دراسات

طارق حجي

قصص القرآن و«تأسيس العالم»

2018.01.01

مصدر الصورة : ويكيبديا

قصص القرآن و«تأسيس العالم»

لن يكون حكمنا قاسيًا إن قلنا إنه على الرغم كثرة الدراسات المكتوبة عن القصص القرآني في النتاج العربي المعاصر، فإن القصة القرآنية لم تحظ حتى الآن بالدراسة التي تستطيع اكتشاف كل آفاقها. إذ أن القصة القرآنية تفقد الكثير من ممكناتها لحظة تتم دراساتها على أنها أداة من أدوات القرآن البلاغية فحسب

أي أداة لتكريس المعتقد أو القيم الأخلاقية والتربوية، كما جرت العادة في معظم دراسات القصص القرآني. فلا بد من أجل اكتشاف ممكنات القص القرآني أن نقرأ القصة القرآنية باعتبارها جزءًا من التجلي السردي للإسلام كدين، أي باعتبارها «الإسلام مسرودًا». فالإسلام كـ«دين» يتجلى «معتقدًا»، ويشكل الأجساد والأزمنة والأمكنة «شعائريًّا»، وينغرس في المخيال «سردًا»، ليكمل تأسيس «عالمه الديني». هذا يجعل القصة القرآنية وجهًا من وجوه تجلي الإسلام، متبادلة الصلة مع «النظام العقدي الإسلامي» و«النظام الشعائري الإسلامي»، لا في عِبَرها وقيمها الأخلاقية والتربوية فحسب، بل، الأسبق والأهم، في «نمط حضورها وعلاقاتها بأنواع الكلام الأخرى» من جهة، وفي تجسيدها لنظرة الإسلام للحدود البشرية القصوى (الجنس، العنف، الموت) وفي دورها الأساسي في تشكيل فضاء القداسة (صنع صورة «المقدس الإسلامي» وغرسها في المخيال) من جهة أخرى. بدراسة تلك الأبعاد التي تربط القصة بالمعتقد والشعائر كوجه من أوجههما، ستصير القصة –كما ينبغي لها– إحدى نوافذ فهم «الإسلام»، لا مجرد حجة للحديث عن تكريس قيم متباينة ينظر لها كل فريق على أنها قيم الإسلام أو القرآن.

وحتى نستطيع نقل دراسة القصة من كونها «أداة قرآنية» إلي كونها جزءًا من «الوجه السردي» للإسلام، علينًا القيام مبدئيًّا بعدد من الخطوات، وهي أولاً توسيع حديثنا بحيث لا يقتصر على القصة القرآنية، بل ليشمل كذلك مجمل نظام السرد الإسلامي متضمنًا أخبار الخلق وأخبار القيامة ووصف الله لذاته. إذ أن حصر قصص القرآن في قصص الأنبياء وحدها ناتج عن بعض القيم المتحكمة في فهم القصة، مثل إشكال مدى «الصدق التاريخي» للقصة القرآنية. أما إن وسّعنا تعريف «القصة»، فإن هذا يتيح لنا أن نقارب بصورة أشمل التجلي السردي للدين الإسلامي، وفي القلب منه «القصة القرآنية».

 علينا كذلك أن نحاول تحديد مفهوم القصة القرآنية من خلال تحليل علاقتها بالكلام المدان قرآنيًّا انطلاقًا من المركزية التي يحوزها «الكلام/الوحي» في التوحيد الإبراهيمي. كما سيكون علينا كذلك الخروج من الثنائيات الحدية المعتاد استحضارها في كل قراءة للقصص القرآني –الصدق\الكذب، الحقيقة\التخييل، القيم الأخلاقية والتربوية– لاكتشاف القيم «الدينية، أي المرتبطة بخلق العالم الديني» و«الرمزية، التي تشكل الأساس لتحيين التجربة الدينية» التي تكشفها لنا قراءة العلاقة بين «القص» و«المعتقد» و«الشعائر»، تلك القراءة التي حجبتها بشكل كبير هذه الثنائيات التي تحولت إلي عائق معرفي، باستخدام تعبيرات الجابري، يحصر مقارباتنا للقصة في أسئلة متكررة وإجابات محددة سلفًا.

لا يمكننا بطبيعة الحال في مثل هذه الدراسة إرساء بناء المقاربة التي نقترح بشكل كامل. فهذا لا شك يحتاج لعدد أكبر من الدراسات. ولكن ربما يكفي هنا أن نبرز الملامح الرئيسة لمقاربتنا، وما تستطيع أن تفتحه من ممكنات القص القرآني، وكذا أن نوضح الآثار التي يمكن أن تترتب على تجريبها، لا على مجال القصة القرآنية وحده، بل على مجمل حقل دراسة القرآن ودراسة الإسلام، علّ هذا يكون بداية لدراسات أخرى تُعمِّق من هذا الطرح.

