دراسات

أحمد زكريا الشلق

توفيق الحكيم ومعركة الفن القصصي في القرآن - الجزء الأول

2024.09.14

مصدر الصورة : ويكيبديا

توفيق الحكيم ومعركة الفن القصصي في القرآن - الجزء الأول

 

كنت أقرأ في كتاب توفيق الحكيم "يقظة الفكر" فاستوقفني ما أثير في الصحافة مما سُمي بقضية رسالة "الفن القصصي في القرآن الكريم" عام 1947، وقبل أن نمضي مع القضية رأيت أن أعرِّف بكاتب هذه الرسالة وهو محمد أحمد خلف الله، التي أعدها بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) تحت إشراف الأستاذ الشيخ أمين الخولي؛ فقد ولد بمنيا القمح بمديرية الشرقية عام 1916 وأتم تعليمه العام بالمدارس المصرية قبل أن يلتحق بقسم اللغة العربية عام 1935، ولما كان متفوقًا فقد عُيّن معيدًا بكليته عام 1939 حيث تتلمذ على أستاذه أمين الخولي، بعد أن تخصص في الدراسات القرآنية، وحصل على درجة الماجستير تحت إشرافه في موضوع "الجدل في القرآن الكريم"، والتي أصدرها في كتاب "محمد والقوى المضادة" فيما بعد.

وعندما أنهى دراسته لدرجة الدكتوراه تحت إشراف الأستاذ نفسه عام 1947، في موضوع "الفن القصصي في القرآن الكريم" شُكّلت لجنة لمناقشة الرسالة ضمت الأستاذين أحمد أمين وأحمد الشايب، اللذين اعترضا على آراء الباحث بشأن الدلالة التاريخية للنص القرآني، ومن ثم رفضت الجامعة مناقشتها بناء على تقريري الأستاذين، وبعدما أثيرت ضجة بشأن الموضوع، الذي أصبح قضية عامة تناولتها الصحافة. وقد اضطر الباحث إلى تسجيل موضوع آخر عن "أبو الفرج الأصفهاني الراوية" وهو موضوع أدبي صرف، نال به درجة الدكتوراه عام 1953، وصدر في كتاب في نفس العام.

أما الأستاذ المشرف الشيخ أمين الخولي فهو عالم له جذوره الدينية من خلال دراسته في مدرسة القضاء الشرعي وتدريسه في الأزهر؛ كما أن خلف الله كان حذرًا في دراسته عند تناول الأمور الدينية؛ ولذا تضمنت الرسالة دفاعًا عن الإسلام في مواجهة آراء المستشرقين، حيث ردَّ الرجل على كثير من كتاباتهم مستخدمًا مناهجهم، وميّز خلف الله في رسالته بين القصص التاريخي في القرآن وقصص الرمز والمجاز، كما ركَّز على الجوانب الاجتماعية والنفسية، وابتعد عن الخوض في الأمور الدينية التي تدخل في صلب العقيدة، ولم يكن الطالب أو أستاذه ممن يمكن أن يوصفوا بمعاداة الإسلام أو اتخاذ مواقف نقدية حادة من الفكر الديني، لكن مصر كانت تعيش وقتها في ظل حكومات لا تستند إلى الإرادة الشعبية، وكانت حركة الإخوان المسلمين في مرحلة من مراحل صعودها تسعى لفرض فكرها الديني على المجتمع، وتقف في صف حكومات الأقلية في مواجهة الحركة الديموقراطية الصاعدة في صفوف طلاب الجامعة، القائمة على تحالف بين التيارات اليسارية في حزب الوفد والتنظيمات الشيوعية. وفي هذا المناخ بدأ الهجوم على الرسالة، وامتد إلى الطالب والأستاذ، ورفضت اللجنة منح الطالب الدرجة العلمية بأغلبية صوتين مقابل صوت واحد. ويبدو أن الصراعات الشخصية بين الأساتذة أيضًا لعبت دورها في تصاعد الأزمة.

