حوارات

تامر وجيه و نهى مصطفى

حوار مع صُنع الله إبراهيم

2024.04.05

تصوير آخرون

 عن الكتابة والسياسة وأشياء أخرى

 

"إن تلك الرائحة ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورة فنان على نفسه، وهي ليست نهاية، ولكنها بداية أصيلة لموهبة أصيلة"

هكذا صدر يوسف إدريس، عميد القصة القصيرة المصرية، رواية (أو بالأدق نوفيللا) تلك الرائحة، وهي أول ما نشر صنع الله إبراهيم في 1967 بعد خروجه من سجن الواحات.

عن "الثورة" التي أحدثها صنع الله إبراهيم في فن الرواية، وعن أشياء أخرى، تحدثنا معه، من الفن إلى السياسة، إلى الرواية..

عمَّن يكتب صنع الله؟ ولماذا أصبحت كتابته ثورة؟ عندما سألناه: "هل أنت تكتب رواية الطبقة الوسطى كنجيب محفوظ؟"

كانت إجابته: "هناك فكرة تدور في عقلي منذ فترة؛ أن معظم الأدب والكتابة والكُتاب كلها نتاج الطبقة الوسطى، هم الذين يتحركون صعودًا وهبوطًا، ويذهبون إلى كل الأماكن، وهم الذين يدخلون السجن، ويهربون".

إذن فصنع الله أديب للطبقة الوسطى، لكنه يختلف أشد الاختلاف عن غيره، ليس فقط من حيث الشكل -الجمل القصيرة الحادة، المرارة التي تغلف النص، الجرأة- بل من حيث المضمون، فلما داعبناه بأنه يكتب رواية الرجل الصغير (The little man)؟

قال: "لا أعرف في الحقيقة، هذه مسألة يمكن أن يتولاها النقد، لكن من الممكن أن نقول ذلك: أغلب الكتاب يكتبون رواية الرجل الصغير". ثم يستدرك ضاحكًا: "فيما عدا ثروت أباظة طبعًا".

وأضاف: "المسألة أن كل كاتب يمكن أن يمثل الرجل الصغير –المطحون، المفعول به، الذي تقمعه السلطة والسوق- لكن تمثيل هذا الرجل قد يأخذ أشكالًا، أو زوايا مختلفة، على حسب رؤية الكاتب".

إذا دققنا النظر فسنجد أن صنع الله كاتب سياسي، فكل رواية من رواياته تحمل قصة سياسية بطريقة أو بأخرى، ربما كان هذا بسبب الدخول المبكر للشاب صنع الله منظمة شيوعية اسمها: "حدتو". وربما بسبب أنه يرى نفسه حتى الآن شيوعيًّا صريحًا، بل حتى عضوًا في "حدتو" إن كانت موجودة حتى الآن!

يحكي صنع الله ملابسات دخوله "حدتو" فيقول: "في سنة 1954 كنت في أول سنة في الجامعة، وكنت مهووسًا بأحمد حسين، مؤسس "حزب مصر الفتاة"، وكان عنده جريدة اسمها: الاشتراكية، كانت جريدة قوية جدًّا، كان أهم أهدافه هو تحريك الجماهير ضد النظام. يمكننا اعتبار حركته فاشيَّة، خاصة في بدايتها، وكذلك بسبب تأثره بهتلر، لكن أغلب الناس في ذلك الوقت كانت متأثرة بهتلر، يمجدونه لأنه عدو إنجلترا، كنت أرغب في أن أنضم للحزب الاشتراكي، ولكن لم يكن لديه تنظيم، فذهبت لهم في مبنى خاص بهم في الجيزة، فوجدت عادل حسين هناك يلعب تنس طاولة (بينج بونج) كي يكون قريبًا من الجماهير (ساخرًا)، وبدأتُ مناقشات معهم، ثم ذهبت إلى كليتى، كلية الحقوق، وقمت بعمل جريدة حائط باسم: "الحزب الاشتراكي" دون علمهم. كانت المناقشات تدور بين الاشتراكيين وبين "حدتو"، ومنهم من يتهمك بأنك (مُخَوَّخ) لا تفقه شيئًا! وانتهى هذا الصراع القصير بأن انضممت لحركة "حدتو"، حيث جندني أحد الزملاء السودانيين".

ويضيف صنع الله ضاحكًا: "حتى تلك اللحظة كان في جيب بنطلوني الخلفي أحجبة صنعها لي والدي لتحميني من الأشرار، ولم أتخلص من هذه الأحجبة إلا بعد فترة من الوقت، كنت أذهب الاجتماعات الحزبية لـ"حدتو" ترافقني الأحجبة (ضاحكًا)".

