فنون

ممدوح حبيشي

المقاومة في الثقافة الشعبية

2024.03.26

مصدر الصورة : ويكيبديا

هل تدعم الثقافة الشعبية الخنوع؟

 

كثيرًا ما وُسِمت الثقافة الشعبية بالخنوع والخضوع والجبن، ورُميت بالهرب من دفع تكلفة المقاومة والانتفاض في وجه الطغاة والظالمين. وقد تمَّ تأويل بعضٍ مما فيها تأويلًا متعسِّفًا للتدليل على ذلك، وأُلقيَ عليها الكثير مما ليس فيها؛ لتأكيد هذا الادِّعاء الذي لا يخلو من طبقية وتعالٍ نخبوي مستتر.

للأسف تُعد أسئلة النخبوية والطبقية أسئلة شرعية، حينما نتطرق للحديث عن الثقافة الشعبية ونطرح أسئلتها ونتحرى أبعادها، وذلك بسبب التعالي الذي لم تستطع النخبة العربية والمصرية إخفاءه، أو إخفاء احتقارها الشديد لمفردات ونتاجات الثقافة الشعبية.

تستطيع تلمُّس هذا التعالي منذ وقت مبكر نسبيًّا داخل التراث العربي البلاغي السائد منذ القرن الثاني الهجري، حينما تم التفريق بين بلاغة العامة وبلاغة الخاصة، طبقيًّا، كما تذهب الباحثة البحرينية ضياء الكعبي، وكما يتضح بشكل أعمق وأوضح عند النخبة المعاصرة. فالإمام محمد عبده حينما يعدِّد ما هو سائد من ألوان القصص في عهده، في مقالة بجريدة "الوقائع المصرية" عام ١٨٨١، يَكيل الاتهامات بالكذب والتضليل والسخافة وخرق اللغة وقواعدها، محذِّرًا من كتب القصص والمغازي، حيث يجدها بوابة للجهل، ودربًا للخرافة، ولم يتوقف ذلك عند الإمام، بل نجده كذلك عند محمد حسين هيكل وغيرهما كثير.

بينما يتخذ التعالي على الثقافة الشعبية عند محمد عمر منحًى طبقيًّا واضحًا، في كتابه "حاضر المصريين أو سر تأخرهم" الصادر عام ١٩٠٢ حينما سمى الثقافة الشعبية بثقافة الفقراء، متهمًا إياها بالبذاءة والسفاهة، كما ينعت مؤلفيها بالسفهاء والحشاشين. فعمر يرى مؤلفات الثقافة الشعبية "مملوءة بصور هزلية قبيحة، يقطر منها القبح وقلة الحياء، وهي المُفسِدة للأخلاق فيهم على فسادها، المتضمنة للهذر والمجون مع كثرته بين الفقراء، ويصدر منها كل يوم شيء جديد كثير، حشوه قلة الأدب والسفاهة، والبعد عن المبادئ".

رؤية عمر وغيره تُثير سؤال الطبقية وصراعاتها، وربما يكون مفاجئًا إذا اعتبرنا أن جوهر الصراع الطبقي كمحدد للتعريف، ومن ثَمَّ التجاهل والتعسف مع الثقافة الشعبية يعود بجذوره للقرون الأولى من الثقافة العربية والإسلامية، فنجد هذه الجذور جلية -كما تذهب أيضًا الباحثة ضياء الكعبي- عند ابن المعتز (ت 296هـ) الذي يرى "أنَّ جماعة العوام متى وصلت إلى آداب الملوك العظام بطلت المآثر، وسقطت المفاخر، وصارت الرؤوس كالأذناب-.. وليس شيء أضر من تمثل السخيف بالشريف، واللئيم بالكريم، والذليل بالجليل، والحقير بالخطير، والمهين بالمكين.. لأنَّ ذلك أجمع يغرس المحن، ويوقد الفتن، ويبعث على تهدم الدول، وتنقل الملك، ويحوِّل الرياسة، ويزيد في اضطراب السياسة".

هذا الجذر فروعه وثماره مبثوثة بين الكتب والمقالات التي تعرضت للثقافة الشعبية من قريب أو بعيد، فلا مناص إذن من أننا بالفعل -كما يرى صلاح الراوي- إزاء ثقافة تُنتجها جماعة شعبية تواجه بها طبقة اجتماعية نقيضة، وليس أمام هذه الجماعة من سبيل سوى إنتاج هذه الثقافة، التي لا يمكن نعتها بالشعبية إلا إذا كان المجتمع قد تم تقسيمه واقعيًّا إلى طبقات تستغل واحدة منها بقية الطبقات، وتخلع على منتجها الثقافي صفة الشعبية من منظور معیاري تراتبي - والجماعة الشعبية تنتج ثقافتها بوصفها تجلِّيًا من تجليات الصراع الطبقي، وأداة من أدواته.

