فنون

حسين عبد الرحيم

حوار مع الكاتب والروائي حمدي الجزار

2024.03.22

مصدر الصورة : الجزيرة

الكتابة حياة فيها كل ما يشبعني ويهبني الفرح والسعادة

عن روايته "العروس" والتي نُشرت منذ عدة أسابيع بدار ديوان للنشر والتوزيع، يقدم الكاتب حمدي الجزار رؤية جديدة للقاهرة بمبانيها وناسها، والصراعات المادية والأخلاقية التي تؤثر بالسلب والخزي على الحالمين بالعدل والمساواة والعيش السَّوي. 

"العروس" هي العمل الرابع في مسيرة الكاتب حمدي الجزار، الذي تخرَّج - في آداب القاهرة قسم الفلسفة. وقد قدَّم من قبل أعماله: "سحر أسود" "لذات سرية" و"الحريم" وكلها روايات، بالإضافة لكتاب "السطور الأربعة" وهو الحاصل على جائزة ساويرس للأدب عام 2006 - وجائزة بيروت 39 – 2015، وأفضل رواية في معرض القاهرة للكتاب عام 2019. 

التقت "المرايا" بالكاتب حمدي الجزار، وكان هذا الحوار.

سألته بداية: 

-حدثنا عن روايتك "العروس"، وتلك الشخصيات التي يتعدد تأويلها مثال: فتحي أبو درقة/ الحاج مرزوق عشم الله تحديدًا، حدثنا عن دوافع هذا البناء الأسطوري متعدد التأويلات.

 نعم "العروس" رواية أثيرة لدي؛ لأنها التي انتهيت منها مؤخرًا. لم أعد أذكر الآن جيدًا كيف بدأت هذه الرواية، وإن كنت قد حددت لها شكلًا أو بناء محددًا قبل الشروع في كتابتها، لم أبدأ من فتحي أبو درقة، أو الحاج مرزوق عشم الله، بل بدأت بشخص يُدعى خالد عبد الباري، وامرأة اسمها سامية بشندي، وظللت معهما سنوات، وواصلت تجوالي المعتاد في منطقة السيدة زينب حيث وُلِدا وعاشا معظم سنوات عمرهما، واكتشفت بعض الشوارع والشياخات الجديدة التي ظهرت في الرواية، ومع التقدم في الكتابة وجدت الشخصيات الأخرى، ومن بينها "أبو درقة" و"مرزوق عشم الله"، ووجدت الأحداث، واندفعت الرواية للأمام. 

 أما البناء فقد حكمه الزمن المحدود بـ16 ساعة فقط، تبدأ من الثانية عشرة ليلة رأس السنة، وتنتهي بعصر اليوم، ونهاية الرواية. وكان مبدأ البناء - إن صح هذا التعبير - هو "أن كل شيء مرتبط بكل شيء آخر". كل شخصية لها علاقات وثيقة وقوية بغيرها، وكذلك كل حدث. 

 ربما تكون "العروس" ككلٍّ متعددةَ التأويلات، لكنها ليست أسطورية إن عَنينا بالأسطورية "اللاعقلانية أو الخرافة"، وربما تشير الشخصيات كلها، وليس مرزوق عشم الله، وأبو درقة وحدهما، إلى دلالات ومعانٍ أبعد منها، لكنها شخصيات مغروسة في واقعيتها؛ أي ثمة قصة يمكن أن تكون قد وقعت بالفعل، أو يمكن أن تقع في المستقبل في حياتنا اليومية هذه.

 شيء آخر مهم يخص "العروس"، إنها الرواية الأولى التي أكتبها بضمير الغائب! 

في رواياتي الثلاث السابقة: "سحر أسود" و"لذات سرية" و"الحريم" كان السرد على لسان الشخصية الرئيسة، بضمير المتكلم. ولأجل هذه النقلة التي لا مفر منها لتصوير عالم "العروس" درست طويلًا طبيعة وإمكانيات وخصائص ضمير الغائب السردية، حتى أطمئن إلى إمكانياته الفنية، وصلاحيته لسرد "العروس" كما أريد. 

