دراسات

مريم أشرف طاهر

حدوتة "الشاطر حسن" وفيلم "رد قلبي" – الجزء الأول

2024.12.28

مصدر الصورة : ويكيبديا

استلهام حدوتة "الشاطر حسن" في السينما المصرية: فيلم "رد قلبي" نموذجًا – الجزء الأول

 

"تعتبر الحكاية أقرب الأشكال إلى السينما، وذلك لأن توظيفها -كتوظيف الفيلم السينمائي- يحتاج إلى عنصر ووسيلة اجتماعية، انطلاقًا من كون الإنسان يستطيع أن يغني لنفسه أغنية ما، ولكن الحكاية دائمًا ينبغي أن يحكيها ويقصها لإنسان آخر"[1]. هكذا ينطلق بحثنا هذا من فرضية تشير إلى أن هناك استلهامًا لكثير من الحكايات الشعبية في السينما المصرية، وسيحاول الوقوف عند مواضع هذا الاستلهام مع تبين مدى الاتفاق والاختلاف بين الحكاية الشعبية من ناحية والفيلم السينمائي من ناحية أخرى.

مقدمة

يعتمد البحث في مناقشة مدى هذا الاستلهام على حدوتة "الشاطر حسن"، ورؤية صداها في الفيلم السينمائي "رد قلبي"، المقتبس -كذلك- من رواية تحمل العنوان نفسه كتبها يوسف السباعي. وقد اخترت الكشف عن استلهام حكاية الشاطر حسن وحضورها في الفيلم دون الرواية لسبب يعود إلى اتفاق كلا الفنين في التلقي الجماهيري، حيث تستهدف السينما الشعب بكل أشكاله دون الحاجة إلى متلقٍّ معين يحمل ثقافة محددة، وقد جاء هذا مناسبًا مع التلقي الشعبي لحكاية الشاطر حسن، وعلى العكس يكون النص الروائي؛ فهو يستهدف شخصًا قارئًا في المقام الأول، وربما ليس قارئًا عاديًّا فحسب.

تعود أهمية البحث في هذا الموضوع إلى الحضور الكبير للثقافة الشعبية بفنونها وتقاليدها، حيث تقدم الثقافة الشعبية بأدواتها المختلفة كمًّا هائلًا من التقنيات والآليات التي يمكن الاستعانة بها في تقديم أعمال فنية متنوعة تمثل رؤية المجتمع التي تتولد منه، ما يسهم هذا في إدراك كل مجتمع أهمية ثقافته والتعرف إلى الفنون التي تتشكل في إطارها. فقد "غدت الحكايات الشعبية مادة أولية، تستثمرها كثير من الأشكال والأنواع الأدبية والفنية، تستلهمها، وتبني عليها، أغنيات ومسرحيات وروايات وتمثيليات وبرامج شتى"[2].

ويعتمد البحث في منهجيته على ما قدمه فلاديمير بروب من وظائف تسهم في بناء الحكاية الخرافية، للوقوف على بنية فيلم "رد قلبي" في مقابل بنية حدوتة "الشاطر حسن". ومحاولة استنباط أهم الأدوات التي قام عليها كلا العملين، مع التوقف عند أهم العناصر التي ارتبطت بالمجتمع وتشكله، ولعبت في تشكيل الوعي الجمعي دورًا مهمًّا مثل حضور المرأة، والصراع الطبقي، والبطولة.

(1)

تعد الحكاية الشعبية أحد أهم أنواع الأدب الشعبي، فهي فن ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالأحداث اليومية والسياسية والتاريخية والاجتماعية التي يعيشها الشعب، ممزوجة –أحيانًا- ببعض الأشياء العجائبية أو الخرافية التي تضفي على الحكاية طابعًا فنيًّا. وعلى امتداد الدراسات المختلفة للحكاية الشعبية، تباينت المصطلحات التي تشير إلى هذا النوع من فنون الأدب الشعبي، فراح بعضهم يطلق عليها "الحكاية الشعبية" مشيرًا إلى كل أنواع الحكايات التي تنتمي إلى الأدب الشعبي، والبعض الآخر وضع تصنيفات متنوعة للتفرقة بين أنواع الحكايات المختلفة، فظهرت الحكاية الشعبية، والحكاية الخرافية، والحكاية العجائبية، ومنها من صنف تلك الحكايات تصنيف يرتبط بشخصيات الحكاية مثلما ظهر عند "آنتي آرني"[3]. وبالرغم من هذا التباين في تحديد المصطلح فإن التعريفات التي قُدمت إلى هذا النوع من الأدب الشعبي قد تقاربت إلى حد كبير. ومن هذه التعريفات –على سبيل المثال-: "الحكاية الشعبية هي أحدوثة يسردها راوية في جماعة من المتلقين، وهو يحفظها مشافهة عن راوية آخر، ولكنه يؤديها بلغته، غير متقيد بألفاظ الحكاية، وإن كان يتقيد بشخصياتها وحوادثها، ومجمل بنائها العام. وغالبًا ما ترويها العجائز لأحفادهن، في ليالي الشتاء الطويلة، قبل الذهاب للنوم، وقد يرويها غير العجائز، في مواقف تقتضيها، للعظة والاعتبار وضرب المثل، ولكن الحكاية لا تسرد على الأغلب إلا ليلًا، في جو يتم التهيؤ له، فالجدة تقعد على حشية، ويقعد الأولاد أمامها، في استعداد للتلقي"[4].

