فنون

راشدة رجب

المرأة في القاهرة السينمائي: حالمة وقوية ومنطلقة

2024.12.13

تصوير آخرون

المرأة في القاهرة السينمائي: حالمة وقوية ومنطلقة

 

قدم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 45 من خلال بعض أفلامه صورة المرأة القوية التي تستطيع مجابهة الصعاب والانطلاق نحو تحقيق أهدافها وآمالها في حياة أفضل.

وتنتهي ثلاثة أفلام من المهرجان هي اللبناني "أرزة" إخراج ميرا شعيب، والمغربي "راضية" إخراج خولة بن عمر والتشيلي "الذهب المر" (Bitter Gold) إخراج خوان أوليا، بمشاهد بطلاتهن القويات وهن يقدن الموتوسيكل مستمرات في طرقهن الصعبة لتحقيق الذات ومواجهة مشاكل الحياة. بينما ينتهي الفيلم اليوناني "القاتلة" (The Murderess) إخراج إيفا ناثينا والإيراني "كعكتي المفضلة" (My Favorite Cake) إخراج مريم مقدم وزوجها بهتاش صانعيها بنهايات حزينة تصنعها مرة أيدي البطلة القاتلة ومرة أخرى عبثية القدر فلا تكفي قوة البطلة وإرادتها في إنقاذ أحلامها.

ففي فيلم "أرزة" نشاهد البطلة أرزة ويجلس خلفها ابنها الشاب وهي تقود الموتوسيكل في شوارع بيروت، سعيدة بإيجاد هذا الموتوسيكل الذي سُرق من ابنها ومرت بمواقف صعبة كثيرة لم توهن عزمها على استعادته. هذا الموتوسيكل الذي يلعب دورًا رئيسيًّا في الحفاظ على لقمة عيشها إذ يوزع ابنها من خلاله مخبوزاتها التي تعدها بالمنزل. إن أرزة كما يعكس اسمها تقف قوية كشجرة الأرز، رمز لبنان، في وجه الريح.

وقد نجحت دياموند أبو عبود، التي حازت جائزة أفضل ممثلة بمهرجان القاهرة هذا العام عن دورها في الفيلم، في التعبير عن مشاعر الصدمة والقلق والخوف من افتقاد مصدر دخلها وأيضًا القوة والمثابرة اللازمة لإيجاد الموتوسيكل. ومن خلال رحلتها مع ابنها في شوارع لبنان لإيجاده، تخوض رحلة كشف ذاتية وعامة، إذ تكشف للمشاهد ولابنها ما لا نعرفه عن أبيه فقد هاجر وتركها (حامل) وهي في سن السادسة عشرة وكان عليها أن تعمل وتربيه. ومن جانب آخر تظهر صورة المجتمع اللبناني وتقسيماته بشكل كوميدي طريف، إذ تضطر أرزة مرة لأن تكون مسلمة محجبة ومرة أخرى لأن تكون مسيحية ملتزمة تحمل في رقبتها الصليب، لتتلقى مساعدة من فصائل مختلفة وتصل إلي سارق الموتوسيكل.

كما تنطلق راضية في مشهد نهاية الفيلم المغربي الذي يحمل اسمها بالموتوسيكل، الذي تحبه، لتعيش حياتها متخلصة من قيود وكبت المجتمع ومستعيدة حريتها في محاولة متأخرة قليلًا لتحقيق الذات.

وكما يعكس اسمها، ترضى راضية بما أراده لها المجتمع والآخرون، فتنبذ أحلامها وتصبح زوجةً وأمًّا عادية عليها كل المسؤوليات وليس لها أي حقوق في سبيل إرضائهم. ولكنها فيما بعد تقوم برحلة بالطائرة ليست إلي أي جهة، فهي رحلة ذاتية داخل النفس تستعيد معها أحلامها ورؤيتها المنفتحة على العالم من خلال مواجهة عائشة. وعائشة التي تبدو مسافرة شابة في انتظار رحلة الطائرة المؤجلة مع راضية، ما هي إلا رمز لطفولة وشباب راضية التي كانت تعيش وتحاول تحقيق أحلامها كما يعكس الاسم أيضًا ولكنها انتهت مع مرحلة الزواج والإنجاب وتحولت إلي راضية.

