دراسات

أحمد زكريا الشلق

إدوارد سعيد: سنوات التكوين القاهرية (1935 – 1951) – الجزء الثاني

2024.08.17

تصوير آخرون

إدوارد سعيد: سنوات التكوين القاهرية (1935 – 1951) – الجزء الثاني

 

 

تحدث إدوارد سعيد عن طبيعة الدراسة التي كان يتلقاها في إعدادية الجزيرة والتي يبدأ اليوم الدراسي فيها بإنشاد التراتيل، والدروس والكتب الإنجليزية التي تتحدث عن المروج الخضر والقصور و"الملوك الإنجليز جون وألفرد وكانوت" بكل إجلال، وذكر أن عالمهم هذا لم يكن يعني بالنسبة إليه شيئًا مهمًّا، باستثناء إعجابه بإنتاجهم لللغة التي يستخدمونها وقد بدأ، وهو العربي الصغير، يتعلم عنها بعض الأشياء. وقد تخللت دروس الأمجاد الإنجليزية تمارين متكررة في الكتابة والحساب والإلقاء. وقد ذكر إدوارد بتفاصيل دقيقة أسماء المدرسيين والمدرسات وطباعهم، وكذلك التلاميذ، حتى لنتعجب كيف احتفظت ذاكرته بهذه التفاصيل رغم مرور نحو خمسين سنة على تذكرها وكتابتها.

ذكر كذلك أنهم خارج الدروس كانوا يقضون وقتهم في باحة بالمدرسة منعزلة عن شارع فؤاد الأول، الذي كان مرصوفًا بالمحلات ويعج بحركة سير قوية يخترقه خط ترامواي ضاج وتعبره حافلات النقل العام. كان هذا الشارع ينطلق من أحياء القاهرة القديمة ويعبر إلى الزمالك من بولاق، ثم يجتاز الجزيرة الأنيقة الهانئة في ثرائها حيث كانت تسكن أسرته، ليختفي أخيرًا عبر النيل في إمبابه، وهي نقيض مزدحم آخر للزمالك ذات السكان الأجانب والشوارع الهادئة المرصوفة بالأشجار، وكان إدوارد يسميها أحيانًا "الضاحية الكولونيالية المصطنعة".

وذكر أنه لم تكن له علاقات متصلة بأولاد الإنجليز خارج المدرسة: "ذلك أن حبل سرة سريًّا كان يجمعهم ويخفيهم في عالم آخر مغلق علىَّ". وفي حديثه عن القاهرة: "المدينة التي أحببتها على الدوام دون أن أشعر مرة بانتمائي إليها"، فعلى الرغم من أن بعض أولاد المدرسة ظنوا أننا مصريون، فقد كان ثمة ما هو نشاز وفي غير مكانه في أمورنا دون أن أدرك ما هو".

وفي هذا الشأن أيضًا تحدث عن تعرضه لمواجهة كولونيالية أشد حدة وسفورًا عندما كان عائدًا إلى بيته فاعترضه مستر بيلليه الإنجليزي، أمين عام نادي الجزيرة، ونهره وذكَّره بقوله إنه ممنوع عليه أن يكون هنا، وطلب إليه مغادرة المكان بسرعة لأنه "ممنوع على العرب ارتياد هذا المكان، وأنت عربي"، وعلق إدوارد على ذلك بقوله: "لقد أدركت مباشرة آنذاك أن هذا النعت يفقد الإنسان الأهلية حقًّا".

ولكن بالرغم من تلك المرارة، تذكر إدوارد أن من لحظات السعادة في هذه المدرسة تعرفه على المسرح مطلع عام 1944 وحفلاته التي كانت تقام عروضها في بعض أماسي المدرسة.. وحدثنا عن اشتراكه في تمارين جمعية الكشافة في نادي الجزيرة، وذكر أنهم كانوا يتدربون على القسم الذي يضم مقطعًا يتعلق "بالله والملِك" (ملك الإنجليز) وعندما لاحظ والده ذلك سأله: "لماذا تقول ذلك وأنت أمريكي وليس لدينا ملك بل رئيس جمهورية: أنت مخلص للرئيس. لله والرئيس".. وتذكر زيارة الممثل جون جيلجود John Gielgud للقاهرة لتمثيل دور هاملت في الأوبرا، وأنه شاهد هذا العرض، الذي شجع أمه للذهاب إلى المسرح خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حياتها.

