حوارات

يحيى فكري

حوار مع عاطف سعيد عن الحراك الطلابي في أمريكا – الجزء الثاني

2024.07.27

مصدر الصورة : AFP

حوار مع عاطف سعيد عن الحراك الطلابي في أمريكا – الجزء الثاني

 

استكمالًا للحوار الذي بدأناه السبت قبل الماضي مع الدكتور عاطف سعيد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة إلينوي بشيكاغو، للتعرف على الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية ودوافعه واستكشاف حدوده وفرصه، سألته عن تقديراته للتكوين العرقي الديموغرافي للطلبة الذين شاركوا في الاعتصامات والمظاهرات، هل الأغلبية بينهم من العرب أو المسلمين؟ أو الطلاب ذوي الأصول الأفريقية؟ أو اليهود؟ أو من الفئات الاجتماعية المهمشة عمومًا؟ 

أجاب بأن التركيبة الطلابية كانت تجمع كل ألوان الطيف، وضمت أقسامًا من كل هذه الفئات، وأكد: "من الصعب عمل تقدير دقيق للأمر، فهذا يحتاج إلى أبحاث ميدانية مركبة، كما أن لكل جامعة وضعها الخاص، فالأمر أيضًا يحتاج إلى دراسة حالة تخص كل جامعة. لكن بتقدير عفوي يمكن القول أن ثلث -أو أقل قليلًا من الثلث- الطلاب الذين شاركوا في الحراك كانوا من العرب. وهناك بالطبع جامعات لا يوجد بها طلاب عرب، أو الطلاب العرب بها أقلية محدودة، وستجد من شاركوا فيها طلاب من مختلف الأعراق، من ذوي الأصول الأفريقية والأسيوية والأوروبية، هذا غير الطلاب اليساريين والأناركيين والمثليين، وأيضًا بالتأكيد جميع الطلاب المسلمين واليهود المعادين للصهيونية. ويمكن القول بثقة أن الحركة من الناحيتين العرقية والطبقية تمثل المجتمع الأمريكي، لكنها لا تمثله بالقطع من الناحية العُمرية فالشباب أغلبية ساحقة".

في هذا السياق حاولت أن استوضح منه حول نسب المشاركة الطلابية في الحركة، فهل يمكنه تقدير نسبة الطلاب الذين شاركوا في الحراك إلى إجمالي عدد الطلاب في الجامعات؟ فأكد أن هذا الأمر صعب حسابه، لأن أعداد الطلاب تتفاوت بين جامعة وأخرى، وأعداد المشاركين أيضًا تتفاوت. وأضاف: "هم بالتأكيد ليسوا أغلبية الطلاب، لكنهم أيضًا بالتأكيد ليسوا أقلية محدودة أو معزولة. وهناك فارق بين نسبة المتعاطفين مع القضية من الطلبة، ونسبة من شاركوا في الاعتصامات. فعلى سبيل المثال الجامعة التي أعمل بها فيها تواجد فلسطيني وعربي كبير نسبيًا، فعدد الطلاب العرب حوالي 20% من عدد طلاب الجامعة، و90% منهم تقريبًا فلسطينيين، لذا ستجد تعاطف كبير جدًا داخل الجامعة مع القضية الفلسطينية، وأغلبية طلاب الجامعة -أكثر من نصفهم بالتأكيد- متضامنون مع فلسطين وغزة، لكنهم ليسوا جميعًا فاعلين أو نشطاء، وهذه نقطة مهمة، فلم يحدث مثلًا اعتصام داخل هذه الجامعة رغم الحجم الكبير للتضامن داخلها". 

وواصل: "على جانب آخر هناك جامعات بها تمركز صهيوني، أو أكثر نخبوية، وهناك تفاوت طبقي بين الجامعات، حيث توجد جامعات خاصة وجامعات عامة. لذا يصعب تحديد نسب مشاركة تخص جميع الجامعات دون دراسة ميدانية. لكن أحب أن أضيف أن الأمر لا يتعلق فقط بنسب المشاركة، لأنه حتى لو كان التضامن محدود تبقى الفضيحة الكبيرة التي تحدث، وتمثل مشكلة حقيقية، خاصة في الجامعات النخبوية. ففي جامعات مثل ييل وهارفارد مثلًا تظاهر الطلاب اليساريون والأناركيون وطلاب عاديون كثيرون، وليس فقط العرب والمسلمين، وهذا خلق استفزاز وضغط معنوي كبير، رغم أن حجم الحركة لم يكن كبيرًا". 