- وهل ثمة دوافع شخصانية أو وجودية / فكرية/ واقعية، أو حتى معيشية لطرحك الروائي في تلك الرواية المحمَّلة بالدلالات؟

 الدافع الأوَّلي للكتابة لدي هو فن الرواية نفسه، عشقه ومحبته، وممارسته كل يوم، والحياة معه وبه، ومحاولة دائمة لكتابة ما يستحق القراءة، وإثرائه بما أراه جميلًا، ويمكن أن يعيش، ويستمتع به القراء، ويُحفَظ في ذاكرة الأدب وتاريخه. أما دوافعي لكتابة رواية "العروس" تحديدًا، إضافة إلى تلك الدوافع الأولية السابقة، فتجسدت في استكشاف القيمة السردية والفنية لـ"ضمير الغائب"، أو ما نصطلح على تسميته بـ"الراوي العليم"، الذي لم أكتب به من قبل رواياتي الثلاث السابقة: "سحر أسود"، و"لذات سرية"، و"الحريم". كانت الكتابة بهذا الضمير أمرًا أشبه بالانتقال إلى بيت جديد مع عروس جديدة، هو حب جديد استوى على نار هادئة، واستلزم تجهيزًا وإعدادًا، وبناء حياة جديدة؛ أي: رواية جديدة، مختلفة عن كل ما كتبت من قبل.

-في "العروس" هناك الكثير من الرؤى الفلسفية التي تخص مفهوم الجمال وتخليد الفن وتحديدًا شخصية "مطر" النحات، هل هناك ثمة قصدية تبلور بها رؤيتك السردية تؤكد أن الخلود للفن وليس للمال ولا المكانة الاجتماعية؟

 بعد تأمل طويل استغرق سنوات أستطيع أن أقول: إن قناعتي الأساسية الآن هي أن الفن لا يفعل شيئًا سوى تخليد العابر، كل قصة تخص إنسانًا في زمان ومكان محددين هي بطبيعتها عابرة، تبدأ وتستمر زمنًا وتتلاشى وتفنى، هذه القصة مهما كانت شخصياتها وتفاصيلها وقوة تأثيرها ستعبر بالتأكيد وتموت، ما يصنعه الفن بهذه القصة هو أنه يبقيها، يثبتها، يمحو صيرورتها، يهبها أضعاف أضعاف عمرها، ويهبها الخلود. مثلًا: أشعار الحب التي كُتبت في مصر القديمة قبل خمسة آلاف سنة، ما زالت حية، جميلة القراءة وممتعة. هذا بالضبط ما يفعله كل فن بمادته. طبعًا، الفن يسعى للخلود بطبيعته، أما المال فيزيد وينقص، والمكانة الاجتماعية عابرة بطبيعتها ومتغيرة، وتذهب مع صاحبها. 

_ في روايتك "العروس"، ثمة عناصر في التقنية/ البنية السردية/ المجازات، تؤكد تصنيف الرواية في البحث عن مصائر البشر قبل الوطن في حياة المصريين، فما هو تفسيرك؟

بشكل ما، يمكنك أن تصف رواية "العروس" بأنها رواية "تتبُّع مصائر" إذا كنت تقصد أنها توحي بمآل شخصياتها، ولم تغفل عرض ما انتهوا إليه في نهايتها، لكن دائمًا يمكن النظر إلى أبعد من هذا. 

_ في "العروس" هناك تلك العلاقة الروحية/ الحسية التي تربط بخفة وثقل بين الموسيقية نانيس القبطية والفنان/المثال مطر، هل هناك ثمة استكمال أو تماس ما في الرؤية المجتمعية والنفسية/الوجودية لعوالم نجيب محفوظ الروائية؟ ليتك تشرح لنا موقفك من تلك التفسيرات وتعدد الرؤى في "العروس".

