رؤى

مجدي عبد الهادي

حدود ديموقراطية الاستغلال لماذا تفشل حركات الديمقراطية الاجتماعية؟

2018.12.01

حدود ديموقراطية الاستغلال  لماذا تفشل حركات الديمقراطية الاجتماعية؟

مُقــدمة

لا شك أن السؤال كبير جدًّا بالنسبة إلى هذا النطاق الضيق، خصوصًا مع إعادة صياغته بشكل اجتماعي أعم، يتجاوز تجسداته السياسية المباشرة المُتجلية في السؤال الدائر هذه الأيام: “لماذا يفشل اليسار؟”، باعتباره بالأساس حركة ديمقراطية اجتماعية، بالمعنى العام لا السياسي الخاص، وباعتبارها الهدف الأوسع والإطار الأعم لممارساته وإستراتيچياته.

وبدايًة يتطلب الأمر تحديدًا موضوعيًّا لمفاهيم فضفاضة كالنجاح والفشل، تحديدًا ينطلق من معايير ومحددات الواقع المادي لا التصورات الذهنية النظرية، وهو ما يعني تأطير الأهداف والإستراتيچيات بإطارها الاجتماعي والتاريخي، فالأولى تتحدد بالثانية، كي يتسنى لها الواقعية والإمكانية، وإلا كانت ضرب عشواء لا يليق إلا بمنعزلين عن الفعل، فالموضوعي يحدد الذاتي، وما دور الفاعل البشري سوى البدء بمعرفة حدود فعله نفسه، ثم روافعه الموضوعية لتحويله واقعًا!

ويعني هذا وعي الواقع من جهتين، الأولى جهة “الحدود الموضوعية للفعل”، أي ما هو ممكن، وما ليس كذلك، وما نوعه وحدوده وعلى أي مستوى. والثانية جهة “الروافع الموضوعية للفعل”، أي قواعد وأدوات الفعل والتأثير نفسه. ويقودنا ما سبق ما دمنا بصدد الحديث عن الديمقراطية الاجتماعية، إلى بحث الحدود والمحتوى الموضوعيين لها، كنقطة انطلاق لتقييم ما هو ذاتي وما هو موضوعي، في ديناميات الديمقراطية الاجتماعية، وإستراتيچيات تعاطي اليسار معها، الفعلية والمُقترحة.

   القانونية العامة: حدود ديمقراطية الاستغلال

ما هي الديمقراطية الاجتماعية؟ بالتجاوز عن كافة المظاهر الثقافية والكرنڤالات السياسية، فما هي في التحليل الأخير، سوى “مدى مشاركة الثروة الوطنية”، وبصيغة أكثر تحليلية “مدى عدالة وكفاءة توزيع الناتج الاجتماعي بمعناه العام بين المنتجين المباشرين والمُتملكين الريعيين”، أي بين العمال والملاك، بالمعنى الواسع للفئتين.

وبهذا المعنى فلا بد من وجود حدود موضوعية لتلك الديمقراطية الاجتماعية، حدود تاريخية لا يمكن تجاوزها في كل مرحلة تاريخية، حدود ترتبط بمنطق عمل النظام الإنتاجي القائم وضرورات استمراره. وبتعبير أكثر تحديدًا، ضرورات توسعه أو تجدده الاجتماعي، والتي تحدد بذاتها مدى القمع الضروري لهذا المجتمع، وتحديدًا قمع القوى المُنتجة لصالح القوى المالكة المسئولة تاريخيًّا، عن إدارة عملية التجديد الاجتماعي للإنتاج، في ظل أنظمة الملكية/الاستغلالية، وذلك بحكم سيطرتها على الناتج الاجتماعي والفائض الاقتصادي. وكأن هناك إذن حدًّا أدنى من القمع الاجتماعي، هو القمع الضروري لتحقيق التجديد الاجتماعي البسيط للنظام الإنتاجي (باقتطاع الفائض الضروري لذلك التجديد) على الأقل، والذي يمثل إذن المبرر التاريخي والأرضية الاجتماعية للاستغلال الطبقي (كل اقتطاع يتجاوز ذلك الفائض الضروري لصالح الطبقات المالكة)، وهكذا فما يجعله “ضروريًّا” هو أن يحقق التجديد الاجتماعي الضروري، البسيط على الأقل. أما ما يجعله “مشروعًا” في لحظة تاريخية ما، فهو أن يكون ذلك التجديد الاجتماعي تقدميًّا، لا تراجعيًّا أو تراوحيًّا، بالمعنى الكيفي، لا الكمي وحده (ولهذا مناقشة أخرى لا يتسع لها المقام هنا)!

وهكذا يكون لدينا حدَّان “نظريان” لتوزيع الناتج الاجتماعي، أي حدان أقصى وأدنى للديمقراطية الاجتماعية الممكنة تاريخيًّا، في كل مرحلة تاريخية، في حدود الإدارة الكفء للنظام الإنتاجي القائم، وهما:

الحد الأقصى: وهو حد التجديد الاجتماعي البسيط للإنتاج:

= الناتج الاجتماعي (بفرض كله لصالح القوى العاملة) – الاستثمار الضروري لتجديد رأس المال المادي والاجتماعي = (صفر%) استغلال.

الحد الأدنى: وهو حد الكفاف الاجتماعي للمُنتجين المباشرين:

= الناتج الاجتماعي (بفرض كله لصالح القوى المالكة) – الاستهلاك الضروري لتجديد رأس المال البشري = (100%) استغلال.

