فنون

شيماء ياسر

المخرجة نور حلوم.. رحلة فنية بين دمشق والقاهرة

2024.01.09

كروت بوستال

المخرجة نور حلوم.. رحلة فنية بين دمشق والقاهرة

من دمشق إلى الغردقة إلى القاهرة إلى دمشق إلى القاهرة، قضت المخرجة السورية نور حلوم سنواتها الـ12 الأخيرة، بين فرار مؤقت من ضغط الوضع السوري في 2011، إلى إقامة كاملة في القاهرة في 2023، وبين محاولات لاختراق عالم الكتابة، إلى نجاحات في مجال الإخراج في عالم السينما الوثائقية.  
زارت نور حلوم مصر  زيارة سريعة للمرة الأولى في 2004، لكن زيارتها الثانية في 2011 تحولت إلى إقامة وعمل ونجاح ورحلة تعافٍ، تركت بصماتها على روح نور حلوم ونشاطها الفني والثقافي.
في 2001 تنقلت نور من القسم الأدبي في الثانوي الفني، إلى دراسة لم تكتمل للحقوق، ثم التحاق بأحد معاهد إدارة الأعمال في سوريا، حتى قررت العمل في الميديا والتسويق في 2003، جذبة الفن عندها بدأت في المرحلة الإعدادية من خلال كتابة الشعر، ولاقى ذلك تشجيعًا ودعمًا عائليًّا كبيرًا، بقصائدها البسيطة شاركت نور في مسابقات للشعر على مستوى رابطة حزب البعث، وحصلت في إحداها على المركز الأول. 
تخبُّط المراحل الأولى عند المبدعين، ومحاولات اكتشاف النفس، وتجربة الموهبة في فنون مختلفة، بدأ بالشعر عند نور حلوم، وتلاه تجارب النثر، ثم محاولات كتابة الرواية، حتى وصلت إلى كتابة السيناريو، في ذلك الوقت لم يكن الإخراج السينمائي هدفًا أو حلمًا تسعى إليه، لكن ربما هي جينات عائلية انتقلت إلى نور من حب الوالد للتصوير وشغفه بالكاميرات وأنواعها المختلفة، والتقاط الصور، وتسجيل اللقطات العائلية، بجانب تجربته الإنتاجية القصيرة.
قضت نور الفترة بين 2003 إلى 2011، بين محاولات كتابة قليلة، مع تركيز أكبر على العمل في مجال التسويق والإعلان في عدة صحف سورية، وفي 2008 كانت المحاولة الأولى لنور حلوم لدراسة السيناريو من خلال الاطلاع على سيناريوهات سابقة، وبتعليم ذاتي تمامًا، جاءت المحاولات الأولى لنور بمراقبة ساعة الحائط أمام إحدى حلقات مسلسل "ما ملكت أيمانكم"؛ لتحسب نور طول المشهد، ثم تعرف بعدها بسنوات مع الدراسة المنهجية فكرة التفريغ من الشاشة. بعد هذه المحاولات الفردية، كانت أول تجربة لكتابة سيناريو سينمائي، بعدها في 2009 قررت كتابة مسلسل تدور أحداثه في دبي، ويحمل أبطاله جنسيات عربية مختلفة، وبالفعل كتبت منه ثلاث حلقات لتسجيل حقوق المؤلف. 
لم تمهلها ثورات الربيع العربي الوقت الكافي لتحقيق حلمها القديم؛ ففي مارس 2011 كانت ثورة سوريا وما سببته من شلل كامل للحياة، كان قرار نزول نور حلوم في 2011 إلى مصر لم يكن إلا محاولة للتعافي والتقاط الأنفاس لفترة قصيرة ثم العودة إلى سوريا، لكن مع تصاعد الأحداث لم ترجع نور، وتَراجَع ملف الرغبة في الكتابة إلى الوراء.
تقول نور: إن المتابعة للأحداث عن بُعد ليست أقل سوءًا، وبالتأكيد أن تكون تحت القصف هو شيء مهول، لكن أيضًا أن تكون بعيدًا عن أهلك وأحبابك وبيتك وحياتك التي ظللت فيها لـ27 سنة شيء قاسٍ. توقف عندها التعبير بالكتابة على بوستات الفيسبوك المرتبطة بالأحداث.
لمدة خمس سنوات استقرت نور مع والديها في الغردقة، ورغم عدم وجود نية في ذلك الوقت للبقاء؛ فإن سعيها للخروج من دائرة الضغط النفسي قادها إلى العمل في بعض المجلات التي تصدر في الغردقة في مجال السياحة والعقارات.