القرآن وإدانة الأساطير، ما الذي منح القصص الأفضلية؟

إن الزوج المفهومي المتقابل الأسطورة/القصة هو جزء من تقابل مفهومي أوسع في القرآن، يوضع فيه الباطل من الكلام في مواجهة الحق. يمثل الباطل «اللغو» و»اللهو» و»الزخرف»، وذلك في مقابل الكلام الحق القادم من الله. هنا تتعلق ثنائية (أسطورة/قصة) بأخبار المتقدمين تحديدًا، ويتحدد كل طرف من أطراف هذا الزوج عبر مفاهيم «اللهو» و«الحق». فالقصة تمثل «الحق الإلهي» في مقابل «أساطير الأولين» التي هي «لهو»، وهذا يجعل سؤال «ما القصة؟» و«ما الأسطورة؟»، جزءًا من سؤال أشمل؛ ما الكلام المدان قرآنيًّا؟ ولماذا تمت إدانة هذا الكلام؟ وما هي السمات التي حددها القرآن ليكون كلام ما مقبولاً؟

بهذه الأسئلة نحن ننتقل إلى بُعد عام وأولي في دراسة «الإسلام»، وهو دراسة تعديله لـ«فضاءات السرد» انطلاقًا من العلاقة العميقة للسرد/الكلام بـ«القداسة». فالعلاقة التي سيعقدها القرآن بأنماط من القول، مثل «الشعر» و«الأسطورة» و«لغو الكلام،» ترتبط أول ما ترتبط بفضاءات القداسة التي تجليها هذه الأنماط من القول، والتي تعارض شكلاً جديدًا للقداسة يقع الكلام/الوحي في مركزه. بمعنى أننا ومن أجل فهم هذا الصراع بين أنماط السرد القرآنية وما قبلها، فلابد لنا أن نتجاوز النظر لها كصراعات على «الهيمنة النصية» أو على رفض بعض القيم الأخلاقية أو حتى العقدية المرتبطة بهذه الأنماط من القول. لننظر نظرة أعمق في شكل القداسة التي تجليها هذه الأنماط، وهي المقصودة في ظننا بنقد الإسلام لهذه الأنماط، من حيث إن الإسلام كدين هو «تعديل في فضاء القداسة». فكل دين هو «حصر للمقدس» كما يقول الفيلسوف الألماني بول تيليش.

ولعل عبد الله إبراهيم في كتابه «موسوعة السرد» أشار لأمر قريب من هذا، وإن كان سريعًا ودون سحب القضية لبساط أوسع، بحكم انشغال الكتاب بالأساس بالسرد لا بالقداسة، وهذا حين تناول الكتاب أحد الأخبار الواردة في كتب السيرة عن مقتل النضر بن الحارث بصورة أكثر قسوة من بعض معارضي النبي الكبار الآخرين. فقد قتل النضر بن الحارث صبرًا، أي أسيرًا، ونفذ القتل علي بن أبي طالب. في ظننا أن هذه الأخبار، صدقت أم لم تصدق، تعبر في الأخير عن عمق الصراع بين النبوة وبين هذه الأنماط من القول، وكيف أن هذه الأقوال كانت تناهض النبوة، وأن النبوة كانت قادمة لقتلها «سرديًّا».

وكي يتضح لنا كيف تكون هذه الأقوال مناهضة للنبوة مما يجعلها تستحق القتل، فلا بد لنا من عدم الوقوف عند فكرة كون هذه الأقوال حوامل خطابية لأفكار جاهلية أو «بطانة دينية للمجتمع الجاهلي»، كما توحي لنا دراسة عبد الله إبراهيم. بل لا بد من مقارنة صورة القداسة التي تكشفها هذه الأنماط من القول بصورة القداسة الإسلامية التي احتاجت قولاً جديدًا، هو «القصة»، كي يجليها، وكيف تتجلى هذه الصورة للقداسة في نمط حضور وأبعاد الأنماط الأخرى، وخصوصًا «الأسطورة».