وبرفض الرسالة بدأت المعركة الحقيقية، وبدأ الأزهريون يكفِّرون خلف الله ويتهمونه بالردة، وطالت اتهاماتهم الشيخ أمين الخولي، ودافع خلف الله عن موقفه مؤكدًا أنه مسلم متدين، إلا أن منتقديه طالبوه بالتوبة ولوحوا له بتطبيق حد الردة عليه، كما طالبوا بإحراق الرسالة ووقفه عن العمل هو وأستاذه؛ كما طالبوا بفصل الأستاذ الشيخ من مجلس أساتذة الأزهر، وتطهير الجامعات من "الكفار"، وإجراء تحقيق في الأمر بمعرفة الأزهر، إلا أن الجامعة رفضت التدخل الخارجي من الأزهر في شؤونها، لكن كان على خلف الله أن يستقيل من عمله معيدًا في الجامعة، وبالرغم من أنه قدم رسالة بديلة نال بها درجة الدكتوراه فعلًا، فإنه نشر رسالة "الفن القصصي في القرآن الكريم" في كتاب عام 1953 بمقدمة لأستاذه الشيخ أمين، ثم نُشرت في طبعة ثانية عام 1957 عن مكتبة النهضة المصرية[1].

* * *

ولم يلبث توفيق الحكيم أن أثار القضية في الصحافة عندما كتب عما أسماه "قضية الفن القصصي في القرآن"؛ مشيرًا إلى أنه قامت في مصر وإنجلترا في وقت واحد حركة غريبة وهي مناقشة الكتب المنزَّلة، وبحثها على أسس علمية، ومحاولة اتهامها بالمبالغة، وبأنه ليس كل ما فيها من قصص ومعجزات يطابق الحقيقة والتاريخ الصحيح[2].

وذكر الحكيم أنه عندنا قامت قيامة العلماء على الأستاذ محمد أحمد خلف الله؛ لأنه وضع رسالة قدمها إلى كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) عن الفن القصصي في القرآن الكريم، قال فيها: "إن قصصه لم تعتمد على أصل من واقع الحياة أو من التاريخ، وإنما ينتج عمله ويبرز صورته على أساس الحقيقة الفنية والقدرة على الابتكار والتبديل". وأضاف أن البعض طالب بحرق الرسالة على مرأى ومشهد من أساتذة وطلبة كلية الآداب، وطالب آخرون بفصل الأستاذ خلف الله، الذي رد عليهم وفنَّد هذه التهم وأبدى استعداده لحرق الرسالة لو ثبت اتهام المتهِمِين من أنه يدعو إلى الكفر، أو يخرج بالناس إلى الإلحاد.

وطالبت إحدى الصحف بعدم الاكتفاء بحرق الرسالة، وإنما على الكاتب أن يعلن رجوعه إلى الإسلام، وأن يجدد عقد نكاحه على زوجته إن كان متزوجًا، وأن يتوب إلى الله توبة نصوحًا يَحسُن بها إسلامه في مستأنف حياته، وأن يقوم بكل ما يقوم به من ارتكب جريمة الردة عن دين الإسلام ثم تاب إلى الله منها.

غير أن صاحب الرسالة أرسل خطابًا إلى توفيق الحكيم دفاعًا عن نفسه، فنشره تحت عنوان: "أتحرُّرٌ في الأزهر ورجعية في الجامعة؟! هذه قضية النكسة الجامعية أعرضها عليكم وعلى القراء"، ونشر نص خطاب خلف الله إليه كاملًا، ونصه:

 "في مايو الماضي (1947) قُدِّمت رسالة لنيل درجة الدكتوراه في الآداب موضوعها: "الفن القصصي في القرآن الكريم".. وأحال عميد كلية الآداب الرسالة إلى لجنة الفحص، فآمن بها بعض وأنكرها آخرون، وكانت حجة المنكرين الظاهرة الخروجَ عن الدين. ولما كنت أعلم بنوايا القوم ومقاصدهم الخفية، فقد ألقيت بالرسالة بين يدي نفر من رجال الدين ليذكروا لنا حكم الله في مفسر كتاب الله. وهنا ظهرت الفروق الحقيقية بين العلماء.