ربما ظل أمل العودة يراود نور، وانتظار لحظة وجودها في سوريا لاستكمال خطط المستقبل كما رسمته، هو السبب في دخولها في 2015  ولمدة 4 أشهر في دوائر الاكتئاب التي توقفت معها حتى عن الخروج من المنزل تمامًا، ولم يكن أمل العودة فقط هو السبب، بل ما كان يحدث أيضًا في ذلك الوقت من ظاهرة الدعوة إلى الزواج من السوريات بشكل قاسٍ وعزيز على النفس، وهو ما كان مؤذيًا نفسيًّا بشكل كبير، "السوريات أرخص في الزواج من المصريات".
تزامن مع ذلك أيضًا أنه من 2012 إلى 2015 وبالتدريج، كانت هجرة أغلب السوريين في الغردقة وفي مصر إلى الخارج؛ مما زاد من إحساس نور بالعزلة، وبالفعل كان تفكيرها في قرار الهجرة. الوضع في سوريا في ذلك الوقت كما تصفه نور، مرعب، ولم يكن من مجال لعودة والدتها إلى هناك، ولا لبقائها بمفردها في مصر، قررت نور عدم التسرع في قرار الهجرة مع استمرار ترقب فرصة السعي لها في أي وقت.
"الأمان الورقي هو الأمان الوحيد الذي يبحث عنه السوري اليوم، ورق نظامي تعيشين به حتى تكوني مرتاحة"، هكذا تكرر نور حلوم جملة إحدى صديقاتها. وتكمل: إن كثيرين بعد سعيهم للحصول على جنسيات أخرى بالفعل، يرغبون بالعودة  ثانية إلى مصر؛ لضمان شكل حياة مألوف نفسيًّا واجتماعيًّا عن مجتمع الهجرة.
"حان وقت التغيير"، كانت إشارة نور إلى نفسها أثناء تجاوزها مرحلة الاكتئاب في 2015، وقد كتبتها بالأبيض على خلفية سوداء على اللابتوب والموبايل، اختارت نور نقطة الكتابة لتنطلق منها في عودتها إلى الحياة.
تحدي اللهجة المصرية سواء في الحديث أو الكتابة بها، هو أول ما اشتغلت عليه نور بعد الخروج إلى الحياة مرة أخرى، بالإضافة إلى طبيعة مجتمع الغردقة المعزول بشكل كبير عن القاهرة وأحداثها وتنوعها الأكبر إنسانيًّا واجتماعيًّا.
تقول: "العودة إلى آخر مكان وقفت عنده"، تحديدًا كان آخر أشكال الاهتمام بالكتابة قبل الأحداث هو السيناريو، ومنها كانت العودة إلى الدراسة الذاتية لعدة سيناريوهات لأعمال تم تصويرها بالفعل، وكان منها فيلم "بصرة" للمخرج أحمد رشوان. 
بالتواصل مع أحمد رشوان، وبالتزامن مع إعلانه عن ورشة للإخراج السينمائي، كان قرار نور للالتحاق بها كمدخل إلى كتابة السيناريو، وكان قرار النزول إلى القاهرة.
التحقت نور ببعض الورش السينمائية، منها ورشة للتصوير مع مدير التصوير الأستاذ سعيد شيمي على هامش مهرجان الأقصر الأوروبي 2016، وورشة للإخراج وأخرى للسيناريو مع المخرج أحمد رشوان، ورشة مونتاج مع المخرجة نيفين شلبي، ورشة إخراج مع خالد الحجر على هامش مهرجان الأقصر الإفريقي، وبدأت علاقات وصداقات مع أهل المهنة. تأكد لدى نور شغفها بالسينما الوثائقية من خلال مشاركتها في 2016 في مشروع فيلم وثائقي لم يكتمل مع المخرج أحمد رشوان، واهتمامها بما وراء الكاميرا. تابعت نور حياتها في القاهرة ما بين حضور مهرجانات وعروض أفلام وورش وزيارات مواقع للتصوير.
من أولى الأفكار التي أرادت نور صياغتها في فيلم وثائقي، كان عن محاولة تعافي أحد الأصدقاء من الإدمان قبل وفاته، ومع البحث الذي بدأ في 2016،  تحولت فكرة الفيلم من رصد تجربة فردية إلى متابعة رحلة التعافي بشكل عام، واستغرق تصوير الفيلم سنتين من أول أيام تصويره في مايو 2017 إلى الانتهاء منه بالكامل في 2019، ثم محاولات عرضه للتسويق. تدين نور في صناعة الفيلم إلى العديد من الشخصيات وعلى رأسهم د. إيهاب الخراط، ومساعدته لها على توفير المعلومات عن رحلات التعافي من الإدمان. 