بدايةً، لا تشير لفظة «أسطورة» القرآنية لما قد يُفهَم الآن من كلمة أسطورة. فالأسطورة قرآنيًّا هي قول خارج عن فضاء مفاهيم القرآن التي مثّلت إعادة تشكيلها، بـ«الإدانة» و«الدمغ» و«التعديل» و«الإقرار» و«الإنشاء»، جزءًا من تشكيله لفضاء القداسة الخاص به. كما أن هذا اللفظ –وهذا مهم– لا يحمل في ذاته أي إدانة مسبقة لهذا النمط من القول، بمعنى أنه لا يعني بذاته «الخرافة» أو «الكذب» أو «الاختلاق المجاني»، بل هو بشكل ما لفظ محايد يعني فحسب «ما سطره الأولون». إذًا فإدانة الأسطورة هي «إدانة قرآنية بالأساس»، فالقرآن هو الذي أشرب هذا اللفظ الدلالات الجديدة، مثل «الكذب» و«الاختلاق» و«الرجم بالغيب» و«لهو الحديث»، في مقابل «القصة» التي تمثل الحق.

ومن أجل فهم أسباب الإدانة القرآنية للأساطير الجاهلية، فإننا نستطيع تقسيم هذه الأساطير إلي نوعين وفقًا لتفريق مفهومي لطيف اقترحه فراس السواح في دراسته حول الأسطورة. يفرق السواح بين «الخرافة» و«الأسطورة»؛ «الخرافة» عنده هي «أسطورة» فقدت الصلة بما تظهره من مقدسات، وأصبحت تُروى لا لشيء سوى لسحر الرواية ذاته، فهي روايات قائمة على التهويل، وشخوصها يتحركون بين العالم الطبيعي وما وراءه، ويقل فيها ظهور الآلهة، الذين إن ظهروا مثلوا بشرًا فائقين للعادة. بمعنى أن الخرافة هي ذكرى للمقدس يخبو مع الزمن مقدسها وتصير حجابًا له، حيث يصير سحرها ذاته هو مصدر الجذب والنفور. وفي كلمة ذات صبغة توحيدية، سنقول إن الخرافة هي «وثن سردي»، ولعل هذا المعنى يصدق تمامًا للدلالة على الأساطير التي كان يرويها النضر بن الحارث لمواجهة النبي، أي قصص رستم واسفنديار وكليلة ودمنة وغيرها من أساطير فاقدة الصلة بأي مقدس، فضلاً عن دورانها حول شخوص وأبطال وبشر متفوقين، دون أن تكون كشفًا عن أفعال المقدس. أما «الأسطورة» قبل أن تتحول لـ«خرافة» أو «وثن سردي»، حين كانت كما يعرّفها السواح «حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يتصل بالحياة والكون والإنسان، ويلعب فيها الآلهة الدور الرئيس، ويؤمن بها راويها ومستمعوها وتدخل في صلب طقوسهم»، فإنها دومًا –وهذه ملاحظة مهمة أشار إليها ستنكيفتش في «العرب والغصن الذهبي»– ترتبط بـ«عنف بنيوي»؛ فـ«الأسطورة كأسطورة دومًا جاهلية».

«وثنية» الأسطورة و«جاهليتها» يجعلان من غير الممكن وجودها في كون توحيدي. حيث يرفض التوحيد الأوثان وإن كانت سردية، كما يرفض «الجهل» الذي هو ضد العلم وضد الحلم. لهذا خضعت الأسطورة بمستويي حضورها هذين لنقد قرآني، وتم وضعها في جملة «لغو» و«لهو الحديث» و«الإضلال عن سبيل الله»، هذا لأنها تجلي لعالم غير العالم التوحيدي.

الإله الخَيِّر والأسطورة الجاهلية

من ثم، ومن أجل فهم العلاقة بين القصة و«الأسطورة-الخرافة» لا بد من استحضار عمق الخلاف بين النظامين العقديين الجاهلي والإسلامي، الذي يتحدد جزء كبير منه في قيام «النظام العقدي الإسلامي» على مفهوم «المفارقة» أو «التعالي». فالإسلام يصر دائمًا، وكأحد مفاهيمه المركزية، على مفارقة إلهه وتعاليه كسمة مركزية لـ«لتوحيد الإبراهيمي». فإله إبراهيم لا يحل في شيء ولا يسعه شيء، وهو يطالب دوما بالـ«هجرة» عن كل ما يحجب التعلق به، كون الله هو «الهم الأقصى» الحقيقي الوحيد والمطلق؛ إله لا تعبر عنه أبدًا «أيدولة» توهم بأنها تسعه فتنتهي لحجبه، أو حجبنا نحن في حقيقة الأمر، بل «أيقونة» تعترف بتعاليه فتكتفي فحسب بالإشارة والإيماء إليه.