ثم يلخص صنع الله درس العمل السياسي الذي تعلمه من "حدتو" في كلمة واحدة: "الجماهير.. أهم حاجة أن تكون مع الناس، هذه أهم حاجة. هذا أولًا، وأي شيء آخر غير مهم، أي شخص تسير وراءه الجماهير فهو قائد. و"حدتو" كانت من هذا النوع؛ لأنها حركة مفتوحة لهذا النوع من الناس. أعضاء "حدتو" كان لديهم طريقة ناجحة في تصيد الشخصيات القائدة بين العمال والطلبة".

لكن صنع الله يؤكد أن قراره بأن يكون كاتبًا، لم يَعنِ أبدًا التوقف عن السياسة: "قررت أن أكون كاتبًا، ولكن في إطار تنظيم "حدتو"".

ثم يضيف: "التعارض جاء بعد ذلك، كان خيارًا نظريًّا، بين الانتماء لتنظيم سياسي، أو الانتماء لعملية الكتابة، شيئان متضادان، وهذا حدث في السجن، لقد أثار الشاعر الروسي يفتوشينكو هذه المسألة، وهي كانت حركة قوية في الاتحاد السوفييتي، حول الأفضليات والمعايير".

لا يعرف صنع الله إن كانت روايته "تلك الرائحة" افتتاحًا لعهد جديد في كتابة الرواية إذ يقول: "ولا تصورت حدوث ذلك".

لكن ما يعرفه بالتأكيد هو: "أن كل رواياتي فيها جزء من سيرتي الذاتية، خاصة فيما يتعلق بالجنس وهذه الأشياء بالتأكيد، وبالتأكيد هذا مرتبط بالشكل حيث أكون مستريحًا وأنا أكتب بصيغة الأنا، جربت أن أكتب بصيغة الغائب (هو) فلم تعجبني الكتابة".

ثم انتقلنا إلى السياسة فسألناه: "كتاباتك تشي بكراهيةٍ للانفتاح والرأسمالية، فهل هذا صحيح؟".

"الأزمة هي أن الشكل الذي نجح حتى الآن هو الشكل الرأسمالي، والأزمة كذلك هي في محاولة تعديل هذا الشكل أو التخلص منه".

أغلبية كتابات صنع الله تدور حول انسحاق الإنسان تحت هوس الاستهلاك الرأسمالي، كوكا كولا هي دائمًا العدو، وهذا كان نقدًا للانفتاح الساداتي سيئ السمعة. لكن ماذا عن عبد الناصر؟ يقول صنع الله: "عبد الناصر ابن ظروفه، زعيم مستبد، يحب أن يكون على رأس الأشياء، ودخل معركة تاريخية مع الاستعمار أنهت عصرًا وبدأت عصرًا جديدًا، وفي نفس الوقت قطع الطريق على الحركة الشيوعية. كنا نسأل نفسنا عندما خرجنا: ماذا نريد؟ كل ما كنا نريده هو حققه، وهناك أشياء عمرنا ما فكرنا فيها أو تطلعنا إليها، مثل: تأميم بنك مصر، فلم يخطر على بال أي منا، فالمسألة كانت في حدود الحركة الوطنية والتحرر الوطني. كان عبد الناصر معتدًّا بنفسه جدًّا، ليتكم تقرؤون آخر كتبي 1970".

ثم عرَّج صنع الله على الحديث عن شكل الكتابة، فسألناه: "لماذا قلت: إنك لفترة طويلة ظل اهتمامك بصحة اللغة العربية ضعيفًا؟" فقال: "نعم صحيح، وهذا بسبب المنفلوطية، المنفلوطي ككاتب لا يشجع على احترام اللغة، بل على العكس، هو يخلق رغبة في التمرد عليها؛ كما أن الكتابة الصحفية لفترة طويلة ولسنوات لم تعترف بالنقطة، تكتب جملة وبعدها نقطتان جنب بعضهما، وكل هذا بسبب المنفلوطي، ولكننا تحررنا حاليًّا من هذه المسألة".