هذه الاتهامات التي جُرِّمت بها الثقافة الشعبية دون تحقيق أو تحرٍّ أو محاكمة، والتي عرضنا لبعض خلفياتها، ليست فقط غير دقيقة، بل ربما العكس هو الصحيح.

إفادة المدعى عليه: المقاومة مركز كل شيء

إذا تأملنا الثقافة الشعبية بالمفهوم الذي يقترحه صلاح الراوي -في كتابه فلسفة الوعي الشعبي- بوصفها الكل المترابط من أوجه النشاط الإنساني، والناتج عن جدل ومقاومة الجماعة الشعبية مع واقعها الفيزيقي والميتافيزيقي والطبقي من أجل إخضاع هذا الواقع لسيطرتها، وتحقيق وجودها الإنساني منتفعة بمادة هذا الواقع، صانعة منه عالمًا تأنس إليه وتطمئن إلى استجابته لها، ولنشاطها الإنساني المقاوم لحتميات هذا الواقع، الطبيعية وفوق الطبيعية والاجتماعية، إذا حدث هذا فسنجد أن مفهوم المقاومة هو مفهوم أساسي ومبدئي في الثقافة الشعبية، بُنِيت حوله وقدت منه.

فعل المقاومة هو الفعل الذي نستطيع من خلاله تعريف هذه الثقافة وفهمها، بهذا المفهوم تقاوم الجماعة الشعبية حتميات ثلاث: الحتم الطبيعي (الفيزيقي)، والحتم الميتافزيقي، والحتم الطبقي (الاقتصادي)، هنا تصبح العادات والتقاليد والمعارف والمعتقدات والفنون والآداب هي بشكل ما نتاجًا لفعل المقاومة، فلا توجد المقاومة داخل الثقافة الشعبية بشكل احتفائي أو سطحي، بل هي متجذرة داخل كل الأنشطة الإنسانية للجماعة الشعبية: "إذا نزلت في بلد يعبد العجل .. حش وارمي ليه!"، أو "العين ما تعلاش على الحاجب!"، وغيرهما من الأمثال الشعبية، التي يتم جمعها وطرحها تحت راية الخضوع وقَبول الذل، دون تصنيف وتفرقة في تجاهل ناتج عن جهل غير مقصود، أو خلط وتوجيه عمدي. 

فالأمثال بطبيعة الحال هي نوافذ على تجربة الجماعات الشعبية، ورايات لخبراتها ومعارفها، وهي تعبير لغوي إبداعي موجز، عن حكمتها ورؤيتها لنفسها وللعالم، كما أنها رسالة من الجماعة البشرية لأعضائها؛ حتى تختصر عليهم الطريق وتعفيهم من التجربة، وما تحمله من كلفة قد تحدث، وأيضًا هي وسيلة تربوية ونمط من الإعلان عما ترتضيه الجماعة أو تحتقره.

وتُمثل الأمثال الشعبية حفريات للقيم والأخلاق، يستطيع من خلالها المدقق والراغب استبيان أنماط القيم والأخلاق الموجودة في جماعة ما في وقت معين.

وإذا كان المعنى المبدئي لكلمة "فولكلور" (folklore) الإنجليزية هو "حكمة الشعب" فلا أعمق من الأمثال لبيان هذه الحكمة وبثها وتناقلها عبر الأجيال المتعاقبة، فالأمثال صنو الحكمة ووعاؤها.

