بروفايلات

راجي مهدي

حسن نصر الله – المشروع والشهادة

2024.10.06

مصدر الصورة : الجزيرة

حسن نصر الله – المشروع والشهادة

أغار العدو الصهيوني على الضاحية الجنوبية لبيروت بعد ظهيرة يوم الجمعة الموافق 27 سبتمبر، غارة ضمن سلسلة من الغارات التي دأب العدو على شنها ضد أهداف لحزب الله في معقله جنوب العاصمة اللبنانية منذ ما يزيد على عشرة أيام، غير أن الجديد كان إعلان العدو أن المستهدف كان الأمين العام للحزب الشهيد حسن نصر الله، في تصاعد لوتيرة الاستهدافات المعادية ضد قيادة الحزب وبنيته.

بدا الأمر غير متصورًا، أو غير قابل للتصديق، بل وجزء من حرب نفسية يشنها العدو لتثبيط عزائم المقاتلين والجماهير في البلاد العربية، غير أن مرور الوقت، وتأخر صدور أي بيان ينفي الأمر من الحزب، وتأكيدات العدو نفسه، وحجم الضربة، كل هذا جعل الأمر احتمالًا واردًا، ثم صار مؤكدًا عصر يوم السبت 28 سبتمبر 2024.. وهكذا اغتالت إسرائيل حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله كما أعلن الحزب في بيانه.

يميل الناس، في الحديث عن الشخصيات المؤثرة، إلى سرد تاريخ حياتهم، محل الميلاد، هوايات الطفولة، التعليم، الصفات الشخصية، غير أن ما هو أكثر أهمية أنه -في اللحظة التاريخية المعينة- لابد من وضع الفرد في السياق التاريخي. وهذا الفرد هنا –الشهيد حسن نصر الله– لم يكن فردًا بل موقفًا تاريخيًا يمكن تتبعه بتتبع مسيرة حزب الله الذي صعد الراحل إلى سُدة أمانته العامة عام 1992 كثالث أمين عام للحزب –قبل أن يكمل عامه الثاني والثلاثون- بعد صبحي الطفيلي ثم عباس الموسوي الذي اغتالته إسرائيل أيضًا.

يمكن اعتبار أن الإثنين وثلاثين عامًا التي شغل فيها نصر الله منصب الأمانة العامة للحزب هي العمر الحقيقي لحزب الله، التي تحول فيها من أحد اللاعبين على الساحة اللبنانية إلى اللاعب الأقوى، وتحول إلى قوة إقليمية حقيقية خاضت ضد إسرائيل معارك تحرير جنوب لبنان ثم حرب 2006 ثم المعركة الحالية التي افتتحها الحزب يوم 8 أكتوبر 2023 إسنادًا للمقاومة الفلسطينية. 

منذ البداية لم يحاول حسن نصر الله إنكار ارتباط الحزب العقائدي والسياسي بإيران، بل ظل يؤكد أن المرجعية الدينية هي للخوميني ثم الخامنئي، ولم يُفلت الحزب أبدًا من توصيفه كأهم أدوات النفوذ الإيراني في المنطقة، وقد أكسبه هذا الارتباط وممارسته ليس فقط عداء قوى غير شيعية في المجتمع اللبناني بل أيضًا عداء الممالك الخليجية التي تعتبر النفوذ الإيراني في المنطقة أحد مهددات وجودها.

تشكل وعي نصر الله في لبنان الذي تحرقه الحرب الأهلية، لبنان الذي اجتاحه الصهاينة في 1978 ثم 1982، حيث جموع الشيعة المحرومين من التمثيل السياسي، الذين يتأثر فقراؤهم بدعايات الشيوعيين اللبنانيين ومنهم استمد هؤلاء الكثير من كوادرهم، كما تفتح هذا الوعي أيضًا على ثورة الخوميني وسقوط الشاه.

في اجتياح 1982 الصهيوني للبنان، كان نصر الله أحد من واجهوا الاحتلال، مع مجموعات صغيرة تشكل منها الحزب بعد ذلك، وبينما هُزمت الثورة الفلسطينية وخرجت من بيروت، وراح اليسار اللبناني يتراجع تحت وطأة عوامل ذاتية وموضوعية كثيرة، أهمها فقدان الدعم السوفييتي والتحالف بين سوريا وإيران الإسلامية، باتت الأرض ممهدة لصعود حزب الله. وعلى قاعدة اتفاق الطائف اكتسب الحزب شرعيته، وبحلول 1992 صار الحزب هو المقاتل الرئيسي والأقوى ضد إسرائيل، لا يقف معه سوى بقايا اليسار اللبناني. وتحت زعامة نصر الله انتصر الحزب في معركة التحرير فصارت شرعيته أكثر قوة، غير أنها شرعية تقوم على تناقض أداره نصر الله ببراعة تامة، تسوية مستقرة مع أطراف كانت بالأمس تتعاون مع الصهيونية في نفس الوقت الذي يقاتل فيه الحزب ضد إسرائيل.