 العلاقة بين المَثَّال "مطر" والعازفة وأستاذة الموسيقى "نانيس القبطية" علاقة حب من نوع خاص، علاقة طبيعية من جهة أن كلًّا منهما فنان مبدع، وصعبة من جهة أخرى لاختلاف الدين، وفي مجتمع الرواية الذي يصارع فيه أسعد لطيف للزواج من نانيس، ووالدة مطر التي تريد الاستحواذ على ابنها لنفسها فقط تصبح العلاقة أكثر تعقيدًا. وأظن أن الشخصيتين أصيلتان لا تتماسان مع عوالم الأستاذ نجيب محفوظ على حد علمي.

_ يستشعر القارئ في روايتك الرابعة "العروس" حسرة الراوي بتبدد القاهرة الكوزموبوليتانية تحت وطأة الهدم والبناء وترحال أبطال العمل الروائي؟

 ربما يكون ذلك صحيحًا، لكن الملمح الأهم في نظري هو تراجع مشروع الحداثة، والعقلانية، والعلم، وقيم المواطنة، واختلاط الحابل بالنابل في القاهرة الموصوفة في الرواية.

-بدأت الكتابة منذ عقدين من الزمان، ولك من الأعمال أربعة: "سحر أسود"، و"لذات سرية"، و"الحريم"، و"السطور الأربعة"، وروايتك الأخيرة "العروس" حدِّثْنا إذًا عن المشهد النقدي المصري والعربي من خلال التعامل أو الاشتباك مع نصوصك؟

 منذ صدرت روايتي الأولى "سحر أسود" عام 2005 وحتى اليوم، كتب عن أعمالي عدد وافر من كبار النقاد وشبابهم، وتابع تجربتي كثيرون، أذكر منهم: الدكتور صلاح فضل، وشاكر عبد الحميد، ومحمد برادة، ويسري عبد الله، وغيضان السيد علي، وأحمد الصغير، وشوقي عبد الحميد. ومن المبدعين: محمود الورداني، وجمال القصاص، والراحل محمود قرني، وغيرهم ممَّن لا يتسع المكان لذكرهم. أنا ممتن وشاكر لنقادنا والحركة النقدية التي تناولت أعمالي بالبحث والدراسة.

_ في ظل الحروب وعبر الجغرافيا والتاريخ والديانات والهوية، كيف يرى الروائي /المبدع حمدي الجزار مستقبل الأدب/ الفن/ الفكر؟

 أرى أن حاجة الناس للأدب والفن تزداد في ظل الحروب والأزمات الكبرى، وغالبًا ما تؤدي الحروب الكبرى إلى حركات وتيارات جديدة، فالعلاقة وثيقة بين الإبداع وحياة البشر ـ ووضع العالم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الفن ليس نشاطًا مستقلًّا عن حياتنا. 

-ليتك تحدثنا عن جدوى الكتابة والبوح، هل هي محاولات للخلاص الوجودي أم هي "سلوى"؟ ماذا تمثل لك إذًا؟

الكتابة ليست محاولة للخلاص، إنها حياة قائمة بذاتها، وليس لها من غرض خارجها، ليست وسيلة لشيء أبعد منها، وإن كان لها نتائج خارجها، الكتابة بالنسبة لي حياة فيها كل ما يشبعني ويهبني الفرح والسعادة.

-وهل ينتهي حلم الكاتب بالخلاص مع انتهائه من كتابة نصه؟

 هناك نشوة في الكتابة تشبه اللقاء الغرامي بامرأة تعشقها، هناك هذه المتعة التي تتجاوز الحواس إلى النشوة الفكرية والروحية، إنها في كتابة الرواية بالطبع، لكن الفريد فيها أنها مرتبطة بالصبر المديد، والمعاندة والممانعة حتى يحدث الاستسلام التام، والتدفق، فيبدأ الجيشان والوصال التام! 

