حوارات
منى عبد الوهابحوار مع بطلة "رَفعت عيني للسما"
2024.12.27
تصوير آخرون
فتاة البرشا ورحلتها إلى فرنسا
فتاة هادئة صامتة أو غامضة كما وصفها الفيلم وتعليقات أصدقائها المرحة أمام شاشة عرض سينما زاوية. ضحكت بصوت عالٍ معهم وقلت: نعم غامضة. كان هذا انطباعي الأول عن "ماجدة مسعود" بطلة فيلم "رفعت عيني للسما" التي رأيتها للمرة الأولى كطالبة بمدرسة "ناس للمسرح الاجتماعي - جزويت القاهرة" ولأنه يجب عليَّ القيام بمهامي كمسؤولة عن ملف الطلاب تعاملت بحزم فلم أسمح لنفسي بمعرفة تلك الفتاة الخجولة الصامتة جيدًا. حتى جاءت فرصة عرض الفيلم بالقاهرة فاتجهت فورًا مع طلبة المدرسة لرؤية ماجدة أولًا ورؤية الفيلم ثانيًا. أتاح لي الفيلم فرصة التعرف عليها، رؤية حلمها وقريتها وأهلها، حتى ابتسامتها وهي تشاهد حكايتها والتصفيق الحار بعد انتهاء العرض. تقول ماجدة: لو كنت غامضة لما صوّرت قصة حياتي فيلمًا يراه جميع الناس. بالتأكيد لديَّ أشياء خاصة لا أشاركها مع أحد، الخصوصية ليست غموضًا هذا ما يحتاجه الإنسان عمومًا للعيش. إذا شاركت كل شيء مع الناس فسأفقد حماسي، ليس ضروريًّا أن يعرف الناس كل شيء عني وإلا ستنقضي حياتي في الحديث فقط دون تنفيذ أي شيء.
ابنة البرشا في طفولتها ومراهقتها
في طفولتها وككل الأطفال تمنت أن تصبح طبيبة وتحديدًا طبيبة صيدلية. لا تعرف لماذا، كل ما تعرفه أن حلمها تغير في الثانية عشرة من عمرها. بدأت في مكان بالقرية، هذا المكان يتغير بتغير المواسم، ففي الدراسة يكون خاصًّا بالدروس الخصوصية، وفي الإجازة يصبح مركزًا لتعلم الفنون بأنواعها. اتجهت إليه لتعلم المسرح أو لقضاء الإجازة في شيء ما. تفاجأت بنفسها حينما عادت الدراسة واستمرت في المسرح. كانت تلك البداية:
- "إتمنيت لو كنت أتعلم مسرح من أول ما عرفت المشي والخروج من البيت في حضانة أو أولى ابتدائي".
في الوقت نفسه انتبهت ماجدة إلى التليفزيون الذي ينقلها إلى عالم آخر تتأثر به ويؤثر فيها، والممثلات اللاتي يصنعن شخصيات غير شخصياتهن، حتى وإن كانت غير حقيقية يكفي أنها طوال الوقت تتواصل معها برسائل خفية. ظنت مثلًا أن مسلسل "سارة" للفنانة "حنان ترك" حقيقي وليس تمثيلًا:
- "شفته وأنا صغيرة جدًا وحسيت إنه حقيقي، ضحكت وعيطت، كنت متعاطفة مع قصته، بعدها عرفت إنه تمثيل. فقلت لنفسي: أنا عايزة أعمل ده، أبقى مؤثرة حتى لو بالتمثيل بس. عايزة أقدم حاجة مفيدة".