والمتأمل لهذا التعريف يمكنه إدراك العمومية والشمولية التي تطرأ عليه، ما يؤدي إلى إمكانية ضم كثير من أنواع الحكايات الشعبية لتندرج تحت هذا التعريف. ولكن بعض الدارسين فرقوا بين ما يشير إلى الحكاية الشعبية، وما تدل عليه الحكاية الخرافية، وتعد نبيلة إبراهيم أحد أهم الواضعين لحدود تفصل بين كلا النوعين، فهي ترى أن المجال الذي تنبثق منه الحكاية الشعبية هو "التمسك بوحدة الشعب أو القبيلة أو الأسرة في سبيل القيام بدور فعال في بناء المجتمع. وهذا المجال وحده هو الذي يحدد معالم الحكاية الشعبية ويميزها عن سائر الأنواع"[5]. بينما تعرف الحكاية الخرافية بأنها "نمط من الأنماط الأدبية الشعبية التي تتميز بأسلوب معين أطلق عليه الباحثون عبارة "الأسلوب الانعزالي"، ذلك لأن البطل يكون فيها منعزلًا عن الزمان والمكان. إن مهمته أن يصل إلى هدفه، أما كيف يصل ومتى فهذا ما لا يتحكم فيه المنطق في الحكاية الخرافية. ومن هنا أطلق عليها وصف الخرافية، إذ إن الخرافة ترتبط باللامنطق، واللامنطق معناه التحرر من القيود الزمانية والمكانية"[6].

ومن ناحية أخرى أطلق بعض الدارسين على هذا النوع الأدبي الشعبي لفظ "الحدوتة"، وكان من بينهم خالد أبو الليل في دراسته "الحكاية الشعبية: دراسة ميدانية في محافظة الفيوم"، حيث حاول الانطلاق من البيئة التي خرجت منها تلك الحكايات، وجعل المصطلح وليد هذه البيئة الشعبية، فرصد ما يطلقه رواة هذه الحكايات عمَّا يروونه، وقد تنوعت بين "حدوتة"، و"مَثل"، و"سهراية"، و"حديث"، وارتبط كل مصطلح منها بنمط معين من الحكايات أشار إليه تفصيليًّا في الدراسة[7].

وبعد تقديم هذا المدخل حول مصطلح الحكاية الشعبية وتصنيفاته المختلفة، فقد اخترت أن أشير إلى "الحكاية" التي يقوم عليها هذا البحث بلفظ "حدوتة"، لما رأيته من سمات -ارتبطت بهذا المصطلح- تتناسب إلى حد كبير مع أهم العناصر المشكِّلة لحكاية "الشاطر حسن" التي تتراوح بين ما هو واقعي وما هو خرافي. والحدوتة "تنطلق من الواقع حيث الاستقرار، ثم تتطور الأحداث، ويصاحب هذا التطور البعد عن الواقع الذي يفتح المجال لسيطرة البعد الخرافي بغية تحقيق الوظيفة الأساس، التي يمثل تحقيقها عودة إلى الواقع/ الاستقرار مرة أخرى"[8]. أما عن الشخصيات فيها فهي "موزعة بين الخيِّرة والشريرة، ولا وجود لها إلا من حيث علاقتها (السلبية أو الإيجابية) بالبطل. والبطل –فيها- مسلوب الإرادة؛ خاضع لقوى خارجية تحدد مصيره، وتساعده على النجاح"[9].