وسمة «المفارقة» الجوهرية هذه مرتبطة بسمة أخرى هامة في النظام العقدي الإسلامي وهي «الكلام»، نقصد تحديدًا «الوحي»: «الكلام الإلهي المأمون المرسل لعبدٍ مُصطفى». حيث إن الكلام هو نمط تجلي الله التوحيدي لعباده وكشفه عن نفسه. فهو «إله التاريخ» كما يقول إلياد، يكشف ذاته عبر التاريخ لا عبر الحلول في الطبيعة. هذا الكشف في أحد أوجهه هو كشف سردي يتركز في سرد أفعال الله في العالم «كأكبر فاعل في تاريخ الخلاص».  ولعل هذا يذكرنا بما قاله بول ريكور عن أن إله التوراة هو، وبالأساس، إله سردي.

هذا التكريس الواضح لتعالي الله حتّم تشكيل فضاء القداسة في الأديان السابقة عليه، التي لم تكن ترفض «الحلول» بل تؤمن به عقديًّا وتستعيده شعائريًّا بعبادة الأوثان وبالعبادات النجمية، وكذا سرديًّا بشيوع الخرافات الساحرة (الأيدولات التي تشير فحسب إلي ذاتها)، وهذا لا يصدق فحسب على الدين الجاهلي النجمي، بل على مجمل العصر السابق على «العصر المحوري» بتعبيرات كارل ياسبرز. وإذا كان الإسلام قد أسس من الشرائع ما يكفل له التخلص من الأوثان، بداية من التشريع الإبراهيمي الخالد: «تحريم التصوير» («لا تصنع صورة»، «ملعون الإنسان الذي يصنع تمثالاً منحوتًا أو مسبوكًا رجسًا لدى الرب، تثنية 4- 23»)، فقد كان عليه كذلك إقصاء «الأوثان السردية». فالأسطورة –ما سطره الأولون– في مستوى الحضور كـ»خرافة» ليس لها وظيفة توسطية، ولا تكتسب قيمتها من قداسة ما، بل من الإنباء ذاته بالغريب والعجيب؛ من هذا العُجب الملازم لها، الذي يحولها لخرافة مُستملَحة لذاتها، فتحضر كزخرف «كلام مزين لا معنى تحته»،  لتصبح «هذا المجال الجديد من الغواية الذي يتعدى حتى مجال التصوير» بتعبير الفرنكفوني يوسف الصديق. ولعل الإسلام تحديدًا، ذلك الدين القائم في مجتمع تسكنه أنماط السرد المختلفة، كان عليه أن يواجه هذه الأوثان بصورة ربما لا تقل شراسة عن مواجهته الأوثان الموضوعة في حرم الكعبة.

لذا، فإذا كان «سحر» الأسطورة وغوايتها كامنين فيها، أي في غرابتها سردًا وموضوعًا لا في قائلها ولا في ناقلها ولا في ما تشير إليه. فإن القصة القرآنية، على عكس هذا تمامًا، تجد قيمتها في كونها كلام الحق المتعالي الذي لا يكمن «إعجازه» فيه فحسب، وإنما في دلالاته على منبئها وبيانه. فالقصة هي دليل نبوة من حيث إنه لا يمكن أن يكون قائلها هو النبي، ومن حيث كونها تكرس للتعالي الإلهي فوق التاريخ بدمج التاريخ كله في «العالم الديني الأبعد والأعمق» ليصير أحد مراحله. ففي كل قراءة للقصص تُستحضر ككلام الله الواحد وكأفعاله فوق التاريخية في قلب التاريخ وقبله وبعده. ومن ثم فإن الإسلام لم يقصد أبدًا أن يقدم سردًا عجيبًا، بل اقتصر على معهودات العرب،  هذا لأن العُجب بالمسرود غير مراد من القص القرآني، بل المراد هو إنهاء الإدهاش بما يتم سرده ليكون الإدهاش متصلاً بدلالة القصة «الآية» على الله قائل الخبر والفاعل الأوحد «المصرّف» للكون.

هذا التحويل للـ«عجيب المدهش» من عُجب بالسرد ذاته إلي عُجب بما يشير إليه السرد، لا يفترق كثيرًا عن ما قام به الإسلام مع العُجب بـ«الطبيعة». فالإسلام لم يبطل كون الطبيعة مدهشة وعجيبة، لكنه حول إدهاشها من كونه إدهاشًا مقتصرًا عليها ينتهي لتأليهها وتحويلها لمصدر للرهبة والجذب، إلي كونه إدهاشًا يشير إلى الله المصور من ورائها. فأضحت الطبيعة بهذا التحويل، الذي أعطاها وظيفة توسطية، «آية»، أي أيقونة لا أيدولة .