أما الأستاذ أحمد الشايب أستاذ الآداب بالكلية؛ فقد أفتى بأن صاحب هذا البحث قد ارتد عن دين الإسلام، مع أن الأستاذ الشايب لم يتعلم من الدين إلا ما يمكِّنه من التدريس في المدارس الابتدائية. أما الأستاذ محمود شلتوت عضو هيئة كبار العلماء والمتخصص في الدين فقد توقف حتى يتثبت من حكم الله في مفسر كتاب الله، ولم يقف عند هذا الحد، بل أشرك معه في الرأي المفتيَ السابق وعضو هيئة كبار العلماء الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المجيد سليم، ثم انتهيا إلى أن المفسر لا يخرج عن الدين إلا إذا خالف الإجماع في تفسير قد تواتر تواترًا عمليًّا، أو أنكر أن تكون هذه الآية أو تلك من كتاب الله، أما غير ذلك فهو مجتهد إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران. ولما لم يكن القصص القرآني محل إجماع من المفسرين، فضلًا عن المجتهدين من علماء الدين والفقهاء، ولما لم يكن القصص القرآني محل تواتر عملي لقضية من قضايا الدين أو قاعدة من قواعد الإسلام، فإن المتحدث عنهم أو المخالف فيه يكون مجتهدًا إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران.

فما هو رأي الأستاذ الحكيم فيما بين هؤلاء وهؤلاء؟ أليس يرى معي أن ذلك إيذانٌ بالتحرر من رِبْقة الجمود في الأزهر، وأنه دليل الرجعية في كلية الآداب؟ إن الدراسة الجامعية لا تستقيم إلا مع الحرية، وإنا لنتعجب كيف يكون الأساتذة الجامعيون قادة الرجعية في البيئات العلمية، وكيف لا يشعرون بأن في ذلك الخطرَ كل الخطر على التقدم العلمي في هذه الديار! ولعل العجب يأخذ حده ويبلغ منتهاه حيث نعلم أن تلك الرجعية لا يقرها الدين ولا يُرضِي مِن رجاله العلماءَ. هذه هي قضية النكسة الجامعية عرضتها عليكم وعلى القراء، ولكل منهم أن يعلق على ما يشاء بما يشاء".

 توقيع: محمد أحمد خلف الله، كلية الآداب، جامعة فؤاد الأول.

وقد علّق توفيق الحكيم بقوله: "إني أفهم موقف علماء الإسلام؛ فهم يفتون طبقًا لقواعد مقرَّرة في هذه الرسالة الجامعية، وشاء لهم اتساع الأفق أن يضيئوا لنا النصوص القديمة بأضواء جديدة، دون أن يحيدوا عن روح الدين وجوهر العقيدة، ولكن الذي لست أفهمه هو موقف أساتذة الجامعة المصرية الذين يحكمون بالكفر على طالب، ويطفئون بأيديهم الجامدة مشعل الحرية الفكرية الذي هو صلب عملهم وعمود رسالتهم.. إن "الحقيقة" في الدين أسمى من التاريخ ومن المنطق ومن كل العلوم العقلية؛ لأن شمس "الحقيقة الدينية" لا يمكن أن توضع تحت مصباح الذهن البشري[3].

ولم يلبث توفيق الحكيم أن عاد إلى نفس القضية فكتب: "عجبت لأمر واحد: هو أن عالِمَينِ جليلَينِ من علماء الدين: الشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ شلتوت أفتيا له بالأجر، وأن أساتذة الجامعة حكموا عليه بالكفر. ولكني تلقيت بعد ذلك من العالِمَينِ الفاضلَينِ أنهما لم يَطَّلِعا على نص الرسالة الجامعية، وإنما أدليا بفتوى عامة في سؤال عام. ولقد أثار هذا الموضوع عواصف من كل جانب، وقد أمطرني البريد رسائل من كل إنسان.. وما من واحد قرأ حرفًا من الرسالة الجامعية، حتى ولا أنا، والموضوع أخطر من أن يمر بلا تحقيق، فهو موضوع يتعلق بحياتنا الفكرية.. بل أكثر من ذلك وأعمق، إنه يتعلق بالصلة التي يجب أن تقوم بين حياتنا الفكرية المثمرة المتجددة، وحياتنا الروحية الآمنة المستقرة".