ويذكر تلميذه وكاتب سيرته الجديدة "تِمُثي برِنَن" أن الموسيقى والأوبرا، أصبحت، إلى جانب القراءة، هي المصدر الرئيسي لانضباطه الفكري والخيالي، وأول "نظرية" يستقصيها قبل أن تدخل الفلسفة في مرمى بصره. لقد درس تاريخ الأوبرات وسير مؤلفيها، وملخصات الأوبرات، وكان قد تعلم العزف على البيانو في سن السادسة، ثم صار يأخذ الموضوع بجدية في العاشرة، وبدأ يشتري الأسطوانات الخاصة بذوقه في سن الخامسة عشرة. ومنذ أن بلغ الحادية عشرة بدأ يحضر العروض التي تقدمها دار الأوبرا الخديوية والتي كانت صورة مصغرة من التي يقدمها جارنييه في باريس.. تلك الدار التي خلّدت أوبرا عايدة في عرضها الأول. واعتاد والداه أن يصطحبا الأطفال إلى أوبرا القاهرة بمجرد وصولهم إلى السن التي تمكنهم من الاستمتاع بها. وكانت تأسره الطقوسية الرسمية للمسرح والبشر المهندمين، كما تأسره الموسيقى ذاتها من حيث الأداء والانضباط. لقد كان إدوارد يستغرق في عالم الموسيقى والكتب، وكانت المكتبة الكبيرة في بيت آل سعيد تغص بالكتب والأسطوانات الكلاسيكية.[1]

وفي ديسمبر عام 1949 وهو في الرابعة عشرة ذهب لمشاهدة مسرحية "الأسلحة والإنسان" في قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وذكر أنه لم يميز شيئًا مما يجري على المسرح إلى أن أعاره صديقه مصطفى حمد الله نظارته، وأنه بعد ذلك حصل من أسرته على نظارة خاصة مع تنبيهه بعدم استخدامها كل الوقت، لأن نظره ضعيف بما فيه الكفاية وأنه سوف يزداد ضعفًا إن فعل.

وكان والده أحد الأوائل في مصر الذين امتلكوا بفخر آلة تصوير سينمائية من عيار 8 مليمتر وكان يمارس التسجيل لمشاهد لإدوارد وأمه وأبناء عماته وأعمامه -لا أحد خارج العائلة- وهم يلعبون ويمرحون بسعادة. وقد بهرته هذه الآلة المسطحة المستطيلة التي تنبعث منها رائحة البلاستيك.. وكان والده يذهب كل أسبوع إلى محل "كوداك" في شارع عدلي باشا لتسليم الأفلام للتظهير (للتحميض). وذكر أنه بعد شهور من وفاة أمه عام 1990 عثروا في خرانة لها على كمية من الأفلام معلبة بعناية كُتِب عليها أنها صورت في الفترة 1939-1952 بالقاهرة والقدس. وأضاف أنه أخذها إلى منزله في نيويورك حتى استطاع شابان من البي بي سي -يعدان فيلمًا تسجيليًّا عن تأليفه لكتاب "الثقافة والإمبريالية"- أن يأخذا هذه الأفلام إلى لندن حيث حولاها إلى أفلام فيديو. وبذلك أصبحت هذه الأفلام وثائق أرشيفية مهمة في التأريخ لآل سعيد وأبناء عائلتهم وحيواتهم اليومية في كل من القاهرة والقدس.

وتحدث إدوارد بعد ذلك عن انتقاله إلى "مدرسة القاهرة للأطفال الأمريكيين" Cairo School For American Children في خريف عام 1946 بصفته ابن رجل أعمال أمريكي: "وأنا لا أملك أدنى شعور بالانتماء إلى أمريكا"، وذكر أنه سرعان ما تكيف مع هذا المحيط الجديد. وأفاد بأن هذه المدرسة تأسست بعد الحرب لاستيعاب أبناء موظفي شركات النفط والأعمال والسلك الدبلوماسي الأمريكيين الذين كانت جاليتهم تتوسع في القاهرة آنذاك. وذكر أنها تقع في المحيط الغربي الخارجي لضاحية المعادي في موازاة السكة الحديد، وعلى مسافة حوالي ميل من النهر العظيم. وقد قضى بها إدوارد عامه الأول 1946-1947، وإن قطعته إقامة ربيعية مديدة في القدس. وفي هذه المدرسة تعرف إلى كرة السلة و"السوفت بول".