إذن فالأسطورة-الخرافة/الزخرف، كالصورة/الوثن، كالطبيعة المكتفية بذاتها، «صد عن سبيل الله» ومنازعة لصفة «المفارقة» كصفة محددة لإبراهيمية الإله الإسلامي. لذا، فكما توارى «الوثن» و«الطبيعة المؤيدلة»، في سياق تحويل «آياتية» لكل ما في العالم،  كان لا بد أن تتوارى «الأسطورة- الخرافة» لتحل محلها «القصة-الآية»، التي تشير في نمط حضورها ذاته إلي الله عالم الغيب العادل كلي القدرة المصرّف.

أما النمط الآخر لحضور الأسطورة، أو ما يمكن أن نعبر عه بـ«الأسطورة-الأسطورة»، فهو كذلك يعارض أحد السمات المركزية في النظام العقدي الإسلامي، ألا وهي سمة «الخيرية»، وهذا من حيث إن الأسطورة-الأسطورة «يصعب التفكير فيها دون أن يكون الجهل حاضرًا في صلبها»،  كما يعبر ستنكيفيتش. والمقصود بالـ«جهل» هنا ليس ضد العلم، بل ضد الحلم، أي العنف والتدمير. هذا العنف الذي لا يتجلى في سرديات الأساطير لخلق الكون وتأسيسه فحسب، بل يستعاد في نهايته، وربما يبطن كل تاريخ الكون الذي يستحيل صراعًا بين قوى الآلهة أو بين الآلهة والعماء، يتماشى تماما مع كون «المرعب» و«المدمر» أحد صفات «القدسي» الذي تجليه الأساطير. «القدسي» الذي كما وصفه اللاهوتي الألماني رودولف أوتو بأنه يحمل في بدائيته وإلي جانب وجهه الخلاب «وجهًا شيطانيًّا»، وجهًا مرعبًا مسببًا لمسحة الرعدة الجنونية، وجهًا كامنًا في الأصل الذي يطلع منه كل الشياطين والآلهة والبادي في كل انفعال ألوهي مهما تطور.

ونحن حين ننظر للنظام العقدي الإسلامي سنجد أنه مثل كل نظام عقدي لأي دين يعد حصرًا «للمقدس» بتعبير تيليش، بما يعني أنه يعيد تشكيل فضاء القداسة بإقصاء بعض الصفات من مقدسه. فالأديان لا تنطوي على التصور ذاته عن المقدس، بل لكل منها مقدسه الذي يعيد تشكيل التقديس. وبالنسبة للإسلام، أو للأديان الإبراهيمية بعامة، فقد كان الجانب الرئيس الذي أقصته، كما يرى تيليش ويان إسمان، هو الجانب الشيطاني تحديدًا، المرعب والمدمر. «فالقداسة التوحيدية متماهية بالعدل والحق»، إله التوحيد ليس مرعبًا أو رهيبًا، بل «جليلاً» و«عادلاً». هذه الصفات كلها استُبعدت من الله «مجال القداسة» لتصبح صفات لـ«مدنس»/«الشيطان» مقلمة أظافره تمامًا في كون يتفرد فيه إلهه بالتصريف والتدبير. لم يعد «العنف والجنس الخالق أو الجنس المدمر»، كمدارات أو «موتيفات» للأسطورة، هم أساس الكون، بل «الكلمة والعدل والخير والدينونة».

هذا التعديل أدى لتشكل النظام السردي الإسلامي الجديد في مواجهة الأسطورة تمامًا. من هنا  كانت الأسطورة «إضلالاً وصدًا عن سبيل الله» كما ورد في آية لقمان. حيث إن روايتها، بموتيفاتها الرئيسة، تحجب التعديل الذي طال مبدأ القداسة وتعود بـ«الإله التوحيدي الخير العادل» ليذوب في «المقدس» الشامل للوجه المخيف.

الأسطورة منازعة لله في امتلاك الغيب

السمة الثالثة للنظام العقدي الإسلامي، والتي كانت محل نزاع بين الإسلام والجاهلية، والتي نراها محددة للموقف من «ما سطره الأولون»، هي سمة «امتلاك الغيب». فقبل الإسلام كان الكهان والشعراء والمتنبئون يشتركون في معرفة الغيب والتنبؤ به، عبر صلتهم بالجان («وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (الجن:8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (الجن:9)»)، وكان الغيب مُتَخَرَّصًا ومسرودًا في الشعر وفي سجع الكهان. لذا كانت إحدى الخطوات الرئيسة في تشكيل نظام الإسلام العقدي المتمحور حول «إله متفرد بالعلم والبيان»، هي تعديل معنى الغيب ليعني لا المجهول وإنما «الحق»، ونفي أي قدرة لغير الله على معرفة هذا الغيب أو التقاطه أو التخرص به، ثم –وهذا هو الأهم– نفي أي طريق للتوصل إليه إلا عبر الوحي الإلهي. فغيره يهيم في كل واد كما تشير آية الشعراء «أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ» (الشعراء:225).

