حوارات
حسين عبد الرحيمحوار مع الكاتب والروائي إبراهيم فرغلي
2025.04.20
تصوير آخرون
حوار مع الكاتب والروائي إبراهيم فرغلي
مما لا شك فيه أن الكاتب الروائي إبراهيم فرغلي يملك الكثير من مساحات السرد، وقدم للمكتبة العربية الكثير من النصوص الإبداعية المتميزة للكبار والصبية والأطفال. وصدرت له مؤخرًا مجموعته القصصية الأحدث "حارسة الحكايات" عن دار الشروق. وله من قبل أكثر من خمسة عشر عملًا سرديًّا ما بين الروايات والمجموعات القصصية، منها: "جزيرة الورد"، "معبد أنامل الحرير"، "أبناء الجبلاوي"، "قارئة القطار". وقد حصل منذ عامين على جائزة نجيب محفوظ في الرواية، التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة، عن روايته "قارئة القطار". كما كان قد حصل من قبل على جائزة ساويرس مرتين.
إبراهيم فرغلي من مواليد عام 1967، وانتقل للعمل في دولة الكويت عام 2003. وقد تُرجمت العديد من أعماله إلى لغات أجنبية متنوعة منها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية. وكان صدور مجموعته القصصية الأخيرة فرصة لإدارة هذا الحوار معه ليحدثنا عن دوافعه للكتابة، والعالم الفلسفي في مجموعته القصصية الأخيرة، وعلاقته بأدب ونصوص نجيب محفوظ، وكيف يرى المشهد الأدبي الراهن.
سألته بداية:
لماذا كانت تلك المجموعة الآن؟ هل كتابة القصة محطة تأمل لرحلة الكاتب وخطاه؟
ربما يكون في القصص بشكل عام، وخصوصًا القصة الحديثة التي نشأت في عالم ما بعد الحداثة، وتضخم فكرة الفردية، ما يبدو كأنه محاولات من الكاتب لتأمل ذاته والتعبير عنها. أو ربما على الأقل هذا ما يخص تجربتي القصصية، منذ باتجاه المآقي، مرورًا بأشباح الحواس ثم شامات الحسن. وبالنسبة لي ككاتب بدأت الكتابة قاصًّا، قرأت مئات القصص وعشرات المقالات النقدية عن فن السرد القصصي وبدأت أدشن نفسي كاتبًا بمجموعة قصصية، فإنني أدين للقصة بالكثير. ومنذ فترة، وبسبب تحديات السؤال الروائي الذي استغرقني على مدى العقدين الماضيين كنت أتساءل عن أسباب توقفي عن كتابة القصة. هل أثرت الرواية على حساسية كتابة القصة؟ هل تؤثر على تقنياتها؟ كانت القصة بشكل عام تأتيني فكرتها مثل فكرة قصيدة مشحونة وجدانيًّا وغالبًا ما تكتب كدفقة. ثم قررت أن أكتب قصة واحدة على الأقل كل فترة حتى أستعيد حساسية كتابة القصص مرة أخرى. وهكذا أظنني عدت للقصة بهذا الشكل.
عن تلك الدوافع لاستنطاق "حارسة الحكايات" وهذا السرد البعيد عن الواقعية، مرتبط بضفاف الكاتب ومحطاته.. ماهو تفسيرك لتلك الرؤى؟ تلك الأجواء، التي تصنف نقديًّا ما بين الغرابة وتهشيم الواقع؟
أحب هذه الأجواء التي تشبه الأحلام، بشكل عام. أظن أن لها ظلالًا حتى في قصصي الأولى، وترسخت بشكل أوضح في مجموعة "أشباح الحواس"، التي شعرت أنها جسدت محاولتي في تشكيل شخصية خاصة للقصص التي أكتبها. أن تبدو كأنها تنتمي إلى الواقع، لكن إيمانها الحقيقي بما بعد الحواس. بالمناطق التي تخرج عن سيطرة الحواس التي لا يمكن للإنسان أن يدرك بها إلا الواقع. فمع مرور الوقت أدرك أن الحواس قاصرة، قدراتها محدودة. كثيرًا ما نرى أشياء ثم ندرك لاحقًا أننا رأينا ما نتوهمه وليس الحقيقة. أي خلل في الدماغ قد يؤدي إلى هلوسات بصرية أو سمعية. وهو ما يجعل فكرة الواقع مقابل الحقيقة موضوعًا يحتاج لأدوات جديدة للتعبير عنه. وحتى الأحلام، التي أظنها حياة موازية لكنها حياة بلا زمن. يحضر فيها الموتى كأنهم يعيشون في الواقع. وتظهر فيها الأشخاص كأنهم من عالم آخر. كلها روافد للبحث عن المعنى الحقيقي للوعي البشري وبالتالي عن معنى حياتنا. وهذه بعض هواجسي التي تجعلني متيمًا بهذه اللمسات التي تنتمي لعالم الغرابة، وما بعد الواقع.