لقد أثارت فيه قاهرة ما بعد الحرب العالمية الثانية لأول مرة شعورًا بالتمايز الشديد من حيث التراتبية الاجتماعية. وكان التبدل الكبير هو حلول الأمريكيين المنتصرين محل البريطانيين، مؤسسات وأفرادًا، فقد أخلت الإمبراطورية العجوز المكان للإمبراطورية الجديدة، وقد نعم والده بمزيد من النجاحات في حلبة الأعمال. ومع ذلك كانت بريطانيا تحكم البلد بكفاءة، والجميع مسلّم بذلك تسليمًا واضحًا.

ومن ذكرياته ذات المغزى أنه رأى شفيق غربال، المؤرخ المصري المرموق والموظف بوزارة المعارف، يتحدث في أول احتفال يتذكره في هذه المدرسة، ما سجل الاختلاف بين الأسلوبين الإمبرياليين الأمريكي والبريطاني. وذكر أنه: "لما كنا نحن الأمريكيون شركاء للمصريين، فمن المناسب أن نفسح لممثليهم فرص الحديث في مناسبات مثل افتتاح البرلمان أو عيد ميلاد الملك فاروق، وهي مناسبات لم تكترث لها إعدادية الجزيرة التي كان ينطلق منها نشيد الأولاد لتمجيد إنجلترا "البراقة الجميلة". لقد انتهي ذلك الزمن.." وقد دُهش إدوارد كذلك عندما عرف أن تعليم اللغة العربية لجميع الأطفال يشكل جزءًا من البرنامج الأمريكي. وذكر أنه عانى الأمرين في دراسة العربية، إذ اضطر إلى أن يخفي ملكته الممتازة للغته الأم "انسجامًا مع الصيغ الفارغة التي توزع وتمر على الشباب الأمريكي بوصفها العربية المحكية".. وأضاف: "لم أتطوع لأي مهمة، لم أتكلم إلا نادرًا، وغالبًا ما كنت متقوقعًا على نفسي في مؤخرة الصف".

كان يفترض بإدوارد أن يكون بين أبناء جلدته في المدرسة الأمريكية، لكنه كان يشعر بأنه صار غريبًا فيها أكثر مما كان في إعدادية الجزيرة. لقد ساد المدرسة الأمريكية كثير من رفع الكلفة.. "كان الشعور العام المسيطر عليَّ هو شعوري بامتلاك هوية مضطربة، أنا الأمريكي الذي يبطن هوية عربية أخرى لا أستمد منها أي قوة بل تورثني الخجل والانزعاج".

ويتحدث إدوارد أيضًا عن نمو مشروعات والده الذي تعاظمت ثروته لكونه رجل أعمال أمريكيًّا، فوجدت معظم الشركات التي كان وكيلًا لها سبيلها إلى منزلهم، وذكر أسماء هذه المنتجات وشركاتها، وكان والده يجول بانتظام على مختلف المكاتب والمعامل العائدة إلى الشركات التي يتعامل معها للحصول على وكالات تجارية حصرية بحيث استطاع أن يبيع منتجات تلك الشركات لموزعين آخرين بصفته الوكيل المحلي الرئيسي، وذكر أنهم عندما غادروا القاهرة، كانت شركتهم لبيع التجهيزات المكتبية والقرطاسيات قد أضحت أكبر الشركات في الشرق الأوسط قاطبة التي توزع منتجات (أوليفتي، رونيو، باركر، جستتنر، إدلر، وغيرها) وكان الموظفون مزيجًا من الأقليات الشرقية والمصريين، مسلمين وأقباطًا، وأضيف إليهم بعد عام 1948، عدد متزايد من اللاجئين الفلسطينيين الذين كانت عمته نبيهة تضغط على والده لتشغيلهم في شركته فيستجيب.

ويذكر أن من إنجازات والده أنه حوّل البيروقراطية الحكومية المصرية تحويلًا شاملًا بإدخاله الآلات الكاتبة والناسخة والناقلات وخزائن الأرشفة إليها، لتحل محل الوسائل الاعتباطية السابقة. وطوّر، بمساعدة والدته، والأحرى القول إنه "اخترع" الآلة الكاتبة بالحروف العربية بالتعاون مع شركة "رويال" التي نمت علاقة وثيقة بين أسرته وبين أصحابها الأرستقراطيين الأمريكيين.