وما بين هذين الحدين، تتوافر توليفات لا متناهية من توليفات التوزيع/درجات الديمقراطية الاجتماعية “المحتملة” للناتج الاجتماعي، تمثل الدرجات المختلفة الممكنة تاريخيًّا من الديمقراطية الاجتماعية، على المستوى السوسيواقتصادي في إطار نظام الإنتاج القائم تاريخيًّا. فما الذي يحدد توليفة التوزيع/درجة الديمقراطية الاجتماعية “الفعلية” في لحظة تاريخية ما؟

إنه “توازن القوى الاجتماعية”، والذي يتجذَّر اجتماعيًّا في بنى وديناميات عمل وإدارة النمط الإنتاجي نفسه، فهو يعتمد “أساسًا” على قوة التأثير “الاقتصادي” الموضوعي للفئات الاجتماعية المختلفة، والذي يحدد قدرتها الاجتماعية المجردة (بعيدًا عن السياسة والعنف المباشرين) على المشاركة في القرار الاقتصادي أولًا، ومن ثم تحديد نوع وكم الناتج الاجتماعي، وتحقيقه ماديًّا، وثانيًا على التحكم في مساهمتها في الناتج (منحًا ومنعًا)، ومن ثم مدى قدرتها على استيفاء مقابلها، أي قدرتها على الاستحواذ/الاستغلال، والتي تمثل العلاقة بين ما تقدمه من “قيمة”، وما تستوفيه من “ثمن”، ما يتجلى في مدى ما يتخلل دخلها “الإجمالي” من “دخل شخصي”، يتجاوز “دخلها الاقتصادي” المشروع، إيجابًا (بالزيادة) أو سلبًا (بالاقتطاع)، وهو كل دخل غير مرتبط بمساهمة إنتاجية، أي كل ثمن لا تقابله قيمة، فهو حتمًا إما دخل مسلوب من فئات اجتماعية أخرى، إذا كان إيجابًا، أو دخل مُستلب لصالح فئات اجتماعية أخرى، إذا كان سلبًا؛ فمكسب فئة منه، هو حتمًا خسارة لفئة أخرى.

وهكذا ينعكس توازن القوى الاجتماعية في نمط توزيع الدخل التوازني في الأجل الطويل، أي توليفة توزيع الناتج بين العمل ورأس المال، وهو يتكون من توازن بين “قوة استحواذ” العمل على ما يقدمه من قيمة، و”قوة استغلال” رأس المال (الذي يمثل هنا كل الفئات المالكة والمرتبطة بها) لفائض قيمة ذلك العمل، واللذين يساوي مجموعهما (باعتبارهما نسبًا) واحدًا صحيحًا، ويمكن أن نستخلص منهما مؤشرًا لدرجة واتجاه الديمقراطية الاجتماعية المذكورة، ولكنه ليس موضوعنا في هذا المجال، فما يهمنا هنا هو فهم القانونية العامة لحدود ومحتوى الديمقراطية الاجتماعية تاريخيًّا.

   ويمكن تلخيص كل ما سبق في النموذج البياني التالي:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

   ويتضمن الرسم ما يلي:

يمثل المحور السيني (الأفقي) متغيرين، الاقتصادي وهو كتلة الأجور الاجتماعية (ج)، ورديفه الاجتماعي وهو قوة استحواذ العمل (ق س).

يمثل المحور الصادي (الرأسي) متغيرين أيضًا، الاقتصادي وهو كتلة الأرباح الاجتماعية (ر)، ورديفه الاجتماعي وهو قوة استغلال رأس المال (ق غ).

يمثل المنحنى (ك) منحنى توزيعات الناتج الاجتماعي العام، وهو منحنى “سواء”، أي أن كافة النقاط عليه متساوية القيمة، فقيمة النقطة (أ) تساوي قيمة النقطة (ب) تساوي قيمة أي نقطة أخرى عليه، فجميعها تمثل نفس الناتج الاجتماعي الذي ينقسم على كتلة الأجور على المحور الأفقي، وكتلة الأرباح على المحور الرأسي، وإن بنسب مختلفة بحسب موقعها على المنحنى، وترتفع قيمة الناتج الذي يمثله المنحنى (ومن ثم أي نقطة عليه) بالانتقال يمينًا إلى الخارج، وينخفض بالانتقال يسارًا إلى الداخل. ومن الواضح أنه يعبر بدرجة “ارتفاعه” عن “حجم” الناتج الاجتماعي، ومن ثم يعبر عن مدى تقدم، أو بتعبير أكثر فنية “إنتاجية”، “قوى الإنتاج” بمفهوم ماركس.