(2)

تحكي إحدى روايات[10] حدوتة "الشاطر حسن" عن زوجين طال انتظارهما لابن يملأ عليهما الحياة سعادة وبهجة، وبعد هذا الانتظار الطويل يسمع الله دعوة الزوجة ويستجيب لها، فتلد ولدًا جميلًا تفرح لقدومه المدينة كلها، وأسماه الأبوان "الشاطر حسن"، وبعد "سبوعه" مرضت الأم ولم تطُل فرحتها بابنها، فقد ماتت سريعًا، وتبدل حال المدينة من فرح غامر إلى حزن شديد، وظل أبوه الملك بجواره طوال الوقت يعمل على رعايته، وبعد مرور أكثر من شهر حاول وزيره أن يُخرجه من هذه الحالة ويذكره بأحوال الناس في المدينة التي توقفت بسبب انعزال الملك عن الدنيا وما فيها، فقرر الملك الخروج إلى الديوان لمباشرة مصالح الناس في المدينة، ومع ذلك لم يغفل عن ابنه أبدًا، حيث ظل مشغولًا به طوال الوقت، يسأل عنه ويفكر فيه، حتى كبر "حسن" وصار يدرك الأشياء من حوله، وارتبط بمُهرة ارتباطًا كبيرًا، فقد كان يجلس معها طوال النهار، يطعمها ويسقيها، وظل الوضع هكذا وقتًا طويلًا، حتى دخل الوزير على الملك في يوم من الأيام واقترح عليه أن يتزوج! فلم يتقبل الملك هذه الفكرة معللًا ذلك بأنه لن يجد مثل زوجته المرحومة، لكنه خضع لرأي الوزير في نهاية الأمر وجلب "زوجة أب" لابنه الشاطر "حسن"، وانشغل الملك بزوجته الجديدة، وترك المُلك لابنه يديره كيفما شاء، لكن "حسن" ظل متأثرًا وحزينًا بسبب زواج والده. وبعد مرور أشهر حملت الزوجة الجديدة، وكانت منشغلة على المُلك، تخشى أن يذهب كله للشاطر حسن، فقررت بمساعدة خادمتها قتل المهرة التي يتعلق بها حسن، حتى يحزن عليها ويموت من شدة الحزن، وتنفرد هي والمولود القادم بالمُلك. وما إن بدأت في تنفيذ الخطة مع الخادمة حتى عرفت المهرة وأخبرته بما تنوي فعله زوجة الأب، وفي الوقت نفسه اضطرت إلى إخباره بأنها ليست مهرة حقيقية بل هي ابنة ملك الجن الأسمر. ومن هذه اللحظة تبدل حال الشاطر حسن، فانتقل من خلال المهرة إلى مكان لا يعرفه وأصبح عاملًا في حديقة أحد ملوك هذه البلدة، ثم التقى بابنته الأميرة ووقع في حبها، لكنه كان فقيرًا بالنسبة إليها وهناك صعوبة في الارتباط بها. مرضت أمها ولم يستطِع أحد الوصول إلى اللبن الموجود في غابة بعيدة يحتاج الوصول إليها إلى المرور بمخاطر، وقرر الشاطر الحسن أن يذهب هو بنفسه مقابل الشرط الذي وضعه الملك بأن من يأتي باللبن سيتزوج ابنته الأميرة ست الحسن، وبمعاونة "المهرة" استطاع حسن أن يذهب إلى الغابة ويأتي باللبن، لكن الملك لم يفِ بوعده متأثرًا برأي الوزير الذي فضل أن يأخذ حسن بعض الأموال بدلًا من أن يأخذ الأميرة. ورفضت الأميرة هذا وخرجت عن طوع أبيها وذهبت إلى حسن ليتزوجها، ثم جاء ملك من مدينة أخرى بجيشه ليتملَّك هذه المدينة، وخرج الناس جميعهم، وخرج الشاطر حسن مُخلِّصًا لهم من هذا الجيش المعتدي، فقد حارب الجيش وحده بمساعدة "المهرة"، حتى تقهقر الملك ومَن تبقى من جيشه وعادوا إلى مدينتهم. ولم يتعرف الناس على الشاطر حسن، لكنه أُصيب في هذه الحرب، وكانت هذه علامة عُرف من خلالها أنه هو الذي حارب الملك وجيشه، وحكى الشاطر حسن حكايته وعرف ملك المدينة أنه ابن ملك، فزوَّجه ست الحسن، وجعله وزيرًا له بدلًا من وزيره السابق.