ويضيف إدوارد أن والده كان دائم الاستقامة والإنصاف والسخاء، فقد ابتكر فكرة منح مكافآت لجميع موظفيه في أعياد الميلاد والأضحى ورأس السنة العبرية، فضلًا عن مشاريعه للضمان الصحي والمعاش التقاعدي. ويذكر أنه شخصيًّا لم يقدر عبقرية والده الاستثنائية في مجال الأعمال "التي طوّرها بذاته في عاصمة من عواصم العالم الثالث غارقة في الاقتصادات الكولونيالية وملكيات الأرض الإقطاعية"، لقد كان والده رأسماليًّا حديثًا ذا قدره هائلة على التفكير المنتظم والمؤسساتي.

وقبل مغادرته إلى الولايات المتحدة عام 1951، لم يكن والداه قد اندمجا في المجتمع القاهري على نطاق واسع، فعلى الرغم من ثرائهما، ظلت حلقة معارفهما وأصدقائهما محصورة إلى حد كبير في أفراد العائلة والمعاونين. ومما يذكره أنه سمح له بالاستماع إلى برامج من الإذاعة، مثل: "زاوية الأطفال"، وبرنامج "أمسيات في الأوبرا"... وذكر أن والده اعتاد ارتداء زي "التاكسيدو" في الأماسي التي يذهب فيها إلى اجتماعات المحفل الماسوني البالغة السرية، وأنه ووالدته قد اعتادا حضور الأمسيات الدورية الخاصة بالمشتركين في موسم الأوبرا والباليه القاهري. وأضاف أنه تمكن في أواخر الأربعينيات من حضور الحفلات الأوبرالية بالقاهرة "التي كانت مدينة كوزموبوليتية يسيطر الأوروبيون على حياتها الثقافية". وكان ارتياده دار الأوبرا في شهور الشتاء إثراء لمعارفه الموسيقية عن المؤلفين والبرامج والعازفين والتقاليد الموسيقية.

ومن ذكرياته في هذه الفترة أنه حضر أمسية غنائية في سينما "ديانا"، حيث كانت تقدم حفلة للمطربة أم كلثوم. لم تبدأ إلا في التاسعة والنصف وانتهت بعد انتصاف الليل: "حفلة بلا فواصل سادها نسق غنائي وجده رتيبًا إلى حد مروع... أشبه بالتأوه والنحيب المتواصلين لامرئ يعاني نوبة حادة من الألم المعويِّ، وأنه لم يفقه كلمة مما غنت..". وإن كان قد وجد نفسه في فترة لاحقة من حياته مدفوعًا إلى التعبير عن تقديره للمطربة أم كلثوم وذكر أنه لم يجد في الموسيقى العربية شيئًا يحبه معترفًا بعدم فهمه إياها وليس كرهه إياها.[2]

وقد يبدو ذلك أمرًا طبيعيًّا على فتى تربت ذائقته الفنية على الموسيقى الكلاسيكية والأوبرالية، كما تعلم وتربى في وسط ثقافي أوروبي صرف. وهو ما تكشف عنه ذكرياته بوضوح عن هذه الفترة، التي منها أنه ذكر بزهو وسعادة أنه كان يذهب إلى "قاعة إيوارت" داخل حرم الجامعة الأمريكية بالقاهرة ليحضر الاحتفالات الموسيقية.

وكتب إدوارد عن زيارته مع الأسرة إلى القدس حيث قضوا معظم عام 1947، في فلسطين "التي غادرناها لآخر مرة في ديسمبر من ذلك العام"، وصور كيف أن معالم الأزمة الزاحفة تحدق بهم، حيث المدينة منقسمة إلى مناطق متعددة يسيطر عليها الجيش البريطاني وحواجز الشرطة. وهناك درس في مدرسة القديس جورج مع أبناء عمه. وكان معظم المعلمين من البريطانين.. وصور كيف أن مرابع طفولته في القدس الغربية العربية قد احتلها مهاجرون يهود حتى أضحت القدس الغربية يهودية بالكامل... وذكر أن أهله قرروا فجأة العودة إلى القاهرة قبل عيد الميلاد وذكر: "لم نتطرق في الحديث علنًا إلى فلسطين إلا نادرً". على أن إشارات من أبيه كانت توحي إيحاء بالانهيار الكارثي لمجتمع وبتغييب وطن، فتحدث كثيرًا عن اللاجئين ومشكلاتهم. 