وأضاف الحكيم: "تذكرت أن رسالة جامعية توضع لنيل درجة الدكتوراه لا بد لها -طبقًا للتقاليد الجامعية- من أن تعد تحت إشراف أستاذ جامعي، فكيف ترك الأستاذ المشرف هذه الرسالة تُعَد إذا وجد في موضوعها ما يمس جوهر الدين؟! وتحريت عنه وقيل لي: إنه الأستاذ أمين الخولي، فطلبته بالتليفون وسألته عما يعرف في الموضوع، فأرسل لي الخطاب الآتي[4]:

"إن أكثر من طالب قدموا في دراساتهم العليا موضوعات قرآنية، فكتب أحدهم رسالة عن "نشأة التفسير واتجاه تطوره"، وآخر عن "وصف القرآن ليوم الحساب"، وثالث عن "إعجاز القرآن"؛ كما كتب محمد خلف الله أفندي رسالته للماجستير أيضًا في "جدل القرآن"، واختار لرسالته في الدكتوراه "قصص القرآن". إننا دعونا البلاغة "فن القول" لنذكِّر دائما بأن الأدب قول فني لا يخرج منهج درسه عن الأفق الوجداني، فكان إيثارنا لهذا سبب تسمية رسالة اليوم "القصص الفني في القرآن الكريم".

"وقد تقدم خلف الله لدرس "قصص القرآن" على المنهج الأدبي الذي لا يمكن أن تُعْنى كلية الآداب بغيره. والقصص في هذا المنهج الأدبي لون من ألوان البيان، وأسلوب من أساليب الأداء قد مضى فيه كِتاب العربية الأعظم، ومعجزتها القولية على خطة له هي التي حاول "خلف الله" تعرفها في رسالته تفصيلًا.. فعرض أول ما عرض لِما بين التاريخ والقصص من صلة، وما جرى عليه القرآن في هذا، واطمأن أخيرًا إلى أنه ليس قصصًا لتعليم التاريخ، ولا سرد وقائعه مرتَّبة مستوفاة لتُعرَف منها الحقائق التاريخية، ولذلك لا يلزم أن تكون كل حوادث القصص القرآني قد وقعت، بل فيها ما هو تصوير وتمثيل للمعاني، واطمأن لهذه النتيجة بالاعتماد على مقررات دينية لا أُثقِل عليك ببيانها؛ فهي تتصل بالمحكَم والمتشابه وما إلى ذلك، وحسبي أن أقرر لك أنها مقررات فرغ الأستاذ الإمام (يقصد محمد عبده) منذ أكثر من أربعين عامًا من تقرير ما هو أوسع منها وأبعد مدًى؛ إذ انتهى من أن القصص القرآني فيه ما هو مَثَل لا قصة واقعة، ومن أن للمؤمن حقَّ تأويل هذا القصص على أساس أن القرآن يعبر عن المعاني ويصورها بالحكاية وأسلوب الحوار، كما فرغ من أن وجود شيء في قصص القرآن لا يقتضي صحته؛ لأنه يحكي من حال الأقدمين الصحيح والفاسد، والصادق والكاذب، ولأنه يُجْري تعبيراته على معروفهم ومنظورهم ولو كان خرافيًّا، كوصف الشيطان في قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]، ومس الشيطان في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، وليس في هذا وصف لصحيح من أمر الشيطان أو مسّه...

 

نستأنف رسالة الأستاذ الشيخ أمين الخولي في الجزء الثاني من المقالة – تابعونا..


1- راجع عماد أبو غازي: في محبة التاريخ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2016، ص 503 -504.

2- توفيق الحكيم: يقظة الفكر، طبعة مكتبة مصر 1988، ص 19 – 41؛ حيث نشر نصوص الوثائق.

3- أخبار اليوم 25/10/1947.

4- راجع: نص الخطاب وتعليق الحكيم عليه ص30 -34 من كتابه السابق.