علاقتك الأثيرة بعوالم نجيب محفوظ، وتحديدًا في بعض متونه ومساحاته في فلسفات الخواء، والخلاء، والتغريب.. حدثنا عن علاقتك الإبداعية بنجيب محفوظ؟
محفوظ مؤسس الوعي السردي العربي، بدأ من الرواية الكلاسيكية، ورسخ وجودها، وأكد معنى الفن السردي كنص يختلق حالة فنية موازية الذي يبدو أنه حالات إنسانية واقعية بينما في جوهرها حالات فنية وفكرية ووجودية يسبغ عليها سمت الطابع البشري، ثم انطلق منها إلى الواقعية الجديدة ثم الحداثة ليقدم حالة استثنائية في الكتابة الأدبية لكاتب مر بمراحل التأسيس ثم التجديد في تجربة أدبية نادرة. ومن حسن حظي أنني قرأته مبكرًا، ما أتاح لي العودة لقراءته مجددًا في سنوات الشباب ثم في سنوات النضج وهو ما أتاح لي تأمل تجربته بشكل معقول واكتشاف المستويات السردية التي كان يضمنها في أعماله ويطرح بها أسئلته العميقة عن معنى الحياة من جهة ومعنى الفن من ناحية أخرى. كوسيلة فنية وجمالية لفهم هذا العالم الغامض.
وهل هناك نوع من التماهي/ التوحد مع رؤيته للوجود من خلال سرودك الروائية تحديدًا؟
محفوظ كاتب درامي رفيع المستوى. مصائر أبطاله لها طابع شكسبيري، وفي تقلبات هذه الشخصيات بحثا عن الله أو الحب أو الأب أو العدل أو معنى الوجود تأتي الأسئلة الوجودية حارة وعميقة ومثيرة للأسى والتأمل. أسئلة أبطال محفوظ هي أسئلة كل إنسان عن معنى حياته ولمن قرأه بعمق سيجد أثرًا من أسئلة تلك الشخصيات وقد غدا جزءًا من أسئلته الوجودية. أسئلة حسانين في مشواره الأخير الذي يدفع فيه شقيقته للغرق قبل أن يقرر الانتحار في رواية بداية ونهاية مثلًا، هي أسئلة عميقة ومخيفة. أسئلة كمال عبدالجواد عن الله والوجود والأب والحب أسئلة تظل تلاحق من قرأها مدى حياته. وحيرة عمر الحمزاوي في الشحاذ تنطلق من أسئلة حول معنى الزمن إذا فقد الإنسان معنى حياته. وسؤال الخلود في الحرافيش يبدأ في الغائب الحاضر عاشور الناجي، ولا ينتهي عند سليمان الناجي الذي سلم نفسه للسحرة من أجل أن يحقق حلم الخلود. وغيرها عشرات الأمثلة لنماذج تناول فيها معنى العدل والحق ولا شك أنني تأثرت بهذه الأسئلة وربما وجدت لنفسها منافذ عبر محاولاتي السردية.
وماذا سيبقى من أدب نجيب محفوظ؟
أساءت الأفلام للفن السردي لهذا الرجل العظيم، فزعم البعض أنهم قرءوه بينما هم شاهدوا الأفلام فقط، وهذه نسخ مشوهة تمامًا لأفكاره ونصوصه كلها. سيبقى أدبه خالدًا مثل كل الأدب الكلاسيكي العظيم لأنه لم يقدم الأدب بوصفه كلاشيهات سردية بل كأسئلة فلسفية حارة وعميقة وصادقة اكتست شكل الفن السردي والشخصيات الفنية.