لا يتعامل دارس الأدب الشعبي، وخاصة الأمثال الشعبية، مع مادته من الأمثال بسطحية التأويل الأول للكلمات، بل يتجاوزون ذلك لتحري ما هو أعمق؛ حيث يبحث مضرب المثل (الحكاية أو الحادثة التي ضرب فيها المثل)، كما يدرس محتوى الرسالة وأطرافها والسياق، والأهم أنه يدرس الوظيفة التي يقوم بها ذلك المثل. وهنا بشكل مبدئي لا بد لنا من التفرقة بين أمثال تَتَّخذ السخرية مطية لها ووسيلة في إعطاء الدرس، ومنح النصيحة عبر الإثبات من خلال النفي، ومثال لذلك المثل الشعبي: "إذا نزلت في بلد يعبد العجل.. حش وارمي ليه!". هذا مثل يَستخدم المنطق المقلوب لإثارة النفور من سلوك معين أو نمط في التفكير، عن طريق تكبيره وتضخيمه بشكل ساخر، بما يدفع المتلقي لاتخاذ الفعل المغاير لما يعرضه المثل. والحقيقة هي أننا لن نستطيع تجاهل أن الحمولة الساخرة الحاضرة بقوة والسخرية نفسها نمط من أنماط المقاومة والتقليل، وهو ما سنعود له لاحقًا ببعض التفصيل. بينما مثل: "العين ما تعلاش عن الحاجب!" إذا فهمنا السياق والوظيفة التي يلعبها في سياق الضيافة فسنفهمه فهمًا مختلفًا، فحينما يشير المضيف (صاحب البيت) لضيفه كي يسبقه إلى داخل المنزل، فإذا رفض الضيف، يذكر المضيف هذا المثل كي يقنعه بالدخول أوَّلًا.

وإذا كان هذان المَثَلان وغيرهما يؤيدان اتهام الخضوع والخنوع، فإننا على الجانب الآخر نجد أن الفن القولي الشعبي يزخر بالعديد من الأمثال التي تؤيد المقاومة كخيار أول ووحيد، فهناك العديد من الأمثلة التي تنهج طريق التحدي والاعتراض والثورة، مثل: "الرب واحد، والعمر واحد!"، و"اتغدى بعدوك قبل ما يتعشى بيك!"، و"النار/ التار ولا العار!"، و"الأرض زي العرض!"، و"يا فرعون إيه فرعنك؟ ملقتش حد يلمني!"، و"أنا وانت والزمن طويل!"، و"ما يحمل الجور إلا التور!"، و"البيت بيت أبونا وييجوا الغرب يطردونا؟!"، وغيرها عشرات الأمثال الشعبية التي ترفض الخضوع والقهر وتنتفض في وجه الظلم. فقط يتم إخفاؤها عمدًا أو التغاضي عنها جهلًا، مما يُعمِّق ويؤكد فرضية غير حقيقية وظالمة كقَبول القهر، وتجذير الخضوع والمهانة داخل الجماعة الشعبية.

المقاومة سردًا

إذا وقفت أسوار القسطنطينية وتحدت محاولات الفتح العربي والإسلامي منذ عهد الخليفة معاوية حتى أسقطها القائد العثماني محمد الفاتح عام ١٤٥٣ ميلاديًّا، فلن ترضى الجماعة الشعبية بذلك، وستقاومه سردًا وحكيًا وتقوض الأسوار وتسقط المدينة العصية على يد قائدة أنثى مسلمة هي ذات الهمة، تدخلها، وترتدي تاجها، وتتبوأ عرشها، فقط في السيرة الشعبية "الأميرة ذات الهمة". 

وإذا سقطت بغداد على يد المغول في عام ١٢٥٨ ودُمِّرت وانكسرت الذات العربية والإسلامية بعد الهزيمة، فالجماعة الشعبية تتحدى ذلك وتقاومه، وتجعل زمرة من الجنود الأكراد بقيادة صلاح الدين الأيوبي لا يحملون سوى سيوف خشبية قادرين على كسر حصار بغداد والانتصار على المغول، وإنقاذ سقوط عاصمة الخلافة في سيرة "الظاهر بيبرس". 

وبينما يعاني المجتمع العربي بشكل خاص، والعالم بأسره، من داء العنصرية القبيح، كان هناك فارس مغوار أسمر اللون تُسرَد وتُنشَد أعاجيب مغامراته في أصقاع الأرض وعوالم الجن والعمالقة عبر أحداث "سيرة عنترة بن شداد". 

وإذا كانت الحبشة مصدرًا لقلق الجماعة الشعبية المصرية، التي تعي بوعيها أنهم يتحكمون في سر حيواتهم ومنبع رزقهم وهو نهر النيل، فعليهم مقاومة ذلك بفارس شجاع هو سيف بن ذي يزن، يسافر إلى الجنوب ليحصل على كتاب النيل؛ ليعيده للجريان مرة أخرى مؤمنًا بسريانه إلى الأبد.

هكذا قاومت الجماعة الشعبية سردًا وتحدت حكائيًّا عبر تخييل الذات والآخر، بل وتخييل التاريخ، وخلق تاريخ بديل هي تراه واجبًا وممكنًا، يليق بها وبأحلامها وطموحاتها، تاريخ بديل تستحقه، تقوم بذلك وهي تخلق سرديات حكائية تمنح العبرة والمثال لمن يرغب ومن يملك عقلًا وضميرًا قادرًا على ذلك.