استمرت محاولاتها لتعلم التمثيل وإتقانه، لكن الخطوة الأولى الحقيقية جاءت في السابعة عشرة من عمرها حينما زارهم مُدرب من القاهرة ليقدم ورشة مسرح، وعند الانتهاء من أيام الورشة فوجئت ماجدة بطلبه أن يعرضوا بالشارع:
- "قال: يلا هنعرض. سألت نفسي هنعرض إيه وفين؟ فقال: في الشارع لأهل المنيا. عملنا كده فعلًا، وطبعًا رد فعل الناس كان مخيف وسخيف جدًا. وقتها زعلت بس بعدها جالنا خبر إن مشروعنا تم اختياره من ست مشاريع علشان نعرض في شوارع تونس. ماصدقتش، هطلع باسبور وأسافر؟ دي ماحصلتش في القرية قبل كده. أهلي كمان ماصدقوش حتى وأنا بخلص الورق لإني تحت السن فكان لازم أخويا يكون معايا كان دايمًا يقول: أنا ماشي معاكي، بس عارف إن في النهاية مافيش حاجة، أدينا بنعملك اللي انت عايزاه لحد ما نشوف آخرته".
سافرت ماجدة لتعرض في شوارع تونس، لتكون هذه الخطوة الأولى في طريق طويل. اختلفت ردود أفعال الناس هناك، تشجيع وفخر. ستكون المقارنة ظالمة بالتأكيد بين شوارع تونس وشوارع قرية صغيرة بالمنيا، لكن هذا جعلها تتساءل: هل أعيش في مكان لا يشبهني، أم أن أهل تونس هم الذين لا يشبهونني؟:
- "حسيت إني في مكان ضيق وفي عالم أوسع ومنفتح أكتر وحقي أستمتع بالعالم ده. إحنا بنحارب في القرية عشان نعمل حاجة، لكن بتتعمل في مكان تاني ببساطة، وده إللي شجعني أفكر في الخروج من المنيا".
وحتى ذلك لم يمنعها من محاولة طرح ومناقشة مواضيع مهمة في عروضها بالمنيا لتوعية أهلها.
من البرشا إلى فرنسا وبينهما القاهرة، من الملل إلى الامتنان وبينهما الغيرة
ينتهي فيلم "رفعت عيني للسما" بمشهد انتقال البطلة من المنيا إلى القاهرة دون معرفة طريقها هناك. تخرج من البيت حاملة أوراقها وأموالها متجهة إلى موقف ميكروباص القاهرة. وحينما تتحرك السيارة نشاهد شبورة قوية. تبدو الصورة ضبابية غير واضحة، تمامًا كحياة ماجدة في القاهرة. وصلت الفتاة إلى القاهرة دون معرفة أحد هناك، أين ستذهب؟ ماذا ستفعل؟ لا تعرف شيئًا:
- "كله مجهول. خايفة من كل حاجة حتى المشي في الشارع. خايفة يحصلي حاجة أو فلوسي تخلص فأضطر أرجع، طب لما أرجع أهلي هيستقبلوني إزاي؟"
اتجهت إلى مدرسة ناس بجزويت القاهرة لتقدم أوراقها هناك وتدرس المسرح الاجتماعي، ونجحت في ذلك، لكن الخوف صاحبها حتى بعد ذلك:
- "كان في ورش سيرك وأكروبات في المدرسة وحاجات كلها حركة. كنت بخاف أشارك مع زمايلي عشان ممكن أتصاب أو أتكسر. أنا لوحدي هنا، أهلي خلاص أنا سبتهم، ولو ده حصل هيقولوا ارجعي ومافيش مسرح تاني. وأنا عملت كل حاجة عشان مارجعش".
تشعر بالغيرة تجاه أهل القاهرة. ترى من العدالة أن تقسم الفرص على المحافظات كلها بالتساوي، ربما لن تحتاج السفر إلى القاهرة إذا وجدت مكانًا للتعلم بالمنيا، أو إذا تواجد مخرجون هناك وأماكن مجهزة للعروض. ستعود إلى البرشا وتكمل هناك، تستطيع فعل ذلك الآن، فبعد خروجها من البرشا إلى القاهرة تساءلت: لماذا تركت القرية؟ كنت أحبها وتحبني، لكنها مملة. تشكر فرنسا والمهرجان والفيلم. لولاهم ما استطاعت ماجدة استكمال حياتها في القاهرة، لن يتركها أهلها على راحتها، لن تسير بأمان، ولن ترى فخر أهل قريتها بها، والمهم:
- "هعرف ألعب سيرك براحتي".