يمثل المنحنى (ل) منحنى توازنات القوة الاجتماعية، وهو خط “موازنة”، أي إن كافة النقاط عليه عبارة عن توليفات متساوية القيمة، تتكون من “حاصل جمع كل من قوة الاستحواذ على المحور الأفقي، وقوة الاستغلال على المحور الرأسي، مضروبًا كل منهما على حدة في معامل يخصه” (لسنا بحاجة إلى مناقشة تفاصيله هنا)، فتمثله المعادلة: ل ق =(α*ق ع)+(β*ق س)؛ حيث تتضمن زيادة أي منهما حتمًا نقص الآخر، وتمثل كل نقطة عليه توازنًا محتملًا للقوى الاجتماعية، وتؤدي زيادة درجة انحداره (ميله إلى أن يكون رأسيًّا) إلى زيادة قوة استغلال رأس المال على حساب قوة استحواذ العمل، بينما يؤدي انخفاض درجة انحداره (ميله إلى أن يكون أفقيًّا) إلى العكس، أي زيادة قوة استحواذ العمل على حساب قوة استغلال رأس المال. ومن الواضح أنه يعبر بدرجة “انحداره” عن “اتجاه” توازن القوى الاجتماعية، ومن ثم يعبر عن مدى تقدم، أو بتعبير أكثر فنية “مرونة”، “علاقات الإنتاج” بمفهوم ماركس أيضًا.

تمثل النقطة (أ) على منحنى توزيعات الناتج الاجتماعي، توليفة توزيع الحد الأدنى للديمقراطية الاجتماعية، التي لا ينال عندها العمل سوى أدنى كتلة أجور ممكنة (ج د)، ويأخذ رأس المال عندها أقصى كتلة أرباح ممكنة (ر ق)، إنه أسوأ توزيع دخل ممكن من جهة عدالة التوزيع والمشاركة في الناتج، وبالتالي يمثل الحد الأدنى للديمقراطية الاجتماعية، حد الكفاف الاجتماعي للمنتجين المباشرين، والذي لا تقل عنه تاريخيًّا في ظل الإدارة الكفء للنظام الإنتاجي القائم، وإلا انخفض الناتج نفسه، بانخفاض إنتاجية العمل، نتيجة لعدم تجديد رأس المال البشري عند نفس مستواه.

تمثل النقطة (ب) على ذات المنحنى، توليفة توزيع الحد الأقصى للديمقراطية الاجتماعية، التي ينال عندها العمل أقصى كتلة أجور ممكنة (ج ق)، ويأخذ رأس المال عندها أدنى كتلة أرباح ممكنة (ر د)، وهو أفضل توزيع ممكن من جهة عدالة التوزيع والمشاركة في الناتج، حيث يكاد يختفي فيه الاستغلال (ونحن نتحدث هنا نظريًّا لإكمال النموذج النظري فقط بالطبع)، وبالتالي يمثل الحد الأقصى للديمقراطية الاجتماعية، حد التجديد الاجتماعي البسيط للإنتاج، والذي لا تتجاوزه تاريخيًّا في ظل الإدارة الكفء للنظام الإنتاجي القائم، وإلا انخفض الناتج نفسه، بعدم تجديد رأس المال المادي والاجتماعي عند نفس مستواهما.

بناءً على ما سبق، يمثل المنحنى السميك (أ ب)، أي المنحنى بين نقطتي الحد الأدنى والأقصى، منحنى توزيعات الناتج الاجتماعي المحتملة، أي منحنى توليفات التوزيع/درجات الديمقراطة الاجتماعية الممكنة، ولا يمكن للإدارة الكفء التي تعيد تجديد النظام الإنتاجي، بتجديد رءوس أمواله المادية والاجتماعية والبشرية، عند مستواها السابق على الأقل (أي التجديد البسيط لا المُوسَّع)، أن تتجاوزه إلى أي نقطة أخرى خارجه على اليمين أو اليسار، من تلك النقاط الأخرى على المنحنى الأكبر (ك).

تحدد نقطة (ت) التماس بين منحنى توازنات القوى الاجتماعية (ل) ومنحنى توزيعات الناتج الاجتماعي المحتملة (أ ب)، توليفة التوزيع/درجة الديمقراطية الاجتماعية الفعلية، والتي تتحدد عندها كتلة الأجور الاجتماعية الفعلية بالنقطة (ج ت)، وكتلة الأرباح الاجتماعية الفعلية بالنقطة (ر ت)، لتمثل نمط التوزيع الفعلي بالمجتمع في اللحظة التاريخية المعنية، أي مستوى ومحتوى ديمقراطيته الاجتماعية الفعلية في تلك اللحظة، ويعني التماس بين المنحنيين تحقق الديمقراطية الاجتماعية الفعلية عند نقطة التساوي بين نسبة توزيع الدخل بين رأس المال والعمل (نقطة التماس على منحنى التوزيعات) من جهة، ونسبة توازن القوى الاجتماعية بينهما (نقطة التماس على منحنى التوازنات) من جهة أخرى، أي بين الأنصبة الداخلية النسبية والقوى الاجتماعية النسبية، ما يعكس التفاعل بين التوزيع الموضوعي والصراع الطبقي، وذلك كما يظهر بالمعادلة:

   إستراتيچيات توسيع الديمقراطية الاجتماعية

ويمثل كل ما سبق النموذج النظري العام لحدود ومحتوى الديمقراطية الاجتماعية التاريخيين، وبالنظر فيه نجد أن أمام الحركات    الساعية لتوسيع نطاق الديمقراطية الاجتماعية، أو تغيير نمط توزيع الناتج الاجتماعي، ثلاث إستراتيچيات أساسية للعمل:

إستراتيچية “الانزلاق على المنحنى”، أي إصلاح نمط التوزيع ضمن حدود الديمقراطية الاجتماعية الممكنة، أي ضمن حدود منحنى التوزيعات المحتملة (أ ب)، بمحاولة تغيير انحدار منحنى توازنات القوى (ل) قليلًا، لنقل نقطة تماسه مع منحنى الناتج المحتمل (أ ب) يمينًا، باتجاه توزيع أفضل لصالح العمل، وهو ما يمثل إستراتيچية كافة تنويعات “اليسار الإصلاحي”.