وذكر إدوارد أنه غادر القاهرة عام 1951، إلى ما اعتبره منفاه الأمريكي، وأضاف أن فرعي عائلته في القاهرة والقدس أصيبا بصدوع غير قابلة للإصلاح من الناحية التجارية، وأنه شعر إذ ذاك بأن اختفاء فلسطين هو المسؤول عمَّا جرى. وذكر أنه خلال الأعوام من 1948 إلى 1950 تقلص الوجود البريطاني في مصر. ومعه ضعفت سلطة الملكية وتدنت سمعتها. وفي يوليو 1952، قامت ثورة الضباط الأحرار التي ذكر أنها شكلت تهديدًا مباشرًا لمصالح أسرته بوصفها عائلة أجانب ميسورة ليس لها معين كبير داخل المجتمع المصري. ثم تذكر بأسى وحزن رحلة إبحار أسرته من الإسكندرية حتى وصولها إلى نيويورك في يوليو 1948: "بينما كانت فلسطين قد سقطت ونحن غافلون عن حقيقة أن حيواتنا تقودنا إلى الولايات المتحدة، حيث أنا وأمي نصاب بالسرطان الذي سينهي حياتنا في "العالم الجديد"".

تحدث إدوارد بعد ذلك عن عودته إلى مصر في خريف عام 1949، وذكر أنه تقدم لامتحان دخول "المدرسة الإنجليزية" في هليوبوليس، لكنه غير اتجاهه وآثر الانتساب إلى "فيكتوريا كولدج" بلا عناء. وذكر إدوارد أنه كان يعالج الجوانب الأخلاقية والروحية في شخصيته بحضور دروس التعليم الديني الأسبوعية في كنيسة "جميع القديسين" في شارع ماسيبرو، وهي جزء من مجمع كبير يواجه النيل إلى الشمال قليلًا من ثكنة الجيش البريطاني في قصر النيل (صار موقعها فندق النيل هيلتون وقت كتابة السيرة) والمكان كله يوحي بالجبروت والثقة التامة وهما أبرز السمات المميزة للحضور البريطاني في مصر، وأضاف أن تلك الأبنية قد اختفت جميعها في أواخر الثمانينيات عندما أقيمت كباري جديدة لعبور النيل.

كانت القاهرة آنذاك (1948-1949) تعج بالأنباء عن اغتيالات واختفاءات، أبرزها اغتيال الإخوان المسلمين للنقراشي باشا رئيس الوزراء، ثم اغتيال الشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان في المقابل.. ومع أن إدوارد كان يشرف على عامه الخامس عشر، فإن القلق كان يزداد في نبرة صوت أمه وهي تحذره من التأخر في العودة إلى البيت وتدعوه إلى الامتناع عن تناول أي طعام من عربات الباعة أو الجلوس قرب الناس في الحافلات.

ويتذكر إدوارد أنه بدءًا من الصيف الذي تلا انهيار والده العصبي عام 1943، ولسنوات تالية كانت أسرته تقضي معظم شهور يوليو وأغسطس وسبتمبر في قرية ضهور الشوير الجبلية في لبنان، حيث أسرة والدته. لقد كانوا في البداية ينطلقون بالقطار من محطة باب الحديد: "وكانت الرحلة بالقطار رومانسية وممتعة بما يفوق الوصف"، إلى الإسماعيلية أو القنطرة، ومنها يعبرون سيناء في رحلة طويلة إلى حيفا تستغرق الليل ليصلوا إلى ضهور الشوير ظهيرة اليوم التالي. وفي حيفا كانت تنتظرهم سيارتان تقلاهم إلى القدس حيث يقضون نحو أسبوع لتبدأ إقامتهم الصيفية في الضهور. وتذكر إدوارد أيضًا أنه صادق رمزي ابن الأستاذ زين زين مدرس التاريخ بالجامعة الأمريكية ببيروت الذي كان يزور القاهرة سنويًّا، وذكر أنه اصطحبه في أول زيارة له إلى متحف الشمع في القاهرة الذي يضم مشاهد متقنة من تماثيل الشمع لحقب من تاريخ مصر الحديث، وأنه كان يروي له حكايات عن أسرة محمد علي باشا وبونابرت وإسماعيل باشا وثورة عرابي وحادثة دنشواي.[3] وسوف نتابع في المقال التالي رحلة إدوارد الدراسية من فكتوريا كولدج بمصر إلى الدراسة والعمل في الولايات المتحدة الأمريكية.


1- تِمُثي برِنَن: إدوارد سعيد، أماكن الفكر، ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة، الكويت 2022 ، ص 45 -46.

2- إدوارد سعيد، المرجع السابق، 135، وكذلك تموثي برينان، المرجع السابق، ص 4647.

3- إدوارد سعيد، خارج المكان، ص 210 211.