وكما تنطلق راضية، تنطلق كارولا، بطلة فيلم "الذهب المر"، على موتوسيكل تقطع الصحاري والمناطق الجبلية في شمال تشيلي حيث كانت تعيش - إلى عالم أوسع وأرحب تحاول فيه تحقيق أحلامها وتستمر في مجابهة الصعاب وحدها تمامًا الآن بعد أن فقدت أباها.

وعلي مدى 83 دقيقة هي مدة عرض الفيلم تواجه كارولا، 16 عامًا فقط، مصاعب وأهوالًا تستعصي على أقوى الرجال. إذ لا يكون على الفتاة الرقيقة سوى التماسك والقوة لتحل محل والدها، بعد إصابته، في قيادة عمال المنجم لاستكمال العمل في مجتمع ذكوري ليس فقط لا يعتد بالمرأة، بل يظن أنها تجلب الحظ السيئ وتعيق ظهور معدن الذهب. وتضطر إلى التخلص من جثة الشاب ماريو داخل منجم وحدها خشية افتضاح أمر قتل أبيها إياه، رغم أنه دفاع عن النفس.

وكما كان والدها يشير إلي مرارة طعم الصخور في حالة وجود الذهب، فقد حول بحث أبيها عن الذهب، للحصول على ثروة تمكنه من إلحاقها بالجامعة - حياتهما إلى تجربة مرة انتهت بوفاته متأثرًا بإصابته ليتركها وحيدة في مهب الريح. لكن بطلتنا، التي أدت دورها باقتدار، كاتالينا سانشيز، بقوتها وذكائها رفضت الخضوع والاكتفاء بالطبخ لمجموعة العمال المسيطرين على المنجم بعد وفاته، واستعادت ما سُرق منها وانطلقت على موتوسيكل ماريو إلي عالم جديد تحقق فيه أحلامها وحياة تليق بها.

وكما تتحرر كارولا وترحل صوب تحقيق أحلامها، تتحرر هادولا، المرأة السبعينية، في الفيلم اليوناني الرائع "قاتلة" من قيود الحياة في المجتمع الذكوري الظالم بالانتحار حتى تتحول إلي طائر حر كما تأمل. الفيلم يستند إلي رواية "قاتلة" لليوناني ألكسندروس باباديامنتيس (Alexandros Papadiamantis) التي تدور أحداثها في اليونان عام 1900، حيث يُعد إنجاب الفتيات عبئًا على الأب وبعده الأخ الذي عليه أن يوفر المهر الذي تقدمه العروس إلى العريس. هذا المهر الذي يثقل كاهل الرجال فيدفعهم غالبًا إلي السفر للبحث عن عمل يدر المال الكافي للقيام بهذه المهمة، ويؤدي أحيانًا إلى بقاء بعض الفتيات دون زواج كما هو الحال مع ابنتين لهادولا.

في هذا العالم المثقل الفقير، تستقبل هادولا (القابلة) المواليد وتتلقى غضب ونقمة الرجال المبشرين بميلاد الأنثى، فتسعى لا شعوريًّا، إذ تعاني عقدة نفسية، لتخليص هذه الأنثى من الحياة المؤسفة التي تنتظرها سواء تزوجت وأساء زوجها معاملتها أو لم تتزوج وظلت وحيدة.