إستراتيچية “كسر المنحنى”، أي الانقلاب المباشر على نمط التوزيع والإنتاج بالوسائل السياسية المباشرة، خارج حدود الديمقراطية الاجتماعية الممكنة ضمن النظام الإنتاجي القائم، أي خارج حدود منحنى توزيعات الناتج الاجتماعي المحتملة (أ ب)، بنقل المنحنيين كليًّا إلى مستويات أخرى، لتحقيق توازنات أخرى، بتحطيم النظام الإنتاجي القائم وإحلال نظام إنتاجي آخر محله، خالٍ من الطبقات المالكة المُستغِلة، وبقيادة طبقة إدارية/سياسية مهمتها رعاية التجديد الاجتماعي بالتخطيط، وهى إستراتيچية كافة تشكيلات “اليسار الانقلابي”.

إستراتيچية “نقل المنحنيات”، أي الهندسة الاجتماعية طويلة المدى للنظام الإنتاجي، بالسياسات الهيكلية خارج السلطة وداخلها، لنقل موقع منحنى توزيعات الناتج إلى أعلى (ومن ثم زيادة الناتج الكلي)، وتقليل انحدار منحنى توزيعات القوى (ومن ثم زيادة قوة استحواذ العمل) معًا، بإضعاف سلطة رأس المال على عملية التجديد الاجتماعي، ما يكفل لأول مرة قدرة العمل على المشاركة المتزايدة تدريجيًّا في المهمة التاريخية التي استأثر بها رأس المال/الملاك، والتي يبرر بها سلطته ويسهِّل بها استغلاله، وهي السيطرة بالأساس على عمليتي “تحقيق الناتج الاجتماعي” و”توجيه فائض التجديد الاجتماعي”؛ أي بالمُجمل زيادة السلطة الاقتصادية للعمل تدريجيًّا، ومن ثم صياغة النظام الإنتاجي بكافة نتاجاته وتوازناته، بما فيها المنحنيان الرئيسيان، بما يناسب مصالح قوى العمل كأغلبية المجتمع، وهو ما يمثل نقلًا للديمقراطية الاجتماعية من مجرد مستوى “توزيع الناتج”، إلى مستوى “تقرير الناتج” نفسه (الذي يصوغ كلًّا من التوزيع والتوازن معًا في المدى الأطول)، أي سلطة القرار الاجتماعي، وهى إستراتيچية “اليسار الإستراتيچي” الذي لم يوجد بعد!

   تقريبات واقعية (1): التراتبية الچيوتاريخية العالمية للديمقراطية

فإذا ما حاولنا تقريب النموذج النظري العام السابق بشكل أكبر من الواقع، بإدخال موقع نظام الإنتاج المحلي من النظام العالمي، فسنجدنا أمام نموذجين أساسيين:

المركز: وهو الذي يسيطر على شروط التجديد الاجتماعي لنفسه، ولأنظمة محلية أخرى خارجه، ومن ثم يسلب جزءًا من فوائضها، ويوجه قرارها الاجتماعي بما فيه مصلحته، فيحوز بالتالي فائضًا يزيد به نتاجه؛ فينتقل منحنى توزيعات الناتج الخاص به يمينًا إلى أعلى، إلى المنحنى (ك م)، ما يمكِّنه من زيادة كتلة الأجور كقيمة مُطلقة، أي المكاسب الشعبية عمومًا، دونما حاجة مُلحة لزيادتها نسبيًّا، أو دونما تأثير كبير -ضروري- على نسبة كتلة الأرباح الخاصة بطبقاته الحاكمة، ما يسمح بهامش توزيع وديمقراطية اجتماعية أكبر نسبيًّا، أي يسمح بالاتجاه إلى النصف الأسفل الأيمن -الأكثر تقدمًا- من منحنى توزيعات الناتج المحتملة، ما يصب جميعه في جعل ذلك المركز أكثر مرونة سياسيًّا.

الطرف (وشبه الطرف): وهو الذي على العكس، لا يسيطر على شروط تجديده الاجتماعي الخاص؛ كونها مُستلبة لصالح أنظمة المركز السابقة؛ ومن ثم يفقد جزءًا من ناتجه الاجتماعي، والأهم توجيه نظامه الإنتاجي إلى ما فيه صالحه؛ فيفقد مزيدًا من الفائض ينخفض به ناتجه؛ فينتقل منحنى توزيعات الناتج الخاص به يسارًا إلى أسفل، إلى المنحنى (ك ط)؛ ما يقلِّص كتلة الأجور كقيمة مطلقة، حتى لو بقيت النسب بينها وبين كتلة الأرباح على حالها، وإن كان انخفاض حجم الناتج، مع انخفاض الإنتاجية، يرفع نسبة الحد الأدنى الضروري للتجديد الاجتماعي البسيط للإنتاج، إلى مُجمل الناتج الاجتماعي، فيفرض مزيدًا من تشديد الاستغلال وتقليص كتلة الأجور، فيقلص هامش التوزيع والديمقراطية الاجتماعية المُحتملين، ويبقيهما في نطاق النصف الأعلى الأيسر -الأكثر رجعية- من منحنى توزيعات الناتج المحتملة، الأصغر أصلًا من نظيره في المركز، أي الأقل في عدد توليفات التوزيع/درجات الديمقراطية الاجتماعية المحتملة عليه، ما يجعل ذلك الطرف أقل مرونة سياسيًّا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ونلاحظ في الرسم، الفارق الإيجابي الكبير بين كتلة الأجور الأدنى في المركز (ج د م) والطرف (ج د ط)، أي حتى مع افتراض أسوأ توازنات القوى على الإطلاق في الاثنين، والمقارنة بينهما فقط انطلاقًا من فارق حجم الناتج (الفارق بين “مواقع” منحنيات توزيعات الناتج لهما)، وهذا يفسر فقط فوارق مستوى المعيشة بين الدول المتقدمة والمتخلفة، وليس فيه جديد، فارتفاع الإنتاجية بتقدم قوى الإنتاج، المُنعكسان في ارتفاع منحنى التوزيعات يمينًا، لا بد أن ينعكس إيجابًا على مستوى الدخول حتى في أدنى مستوياتها، أي على معنى الكفاف الاجتماعي نفسه.