اكتمل أخيرًا أول أفلام نور حلوم بإخراج مشترك مع أحمد رشوان "اثنتا عشرة خطوة إلى الأمام"، من إنتاج "الجزيرة الوثائقية"، وتم عرضه للمرة الأولى في فبراير 2020، تقول نور: إنه بالرغم من كونه تجربة صعبة نفسية جدًّا، فإنه كان فرصة مهمة للتعلم، خاصة وأنه بالتوازي مع عملها على خروج هذا الفيلم إلى النور، عملت حلوم كمساعد مخرج في بعض الأفلام الوثائقية الأخرى؛ مما أكسبها خبرة ومساحة تعليم حقيقية.
كذلك عملت نور مساعد مخرج في فيلم "شادي أنشودة البعث" مع المخرج أحمد رشوان عن الراحل الكبير شادي عبد السلام، وتقول نور عن هذه التجربة: إنها كانت فرصة مهمة تعلمت خلالها الكثير. 
ينصب تركيز حلوم من بداية رحلتها في السينما إلى الآن على التعلم، سواء بشكل ذاتي أو من خلال العمل أو من خلال الأصدقاء وتبادل الخبرات، ومع العمل تأكد لها اهتمامها بالسينما الوثائقية تحديدًا، والمتعة التي تكتشفها في البحث والإعداد للفكرة ومعالجتها.
مشروع فيلمها الثاني الذي تقدمت به إلى مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية 2022، تدور أحداثه بين سوريا ومصر، ورغم كونه تجربة ذاتية لنور، فإن المساحة والتجربة الإنسانية يمكن تعميمها على كثير ممن فُرِضت عليهم تجربة اللجوء الخروج عن أوطانهم على أمل العودة. 
تقول نور: كثيرة هي الأفلام التي ناقشت وعرضت حرب سوريا، ومع ذلك كانت ترفض تمامًا الاقتراب من هذه المساحة. تُعدِّد الأسباب وتبدأها بأن خروجها المبكر والمفاجئ والمؤقت من سوريا وقت الحرب وتعذُّر العودة عليها، جعلها بعيدة وقت اشتداد الأزمة هناك. في تلك الفترة - وكما تقول نور - لم يكن لديها الجرأة الكافية للحكي عما يحدث في الداخل، خاصة مع ما يتردد من البعض بأن من لم يكن تحت القصف لا يحق له الحديث عنه. تقول نور: "في الأخير أنا كأي سوري تضررت وتأذيت ببيتي، وبموت من أحب هناك، أو أدخل على بلدي أو أطلع منها بسهولة".
وبرغم قناعتها بأن السينما وسيلة مهمة لتحكي قصتك وتوصلي صوتك وصوت بلدك، فإن تفكيرها اتجه في البداية إلى المسلسل الذي كانت قد بدأت كتابته في 2010 ومحاولة التعديل بما يتماشى مع المستجدات في الأحداث والتعبير عما تريد. وبالفعل أعادت كتابة حلقة من الحلقات الثلاث التي كتبتها فيما قبل، وقامت بتسجيل حقوق المؤلف لها بمصر.
كأن نور حلوم كانت تهرب من مواجهة الغضب داخلها بالبعد عن كل ما يمس هذه القضية، إلا أن نصائح الأصدقاء لها بالمواجهة دفعتها إلى الدخول في مرحلة مهمة تحكي عنها؛ وهي حالة التعافي بالكتابة حتى وان كان تعافيًا جزئيًّا: "أشك إن فيه حدا يتعافى من الحروب، مستحيل، وإنما نتعايش بطريقة شوي أفضل".
ومع ميل نور إلى التوثيق السينمائي بشكل أكبر، ومع استمرار هروبها بشكل غير واعٍ من مواجهة قصتها الخاصة، كانت بداية الفكرة بشكل سينمائي أن تكون عن الأصدقاء السوريين المهاجرين في بلاد الله، ثم تغيرت لتكون عن الأصدقاء والعائلة، وأخيرًا اقتحمت حلوم قضيتها وقررت أن تكون عنها وعن العائلة. على مدار ما يقرب من ثلاث سنوات، بالتوازي مع عملها على فيلمها الأول، كان تغيير وتطوير الفكرة مستمرًّا.