آيات سورة الجن تضع حدًا نهائيا لتسمع أخبار السماء. إذ حُرم الشيطان من سمة مساعدة أوليائه، «شعراء- وكهنة»، في معرفة الغيب، وحددت معرفة أنباء السماء بإخبار الله عنها لنا أو لنبيه أو لمن شاء. بعد هذا لم يعد من الممكن وجود تنبؤ أو تخرص بالغيب. إذ تركت هذه المفاهيم مكانها لمفهوم وحيد، هو الملائم في ظل «عالم ديني جديد» يقع في مركزه إله استأثر وحده بعلم الغيوب و«بيانها»، هو مفهوم «الرجم بالغيب»، بما يعنيه هذا من غياب لآية صدقية لهذه الأخبار من ناحية، ومن إجرامية المنازعة «اليائسة» لله في غيب أصبح له وحده قدرة العلم به وبيانه عبر الوحي الأمين لعبدٍ مُصطفى من ناحية أخرى.

هذا يعني أنسمة «الاستئثار بمعرفة الغيب» تقع في مركز العلاقة بين «الكلام» وبين «القداسة» التي قلنا إنها كاشفة تمامًا للعلاقة التي عقدها القرآن مع الأنماط السردية السابقة عليه. فللمقدس الإسلامي وحده حق معرفة الغيب والكلام عنه، مما يضاعف من إدانة رواية ما سطره الأولون غير الحائزين على هذه المعرفة، ويضاعف من إدانة الشعراء والكهنة و«ساردي الأساطير» المتخرصين المدعين لمعرفة لا يملكونها.

ومن الأمور ذات الدلالة الكبيرة في هذا الإطار، السياق الذي يستخدم فيه وصف «الرجم بالغيب» في القرآن. فمثلاً في سورة الكهف في سياق الحديث عن عدد أهل الكهف، لم يهتم القرآن بتحديد عددهم ولا بتصحيح الخبر التاريخي ولا بالإشارة إلى كذبه وعدم أحقيته، لكنه اهتم فحسب بوصف تخرصات من يتناقلون القصة بأنها «رجمًا بالغيب» «سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا» (الكهف:22)، مما يشير بوضوح لكون النزاع بين سرد الله عبر الوحي وسرد غيره عبر الأسطورة ليس خلافًا في التاريخ أو في الصدق والكذب –وهذا جزء كبير من القيم التي يتم الصراع حولها في الكتابات العربية المعاصرة حول القصة القرآنية– بل حول «صفات الله»؛ حول «التشكل الجديد لفضاء القداسة»؛ حول نظام عقدي جديد لابد أن يواجه كل سرد يقوم على منازعة الله في ما صار يملكه وحده: العلم بالغيب وبيانه.

هنا يكمن المعنى الأعمق لما يصفه عبد الله إبراهيم بخطر الأساطير وقدرتها على «تقويض النبوة»، وهذا ما حتم إنهاء النبوة للأسطورة، «قتلها بعد أسرها»، حيث الأساطير تعارض انفراد الله بالعلم والبيان والإخبار عن الغيب عبر «الوحي» كمركز لهذا النظام العقدي الجديد. إذ تجد طبيعتها ومصدرها في الشيطان «المتسمع» الذي يمثل «أرشيف» هذا النظام العقدي الجديد الذي يتحدد تجاهه وبنفيه عن العالم «رجمه».

إن هذه السمات التي ذكرنا والتي تنطوي عليها الأسطورة، تجعلها نمط سرد مرتبط في طبيعة حضوره، وفي مداراته المركزية، «موتيفاته»، بمجال خاص للقداسة يتعارض ويواجه، بل ويناهض، التشكيل الجديد للقداسة الذي أتى به الإسلام، هذا التشكيل الذي احتاج لنمط سرد جديد هو «القصة».

القصة القرآنية والشعائر وتشكيل فضاء القداسة

لا يقتصر كشف القصة القرآنية عن صورة القداسة الإسلامية على نمط حضورها ومداراتها المركزية فحسب، بل يتضمن كذلك إعادة تشكيل هذا القصص لفضاء القداسة من أجل بناء صورة القداسة الإسلامية، وهي العملية التي أسميناها في موضع سابق بـ»أرشفة الشيطان». لعل هذا يتضح تمامًا بالنظر لما يمكن اعتباره القصص المركزي في القرآن، نقصد قصة الخلق، «خلق آدم»، وقصص الأنبياء المركزيين في السردية الإسلامية، قصة «إبراهيم» وقصة «موسى» وقصة «مريم»، وقصص القيامة، فهذا القصص يقوم بعملية الإقصاء التي ذكرناها بالأعلى، أي إقصاء عناصر من حيز القداسة ووضعها في حيز الدناسة لإعادة تشكيل هذا الفضاء و»بناء العالم الديني الإسلامي».

