فنون

منال قابيل

من السويد.. هنا العراق

2024.07.06

مصدر الصورة : آخرون

من السويد.. هنا العراق

مبنى إداري ضخم في وسط العاصمة السويدية ستوكهولم يطل على الساحة الواسعة التي يغطيها الثلج المتراكم. داخل البناية ومن خلال نوافذها الزجاجية الكبيرة تشاهد كل شيء من أعلى وقد اكتسى بالأبيض، الأشجار والزهور والجزء الظاهر من البحيرة القريبة. جمَّد الصقيع المشهد فبدا كأنه لوحة صامتة للطبيعة. مشهد خلاب وتمتنُّ كثيرًا أنك في الداخل وفي الدفء.

في الممرات الطويلة التي تصطف على جانبيها القاعات العديدة، يتناهى من بعيد عزف موسيقى عربية معروفة، وقبل أن أميِّز اللحن تصدح في المكان أصوات بلورية:

"الحلوة دي قامت تعجن في البدرية

والديك بيدن كوكو كوكو في الفجرية

ياللا بنا يا على باب الله يا صنايعية

يجعل صباحك صباح الخير يا اسطى عطية

يا اسطى عطية"

 

أتقدم في اتجاه الصوت: 

"صبح الصباح فتاح يا عليم

والجيب مفيهش ولا مليم

بس المزاج رايق وسليم"

 

فرقة كورال "ما بين النهرين" النسائية العراقية تؤدي تدريباتها هنا. ترحب بي مديرة الفرقة السيدة طيبة الطائي وتقول: "نقدم التراث العراقي والعربي. تمنح بلدية ستوكهولم حق استغلال المكان لجميع الجاليات والجمعيات المدنية التي تطلب ذلك لمدة أربع ساعات أسبوعيًّا، نستغلها نحن في التدريب."

طيبة الطائي

طيبة الطائي

أنا أغني.. أنا موجودة

تدعوني مديرة الفرقة لحضور التدريب: "مسؤوليتنا نحو الإبداع وتقديم ثقافة راقية جعلتنا لا نكتفي بولعنا الفردي بالموسيقى، إنما قررنا أن ندرس لنفهم ونتدرب حتى يكون لدينا أساس قوي نبني عليه.

يأتي موعد درس المقامات مع المشرف الفني للفرقة المايسترو محمد عدنان، عازف الكمان، المقيم في ألمانيا. يتم التواصل عبر الإنترنت ليضبط الإيقاع عندما تغني الفرقة ويوضح الفرق بين مقامات العجم ونهاوند.

بعد انتهاء الشرح، توضح طيبة أن عدنان الذي كان العازف الأول في الأوركسترا السيمفوني العراقي، كما كان قائد الجوقة في الكنيسة في بغداد، "يعطينا من وقته دون مقابل إيمانًا منه بأهمية دور الموسيقى وتقديرًا لموهبتنا وجديتنا".

محمد عدنان

تتذكر طيبة حبها للموسيقى من صغرها وولعها بعبدالحليم حافظ وكيف كانت تغني أغانيه وتحكي بابتسامة عريضة: "كنت أذهب مع أصدقائي المسيحيين أغني معهم بالكورال، ثم سمحوا لي بالكنيسة أن أدرس لديهم العزف على البيانو وقراءة النوتة".

بين الابتسامات المشرقة ومحاولة ضبط الإيقاع والتحايا المتناثرة والدندنة، يشيع جو من البهجة الخالصة والحبور. عشر سيدات عراقيات من جميع الفئات والطوائف، من أصول عربية وكردية، مسلمات ومسيحيات وصابئيات، من الشمال والجنوب، من بغداد والبصرة والسليمانية.

من أين أتين بكل هذا الألق! كيف وصلن إلى هنا ولماذا وما علاقتهن بالموسيقى؟

وددت الاستماع كما أردن الحكي..

تقول وفاء:

الموسيقى في دمي، أغني منذ طفولتي. وبصوت فيروزي تترنم بأغنية سيتا هاكوبيان "صغيرة كنت وانت زغيرون".

"صغيرة كنت وانت صغيرون.. حب عرفنا بنظرات العيون

قالوا ترى ذولا يحبون.. ومن الصغر لما يكبرون

مثل نجمة والقمر.. كبر حبنا وازدهر

بعيونك حبيبي.. نبتدي دروب السفر"

وفاء العائش

"عندما ولدت كان أبي في السجن أنا وأهلي كنا ضد حزب البعث لأنه حزب قومي ونحن كأقلية ننتمي إلى طائفة "الصابئين"، والتي يطلق عليها الطائفة الذهبية لأن بيننا العلماء والمتخصصون ونحتاج لنظام غير ديني يعطينا حقوقنا فلجأت للحزب الشيوعي كي يساعدنا فاعتبرونا شيوعيين وأصدروا أمر منع سفر ضدي. زوجي كان في الجبهة وبدءوا يساوموني كي أعمل معهم.