كيف ترى مستقبل الفكر، الفن، الآداب، الفلسفة، في ظل الحروب عبر الهوية والديانات والقوميات؟
أظن أن هذه الفترة العصيبة التي تعيشها مجتمعاتنا، والتي تزيد حالة السيولة الفكرية والاجتماعية والأخلاقية من كارثية الوضع المتسبب عن السيولة السياسية التي رفعت شعارات تتوهم أن الأزمة أزمة هوية فترغب في العودة لهويات قديمة بعضها إسلامي، وبعضها قومي فرعوني، هي المحطة الرئيسة لتكوين أسئلة جديدة عن أهمية الرواية في الثقافة العامة. الرواية التي تسببت في تكوين مفهوم الأمة في أوروبا في فترات ما بعد الحروب الأهلية ثم الحربين العالميتين، تطورت الرواية الغربية كثيرًا بسبب الأزمات الكارثية التي مرت بها أوروبا، ونحن اليوم نرى انتعاشًا مماثلًا ربما في محاولات كتابة رواية. لكن لا يزال أمامنا وقت لكي يتم الفرز واستيعاب أن الرواية عمل فكري عميق وليس مجرد تجميع حكايات أو ثرثرات تستعرض حيوات البشر. وهذه التجارب السردية في جوهرها صدى لأسئلة موازية في الفنون والفلسفة. ولا أشك أن الفنون التشكيلية والمرئية إلى جانب حقول الفلسفة سوف تشهد انتعاشة وجودها لن يكون سوى استجابة لتطورات وتغيرات وتقلبات فكرية واجتماعية لمجتمع يفجر كل ما بقي مكبوتًا لعقود قبل أن يحاول استعادة عقله الغائب.
في كتاباتك الروائية والقصصية، هناك الكثير من الفراغات، ورؤى الظل والضوء وكأنها مساحات سردية مقتطعة، وتم بلورتها، عبر نصوص قادمة لك، لم تكتب بعد، وكأنك تناور وتفتح مساحات ما متخيلة ودقيقة لأعمال لم تزَل قيد التفكير؟
القصة الأخيرة في مجموعتي الأولى "باتجاه المآقي" كانت تحمل عنوان: فراشات، تدور في أجواء سحرية وغرائبية. وروايتي الأولى "كهف الفراشات" تبدأ بقصة "فراشات". أنا أعتقد بهذه الصيرورة بين الأفكار الأدبية والأنواع الأدبية وأيضًا بين الواقع والفن. أحب النهايات المفتوحة لهذا السبب. الفن لا ينتهي. كما الحياة في صورتها الكبيرة. وأنا كما قلت مسبقًا من المؤمنين بأن الكمال حلم مستحيل، لكنه يملؤني يقينًا بأن كل عمل أدبي أقوم بكتابته هو مجرد تدريب سردي مضنٍ لعمل آخر يسعى إلى الكمال. لهذا ستجد دائمًا تلك الفراغات التي تفتح الباب لأسئلة فنية تتوالد بعضها من بعض وتقترح إجابات مختلفة في كل تجربة فنية أو أدبية.
حدثنا عن جدوى تلك الرحلة الأثيرة التي تخطت العقدين من الزمان، كيف ترى صدى رحلتي السفر والكتابة، وكيف ترى الحصاد؟
القراءة هي بالتأكيد الرحلة الأهم في التجربة، أنا قارئ أولًا وأخيرًا، والقراءة تطرح أسئلة، ومع ذلك فلست أظنني قارئًا مثاليًّا. أقرأ بوعي ولكن في حدود ظروف صعبة. العمل والأسرة والالتزامات التي تجعل الحياة فعلًا شديدة الصعوبة. ثم تأتي استجابتي للأسئلة التي تتولد من القراءة في الكتابة، ولكن يمكنني ان أضم إليها تجاربي في مراقبة البشر وتأمل الاختلافات بين البشر أيضًا بسبب حياتي خارج مصر، وأسفاري التي كتبت عنها كتابين في أدب الرحلة، وأفدت منها في النصوص الأدبية. أظن الرحلة لا تزال تطرح أسئلة، ولا يمكنني أن أدقق الآن ماذا حصدت منها بعد. الالتزام بمشروعات أدبية أو فكرية تكشف كم هي قصيرة حياتنا أمام أحلامنا وأسئلتنا ووعينا.
عن الجدوى والخلاص وتحديدًا في مساراتك الوجودية والفكرية، كيف ترى الخلاص الوجودي وماهيته.. هل ينتهى حلم الفنان الكاتب، بالخلاص، مع الانتهاء من كتابة نصه؟
لا أعتقد. بالعكس. كما قلت لك أفضل النهايات المفتوحة في أعمالي وأعمال غيري لأنني أرى صدقًا أكبر في أن كل سؤال وجودي يفتح أسئلة جديدة وكل إجابة مجرد محاولة وحيدة قد توازيها إجابات أخرى. بالعكس ربما تكون محاولة إيجاد وسيلة لإجابة سؤال في عمل روائي عن الهوية مثلًا مفتاحًا لإعادة طرح السؤال مرة أخرى بشكل مختلف في عمل آخر وهكذا. بعض الأسئلة تكون ملحة وتحتاج لمحاولات إجابة عديدة.