فإذا كان الكثير من التحريمات الإسلامية مرتبط بإعادة تشكيل فضاء القداسة جسديًّا («الشعائر») وزمانيًّا («الأزمنة المقدسة») ومكانيًّا («الأماكن المقدسة»)، إلا أن هذا التشكيل الدوري لا يتم فحسب عبر التكرار الشعائري اليومي للعبادات الإسلامية في أزمنة وأمكنة محددة، ولا عبر التجنب المتكرر لنسق التحريمات، بل وكذلك عبر «التحيين المستمر للقصص الإسلامي» الذي يعيد تشكيل المخيال في كل لحظة ليبني داخله العالم الديني وليحافظ على تشكيل فضاء القداسة بالشكل المحدد لصورة المقدس الإسلامي.

ومن الممكن أن نقتصر هنا على مثالين من تشكيل القصص لفضاء القداسة حتى تتضح فكرتنا: قصة موسى والسحرة وقصة الخلق. فقصة النبي موسى مع فرعون والسحرة، التي تعد من أكثر القصص تكرارًا في القرآن، ترتبط بأحد أهم المواضع التي تحتم على الإسلام مواجهتها من أجل رسم صورة المقدس الإسلامي وتكريسها. حيث تصر الإبراهيمية التي ينتسب لها الإسلام على كون الإله هو المتفرد بالتصريف وحده («توحيد التصريف»)، وهذا على خلاف كثير من الأديان، سواء «الثنوية المطلقة»، مثل المانوية التي تؤمن بقديمين، إله نور وإله ظلمة، لكل منهما القدرة على التصريف، أو تلك التي تقتصر الثنوية فيها على مرحلة خلق العالم، في حين أنها تؤمن بإله واحد في البدء والمآل، مثل الزرادشتية (الثنوية الجذرية). هذا الشكل من «توحيد التصريف» لا يتعارض مع الثنويات التي تمنح قدرة التصريف لكائن آخر فحسب، بل مع الدور الكبير المعطى للشيطان في المعتقد الجاهلي. حيث يستطيع الشيطان تسمع الغيب ومساعدة السحرة بالتصريف في العالم، ويؤدي لالتباس القداسة/الدناسة، فيختلط الوحي بالوسوسة، والمعجزة بالسحر، والأمر الإلهي بالإغواء الشيطاني.

هنا تأتي قصة موسى والسحرة كبيان دائم ومتكرر على نهاية هذا «العصر الديني»، عصر التدخل الشيطاني في التصريف الذي يجعل القداسة/الدناسة ملتبسة باستمرار، تأتي لإعادة تشكيل فضاء القداسة، بحيث تشمل الطهارة والحكمة والخيرية العالم، ويقتصر الجانب الشيطاني على دور صغير؛ دور غواية أخلاقية ضمن سياق حكمة كلية وتدبير شامل لا يمكن الخروج عليه. فلا قدرة في عالم كهذا على أي تصريف شيطاني. وحتى مثال السحر الأكبر الذي يمثله سحرة فرعون أضحى مثالاً زائفًا. فهم لم يستطيعوا أن يحركوا العصي، بل فقط أن يُخيَّلوا بهذا، «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (طه:66)»، فكان لقف عصا موسى لما صنعوا لحظة التئام العالم الديني التوحيدي حول مصرف واحد «معجز» و»مبين» وليس لغير الله سوى «المخايلة» بالتصريف.

كذلك من القصص التي تتعلق بتعديل فضاء القداسة ورسم صورة «المقدس الإسلامي» قصة الخلق. حيث يمحور القرآن قصة خلق آدم وتكليفه ويجعلها هي، وليس قصة خلق الكون، القصة المركزية في الحديث عن النشأة. هذا التعديل قائم على كون إله الإسلام هو كما قلنا إله التاريخ وإله العهد والميثاق وليس إله الطبيعة أو الطبيعة/الإله، مما يعني أن قصص النشأة الإسلامية مختلف عن قصص النشأة في الأديان الأخرى التي يسميها إلياد بالـ«نشكونية»، وهذا لتمحورها حول «نشأة الكون». فالقصص الإسلامي قصص «نشإنسانية» إن صح التعبير.