أما إذا ما أخذنا بالاعتبار التطور الهيكلي الكيفي المصاحب للتطور الإنتاجي الكمي في النظام الإنتاجي (ما يمثل أحد وجوه التلازم بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج)، فإنه برفعه -كاتجاه تاريخي عام جدًّا- إلى دور رأس المال البشري (قوى العمل)، والاجتماعي (المُشترك كما يُفترض)، على حساب رأس المال المادي (المملوك للطبقات المالكة في معظمه)، إنما يزيد من دور قوى العمل في عملية القرار الاجتماعي، فيزيد قوتها الاجتماعية والسياسية، ما ينعكس في انخفاض انحدار منحنى توازنات القوى، فيتماس مع منحنى توزيعات الناتج عند نقطة أكثر تقدمية من الوجهة التوزيعية، أي أكثر ديمقراطية اجتماعيًّا، وبالتبعية سياسيًّا!

ولعل هذا مما يساهم في تفسير العلاقة بين عدالة توزيع الدخل والديمقراطية الاجتماعية والسياسية من جهة، والموقع الأكثر تقدمًا أو تخلفًا من النظام الدولي من جهة أخرى، حيث نجد أن “الديمقراطية على الصعيد العالمي مجرد امتداد لمنطق تدفق وتوزيع الفوائض، لكن في الاتجاه العكسي، بحيث تتحدد مواقع “المركز-الطرف” وفقًا لمواقعهم من سلاسل القيم العالمية، أي طبيعة الصناعات والمراحل الإنتاجية المتخصصين فيها، أو تقسيم العمل الدولي بين القطاعات (الأكثر قيادية/الأعلى ربحيةً) و(الأكثر تبعية/الأدنى ربحيةً)، ضمن عملية التبادل غير المتكافئ الشاملة، ومن ثم تقسيم الفوائض عالميًّا، وحيث إن “محتوى الديمقراطية” -اجتماعيًّا- يحدده التوازن الطبقي، فيما “حدودها” -اقتصاديًّا- تتحدد بحجم الفائض، باعتباره موضوع إدارتها، يكون لدينا اتجاه عكسي ما بين مسار -تراتب- أحجام الفوائض من الأطراف إلى المراكز (فوائض أصغر/مُستلبة، فأكبر/مسلوبة)، ومسار -سعة- حدود الديمقراطية من المراكز إلى الأطراف (ديمقراطية أوسع/استلابية، فأضيق/مُستلبة)، ما يتسق ومنطق إدارة الاقتصاد العالمي نفسه، وتصدير الأزمات من المراكز إلى الأطراف -والفوارق في هياكلها الإنتاجية والاجتماعية كميًّا وكيفيًّا - وتوزيع الدخول بين (دوله)، في “وحدة منطق للديمقراطية محليًّا وعالميًّا”، مع استبدال لفظة “الناتج” بلفظة “الفائض” الأقل دقة!

وهو ما أكدته دراسة كينيث بولين التي أثبتت إمبريقيًّا [تجريبيًّا] الارتباط الإيجابي بين كلٍّ من التطور الاقتصادي (وبالتالي حجم الفائض ونمط إنتاجه) والموقع من النظام الدولي (انخفاض درجة التبعية، ومن ثم انخفاض استلابه) من جهة، والديمقراطية السياسية (وهى مؤشر على الديمقراطية الاجتماعية) من جهة أخرى، كما عززته الدراسة الأوسع نطاقًا زمانًا ومكانًا لروب كلارك، بإثباتها الارتباط الإيجابي بين الموقع من النظام الدولي والتطور السياسي وتسارع المقرطة كذلك.

