا البيان بين يدي التاريخ لَأشعرُ أني أضع صحيفة في جوف الكعبة، أو كما يقال اليوم: أشعر أني أُودِعُها في قدس الأقداس من معبد الحق.. وأحس أن روحي تهتف: أيها التاريخ، كما شدّت أزر الأحرار همساتك المدوية من وراء الأجيال تدمدم: إن مَلاحِدة اليوم هم قديسو الغد.. وبدعة الحاضر هي تقوى المستقبل.. وإلا فلا تقدم ولا تطور - امضوا فقد أضاؤوا لكم الدرب باحتراقهم بالنار المقدسة.. وهأنذا بعد قليل من السنين أرى الدنيا من حوله [خلف الله] تقترب لتسمع، وتدنو لتنصت - فإذا هي متلهفة.. مستعيدة مقدّرة. وإذًا هذه هي الطبعة الثانية من رسالة الفن القصصي في القرآن الكريم.

فاللهم اربط على قلوب رواد الحق دائمًا كما سبقت كلمتك.. (أمين الخولي، مصر الجديدة، في 15/8/1957)[6].

أما بعد انتهاء الأزمة فإن الدكتور محمد أحمد خلف الله عمل مدرسًا لفترة في آداب القاهرة وفي معهد الدراسات العربية، ويبدو أنه ضاق ذرعًا بالتدريس، فانتقل إلى العمل بوزارة الثقافة، التي صار وكيلًا لها حتى أحيل إلى التقاعد عام 1973. والمعروف أنه بعد أن طبع دراسته عن القصص القرآني في كتاب (1950-1951) بمقدمة لأستاذه، فإنها طُبِعت فيما بعد أكثر من مرة. ومن نشاطاته الأخرى أنه أشرف على "موسوعة الحضارة العربية للدراسات والنشر بالقاهرة"، ورأس تحرير مجلة "اليقظة"، ولما كان مؤمنًا بتوجهات اليسار المصري، فقد انضم إلى حزب التجمع الوطني التقدمي الذي ألفته بعض فصائل اليسار، وله كتاب صدر عن مطبوعات الحزب عنوانه: "الأسس القرآنية للتقدم"(1984). ونلاحظ أنه ألف في مجال الدراسات القرآنية، إلى جانب هذا الكتاب، كتبًا أخرى؛ منها: "القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة" (1967)، و"القرآن والدولة"(1973)، و"مفاهيم قرآنية" (1984).. يضاف إلى ما سبق أنه كان مؤمنًا بقضايا النهضة والتقدم والعروبة؛ لذا أصدر أربعة كتب عن أعلام بارزين في هذا المجال؛ هم: عبد الله النديم، وعلي مبارك، وعبد الرحمن الكواكبي، وأحمد فارس الشدياق.


1- أخبار اليوم 1/11/1947 وكتاب توفيق الحكيم ص 34.
2- بيان أحمد الشايب بكتاب توفيق الحكيم، ص 36.
3- توفيق الحكيم، المرجع السابق، ص 38.
4- أخبار اليوم 8/11/1947 وتوفيق الحكيم ص 38 -41.
5- راجع: نص هذا البيان الذي قدمه للصحف ولتوفيق الحكيم.. ثم تعليق توفيق الحكيم عليه، بكتاب توفيق الحكيم: يقظة الفكر، ص 30 -34.
6- راجع: محمد أحمد خلف الله، الفن القصصي في القرآن الكريم، الطبعة الثانية، مكتبة النهضة المصرية 1957، وبها مقدمة كاشفة لأمين الخولي تحت عنوان: "بين يدي التاريخ"، ثم تمهيد للمؤلف، ومدخل عن المنهج.