هذا التغيير ينعكس بالطبع على «الموتيف» الأصلي لقصص كل دين من الأديان. ففي الإسلام لم يعد الموتيف الأساس للقصص هو «العنف» القائم في مصارعة الإلهة لبعضها أو للعدم، بل أضحى «العهد» و«التكليف» و «المسؤولية» و«الحساب». هذه هي الموتيفات الجديدة القائمة على تشكيل الإسلام لفضاء القداسة حول الله «المصرف الواحد»، «إله التاريخ، «الإله الشخصي الآخذ العهد على بني آدم».

ويتكشف هذا التعديل بوضوح في «العبادات التحينية» لهذا القصص، وخصوصا (العيد- الشعيرة). فـ«انتهاكية» العيد الإسلامي –حيث العيد هو طقس انتهاك كما يرى كايو في دراسته الكلاسيكية حول «مقدس الانتهاك ونظرية العيد»– لا تقوم على محاكاة تدمير الطبيعة والعالم الأخلاقي لإعادة إنشاءه مرة أخرى كولادة جديدة وخلق جديد، بل تقوم على تحيين تجربة إبراهيم الخليل، التي هي ذاتها تحيين مقلوب لتجربة آدم (حيث آدم صارع الشيطان فانتصر الشيطان، وسيعيد إبراهيم التجربة لكن هذه المرة ينتصر إبراهيم). فالعيد شعيرة مرتبطة بـ«العهد» و«المثياق»، فقد عهد الله لآدم فنسي، وعهد لإبراهيم فوفَّي. تلك المفاهيم التي تتكرس في المخيال وعبر الفعل الشعائري المستمر، بذبح أضاحي العيد تحيينًا لتجربة إبراهيم مع الشيطان، تقوم بوظيفة إعادة بناء العالم الديني المتمركز حول هذه المفاهيم بصورة دورية، فالعالم الديني لا يتأسس مرة، بل يعاد تأسيسه في كل شعيرة وفي كل فعل سرد.

القصة القرآنية كنافذة لفهم «طبيعة القرآن»

إن قراءة القصة القرآنية باعتبارها أحد عناصر التجلي السردي للإسلام، التي ينعكس فيها البعد العقائدي باعتبارها فضاء تشكيل للقداسة وللحدود البشرية القصوى، وليس على أنها مجرد أداة بلاغية قرآنية، أو محاولة تقريبية وتمثيلية، لا تنقل القصة لفضاء أرحب يتيح لنا كشفًا أكبر لممكناتها وآفاقها فحسب، بل إنها تنقل القرآن ذاته لفضاءات أرحب للدراسة. حيث إنها تستطيع أن تكشف البعد السردي للقرآن، وهو البعد المغيب بقدر كبير في التعامل المعاصر الذي يسيطر عليه ما أسماه طه عبد الرحمن بآفة التجريد، أي «إفراد العقل النظري بالقدرة على التأمل في النصوص، على اعتبار أن قيمة هذه النصوص  تنحصر في التصورات والأفكار التي تنال بهذا التأمل»، كما أنها تستطيع وعبر علاقتها الوطيدة بالشعائر وقدرتها على إضاءة الكثير من مساحاتها أن تكشف البعد الشعائري للقرآن ذاته.

نستطيع بوضوح أن نلمح سيطرة هذا البعد التجريدي على مقاربة القصة القرآنية من خلال النظر في القيم التي يتم دومًا استحضار القصة فيها. فدائمًا ما نجد أن القصة تتناول في سياقات تبحث القيم والأهداف الأخلاقية والتربوية التي تكرسها، وتبحث مدى تاريخية وعلمية القصص، أو مدى قدرتها على التوافق مع المفاهيم العقلانية، وهذا كله يجعل القصص مرتهن بتصور مسبق عن  قرآن هو «كتاب نظري» يحمل تصورات ومفاهيم وحقائق علمية وتاريخية، ويبعدنا عن بحث أعمق لطبيعة هذا النص من خلال قصصه بالذات، وما علاقة هذه الطبيعة بسمات المقدس الإسلامي.

لا شك أن سؤال مثل السؤال عن «طبيعة» القرآن، سؤال كبير تتعدد إجاباته. فهو عند البعض نص نظري، وعند بعضهم شعري، وعند آخرين ميثي، أو منهجي، أو مفاهيمي، أو شعائري. لكن ما نراه هو أن المضي في تحديد هذه الطبيعة هو دومًا مضي عكس الاتجاه. فلا يمكن تحديد هذه الطبيعة إلا بتحرير القصة القرآنية ومجمل النظام السردي الإسلامي من قبضة تصورات مسبقة عن النصوص وقراءتها هي ذاتها كأوسع نافذة لاستكشاف هذه الطبيعة.