وهكذا نستنج أن اليسار الإصلاحي أكثر فاعلية في المراكز، كون نطاق الديمقراطية الاجتماعية فيها أوسع، حيث يكون منحنى توزيعات الناتج المحتملة فيها أكبر، فيما لا يمكنه أن يلعب ذات الدور نهائيًّا في الأطراف (حيث لا مجال لتأثيره)، ولا يمكنه أن يلعبه سوى جزئيًّا في أشباه الأطراف (حيث تأثيره محدود)، حيث نطاق الديمقراطية الاجتماعية أضيق، مع منحنيات توزيعات ناتج محتملة أصغر، وهو ما يعني كذلك أن هذا اليسار الإصلاحي مجرد نتاج لتطور النظام الإنتاجي، لا فاعل فيه ولا مؤثر في مستوى قراراته الاجتماعية؛ فهو من ثم تابع له خاضع لتغيراته واتجاهاته؛ فتكون مكتسباته هشة التكوين سهلة الاستلاب، مع أي اهتزاز في توازنات القوى الاجتماعية لصالح رأس المال (أو تأزم في النظام الإنتاجي)، وهو الميل الكامن في النظام الإنتاجي مع هيمنة الأخير على قواعد قوى الإنتاج؛ ومن ثم القرار الاجتماعي، أي السلطة الاقتصادية التي لا يقترب منها ذلك اليسار الإصلاحي تقريبًا!

تقريبات واقعية (2): الرأسمالية الاحتكارية المُعولمة

وبإجراء تقريب ثانٍ، بإدخال تحولات النظام الإنتاجي القائم عالميًّا في النموذج النظري المذكور، فسنجد أهمها -وما يعنينا منها هنا هو الأكثر هيكلية وتأثيرًا على حجم وهيكل الناتج بالتأكيد- هى: الموجة الجديدة من التوسع العالمي لرأس المال على مستوى مراحل الإنتاج المعروفة بـ “العولمة”، والنمو الكبير لقطاع “الخدمات” على حساب القطاعات السلعية، وتعمق التركز والتمركز الاحتكاري لرأس المال، إلى حد تزايد غلبة رأس المال المجرد على الملموس، بتعمق عملية “الأمولة”.

وكما هو واضح، فالتحولات/العمليات الثلاث مترابطة في الحقيقة، وكلها تصب أساسًا في تحول موازين القوى لصالح قوة استغلال رأس المال، على حساب قوة استحواذ العمل (بالضد من الاتجاه السوسيوتاريخي الأكبر المذكور آنفًا)، سواءً (1) بتوسيع أسواق العمل “المُجزأة” أمام رأس المال، ومن ثم زيادة عرضه الكلي وإضعاف قوته التفاوضية، أو (2) بنمو قطاعات الخدمات ذات الطلب المحدود والمُشتت والمُنخفض نوعيًّا على قوى العمل، ومن ثم خفض الطلب عليه، وخفض إنتاجيته، ومن ثم قيمته السوقية، مع إضعافه وتفتيته كذلك، أو (3) بزيادة التركز والاحتكارية بالتكامل و”الأمولة”، وبالتالي تركيز القرار في قبضة حلقة أضيق من الطبقة الرأسمالية العالمية، ومن ثم تعظيم قوة رأس المال في مواجهة العمل، المُفتت قوميًّا والمُقيد محليًّا، على المستوى العالمي عمومًا.

وهو ما يعني بيانيًّا، زيادة انحدار منحنى توازنات القوى الاجتماعية (ل 1)، أي ميله يسارًا، ليصبح أكثر رأسية، ليأخذ شكل المنحنى (ل 2)، وتنخفض معه كتلة الأجور الفعلية من (ج 1) إلى (ج 2)، فيما تزاد كتلة الأرباح من (ر 1) إلى (ر 2)، كما يتبين في الرسم التالي:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ويفسر هذا الاتجاه الموضوعي لتعاظم قوة اليمين عالميًّا منذ السبعينيات، وتراجع قوة كافة حركات اليسار الإصلاحي في المراكز خصوصًا، كما يفسر، في المقابل، الصحوة المحدودة لتلك الحركات في أشباه الأطراف (أمريكا اللاتينية مثالًا)، مع تزايد توطن الصناعات المهاجرة من المراكز إليها، بما لحقها من نمو صناعي في الناتج  الاجتماعي، وعمالي في التكوين الطبقي، دونما نمو موازٍ بذات الدرجة في “الأمولة”؛ ما قلل جزئيًا من الانحدار الشديد الأّوَّلي لمنحنى توازنات القوى الاجتماعية في هذه المجتمعات، أي ميله يمينًا، ليصبح أكثر أفقية، على عكس الحالة السابقة في المركز الظاهرة في الرسم، ما يعني تحسن توزيع القوى الاجتماعية والانتقال إلى توليفة ديمقراطية اجتماعية أفضل على منحنى توزيعات الناتج الاجتماعي، بقدر ما حققت على صعيد التغيير الهيكلي النوعي لناتجها وتكوينها الاجتماعيين.

ويتجلى هنا فارق هام بين “الانتقال بين توليفات الديمقراطية الاجتماعية على ذات منحنى توزيعات الناتج المحتملة”، و”التحرك بذلك المنحنى نفسه من مكانه إلى مكان آخر”، فبينما يعني الأول التقيد بحدود التوليفات المتاحة والاكتفاء بإعادة توزيع الناتج الاجتماعي المتاح، يعني الثاني زيادة الناتج بمجمله وتغييره نوعيًّا، ومن ثم توسيع آفاق الديمقراطية الاجتماعية المحتملة، ما يشمل الانتقال من التأثير على مجرد مستوى توزيع الناتج (مع البقاء ضمن نطاق توازنات القوى القائم)، إلى التأثير على مستوى القرار الاجتماعي (أي تغيير نطاق توازنات القوى إلى آخر أكثر تقدمية)، وهذا ما يميز بين اليسار الإصلاحي المكتفي بالعمل على مستوى التوزيع الهش قصير المدى، واليسار الإستراتيچي الذي ندعو إليه، الساعي إلى التأثير على مستوى القرار الصلب طويل المدى، لتوسيع السلطة الاقتصادية لقوى العمل.

