حوارات

شيماء ياسر

حوار مع المؤرخ الفلسطيني عبدالقادر ياسين

2024.04.12

مصدر الصورة : ويكيبديا

المقاومة هي الحل

مع كل اجتياح صهيوني لجزء من أرض فلسطين، يجتاحنا جميعًا إحساس بالعجز والتقصير. هذا بالضبط هو ما يحدث الآن؛ فالحرب جارية، والخسائر البشرية وغير البشرية فادحة، لكن الإحساس السائد وسط الشعوب العربية هو العجز عن فعل أي شيء.

يتخذ البعض موقف الهروب من متابعة الأحداث، خاصة في ظل الجهل بكثير من جوانب القضية سياسيًّا وتاريخيًّا، أما من يقرر المتابعة، فتواجهه الكثير من الأسئلة المسكوت عن الخوض فيها.

هَبَّات الغضب الشعبي والسياسي ترتفع فيها الأصوات الفارغة من المعنى، وتكون في أغلبية الأحيان ردات فعل على موجات غضب مكتومة، سببتها قضايا أخرى ليست وثيقة الصلة بالقضية الحالية. 

لذلك حملت أسئلتي التي أعتبرها، واعذروني في هذا، طفولية إلى حد ما؛ هذا لأنني أعتقد أن كثيرًا من المتابعين تدور في أذهانهم أسئلة شبيهة، وانطلقت إلى المؤرخ الفلسطيني عبد القادر ياسين، علَّ إجاباته تحل الألغاز الخافية عنا.

كان سؤالي الأول عن فكرة تصدير فلسطين كقضية مصرية، وما يحمله ذلك من فكرة أراها نفعية بالأساس، حيث لا يكون الدفاع عن فلسطين إلا لحماية مصر. 

أتاني الرد قاطعًا من ضيفنا قائلًا: "يقال دائمًا إن فلسطين قضية مصرية. ولم يقل أحد أبدًا إن فلسطين قضية عراقية، أو أردنية، أو شرق أوسطية، أو لبنانية. 

ذكر وزير الخارجية البريطاني لورد بالمريستون (1840) بعد أن نجح التحالف الاستعماري المقيت في إخراج حملة إبراهيم باشا المصرية (التي استمرت من 1832 إلى 1840) من بلاد الشام؛ أنه من الواجب التفتيش "عن طريقة نَحُول بها دون قيام دولة عربية قوية". كانت هذه أول إشارة إلى قيام دولة كإسرائيل، أما عن الدولة العربية القوية المطلوب الحيلولة دون قيامها فهي مصر التي قهرت المغول، وكنست الصليبيين من بلاد الشام. 

وهنا تتأكد فكرة أن فلسطين قضية مصرية؛ حيث إن فلسطين تولت دائمًا دور محطة الاستعداد والبدء بالاعتداء على الدول العربية، وضرب حركات التحرر فيها؛ حمايةً لمصالح الإمبريالية في الوطن العربي. فعبر فلسطين جاءت كل الغزوات على مصر باستثناء الفاطميين. وأنصح هنا بكتاب عبد العال الباقوري باسم: "فلسطين بوابة مصر الشرقية".

س: ولكن هل يكون الحل -ولو بشكل جزئي مؤقت- في التهجير لوقف حملة الإبادة الجماعية التي ينتهجها الكيان المحتل؟ ربما هذا سؤالَ راود الكثيرين من متابعي الأحداث، لكن ياسين يعرض لنا التاريخ السابق على هذا الاقتراح السياسي الذي يدور في أذهان البعض فيقول:

في يونيو 1953، وقَّع عبد الناصر مع وكالة غوث اللاجئين، وبترحيب أمريكي كبير، على مشروع التهجير إلى سيناء لتوطين اللاجئين وتشغيلهم. وكان الموقع المرصود آنذاك عند بور فؤاد، شمال غرب سيناء، بمساحة 50 ألف فدان، لكن ذلك الاتفاق قوبل في غزة، ومن جانب مختلف ألوان الوطنيين، بالرفض التام؛ فلقد تصدينا لهذا المشروع بصلابة، وكنا منقسمين بين حزبين: عصبة التحرر الوطني وهي القسم العربي من الشيوعيين، والإخوان.

لا يمكن لسيناء أن تحتوي فلسطينيِّي قطاع غزة إلى حين انتهاء الحرب؛ فالتهجير بهذا الشكل لا يعد إلا مشروعًا استعماريًّا يرمي إلى طي القضية الفلسطينية إلى الأبد في غياهب النسيان، علينا ألا ننسى أنه ما من حرب إلا ويقدم لها ثمن، وما من اجتياح بري إسرائيلي إلا ويقابل برد قوي من مقاتلي حماس خاصة، ومقاتلي الجهاد والجبهة الشعبية وغيرهم ممن لا ينتمي إلى أي فصيل لكنه يحمل سلاحه ويقاتل، ودائمًا يلجأ العدو في مثل هذه الحالات إلى السلاح الجبان، الطيران؛ لضرب المدنيين.