في أكتوبر 2019 كان أول أيام تصوير فيلمها الثاني والجديد"37-27" بنسخته الأخيرة، تدور فكرة الفيلم حول السنوات العشر التي مرت منذ دخول نور حلوم التي تبلغ من العمر 27 سنة من سوريا إلى مطار القاهرة في 2011، إلى أن غادرت مطار القاهرة إلى سوريا وهي تبلغ 37 سنة.
أحد تحديات نور في تنفيذ الفكرة، كان قدرتها على اقتحام أحزانها الخاصة من فراق الأصدقاء، وتطور الأحداث، وتجمد حياتها، والمستقبل المشوش، وحتى الجغرافيا تتبدل في سوريا، "المناطق بتروح، والبيوت بتختفي". من تحدياتها أيضًا كان التخوف من رد فعل العائلة على الدخول في هذه المساحات الخاصة، وقد جاء دعم والدة نور كعامل إيجابي شجعها على جدية البحث والتنفيذ، خاصة مع وجود تجارب كثيرة مشابهة لأصدقاء قاموا بالتوثيق والتصوير في المساحات العائلية والخاصة.
من أهم التحديات التي كانت تسيطر على نور؛ هي فكرة الدمار الذي طال المنطقة السكنية في سوريا التي يقع فيها بيت عائلتها، بعد 6 سنوات من الحصار، هذا البيت الذي كان يضم جميع أشرطة الفيديو وألبومات الصور والنيجاتيف الخاصة بهم، وعلى هذا الأرشيف العائلي يستند جزء كبير من فكرة الفيلم في الأساس.توالى تعديل وتطوير الفكرة التي أرادت نور تسليط الضوء عليها في تجربتها الذاتية،  بالإضافة إلى محاولات الحصول على الدعم المالي للإنتاج، وكما هو حال جميع العاملين في مجال الأفلام المستقلة، واجهت نور صعوباتٍ عديدة في الحصول على التمويل، وكان الاعتماد الأساسي على الدعم المقدم من الشركة المنتجة "Dream Production"، بالإضافة إلى التمويل الذاتي من جانبها، مما جعل "نور" شريكة في إنتاج الفيلم، كما ساهم حضورها ورشة مبادرة فاكتوري – مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية 2022، في البدء بمرحلة ما بعد الإنتاج من خلال اللقاء والنقاش مع العديد من المنتِجات المحترفات في صناعة الأفلام، بالإضافة لحصولها على جوائز دعم للمشروع من شركة  CULT.
حصول مشروع الفيلم على جوائز الدعم كان حافزًا قويًّا لنور للانتهاء من الفيلم، بجانب تزامن ذلك مع سفرها إلى سوريا في مارس 2022 بعد غياب 11 سنة، وفي الأساس رغبتها في توثيق آخر ما تبقى لهم من بيت العائلة بعد هَجْره طوال تلك المدة، وقد أصبح مهددًا بالسقوط. 
عادت نور محملة بما استطاعت من نيجاتيف وأشرطة للفيديو والكثير من الصور، وقامت بمعالجة محتوياتها بشكل يمكن لها استخدامه في مادة الفيلم، وبدأ المونتاج النهائي في أكتوبر 2022 وانتهى في إبريل 2023؛ لتكون مدة العمل على الفيلم 4 سنوات. 
طوال هذه الفترة ورغم انشغال نور حلوم بطموحها السينمائي، إلا أن هاجس الكتابة ظل في خلفية الأحداث "الكتابة ليست بديلًا لشيء، ولا شيء هو بديل عنها". ظهر ذلك من خلال مشاركتها بقصة "خزانة لا تتسع لكل شيء"، في المجموعة القصصية "حتى فساتيني" الصادرة عن دار المرايا في 2021، وظهر أيضًا في اشتغالها على تسجيل أكثر من 20 ساعة إلى الآن مع أول أستاذ بيانو مصري، مارسيل متى، تحكي فيه قصة حياتها بهدف قيام حلوم بتجميع ذلك في كتاب، وتعتقد نور أن كتابتها عن مارسيل ستكون انطلاقة صحيحة في عالم الكتابة. 
ترحال كثير وتطور مستمر هما أكثر ما يميز تجربة نور حلوم، والتي ظهرت بشكل واضح من خلال فيلمها الوثائقي الجديد "37-27"، تجربة مختلفة تثبت إصرارها واستعدادها لتقديم فن صادق وحقيقي، سواء بالكلمة أو بالصورة.