دون الخوف من الإصابة أو الكسر.
العودة إلى البرشا
استغرق تصوير فيلم "رفعت عيني للسما" أربع سنوات، مرت خلالها فتيات البرشا بتغيرات كبيرة، تزوجت وأنجبت واحدة، وأخرى منعها خطيبها من التمثيل، تيأس ماجدة في تحقيق حلمها حينًا وتواصل السير حينًا. تقول في لحظات اليأس: حتى لو لم أحقق شيئًا، سيكون معي ما أشاهده مع أبنائي في المستقبل وأحدثهم عن حلم التمثيل. وحينما رأت نفسها على شاشة عرض تعرّفت على نفسها من جديد. أحبت الفتاة في الشاشة، تلك التي تغيرت على مدار أربع سنوات دون أن يتغير هدفها:
- "لما شفت الفيلم قلت أنا دي، أنا فعلًا عايزة أعمل ده، أنا ماكنتش أعرف نفسي وشفتني بجد في الفيلم".
عادت الفتيات بعد الجائزة إلى قرية البرشا بالمنيا وظلت ماجدة بالقاهرة. استقبلهم أهل القرية باحتفال وموسيقى وسيارات عند مدخل القرية، وإذا بكل الذين هاجموهن يزغردن ويصفقوا. صنعوا لهن زفة سيرًا من أول القرية إلى آخرها. تمنت ماجدة لو كانت معهن لترى كيف يتغير حال الناس. أما استقبال ماجدة حينما عادت بمفردها فكان مختلفًا. اقتصر على الأهل والأصدقاء:
- "إخواتي كلهم متجمعين وولادهم، وأخويا اللي كان رافض سفري وحلمي جاب لي تورتة عليها صورتي في الفيلم. كانوا فخورين ومبسوطين فعلًا، وأكتر شيء جميل ومضحك كان تصرف عمي، قعد على الباب وكل ما كان حد يعدي يقول له تعال سلم على الفنانة ويدخله فعلًا".
هكذا استطاعت ماجدة أن تقول للقرية: أنا هنا، لديَّ حلم سأحققه حتى إذا كلفني الأمر أن أسير الطريق بمفردي.
ارفعي عينك للسما
عايزة أطمن على مستقبلي، خايفة بعد كل ده ماعملش حاجة تاني. محتاجة أطمن. أعرف إن عندي شغل أقدر أصرف على نفسي وأعمل فرقة مسرح تلف الشوارع، وأسكن في مكان كويس وأكمل تعليم، مش عايزة أعيش حياة القرية وخلاص:
- "لو هوصف مشاعري في تلات كلمات هيكونوا: مبسوطة، وخايفة، وتايهة، لكن واثقة إن لسه بدري. أنا نجحت والفيلم وصل للعالمية، لكن ماذا بعد؟ مش مهم، لو تُهت في نص الطريق هرجع أبص على نفسي في الفيلم وأفكرها باللي عملته، وأبدأ من تاني".
"هرفع عيني للسما وأقول: إنت محظوظة. ماتخافيش. إللي وصلتي له مش قليل، طمعانة في الأكتر لكن اللي وصلتي عنده حلو أوي. إللي جاي أحلى، ولو ماجاش فإنت مبسوطة دلوقتي. ارفعي عينك للسما واتبسطي، وماتبقيش غامضة".
في اللحظة التي انتهيت فيها من هذا الحوار رفعت راسي للسما ورددت جملة غناها "محمد منير": في بلدي البنات بتحلم تضوي زي النجوم وتحلم ترفرف زي الرايات. نظرت إلى ماجدة بفخر وسعادة، لا أعرف السبب، لكن على الأرجح لأنني أعمل وسط هؤلاء الشباب والبنات. أرى أحلامهم وجهودهم. أحضر العروض وأراهم منهكين بعدها، أحاول مساعدتهم وتخفيف الوقت. أتعلم منهم الكثير كالإصرار والمثابرة وإخفاء الألم، وأتمنى أن يحققوا أحلامهم، وأن تسمح لهم الدنيا برفع عيونهم للسما.