س: منذ أن تفتَّح وعيي على قضية فلسطين وأنا لا أسمع سوى وصف "الصف الإسلامي في المقاومة"؛ لذا فسؤالي هو عن تاريخ المقاومة وفكرة أسلمتها، وما يتجاوز ذلك إلى ما نادى به عبد القادر ياسين وغيره كثيرًا من ضرورة توحيد صف المقاومة.

يرد ياسين قائلًا: إن فلسطين على نحو خاص، تمر بمرحلة تحرر وطني، وعلى هذا، فكل من قال بتحرير فلسطين، أنا معه، كلنا نتقاطع إسلاميين وعروبيين ويساريين ووطنيين مطلقين عند تحرير فلسطين، أما بعد ذلك فليفعل من يشاء ما يشاء. 

ولا بد من ملاحظة أن جميع فصائل المقاومة قد تأسست في غزة: فتح وحماس والجهاد، خاصة وأن جزءًا كبيرًا من الجبهة الشعبية كان من غزة في الأساس، لكن الرأس حيث جورج حبش، رأس القوميين العرب، كان في بيروت، وقد خاض الحزب الشيوعي الفلسطيني في غزة الكفاح المسلح قبل غيره. 

أنا أحاسب على الموقف الوطني فحسب؛ فقد بدأ توجه حماس نحو الاتجاه الوطني منذ سنة 1988، وعلينا ملاحظة أنه منذ انخراط حماس في الحركة الوطنية في أول فبراير 1988 وهي تتطور سياسيًّا كما لم تتطور من قبل. الدليل على ذلك يتضح من مقارنة برنامج حماس الأول في أغسطس 1988 ببرنامجها الأخير منذ ثلاث سنوات؛ فشتان الفارق بين خطاب المنبرية والدروشة، والخطاب السياسي. والآن يظهر التحول في صفوف الإخوان المسلمين ضد الإمبريالية الأمريكية، وهو ما لم يكن موجودًا على الإطلاق قبل ذلك، وهذا مكسب للصف الوطني وللقضية الوطنية. من الغباء رفض ما تقدمه القوة الأكبر في صفوف المقاومة من مقاومة للعدو، فأنت غير مؤهل لهذا الرفض. 

س:على الجانب المضاد من فكر المقاومة، هناك في الداخل المحتل من أهل فلسطين ليس فقط من يؤيد وجود الكيان المحتل، بل ويتطوع في جيشه! لذا كان سؤالي التالي عنهم، وتحديدًا عن البدو العرب.

يقول ياسين: إن شيئًا من هذا القبيل يحدث في كل قطر، انتزع الكيان المحتل أراضي البدو العرب، وبمرور الوقت، كانوا مضطرين للتكيف مع الوضع الموجود والمفروض. أنا أفسر ولا أبرر. هم في الداخل المحتل، وفصائل المقاومة خارج هذه المساحة، فحماس والجهاد هم المتصدرون لمشهد المقاومة الآن، ولم يكن لهم وجود تنظيمي إلا بعد 1987 في سياق ما يسمى بالصحوة الإسلامية، قبل ذلك لم تكن هناك غير الجمعيات الوطنية كفتح، واليسارية كالجبهة الشعبية والجبهة الوطنية، وكانت هناك جماعات قومية كجبهة التحرير الوطنية والصاعقة، والجماعات الوطنية الديمقراطية كجبهة التحرير الفلسطينية وما شابه ذلك، ومعظم هذه الفصائل لم يعد لها وجود حقيقي وفاعل، بل هي مجرد تسميات وممثلين لوجود صوري بحت. 

س: ولكن في مواجهة ذلك، هل علينا أن نصدق دعاوى التعايش والسلام التي نراها من بعض الإسرائيليين في الداخل؟ 

ما من شك أن هناك نسبةً متضائلة من الإسرائيليين تقف مع مواقفنا الضعيفة حيال إسرائيل، لكن الضربة الأخيرة التي تلقتها إسرائيل في "طوفان الأقصى"، وما تلاها على الأرض في الاجتياحات البرية الإسرائيلية، كل ذلك خلق مناخ إعادة النظر من الإسرائيليين؛ حيث قيل إن ما يربو على النصف مليون إسرائيلي من ذوي الجنسيات المزدوجة، خرجوا من إسرائيل. 

لم تعد إسرائيل كيانًا جاذبًا، بل أصبحت دولة طاردة. ومن هنا -في رأيي- بداية النهاية لإسرائيل، ولكن هذا كله يلزمه عمل صحيح، وتكتيكات صائبة، وتحالفات سليمة فلسطينية وإقليمية وعربية، ويلزمه في ذات الوقت برنامج سياسي ووحدة وطنية فلسطينية حقيقية، وتفعيل للعمق الإستراتيجي العربي؛ حتى نخرج بالأنظمة العربية من حالة صمت القبور.

س: وماذا عن مساحة تواجد المقاومة في الداخل المحتل؟

هناك بعض بؤر المقاومة المسلحة، في الأغلب الأعم هناك مقاومة يقودها الشيوعيون في الداخل باسم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. ومن الاسم نفهم مطالبتهم بالمساواة كعرب. لكن تعريفي للسلام، هو ما تعلمته من أن السلام العادل هو ما يرد الحقوق لأصحابها.