وما أن رفع النظام حظر السفر للعراقيين بعد حرب الكويت هربت بملابسي وأطفالي وشهاداتي.

رافقني أبي حتى الأردن وهناك كانت وجهة المهرب السويد. وضعونا في معسكر لاجئين وبعد تحقيقات لمدة شهر حولوني إلى معسكر آخر أقمت به مع الأطفال لمدة ستة أشهر قبل ان تستقر بنا الأمور ونبدأ حياتنا من جديد.

مجرد إني أغني هنا، فإني أرفع صوتي ضد الجمود والموت والتخلف. عندما أقف هنا أغني أتحدى كل ذلك بالجمال، بصوتي".

شغاف

بعد ثلاثة وثلاثين عامًا من العيش في هذا البلد، لا تذكر "شغاف" سنوات، لكنها تؤرخ لحياتها بأحداث العراق التاريخية فتقول: توفى أبي في حرب العراق-إيران، خرجنا من العراق أثناء حرب الكويت. وما بين الحربين حدث وأن تم التضييق علينا في كل مناحي الحياة لأننا لا ننتمي للحزب الحاكم.

"في البداية كنا مفكرين إننا راجعين، لكن بعد مرور سنوات كان علينا أن نتأقلم على العيش هنا. عام 2003 شاهدنا في التلفزيون مشهد دخول الأمريكان العراق.. وكان هذا هو الحزن الكبير.. ما كنا ننام.

الغناء هوِّن عليّ الغربة، ألتقي بالفرقة وأحكي عراقي فأشعر براحة نفسية".

تجارب مختلفة والحزن واحد

أسأل أمل الكردية المنتمية إلى طائفة الفيلين عن سبب تركها العراق، فتقول: "أنا لم أختَر ترك العراق وإنما صدام هجَّر كل الأكراد من بيوتهم وأغلق تلك البيوت. عقب ضرب الجامعة المستنصرية، قام النظام بحملة قاسية لاقتياد الناس من أماكن عملهم أو مدارسهم إلى الحدود الإيرانية لم يمهلهم حتى العودة إلى منازلهم.

أمل سعيد

في البداية أدخلوني السجن من أجل التحقيقات، بعد ذلك أودعوني معسكر على الحدود ثم في النهاية أطلقونا في الخلاء ومشينا حتى الحدود حيث ساعدتنا السلطات الإيرانية في كل شيء. رافقنا الحزن في الطريق، كنا نشاهد الكبار يموتون والبعض يتخلى عن الشنط أو الملابس حتى يكمل المسير. إلى أن وصلنا إلى مدينة "إيلام" وبدأنا عيشنا هناك بأحزان متراكمة لفقد كل شيء، أهل وممتلكات.

تسرح أمل بعيدًا وتسترسل وكأنها ما زالت تستوعب ما حدث: "فقدت عشرون من أهلي في الحرب. تعبنا.. زوجي حارب كثيرًا ضد النظام وفي وقت قرر الخروج. سافر إلى روسيا بهدف الهجرة إلى أستراليا لكن السفينة التي أقلته ورفاقه غرقت وسط الطريق وكان المكان الأقرب لمن نجوا هو السويد، فاستضافتهم البلد. وبعد أن استقرت أوضاعه استدعاني للحاق به وبدأت حياتي من جديد.

لذا فالغناء بالنسبة لي هو الدواء. في بعض الأحيان يسعى الإنسان إلى النسيان، إلى حذف المعاناة والألم كي يستطيع الاستمرار، أما أنا فلا أريد أن أنسى، والغناء يعطيني القوة لذلك. كما أني لا أحب الوحدة والغناء يونسني، يذكرني بالماضي البعيد، باللمة وجلسات السمر.

ريحة الورد ولون العنبر

بخدودك يا حبيبي الأسمر

أما سوزان ابنة السليمانية فتقول: كان العراق تحت الحصار وهناك أزمة اقتصادية وزوجي بالسجن نتيجة نشاطه السياسي. وكانت هناك قلاقل سياسية حتى بين الأحزاب الكردية. في تلك الأجواء طلب أهلي لجوء سياسي نتيجة الضغوط التي يتعرضون لها. ومن مفارقات الأقدار أنه قبل دخول الأمريكان العراق، فتح صدّام السجون وخرج زوجي بعد ١٣ عام بعد أن كان محكومًا عليه بالمؤبد.