وتتفاقم حالة هادولا، التي جسدت دورها باقتدار الفنانة كاريوفيليا كارابيتي، التي تصغر الشخصية التي تؤديها بما لا يقل عن 25 عامًا، فينتهي بها الأمر إلى خنق حفيدتها الرضيعة ما يثير ابنتها فتتزعم أهل القرية لمواجهتها، إلا أنها تقف على حافة منحدر وتلقي بنفسها في البحر لتتحرر من أعبائها بعد أن تتصالح مع ذاتها أو مع رمز أمها التي كانت لا تحبها. إلا أن هذه العلاقة المعقدة ببني جنسها ترثها حفيدتها ذات السنوات الأربع التي تحمل عصاتها في أحد مشاهد نهاية الفيلم.

إن هادولا من جانب آخر هي رمز لمجتمعها الذي يظلم المرأة ويسيء معاملتها ويعتبرها عبئًا حبذا لو استطاع التخلص منه.

تنجح المخرجة إيفا ناثينا في تصوير هذا العالم الموحش الغامض الغريب باقتدار من خلال البيئة الجبلية الوعرة التي اختارتها لبناء ديكور قرية بدت طبيعية جدًّا ومتناغمة مع الطبيعة، وأجواء تصوير داخلية وخارجية مظلمة وسماء دائمة الغيوم وفيلمًا يغلب عليه الأبيض والأسود.

وبينما تحاول هادولا تحقيق سعادتها بالتصالح مع الذات من خلال الموت، تعشق ماهين، المرأة السبعينية، بطلة الفيلم الإيراني "كعكتي المفضلة" الحياة وتبحث عن سعادتها إذ تعاني الوحدة بعد هجرة أبنائها واختيارها البقاء في الوطن. تستمتع بعشاء تجمع فيه صديقاتها، رغم اضطرارها إلى بذل مجهود كبير في شراء وإعداد الطعام وتنظيف المنزل، وتتناقش الصديقات في علاقاتهن بالرجال.

تقرر، ماهين الانطلاق لتحقيق سعادتها مقاومة القيود الذاتية وقيود المجتمع الإيراني المتحفظ اليوم والذي يختلف عن المجتمع الذي عاشته في شبابها. فلا توقفها سيارة شرطة الأخلاق (أو الآداب) التي تجمع النساء اللاتي لا يرتدين الحجاب الكامل في الحديقة، ولا فضول الجيران وخطورة مناهضة القوانين.

تسعى إلى التعرف إلى سائق التاكسي فارامارز، في نفس عمرها، الذي رأته بالصدفة في أحد المطاعم وخمنت معاناته للوحدة. وتدعوه إلي منزلها ليلًا ليتناولا الطعام وتصنع "كعكتها المفضلة" وترتدي أفضل الثياب ليرقصا معًا على أنغام الموسيقي ويستمتعا معًا بأوقات رومانسية تغلفها الكوميديا النابعة من تناقض ما يوحيه الموقف مع عمرهما المتقدم. فبدلًا من الاستحمام معًا نجدهما يجلسان مرهقين بملابسهما كاملة تحت الدش في ذروة تلك الكوميديا. وهي المشاهد التي أجاد تقديمها البطلان ليلى فرهادبور وإسماعيل محرابي.

لكن لسوء الحظ، يموت فارامارز فجأة في نهاية الليلة، ربما لتناوله عقارًا مقويًا وكثيرًا من الشراب الكحولي. وتجد ماهين نفسها في موقف لا تحسد عليه فقد تتعرض في هذا العمر للسجن. فتضطر إلى دفن فارامارز بنفسها في حديقة منزلها ليلًا، وينتهي الفيلم بلقطة خلفية لها وهي جالسة تبكي أمام قبر فارامارز الذي لم تدُم سعادتها بصحبته سوى لحظات معدودة. وكأن النساء في هذا البلد قد كتب عليهن الشقاء مهما حاولن تغيير مصيرهن.

وهكذا تحاول الشخصيات النسائية القوية في كثير من أفلام المهرجان تحقيق أحلامها والبحث عن سعادتها وعن الخلاص من قيود المجتمع فتنجح أحيانًا وتفشل أحيانًا أخرى لأن الواقع ما زال في حاجة إلى التغيير.