س: نسمع عن خيار الدولة في مقابل نزع السلاح، هل يمكن لهذا أن يكون حلًّا يقبل به الطرف الفلسطيني؟

نحن في صراع صفري، إما نحن وإما هم، وما دون ذلك تلاهٍ، ليس أمامنا إلا أن نلتفت إلى قوتنا فنُراكِم ونزيد عليها، ونوجه الضربات تلو الضربات، بدون هذا، فكل شيء آخر أوهام في أوهام. 

س: يضعنا ذلك أمام السؤال عن خيارات التسوية وتكنيك المساومات، وعما إذا كانت عمليات تبادل الأسرى كارتًا يمكن الضغط به؟

لا علاقة بين تبادل الأسرى وخيارات التسوية؛ إسرائيل في رأيي لا تمتلك إلا خيارًا وحيدًا، وهو تصفية الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، فلا مجال للتسوية معها، ووزنك في ميزان القوى بين الفصائل هو ما يحدد حصتك في القرار. 

س: هل يمكن أن نسأل: ماذا لو لم يكن ما كان؟

 علمونا في السياسة أن "لو" لا تُستخدَم في التعامل مع التاريخ ولا في وضع خطط، هل يمكن أن أدين عبد الناصر فأقول إنه لولا أنه أمم قناة السويس، لم يكن ليحدث العدوان الثلاثي؟ هو نفس المنطق إذن. 

س: في ظل التاريخ الذي يسطر نفسه الآن، كان سؤالي عن القائمين على مهمة التأريخ لفلسطين؟

التأريخ لفلسطين تم من خلال 12 شخصًا؛ إسلاميين مثل: الدكتور محسن صالح، عروبيين مثل: ناجي علوش، وطنيين عموميين مثل: أكرم زعيتر ويوسف هيكل، ويساريين مثل: نبيل توما من عرب 48، وأنا. 

عن نفسي أنا أطبق المنهج المادي في التأريخ، والذي يعتمد على فكرة تأثير التطورات الاقتصادية على المجال الاجتماعي الطبقي، بما يرتد على المجال السياسي من تبعات وتأثيرات. وأول ما كُتب بالمنهج المادي العلمي عن فلسطين كان في 1946 على يد الكاتب المصري أحمد صادق سعد، بعنوان "فلسطين بين مخالب الاستعمار"، وكان من المقرر علينا قراءته نحن الشيوعيين سواء في عصبة التحرر أو الحزب الشيوعي.

س: هل نحن في حلقة مفرغة من سؤال التاريخ؟

التاريخ لا يعيد نفسه إلا مرتين، مرة على شكل مأساة، والأخرى على شكل مسخرة! هناك شروط للنصر، أولها: القضية العادلة، وثانيها: الحزب المحكم القوي، وثالثها: قيادة سياسية متمكنة، ورابعها: برنامج سياسي سليم، وخامسها: تكتيكات صائبة، وسادسها: تحالفات محلية وإقليمية ودولية صحيحة، وأضفت أنا عاملًا سابعًا وهو: الديمقراطية. وأفضل تعريف للديمقراطية هو ما قدمه الدكتور فؤاد مرسي قائلًا: إنها حرية التعبير وحرية التغيير. 

س: ماذا عن المستقبل والسيناريو المتوقع لنهاية الاحتلال؟

ما ستتمخض عنه معركة غزة الراهنة سيحدد ملامح المستقبل، وسيعيد تشكيل الساحة الفلسطينية على نحو أعتقد أنه سيكون لصالح القضية الوطنية، والخلاص لفلسطين لن يتم إلا بعمل جاد حقيقي، يمكن من خلال جيوش نظامية، لكن حرب العصابات لا تحرر، هي تضعف وتخلق ثغرات لكنها لا تحرر. 

س: وأخيرًا كان سؤالي لضيفنا الأستاذ عبد القادر ياسين عن سبل مواجهة حالة اليأس والعجز التي يعاني منها كل مهتم بما يدور على أرض فلسطين؟

لا بد من عدم الالتفات تمامًا إلى ذلك؛ فالمطلوب هو التركيز على نقاط قوتنا وإنمائها، وعلى نقاط ضعفنا وتقليصها. لا شك أن العمق الإستراتيجي العربي يحتل موقعًا بالغ الأهمية، رغم أنه حاليًّا رهن حالة صمت القبور. وهذه مسؤولية كل شعب عربي في قطره، وليست مسؤولية الفلسطينيين؛ الفلسطيني لا يُثوِّر الوطن العربي، بل أرضه فحسب.

الثقافة شيء مهم، في أحد معارض بلجيكا في 1996 كان مكتوب جملة: "المثقف تصعب هزيمته". والمقصود هنا: المثقف الحقيقي، وهو ما كان يسميه أحد المفكرين الإيطاليين بالمثقف العضوي، الذي يدافع عن قضايا وطنه وشعبه، وليس من يقرأ كثيرًا.