وعن تأثره بكتاب آخرين، قال: "عملية التأثر عملية مشروعة وواردة، فعند الترجمة فأنت تعيش عدة أشهر مع عمل أدبي، وتتأثر به في طريقة التعبير وإيقاع الجملة. ويمكن أن تكون معجبًا بكاتب معين، فأنا كنت أعشق الكاتب البلجيكي جورج سيمنون وتحت تأثيره كتبت قصة. أعتبر أن هذا مسألة عادية جدًّا، والخطر عندما يكون هذا طريقك في الحياة أو الكتابة: أنك تقلد، ولكن لو كنت متأثرًا بعدد من الكُتَّاب على فترات مختلفة فهذا أمر طبيعي، وهم أيضًا تأثروا بكُتَّاب آخرين. ورواية "الحمار" –التي ترجمتها- واقعية وحقيقية وليس بها أي مبالغة أو اصطناع، فيها جميع عناصر الكتابة الواقعية؛ ولذا فالتأثير والتأثر شيء طبيعي في العمل الأدبي".

 ثم يعطف على ذلك قائلًا: "كل رواياتي بها جزء مني، لكن رواية "ذات" ربما تكون الأكثر قراءة، أو الأقرب لي".

وعن تجربته مع السينما، وهي شيء لا يعلم الكثيرون عنه شيئًا، يقول صنع الله: "السينما كانت حلم كل الشباب في العالم كله في ذلك الوقت، كان هناك سينما الحقيقة، وكنا متأثرين بالمخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني، كان الجو العام كله هكذا. كنت وقتها أعمل في ألمانيا الديمقراطية، كنت أعاني من الملل والزهق، ولا أرغب في الاستمرار في هذا البلد، فكرت أين أذهب؟ ليس لدي مكان آخر، فكرت في دراسة السينما في الاتحاد السوفييتي، كان سهلًا أن أحصل على منحة بوساطة حزب التجمع، رفعت السعيد هو الذي ساعدني في الحصول على هذه المنحة. بالإضافة إلى أنه كانت لدي رغبة قديمة، وهي رؤية وطن الاشتراكية العظيم. وأعتبر أنني كنت محظوظًا في الذهاب لموسكو، أتذكر أنني قلت لبهيج نصار، المراسل الصحفي وقتها، وأنا في موسكو: لو حدثت انتخابات حقيقية في هذا البلد فالحزب الشيوعي سيأخذ صفرًا؛ لأنه كان مثل الاتحاد الاشتراكي عندنا بالضبط، مجموعة من الانتهازيين والوسائط والأصحاب والقرايب، لا يوجد ما كنا نتخيله عن حزب يكافح من أجل شكل اجتماعي مختلف. وقلت له: لو أن هناك ظروفًا لانتخابات حقيقية فسيسقط هذا النظام بسهولة؛ لأنه كان قائمًا على العنف والقمع. أنت تعلم ما خلقه الاتحاد الاشتراكي، الخوف والوساطة. الطريقة التي يقوم عليها المجتمع هي الخوف والقمع". 

وهنا، يتلفت صنع الله ليحكي قصة تمثِّل هول القمع: "هناك حجرة في محطة المترو؛ حيث يأخذون النشال، ويأتون بشهود من الشارع، كنت مرة شاهدًا، ماشي في حالي، فجأة اتمسكت بعنف، ثم جروني بطول المحطة حتى هذه الغرفة بدون أن يقولوا لي ما هي أسباب الإمساك بي. أبسط حاجة يعني. العنف قصة طويلة في الاتحاد السوفييتي".

ثم يتأمل صنع الله في حال الإنسانية، فحين سألناه مباشرة: كيف تتحرر الإنسانية؟

أجاب: "لا أعرف، أظل أفكر وأصل لهذه النقطة، أنني لا أعرف بالتحديد ما يجب أن يحدث، تظل هناك الحتمية التاريخية التي ينادي بها الشيوعيون، لكن لا توجد حتمية لأي شيء، فيمكن في هذه اللحظة أن يأتي نيزك ليصطدم بالكرة الأرضية وننتهي كلنا، فماذا سنفعل وقتها؟ نستسلم لأقدارنا". 

"أما الماركسية فقد فشلت بسبب اليسار، اليسارية أو التعنت اليساري أو مظهر اليسارية للوضع وللسياسة والمطلوب وكل هذا، النظرة اليسارية هي السبب في الفشل".

ولما داعبناه قائلين: "ولكن هناك أمل"، أجاب ضاحكًا: "أنتم أحرار طبعًا".. ثم استدرك جادًّا: "لازم يكون في أمل، وإلا فلن يكون هناك معنًى لكفاحنا ووجودنا ولا كل هذا الوجود، المبرر الوحيد له أن يكون في أمل، هناك أمل طبعًا، ولو أني أشك (ضاحكًا)".

