رؤى
محمود هدهودحماس بعد السنوار.. "لا وقت للبكاء"!
2024.10.19
حماس بعد السنوار.. "لا وقت للبكاء"!
"لا وقت للبكاء" هو عنوان الرثاء الذي كتبه أمل دنقل عند رحيل جمال عبد الناصر، قائلًا إن الأعلام المنكسة على سرادق العزاء منكسة على الضفة الأخرى، قاصدًا بذلك سيناء المحتلة، التي لم تكن قد تحررت آنذاك. نعيش اليوم وعلى رأسنا الحركة الوطنية الفلسطينية التي تمثلها حركة حماس، وبحكم الأمر الواقع وقوتها الضاربة وجسدها الأضخم، هي حالة لا تختلف كثيرًا عن تلك التي عاشتها مصر في تلك اللحظة، فأيًّا كان حجم القائد الذي ذهب، ورغم مشهدية رحيله المهيبة، وأسطورية مسيرته، وما يمكن أن يثيره كشخصية كبيرة من جدل -لا بد أن يثور حول الكبار في التاريخ- يبقى أن الملحمة التي تجري في غزة، حيث يمتزج دم البطل بدم الضحية، تستوجب من قادة الحركة الوطنية الفلسطينية ومثقفيها رباطة جأش من ذلك النوع الذي يفوق الطاقة البشرية.
رحل يحيى السنوار بعد أقل من ثلاثة أشهر من توليه رئاسة الحركة على خلفية مقتل قائدها إسماعيل هنية في طهران. وأستعيد هنا النقد الذي طرحتُه آنذاك، ليس من باب اللوم أو التعالي إطلاقًا، وإنما من باب النقاش العقلاني في هذه اللحظة العصيبة. كنت قد اقترحت وقتها أن يتولى قيادة الحركة شخص يقيم خارج غزة لعدة أسباب، أولها أن تولي أي قيادي في غزة، وعلى رأسهم يحيى السنوار بالتأكيد، يقدم إلى إسرائيل فرصة ثمينة لتحقيق إنجاز معنوي كبير عبر اغتيال جديد لقائد الحركة في غضون أسابيع أو أشهر، ما يسبب بالضرورة اهتزازًا في التنظيم في وقت يستدعي خطًّا متصلًا ومستمرًّا من القيادة والتخطيط والمناورة.
أما المسألة الثانية فهي أن الحركة الوطنية الفلسطينية كانت وما زالت وستظل في حاجة إلى تجاوز السابع من أكتوبر كلحظة في المسيرة الوطنية الفلسطينية، وذلك بغض النظر عن تقييمه، أي سواء اعتبرناه انتصارًا فلسطينيًّا تاريخيًّا في أغلب أبعاده، أو اعتبرناه انتصارًا تكتيكيًّا افتقد البعد الإستراتيجي. إن التجاوز هنا لا يعني التبرؤ من السابع من أكتوبر، ولكن يعني ضرورة أن تظل الحركة الوطنية الفلسطينية بما في ذلك حركة حماس، حركة سياسية تتجاوز الحدود المكانية لقطاع غزة، وتتجاوز الحدود الزمانية للمعركة الجارية منذ السابع من أكتوبر وعلى مدى عام بأكمله. لذا كان من الأفضل أن يكون على رأس الحركة اسم لم يرتبط بالسابع من أكتوبر على النحو الذي ارتبط به اسم يحيى السنوار في تلك المعركة، وذلك أملًا في فتح مسارات جديدة للعمل الوطني الفلسطيني بما في ذلك مسارات جديدة للمقاومة المسلحة إن أمكن.
رحل السنوار اليوم بعد أشهر تراجع فيها حضور الحركة في المشهد بحكم مجموعة من العوامل، جاء في مقدمتها انتقال الزخم نحو جنوب لبنان مع الهجمات الإسرائيلية المتتالية على حزب الله، وسلسلة الاغتيالات التي تكللت بمقتل السيد حسن نصر الله الأمين العام للحزب. وواكب ذلك جمود المشهد السياسي للصراع بعد فشل قمة الدوحة ومبادرة هوكشتاين في لبنان ومباحثات مسقط غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، وتبدو اليوم كل تلك المحاولات فخاخًا اُستدرِجت إليها إيران وحزب الله وحماس لشراء الوقت وخلق الفضاء لانقضاض إسرائيلي جديد برز في لبنان، ولم ينقطع في غزة كما نرى في الحملة على معسكر جباليا.