 عند لحظة النهاية من كتابة نص ينتابني فرح غامر، ولا أشعر بأنني قد تخلصت من ثقل فقط أشعر بخفة رائقة، وكمال ما.

الكتابة لا تهب الخلاص؛ لأننا نعود إليها دائمًا من جديد، الكتابة حياة فاتنة.

_ عن خارطة وتعدد الجوائز الأدبية في مصر وعالمنا العربي، كيف ترى علاقة الكتابة بالجوائز وأنت الحاصل من قبل على أكثر من جائزة؟ ماذا تمثل الجوائز للكاتب/ والحقل الأدبي الثقافي؟

 الجوائز الأدبية أنشطة ثقافية وترويجية مهمة للأدب، ومهمة للفت نظر القارئ إلى عمل بعينه، وهذا جيد ونحتاجه في عالمنا العربي الذي يخطو نحو إقبال أكبر على القراءة والثقافة، لكن الجوائز لا تصنع كاتبًا، فالكاتب يصنعه عمله، وأقصى ما يمكن أن تقوله أعظم جائزة أدبية في العالم هو عبارة واحدة: "هذا عمل جيد". 

_ لماذا كان صدور روايتك "العروس" من دار ديوان؟ كيف كانت المبادرة ورؤيتك لعلاقة دور النشر الجديدة بالمشهد الإبداعي / والخارطة التسويقية؟

 تجربة رائعة جدًّا، وأنا شاكر وممتن للسيدة الناشرة ليال الرستم، التي درست الفلسفة مثلي، والأديب المبدع أحمد القرملاوي الذي كان أول قارئ لـ"العروس"، وأول من تحمس لنشرها بدار ديوان للنشر.

-أكثر من عشرين عامًا ويزيد من الكتابة، وستة عناوين أدبية، أهو اهتمام بالكيف على حساب الكم؟ حدثنا عن رؤيتك في هذا الإطار.

 أكتب منذ صباي، ونشرت قصتي الأولى وعمري عشرون عامًا، وكتبت ثلاث مسرحيات ولم أكن قد تخرجت في الجامعة بعد، لكن كتابي الأول صدر وأنا في الخامسة والثلاثين، ومنذ ذلك الوقت أداوم على الكتابة يوميًّا. 

وما أنشره ليس سوى ثلث ما أكتب على أقصى تقدير. يعنيني الكيف في المقام الأول، لا أنشر سوى ما أحب، وما لا أخجل منه، وما أرى أنه يمثل إضافة جمالية وفنية. 

 أكتب كل يوم، ولا يعنيني كثيرًا الفاصل الزمني الطويل أو القصير بين إصدار عمل وآخر، ما يعنيني حقًّا أن أرى أن العمل الذي انتهيت منه يستحق أن يُنشر ويُقرأ، يهمني الكيف والإضافة الفنية والجمالية.

_ أخيرًا، ليتك تحدثنا عن رؤيتك للدورة الأخيرة لفعاليات دورة معرض القاهرة الدولي للكتاب ، وتحديدا علاقة الكتاب بالقارئ ودور النشر، أو العناوين اللافتة التي تطابقت مع رؤاك الأدبية/ الفلسفية؟

 وفقًا للتقارير المنشورة حول دورة هذا العام فهي الدورة الأثرى من حيث عدد الناشرين والزوار والفاعليات، كما ذهبت جوائزه لأسماء ثرية العطاء، ودور نشر نشيطة ومؤثرة. 

 وشاركت بندوة حول رواية "العروس" بقاعة أدب وفكر، وكانت أمسية رائعة بحضور نخبة من النقاد والمهتمين، بإدارة رشيدة من الشاعر عيد عبد الحليم، ودراسة قيمة للناقد الدكتور غيضان السيد علي، وقراءة واعية للكاتبة حنان عقيل.