   تقريبات واقعية (3): الرأسماليات الريعية

ويمثل هذا مقاربة ثالثة تتعامل مع الحالة الخاصة للرأسماليات التابعة الريعية، كأغلب الاقتصادات العربية، وهى باختصار اقتصادات يتزايد فيها بحكم طبيعتها تلك دور ثلاثة عناصر هامة، هي: (1) الملكية، بحكم غلبة مكون الموارد الطبيعية والچيوبوليتيكية في تكوين الناتج الاجتماعي، و(2) الدولة، بحكم وضعها الخاص ضمن شبكة تحقيق (لا إنتاج) هذا الناتج، وتوزيعه اجتماعيًّا، و(3) التداول، بحكم دوره الهام ضمن التمفصل مع الخارج، في اقتصادات تابعة محكومة برأس المال التجاري أولًا، وفي عملية تحقيق الناتج المعتمد على ثروات طبيعية في الأسواق الدولية ثانيًا.

ويؤدي كل ما سبق حتمًا، إلى تكوين منحنى توزيعات ناتج محتملة صغير منخفض، بحدود ديمقراطية اجتماعية ضيقة، ومنحنى توازنات قوى اجتماعية شديد الانحدار، لا تمتلك فيه قوى استحواذ العمل هامشًا حقيقيًّا للحركة والتأثير (لضعف وجود الإنتاج السلعي والتكوين العمالي)، مقابل هامش واسع لقوى استغلال رأس المال (التي لسنا بحاجة إلى تأكيد شمولها للدولة هنا)، ما يخلق أنماط توزيع ناتج هي الأكثر تفاوتًا، وأنظمة حكم هى الأكثر استبدادًا في العالم، وهكذا تكون حدود الديمقراطية الاجتماعية ضيقة أولًا (منحنى أ ب صغير منخفض)، وتوازن القوى الاجتماعية مختلًّا ثانيًا (منحنى ل شديد الانحدار)، كما يظهر بالرسم البياني التالي:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ونلاحظ في الرسم، أن كتلة الأجور التوازنية (ج ت) متطابقة “تقريبًا” -رغم (كروكية) الرسم- مع كتلة الأجور الدنيا (ج د)، بينما لم تصل كتلة الأرباح التوازنية (ر ت) إلى مستوى كتلة الأرباح القصوى (ر ق) المقابلة لكتلة الأجور الدنيا. فأين ذهب ذلك الفارق؟ إنه بيانيًّا يعكس الانحدار الشديد في منحنى التوازنات، والذي ينعكس في أن انتقالًا بسيطًا على المحور الأفقي يؤدي إلى انتقال كبير مقابله على المحور الرأسي، الأمر الطبيعي عند النقاط المتطرفة على منحنيات التوازنات شديدة الانحدار عمومًا، أما اقتصاديًّا واجتماعيًّا، فهو يعكس ضعف وحدة الأجر مقابل وحدة الربح، المتسق مع غلبة الملكية على عملية تحقيق الناتج، ومن ثم الضعف الاجتماعي للعمل مقابل رأس المال.

   الاختيار: سياسة المتن لا سياسة الهامش

   يشير كل ما سبق إلى مستويين للتأثير، في الديمقراطية الاجتماعية في أي مجتمع:

مستوى التوزيع: ويعتمد على إستراتيچية الانزلاق على منحنى توزيعات الناتج المحتملة، القائم فعليًّا، فهو مُقيد بحدود توليفات الديمقراطية الاجتماعية المتاحة عليه فقط، ما دام لم يحدث تغير معنوي في توازنات القوى الاجتماعية، التي تلعب هنا دورًا متغيرًا مستقلًّا لا تابعًا، لكن فقط في حدود تحديد توليفة الديمقراطية الاجتماعية الفعلية، من إحدى توليفاتها المحتملة على منحنى التوزيعات.

مستوى الإنتاج: ويعتمد على إستراتيچية تحريك المنحنيين معًا، منحنى توزيعات الناتج ومنحنى توازنات القوى، من خلال التأثير على أشكال الملكية وهياكل الأسواق وترتيبات المؤسسات وغيرها من بنى سوسيواقتصادية. وهنا تلعب توازنات القوى القائمة، قصيرة الأجل، دورًا مستقلًّا، لكنها تعود لتتأثر بالإجراءات المذكورة لاحقًا كمتغير تابع، كتوازنات طويلة الأجل، وعلى هذا المستوى، لا يتقيد عمل اليسار بتوليفات الديمقراطية الاجتماعية المتاحة وحدها، بل يوسعها بخلق منحنيات ناتج وتوازنات جديدة كليًّا، هي أكثر ثباتًا وضمانًا واستقرارًا، من مجرد الانزلاق بين توليفات الديمقراطية المتاحة على ذات المنحنى، كما في مستوى التوزيع السابق.