أمام هذا المشهد، تبدو حماس اليوم في حاجة ماسة إلى استعادة زمام المبادرة السياسية والتوازن التنظيمي. نعني هنا أن على الحركة بعد عام من الحرب الشرسة أن تسعى نحو ترميم أدواتها المختلفة. فمن الناحية الوطنية أولًا، أتاحت الحرب رغم ويلاتها ساحة للتلاقي الوطني الفلسطيني يمكن من خلالها إعادة تأسيس الحركة الوطنية الفلسطينية، وتنتظر تلك الساحة مبادرة من حماس تحصد بها ثمار التعاطف الجارف والثقة الكبيرة التي حظيت بها الحركة ليس فقط في فلسطين، وإنما على صعيد عربي. نعم، تواجه الحركة ضغوطًا هائلة في شكل الملاحقة الشرسة من قِبَل السلطة الفلسطينية والسلطات العربية، فضلًا عن الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يمنع الحركة من تعبئة الفلسطينيين سواء في الضفة الغربية أو في الشتات وراء برنامج وطني يستوعب السابع من أكتوبر ويتجاوزه ويفتح آفاقًا لما يليه، أيًّا كانت النتائج المباشرة التي ستنتهي إليها تلك المعركة. ولا ينبغي أن ينتظر هذا التأسيس المتجدد للحركة الوطنية الفلسطينية توبة من قبل حركة فتح، بل ربما يكون شرط هذا التأسيس هو إصدار شهادة وفاتها.
أما من الناحية السياسية الأوسع، فإن الحركة في حاجة اليوم إلى إعادة تأسيس صلاتها السياسية وتفاهماتها مع الأطراف الإقليمية والدولية التي تفتح بابًا للاتصال والتواصل، عبر نشاط مكوكي لرجالها المخضرمين في حقل العلاقات الدولية لإعادة رسم شكل العلاقة بين الحركة وبين فاعلين إقليميين كمصر والمملكة العربية السعودية والأردن والإمارات وسلطنة عمان والجزائر وتركيا. لا ننكر هنا أن الأبواب موصدة، لكن الأبواب الموصدة لا ينبغي أن تكسر ولا أن تطرح، وإنما أن تقدم اقتراحات موضوعية قائمة على النفع المتبادل والتفاهم على المصالح المشتركة مع من يقفون وراء تلك الأبواب، ولا شك بعد ذلك في أن هناك كثيرين لن يبدوا أدنى استعداد مهما قدم إليهم لشرع الأبواب أمام شكل من التفاهم، لكن هذا الجهد سيكون من المؤكد تراكميًّا.
حتى العمل المقاوِم اليوم في حاجة ماسة إلى إعادة تأسيس، إذ أظهرت المعركة الجارية في غزة أن آفاق البناء العسكري لحركة حماس قد انحصرت في قطاع غزة، ولم تُحدِث المحاولات التي جرت في الضفة الغربية وجنوب لبنان فارقًا نوعيًّا في الأحداث إلى الآن، ربما لأنها حاولت تكرار نموذج قطاع غزة في بيئات تحيا شرطًا مختلفًا عن شرط القطاع. لذلك، تمكَّن الاحتلال الإسرائيلي في غضون ثلاثة أشهر من تقويض قدرة المقاومة في غزة على شن أي هجمات صاروخية أو نوعية من شأنها أن تمثل ضغطًا على الداخل الإسرائيلي، ولم تبادر الحركة في ظل هذا الوضع إلى أي محاولة للرد على اغتيال نائب رئيسها صالح العاروري أو اغتيال رئيسها نفسه إسماعيل هنية، إذ تكثفت الجهود -تحت الضغط- في الحفاظ على صلابة المقاومة المسلحة في قطاع غزة وحسب. تبدو الحركة إذن في حاجة إلى دراسة إمكاناتها في هذا الصدد عبر إستراتيجيتها وكوادرها الذين لديهم بلا شك ما يطرحونه.
إن المهمة شاقة، لكن الترميم لا يبدو اليوم خيارًا متقدمًا، وإنما ضرورة أمام اهتزازات متكررة وزلزلة لا تنقطع منذ السابع من أكتوبر، من شأنها أن تترك تصدعات عميقة. علينا أن نتذكر أن أحد الحلول عند الشدائد، هو محاولة إفساح فضاء والركض لاستعادة الحيوية. إن الحركة في حاجة إلى قيادة جديدة، تجمع شتاتها، ولا تحصر أفقها في الحدود المكانية لقطاع غزة والحدود الزمانية للمعركة، قيادة تملك القبول والثقة داخل الحركة، وتُظهر المناورة والإبداع خارج الحركة، وهكذا تجترح سبيلًا في جدار المستحيل.