في الأخير أسرد هنا نهاية "قصة سيدي أحمد البدوي" الشعبية التي تنتهي بهذا الحدث العجيب؛ فبينما كان السيد أحمد البدوي يأكل بصحبة أقطاب الصوفية الآخرين، رجتهم سيدة بسيطة أن يقوموا بتحرير ابنها حسن المأسور والمستعبد في البلاد الصليبية: "بصت لقيتهم غطسوا الجميع، والسيد عمل نفسه طير وحط على شجرة في بلاد النصارى، أتاري الميسور عند كهينة، قال: يا سيد، قال: لبيك ياللى بتنده سري وياك يا حسن.. قامت النصرانية قالت: ما لك يا حسن النهاردة فرحان وكل يوم تبكي؟ قالها: اسكتي يا لعينة، وراح تكويه بالنار قام استجار، وقال: يا سيد، السيد جاله من تحته وشاله، واللعينة راح تضرب السيد نتش دراعاها، جا جوزها ضربه الرفاعي خلاه على الأرض متطين، جا ابنها ضربه الكيلاني خلاه على الأرض ممدودين، خدوا اليسير لامه خدتو ملو الأحضان، قالت: سلامات يا ابني قلبي عليك دايبين، ودبحت عجلين، وعزمت المعازيم". 

هذا الحدث النبيل، فك أسر الجندي البسيط -بصرف النظر عن صيغته العجيبة- هو حدث وفعل لن يقدم على فعله رجالات السلطة والحكم، هم لن يأبهوا بجندي بسيط من أصول ريفية، ولكن من سيهتم ويبادر لإنقاذه هم رجالات الجماعة الشعبية وأبطالها العجائبيون. هنا نحن أمام فعل مقاومة واضح، ولكنها المقاومة سردًا عبر صنع واقع مغاير وتخييلي خاص بها، واقع مأمول تراه الجماعة الشعبية واجبًا في مواجهة قنوط تعيشه وقت إنتاج هذه القصة. فإذا كان الواقع قبيحًا، والظرف التاريخي ضاغطًا، والمؤسسات آنذاك -وقت الحروب الصليبية ومنذ سقوط بغداد- غارقة في الفساد والظلم، وخلت من بين أيادي الجماعة الشعبية كل الحلول، وأصبحت قوانين الطبيعة وسنن التاريخ والواقع ضاغطة ضغطًا لا يحتمل، تلجأ الجماعة إلى تعجيب السرد عبر التخييل، فالتخييل هو نهجها للمقاومة، ودواء الواقع القبيح ومفتاح تغييره، حتى وإن كان داخل العقول خلال زمن التلقي فقط.

فالتخييل العجائبي وغير الطبيعي الذي تنتجه الجماعة الشعبية؛ هو فقط القادر على المقاومة والتلاعب في قوانين الطبيعة وسننها؛ وعلى إلغائها بين الحين والآخر، أو على الأقل يستطيع تعطيلها ولو بشكل مؤقت. كما أنه قد يبدو من الوهلة الأولى غير معنيٍّ بهموم البشر وما يعنيهم، لكنه على العكس من ذلك تمامًا فهو يوسع آفاق إدراكنا عبر المقاومة وحثنا لخلق نماذج عقلية جديدة. 

أيضًا هو يتحدى منظورنا المحدود للعالم، فإذا كان التاريخ الوضعي قاسيًا علينا فإننا نستطيع أن نقاومه من خلال السرد العجائبي، كأنه عقد اجتماعي جديد تطرحه الجماعة الشعبية لمقاومة مشكلاتها وتحديات عصرها، وتحدٍّ للضياع والقنوط الذى كانت تعيشه إبان إنتاج هذه القصص والسير الشعبية.

عبر هذه المقاومة تحاول الجماعة الشعبية تبديل مراكز القوى الحاكمة وعلاقاتها بها، تُغير مناطق اتخاذ القرار والتحكم في حيوات الناس، تنحي رجالات السلطة وتتقدم برجالاتها وأبطالها الشعبيين الذين ينتمون لتاريخ مقدس، أولياء لديهم علم من لدن الله في مقابل العلم الوضعي المتراجع، غير القادر على مواجهة تقدم الأعداء، أو الإجابة عن أسئلة تبديل التخلف الذي تعيش فيه الأمة.