خرج الحزب من معركة 2000 منتصرًا، واكتسب نصرالله ساعتها تلك الطلة الكاريزمية. وبالعمامة السوداء والخطاب الحماسي صار يتشكل مسار أقوى رجل في لبنان، وأقوى تنظيم مسلح معادي لإسرائيل في المنطقة. ودخل في مواجهتها حربًا جديدة في 2006، وخلال 34 يوماً من القتال صمد الحزب بزعامة نصر الله وقاتل قتالًا عنيدًا تكبدت فيه إسرائيل هزيمة حقيقية لأنها فشلت عبر هجوم بربري برًا وبحرًا وجوًا في تقويض تنظيم الحزب وقدرته على القتال، كان نصر الله يعمل جاهدًا لكي لا يتكرر الأداء المخيب للقوات المشتركة في مواجهة العدو الصهيوني إبان اجتياح 1982، وقد نجح.

بخروجه من الحرب منتصرًا، عزز الحزب شرعيته بقوة، وعزز نصرالله زعامته التي أعطته قدرًا هائلًا من المرونة في مواجهة محاولات إقليمية مستميتة عبر أدوات محلية لنزع سلاح الحزب أو تفجير لبنان بالكامل، ربما تجلت براعته أنه استطاع تعويم الحزب فوق بحر تناقضات لبنان في نفس الوقت الذي كان فيه الحزب نفسه أحد أطراف تلك التناقضات. فقد تحول الحزب من منظمة تمثل مصالح الفقراء والطبقة المتوسطة الشيعية إلى منظمة ممثلة للشيعة بالكامل تنشط في القطاع المصرفي، أهم قطاعات الاقتصاد اللبناني، كما تنشط في مجال العمل الاجتماعي والخدمي عبر شبكة أمان اجتماعي ضخمة في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، في الوقت الذي كان الوزن الاقتصادي للرأسمالية الشيعية المقربة من الحزب أو أمل تساهم في إعادة خلق البؤس في المجتمع اللبناني.

غير أن تلك البراجماتية السياسية ظلت دومًا وجهًا آخر لحقيقة أن الحزب بقيادة نصر الله قد راكم من القدرات العسكرية ما جعله في خطاب شهير يهدد بإغراق إسرائيل بالصواريخ من كريات شمونة شمالًا إلى إيلات جنوبًا، وكانت صيانة هذا الهيكل العسكري المتقدم هي الهدف الأسمى الذي من أجله خاض الحزب دروبًا عسيرة.

يميل كثيرون إلى المبالغة في المدح والذم، ويفتقدون القدرة على تقييم الأمور بموضوعية، النظر لأحد أوجه العملة دون الآخر، لقد ساهم نصر الله في تشكيل المنطقة سلبًا وإيجابًا، ومن بين الدروب العسيرة التي خاضها الراحل حسن نصر الله والحزب من خلفه كان قرار التدخل في سوريا لدعم بقاء بشار الأسد، كما كان موقفه من انتفاضة تشرين اللبنانية محط نقد لاذع لأنه اعتبر الانتفاضة تهديدًا لسلاحه، وهي بالطبع كانت تحمل في طياتها احتمال استيلاء أطراف في المجتمع اللبناني معادية لفكرة المقاومة ولسلاح الحزب عليها، غير أنها كانت تحمل أيضًا احتمالات أن تتطور في اتجاه مشروع لبنان وطني مقاوم ولاطائفي، لكن الحزب اختار أن التغيير أو الدعوة إليه ليست نابعة من التردي الاجتماعي والسياسي في لبنان بل من مؤامرة – موجودة بلا شك ولا ننكر وجودها – لنزع سلاحه وتحجيم نفوذه اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وبدلاً من المساهمة في خلق أو دفع توجه اجتماعي وسياسي نحو لبنان اللاطائفي والمقاوم في نفس الوقت، اختار معاداة الانتفاضة بكل الأشكال، والمفارقة أن تلك البيئة الاجتماعية في لبنان بكل تناقضاتها التي بذل حسن نصرالله والحزب جهدًا في تثبيتها كانت أحد الأسباب التي منعت حزب الله من الذهاب مبكرًا إلى حرب أوسع مع إسرائيل.

بدأ نصر الله مسيرته بالقتال ضد إسرائيل في 1982، وفي 2024، اغتالته إسرائيل، بعد ما يزيد على الأربعين عامًا، تحول فيها من مقاتل فرد، إلى منظمة راسخة ومترامية الأطراف، تمارس نفوذًا في لبنان والعراق وسوريا وفلسطين، أربعون عامًا اضطلع فيها نصر الله بأهم دور قد يلعبه مواطن عربي، قيادة الكفاح المسلح ضد الكيان الصهيوني، ويُستشهد في النهاية بطلًا في قلب معركة.. بطلًا واقعيًا ليس كالأبطال الخيالين الذين لا تشوبهم شائبة.. بطلًا حقيقيًا يتخبط في وحل ودم الصراع فيخطئ ويصيب.. بطلًا يغري كل من يعتقدون ويحلمون بعالم متخلص من الصهيونية، أنهم يستطيعون هم أيَضًا أن يقاتلوا، بل وأن ينتصروا بأسلحتهم البسيطة على من يملكون الإف 35.