أما عن الإسلاميين، فقد قال: "يزدهر التيار الإسلامي لأنه تيار جديد، والشعوب تهتم بكل ما هو جديد، خاصة لأنه يمس التقاليد الدينية القديمة".

ويعطف على ذلك قائلًا: "هناك منظمات تعطي أملًا، خذ عندك مثلًا منظمة مثل: "أطباء بلا حدود"، هذه وغيرها كلها تدور حول الأمل في أن يكون هناك شكل مختلف للعلاقات الاجتماعية، ولكن الاحتكارات استطاعت أن تدخل وأنهت هذه المنظمة، فلو أنها فشلت هذه المرة فربما تنجح في المرة القادمة".

وعندما سألناه: هل هناك مشاريع كتابة حالية؟

"نعم بالطبع، لكن الأمر أصبح صعبًا، وعملية الكتابة أصبحت صعبة، وأسأل نفسي: هل هو مصباح يتوهج ثم ينطفئ في وقت من الأوقات؟ لا أرى لدي دافعًا للكتابة حاليًّا، أكتب بصعوبة، على العكس من قبل ذلك، ولا أحب أن أحكي عن أي مشاريع للكتابة أقوم بها.

يعترف صنع الله بصحة عبارة جيل الستينيات قائلًا: "نعم، هناك جيل الستينيات، هناك ملامح متنوعة تميز هذه الفترة من باريس ونانت وحتى كوبا ومصر وعملية تأميم بنك مصر وغيرها، هذه الفترة مليئة بالأحداث، وفتحت آفاقًا جديدة لم يكن يتصورها أحد أو يجرؤ على أن يفكر فيها. ويمكن أن تقول: إن الكُتَّاب الذين عاشوا في الستينيات، بدرجات مختلفة، فكروا بطريقة واحدة، ولديهم طريقة مشتركة".

وعن الجوائز، وعن رفضه لجائزة الرواية العربية عام 2003، وعن إمكانية قَبوله لجائزة ساويرس يقول: "لا أعتقد أن ساويرس سيمنحني جائزة (ضاحكًا)، ساويرس اسم مرتبط بالمرحلة الرأسمالية، ولن أقبل جائزة من ساويرس، ويستحسن أن يكون هناك بديل لجوائز ساويرس؛ لأن الكاتب عادة ما يعاني الفقر والجائزة المالية مهمة".

بهذه المناسبة سألنا صنع الله عن وضع الجوائز عامة: "أصبحت الرأسمالية الرجعية في مصر ودول الخليج هي التي تحدد أهمية الكاتب، وهذا شيء مؤلم؟ لماذا لم تفكر في أن تقود عملية لتأسيس جائزة "صنع للأعمال الأدبية"؛ فهذه ستكون طريقة لمقاومة الرأسمالية بالأفعال؟"

كانت الإجابة: "أنا لست قائدًا، وليس لديَّ صفات القائد الذي يؤثر في الناس ويجعلهم يسيرون وراءه، وليس أي شخص يمكن أن يفعل ذلك".

عن السفر، وتأثير السفر في كتاباته، يقول صنع الله: "ليس دائمًا، في لبنان كتبت 1968، وأنا في برلين لم أكتب شيئًا، بل أردت مغادرة هذا البلد، في موسكو جلست في حجرتي، كان لدي آلة كاتبة، لا أذهب للمعهد حتى انتهيت من "نجمة أغسطس"، عندما عدت إلى مصر، والحقيقة أنني لم أستقر أبدًا في أي بلد حتى في مصر، اشتغلت على مشروع كتابة عن الحيوانات والحشرات عالم روائي من حقائق حياتهم، ثم ترجمت رواية "الحمار"؛ لأني أحسست أنني متجاوب مع الكاتب وموضوع الرواية. ثم سافرت فرنسا لعدة شهور وأثَّرت في كتاباتي، حيث كتبت رواية اسمها: "القانون الفرنسي" عن فرنسا. الفرنساويون من أكبر النصابين في العالم، يلعبون بالبيضة والحجر، البيضة هي الحرية والإخاء والمساواة والكلام المرعب ده، وفي نفس الوقت عمليًّا لا يوجد هذا".

ثم أنهى صنع الله حواره معنا بالإجابة عن سؤال: "هل تعتبر نفسك حتى اليوم اشتراكيًّا؟" إجابة قاطعة: "أنا شيوعي، وسأظل شيوعيًّا".