   والفارق الأهم بين مستويي العمل، إنما يتعلق بما ذكرناه في المقدمة حول تحديد معايير النجاح والفشل، وهو أن عمل اليسار على مجرد مستوى التوزيع، أي الانتقال بين توليفات الديمقراطية الاجتماعية المتاحة، إنما يعني القبول بمنطق عمل ومعايير كفاءة النظام الإنتاجي القائم، بتركيبه البنيوي القائم، بل وربما بمنطق مصلحة قوى الاستغلال نفسها (بادعائها قدرتها الأكبر على التجديد الاجتماعي المُوسع للإنتاج)، وهو ما يضع يسار التوزيع في الوجهة المضادة دعائيًّا من نمو النظام الإنتاجي، ويجعل احتمالات فشله في لعبة الانتخابات أكبر دائمًا من احتمالات نجاحه، خصوصًا مع التناقضات الاجتماعية غير المُخططة، المرتبطة بذلك الشكل من تغيير نمط التوزيع دون تغيير نمط الإنتاج، وتحديدًا ما يتعلق منها بتوسع حجم الطبقة الوسطى، لكن ضمن نطاق رأسمالي بمطامح رأسمالية، بحكم بقائها مرتبطة به بتوسعها ضمن ذات النظام الإنتاجي بمنطق عمله، لا التوسع بتغيير في بنية الإنتاج ومنطق عمله، ما يخلق تناقضًا لاحقًا في صفوف القوى الاجتماعية التي دعمت ذلك اليسار ابتداءً!

أما عمل اليسار الإستراتيچي الواعي على مستوى الإنتاج، فيغير منطق عمل ومعايير كفاءة النظام الإنتاجي نفسه، إضافةً إلى تغيير توازنات القوى الاجتماعية على ما سبق قوله، ما يوسع نطاق الديمقراطية عمومًا (وهنا ننتقل إلى المستوى الاقتصادي والسياسي كتجليات وأدوات للديمقراطية الاجتماعية)، بتغيير توزيع السلطة الاقتصادية (من ملكية أصول وقرارات إنتاجية وهيمنة سوقية بالتعاونيات وغيره)، وإدخال المؤسسات الجوهرية ضمن العملية الديمقراطية والرقابة الشعبية (كالبنوك المركزية وغيرها)، وتوزيع السلطة السياسية على نطاق أوسع وأعمق من اللامركزية الاجتماعية (لا الجغرافية فقط).

وربما تبدو إستراتيچية اليسار الانقلابي مغرية، كونها تفترض قلب المعادلات كلها دفعة واحدة، ونقل كامل السلطة إلى طبقة جديدة، لبناء نظام إنتاج جديد بتوازنات جديدة، كما أن لها تراثًا تاريخيًّا عظيمًا لا يمكن نكرانه، لكن مشكلتها استسهال تعميم حالة الاستثناء السياسي الخاصة بفترة التحرر الوطني، كحالة يسهل تكرارها، وتجاهلها لتعاظم تشابك النظام العالمي، وصعوبة الحركة الفعلية لأطرافه أكثر بكثير من ذي قبل، فضلًا عن عدم امتلاكها لتصور حقيقي حاليًا للانتقال الاشتراكي الذي تتوخاه.

أما إستراتيچية اليسار الإصلاحي بالاكتفاء بالعمل بقواعد الديمقراطية الليبرالية، فهي أسوأ، حيث لا تعدو أن تكون لعبًا في الهامش، الذي لا يشارك بالكثير حقًّا في عملية صنع القرار الاجتماعي في المجتمعات المعاصرة؛ فأغلب السلطة الحقيقية تُمارس من وراء ظهرها وظهر مؤسساتها، حيث السلطة الاقتصادية والمؤسسية المُحتكَرة عمليًّا بيد الطبقات المالكة، وحيث قواعد العمل وحدود التغيير مرسومة سلفًا، ضمن مصالح تلك الطبقات، وفي حدودها.

   إن الإشكالية الحقيقية لحركات الديمقراطية الاجتماعية حاليًا، والتي تؤدي بها إلى الفصل الوهمي بين إستراتيچيتي الإصلاح والانقلاب، كاستراتيچيتي سلطة لا غير (فيما لا يقيم الوعي الديالكتيكي أسوارًا صينية بينهما)، هى للمفارقة “الإفراط في التسييس”، أي الإفراط التسييسي لمشروع الديمقراطية الاجتماعية، بما يتجاهل أبعاده وأعماقه السوسيواقتصادية؛ فإما يتجاهلها مُطلقًا كما يفعل اليسار الإصلاحي، أو يعاملها كمساحة عمل مؤجلة إلى يوم القيامة الثوري الذي لا يأتي، فيما هي أعظم قواعده وروافعه في التعجيل بذلك اليوم، وتسهيل مخاضه، أو ربما في حالات خاصة، جعله نافلًا كما تصور الفابيّون يومًا!

إننا بحاجة إلى سياسة جديدة ويسار جديد، يكونان أكثر سياسية “بالمعنى الواسع”، بأن يكونا أقل سياسية “بالمعنى الضيق”!، سياسة ويسار يعملان على مستوى الإنتاج لا مجرد مستوى التوزيع (أو الأسوأ مجرد إعادة التوزيع)، سياسة ويسار يتجاوزان سياسة ويسار العصر الصناعي مُفرط التسييس، واللذين تجاوزهما التطور الاجتماعي بتحولاته الطبقية الأخيرة كذلك (مؤسسة الحزب كوكيل وحيد للسياسة تجسيد لذلك الإفراط والتجاوز)، “سياسة ويسار متن، لا سياسة ويسار هامش”!