سوزان أمين

تحكي سوزان ذات الوجه الملائكي والإرادة الحديدية كيف تنقلت مع طفلتها إلى تركيا وعبر الأردن إلى اليونان قبل أن تصل إلى السويد لتلحق بأهلها الذين سبقوها، في رحلة استغرقت ثلاثة شهور.

ترى سوزان في لقاءات الفرقة شكلًا من أشكال العلاج والراحة النفسية: "عندما ألتقي بالمجموعة وأتقاسم معهم نفس المشاعر ونغني، ترجعني الأغاني، خاصة العراقية إلى أيام كانت أحلى.. وتعوضني شيء فقدته".

"تجفي وتصل لعداي.. مالك يا خلّي

شنهو ألجنيته وياك يا ترف كوللي

خاف الله ربك تجفي أليحبك..

تبخل بكربك ليش؟ ما ترحم أليهواك خاف الله ربك.."

أسأل كَولالة عن معنى اسمها فتقول هو اسم كردي يعني وردة الخشخاش، نقول عليها في العراق شقائق النعمان. وتقول الوردة التي تقيم في السويد منذ ٢٥ عامًا، عشت مع الموسيقى منذ الصغر، كان لديَّ عم يخصني بالاهتمام فترة تواجد أبي بالسجن، فكان يسمعني أم كلثوم يوميًّا حتى حفظت كل الأغاني وتشربت موسيقاها، وعندما فقدته اشترى لي أبي راديو مخصوص لأسمع أم كلثوم، بعد ذلك بدأت في سماع وتذوق أغاني زهور حسين وناظم الغزالي وغيرهم.

كولالة عثمان

تتذكر كَولالة وتحكي: "سبقني أهلي إلى السويد. في عام ١٩٩٤ بعد أن اشتدّت الصراعات بين الأحزاب الكردية وتصاعدت الخلافات وكان حزب البعث لا يزال في أوجِه، تزايدت المخاوف وقررت أنا وزوجي أن نبعد ابننا عن الخطر ويكفي من فقدناهم من قبل. هربنا عبر بحر البلطيق لكن تم القبض علينا في لاتفيا، هربنا من سجون صدام ومكثنا عامين في سجون لاتفيا قبل أن نصل أخيرًا إلى السويد. لم يكن لديَّ ضغينة تجاه ذلك لأن في هذه الحال، كنت ارتكبت مخالفة وأدفع ثمنها.

تقول كَولالة، فقدت من الماضي الكثير، إخوة وأعمام وأصدقاء كما سقطت مني ذكريات لا أستطيع استرجاعها ولكني أستعيدها بالغناء؛ الغناء يرجعني لأيام زمان لحارتي التي عشت فيها ولأهلي.

"عندما أغني أشعر أني معهم. أعيش بالأغاني فأجد نفسي أرجع إلى بغداد إلى نفس المكان ونفس الساعة".

جيلان

أما جيلان التي جاءت من البصرة عام ١٩٩٦ فتقول إنه عندما قرر زوجها الهجرة، كانت السويد هي المقصد بالصدفة، حيث كانت الأمور متيسرة للتوجه إلى هذا البلد، فاستقرَّ هنا ثم لحقت به. تروي قائلة، لم يكن لدي شهادة جامعية فدرست هنا هندسة الكمبيوتر كما حصلت على شهادة جامعية أخرى في دراسة الكهرباء. أصبح لي ذكريات هنا فأولادي ولدوا وكبروا هنا. تضيف جيلان: أدرس وأعمل طويلًا. عندما التحقت بالفرقة وبدأت أغني ارتحت كثيرًا، بدأت أُخرِج ما بداخلي من إبداع، فأنا أغني منذ طفولتي. أصبحت أبتسم أكثر وأبتهج. يعطيني الغناء شعورًا بالحياة والأمل والتفاؤل. تشعرني هذه المجموعة بفرحة كبيرة، عندما نحكي ونغني بلغتنا الأم أحس أني بين عائلتي وأخواتي. يتضاعف هذا الشعور عندما نقدم حفلاتنا ونتمكن من إيصال أصواتنا للجمهور العربي هنا.

أترك سليلات حضارة بابل في حرم الموسيقى، يواصلن غزل الحلم ونثر الأمل ويعدن خلق الحياة.

أنسحب وأصواتهن تتمايل مع أغنية يوسف عمر، "هالليلة حلوة"

"الليلة حلوة حلوة وجميلة

آه جميلة

لاكعد توالي الليل واذكر وليفي

وبحجة الحلمان ابجي على كيفي

آه جميلة"