أما عن الفيلم "رد قلبي"، فيحكي عن أسرة فقيرة يعمل الأب فيها "جنايني" عند أحد أمراء الأسرة المالكة، وكان يتردد ابناه "علي وحسين" على حديقة هذا الأمير وهما صغيران، حتى تعلق "علي" بابنة الباشا "الأميرة إنجي"، وكان يشعر دائمًا بأنه أدنى من هذه الأميرة، فقرر أن يبعد ولا يذهب إلى قصر أبيها مرة أخرى، ومر وقت طويل حتى كبر علي وكبرت إنجي، وكبر معهما الحب، وحاول علي أن يرتقي إلى الطبقة التي تنتمي إليها إنجي بجده واجتهاده في الدراسة، وأصبح ضابطًا في الجيش، لكن هذا لم يغير من الأمر شيئًا، حيث أبلغ علاء "أخو إنجي" أباه بتلك العلاقة وما إن علم أبوها بهذه المشاعر التي بينهما حتى رفض تلك العلاقة وأمر بطرد والد علي من عمله بالحديقة وإدخاله مستشفى الأمراض العقلية، وقرر أن تُخطب إنجي لشاب ينتمي إلى الطبقة نفسها التي تنتمي إليها إنجي، ورضخت إنجي لقرار والدها خوفًا منه على علي، وابتعدا بعضهما عن بعض، وحاول علي أن ينساها ظنًّا منه أنها قد غدرت به، والتقى "كريمة" التي تعمل راقصة، وأحبته حبًّا صادقًا وقرر الزواج بها بعد محاولات عدة من قِبلها، وفي اليوم الذي حدداه للزواج حُرقت القاهرة، وحُرقت معها كريمة وماتت، ثم انقلبت الدولة رأسًا على عقب، وظهر الضباط الأحرار لتخليص الشعب من الحكم الملكي وإعلان مصر جمهورية، وكان علي واحدًا من هؤلاء الضباط، وأُمِر بالذهاب إلى قصر والد إنجي لمصادرة أملاكه، فوجده فر هاربًا، واستقبلته إنجي ومعها علاء الذي أطلق رصاصة على علي كانت ستنهي حياته، لكنه أصيب فقط، وانتصر على علاء ورد له الرصاصة التي قتلته، واجتمع علي وإنجي لإكمال حبهما.

يتوقف هذا العرض الموجز لكل من حدوتة "الشاطر حسن" وفيلم "رد قلبي" عند أهم الأحداث التي شكلت كلًّا منهما، ويبدو للوهلة الأولى أن هناك استلهامًا ما لحدوتة الشاطر حسن يظهر في ثنايا بعض الأحداث التي قام عليها الفيلم، ولعبت دورًا جوهريًّا في بنيته، كما يظهر هذا الاستلهام أيضًا على مستوى الشخصيات ومدى تقاربها بين العملين وتداخلها من ناحية صفتها "الاجتماعية"، وسأحاول في الأجزاء التالية من البحث الكشف عن أبعاد هذا الاستلهام والوقوف على مدى الاتفاق والاختلاف بين العملين.

يتبع..


1- محمد عبدالرحمن الجبوري: السينما والفوكلور، مجلة الأقلام، العراق، ع 4، 1988.

2- أحمد زياد محبك: من التراث الشعبي (دراسة تحليلية للحكاية الشعبية)، دار المعرفة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 2005، ص 33.

3- للإحاطة بتفاصيل أكثر حول تصنيفات الحكايات الشعبية يمكن العودة إلى مقالة "تصنيف الحكايات الشعبية المصرية"، للدكتور خالد أبو الليل، مجلة الفنون الشعبية، سبتمبر 2013، ع 94، 95.

4- أحمد زياد محبك: من التراث الشعبي (دراسة تحليلية للحكاية الشعبية)، مرجع سابق، ص 19.

5- نبيلة إبراهيم: أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار نهضة مصر، د.ت، ص 92.

6- نبيلة إبراهيم: الخرافة الشعبية وأدب اللامعقول، المجلة، ع 83، نوفمبر 1963.

7- يمكن العودة إلى الفصل الأول من الدراسة.

8- رسالة خالد أبو الليل: الحكاية الشعبية: دراسة ميدانية في محافظة الفيوم، رسالة ماجستير، إشراف: أ. د. أحمد مرسي، كلية الآداب، جامعة القاهرة، مصر، 2003، ص 72.

9- المرجع السابق نفسه: ص 73.

10- حدوتة الشاطر حسن، برواية خيرية أحمد عبدالله، جمع وتدوين: عبدالعزيز رفعت، مجلة الفنون الشعبية، ع 44، يوليو 1994.