الكثير من الروايات، لنقل عشرة أعمال ويزيد ونصوص قصصية قصيرة في طور الرحلة، لماذا انت مقل في عالم القصة؟
مشكلة القصة كما أخبرتك أنها تبدو مثل القصيدة، أو على الأقل هكذا تعاملت معها أنا لسنوات. أنتظرها ولا أسعى إليها. لكن مع ذلك خلال تجربة حارسة الحكايات تبينت أنني من الممكن أن أسعى إليها وأنتظرها في الوقت نفسه. كأنها محاولة لخلق حالة شعورية تناسب فكرة كتابة القصة من جهة ولكن مع الإلحاح ومحاولة تخليق الفكرة وليس مجرد انتظارها.
أكثر من عشرين عامًا بالكويت، فكيف ترى هذا البلد، روائيًّا وثقافيًّا، وإنسانيًّا وبمن تعلقت من الكتاب؟
كما كل خبرة أخرى في السفر تتعرف على ثقافة مختلفة وسلوكيات وبشر ومحن ومعادن. لكن أيضًا تظل فكرة الكتابة عن مجتمع مختلف مؤجلة حتى تستنفد رؤيتك له. لكن مؤكد أنني أعيش بين أصدقاء وأهل من هذا المجتمع أضافوا لي الكثير. وربما أكتب عن ذلك يومًا ما.
تُرجم لك الكثير من النصوص والروايات للغات متعددة، كيف ترى علاقة ترجمة النصوص العربية، ودورها في جدية ومتون وخارطة الأدب العربي؟
الترجمة وخصوصًا ترجمة الأدب العربي للغرب إشكالية. فلا يوجد قراء حقيقيون لهذا الأدب بسبب شيوع كلاشيهات ذائعة عن مجتمعاتنا باعتبارها مجتمعات لا تفرخ إلا الإرهاب والقتل والتخلف. وبالتالي فكرة وجود كتاب في مثل هكذا مجتمعات ليست فكرة مستساغة أساسًا، ولو تمت قراءة أدب عربي فسيكون من قبيل فضول اجتماعي وليس من منطق الذائقة الأدبية. المشكلة أن أغلب ما يترجم يتم بمبادرات من مترجمين أفراد يبحثون عن نصوص يمكن أن تُقبل غربيًّا لأنها ترسخ الكلاشيهات الغربية وليس العكس. وحينما أعلنت ذلك ودخلت في مواجهات مع مترجمين اعتبروني عدوًّا وقالوا: سنترجم ما يحلو لنا. ويبدو أن هناك جبهة من المترجمين المعاصرين للأدب العربي لا يردون حتى عليَّ إذا راسلت أحدًا منهم! لهذا أكرر أننا في حاجة لتوسيع رقعة مقروءيتنا العربية أولًا وأساسًا. لا معنى لأن تقرأنا ثقافة أخرى إن لم نكن قد قرأنا وبشكل جيد في ثقافتنا أولًا.
أخيرًا، حدثنا عن رؤيتك، للمشهد، النقدي، الأدبي، التنظيري والأكاديمي من خلال، وانطلاقًا من التفاعل والاشتباك مع أعمالك الأدبية؟
بشكل شخصي أنا محظوظ بالمتابعة النقدية لأعمالي. يكتب عنها الكثير من النقاد ربما بسبب ما تطرحه الأعمال من قضايا أحاول أن أوجد علاقة بينها وبين الشكل السردي. لكن في الحقيقة لدينا أزمة عامة في الوقت الراهن في النقد عمومًا. كانت الدراسات الأكاديمية التي تقترح وتمر في المجال الأكاديمي سابقًا أي في زمن طه حسين وتلامذته تهتز لها الأوساط الأدبية كلها. أما اليوم فمن المؤسف أن تجد بعض الأسماء العربية المعروفة نقديًّا تتمحك في ظواهر أفرزتها وسائل التواصل وتروج لها مثلًا. بدلًا من الالتفات إلى مشروعات نقدية مطلوبة لتواكب الخارطة السردية الأدبية الراهنة.