سألته عن حجم وتأثير الحركة داخل المجتمع الأمريكي؟ هل هي حركة قوية؟ هل لها وزن اجتماعي؟ هل تملك فرص للنمو، أم هي محدودة وهامشية وغير مؤثرة؟ فقياسًا على الهجوم الشديد الذي تعرضت له، كما أشار في الحلقة السابقة، ما هو مدى تأثيرها؟ أجاب بأن الحركة تتمتع بصيت قوي جدًا، وخلال الاعتصامات كانت الناس تتكلم عنها في كل التجمعات، خصوصًا في سياق الانتخابات الأمريكية، وهي أمر غير ذي صلة بموضوع الحراك، لكنه متشابك معه، ومتأثر به جدًا. وأضاف شارحًا: "لقد خسر بايدن كثيرًا جدًا بسبب موقفه من حرب غزة، وظهرت حملات منظمة كبيرة وواسعة بين العرب والمسلمين وداخل التجمعات اليسارية المتنوعة للامتناع عن التصويت نتيجة لمواقفه هذه، وجميع تلك الكتل محسوم تاريخيًا تصويتها لصالح الديمقراطيين، وقد زايد ترامب على الأمر. وكما رأينا انتهى الموقف بانسحاب بايدن، بينما تحاول الآن كاميلا هاريس استعادة الأصوات التي خسرها الديمقراطيون. فالانتخابات الأمريكية تأثرت بشدة بسبب الحراك الطلابي، وهو ما لفت الانتباه بقوة لما يحدث في غزة. كانت هناك مظاهرات طلابية أسبوعية في كل المدن الكبرى، ومع نهاية العام الدراسي احتدم الموقف في حفلات التخرج، فأعلنت بعض الجامعات أنها ستلغي حفلات التخرج، أو أنها ستمنع الطلبة من لبس الأعلام أو تعطيل الحركة وهم واقفون على المسرح. وفي المقابل قام الطلبة بالتصعيد، ولأن هناك أسر كثيرة جدًا لديها طلاب تتخرج، وترغب في الاحتفال بهم، فقام بعض الأساتذة مثلًا بتنظيم تخرج شعبي وأجَّروا كنائس لإقامة الاحتفالات. هناك الكثير من الأساتذة معادين للصهيونية ويساريين وفلسطينيين نظموا حفلات تخرج لكل الطلاب المطرودين أو الذين حرموا من التخرج بعد إلغاء الاحتفال في جامعة كولومبيا. وتم أيضًا تنظيم احتفالات تخرج شعبية في كل جامعات نيويورك للطلاب الذين فُصلوا، وقاموا خلالها بإلقاء كلمات، وهكذا". 

استدرك هنا د. عاطف منبهًا لنقطة هامة تخص السوشيال ميديا، التي لعبت في رأيه دور هام في تعبئة الحركة، فأوضح شارحًا: "صحيح أن الفيسبوك والإنستجرام كانا خاضعين لرقابة شديدة على أي بوستات أو صور أو منشورات تخرج من المخيمات أو الطلاب المعتصمين -تويتر كان أفضل بعض الشيء- لكن التيك توك أحدث فارقًا كبيرًا لأن مركزه في الصين، التي لا تفرض رقابة على بوستات الاعتصامات. ولا تستطيع شركات التكنولوجيا الأمريكية السيطرة عليه بتغيير الألجوريزم مثل مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، لهذا أراد بايدن أن يتدخل لوقف التيك توك في أمريكا. وعمومًا كان الشباب المعتصمون يتعاملون مع تطبيقات مثل سيجنال والواتس اب والتيك توك". 

سألته عن رأيه في كيف يؤثر الحرك الطلابي على المجتمع الأمريكي؟ أجاب بأن: "الحراك الطلابي فتح الكثير من الملفات الشائكة. خذ عندك مثلًا استثمارات مجمع جامعات كاليفورنيا، التي تصل إلى 33 بليون دولار، نحن نعرف الآن أن 15% أو أكثر من هذه الاستثمارات تأتي من شركات مرتبطة بصناعة السلاح والحرب! هذا جعل الناس تشعر بالإهانة.. وأصبح الآن كل ما يتعلق بميزانيات الجامعات والاستثمارات داخلها موضوعًا للبحث والتقصي. هناك أيضًا عنف الشرطة، فالاعتصامات الطلابية أعادت فتح هذا الملف بقوة. وبالطبع حدث تأثير كبير على أهمية ووزن الاتهام الشهير "معاداة السامية"، فلم يعد مقبولًا اتهام كل من ينتقد إسرائيل بمعاداة السامية، أصبح هذا الموقف منتشر وسط اليهود الأمريكيين أنفسهم، فأغلب اليهود الأمريكيين الآن لديهم درجة أو أخرى من النقد لإسرائيل، وهناك كتلة معتبرة وسطهم تتسع باطراد تعلن عداءها الواضح للصهيونية. كذلك جاء الهجوم على الحراك الطلابي بنتائج عكسية في بعض الحالات، كما حدث في كاليفورنيا، حيث صوت 48 ألف عامل في الجامعات ضمنهم 19 ألف مدرس ومحاضر على الإضراب دفاعًا عن حق الطلاب في الاحتجاج على حرب غزة".

أوضح هنا مستدركًا: "لكن لا نستطيع الحقيقة القول بأن الحراك الطلابي يدفع الأمور بأي شكل في اتجاهات أكثر جذرية اجتماعيًا أو سياسيًا. فلازلنا بعيدين جدًا في رأيي عن أن تتسع الحركة لتضم أقسام من العمال الأمريكيين، أو تنظم تحركات اجتماعية أوسع.. حدث بالقطع فضح لإسرائيل، ولعلاقة شركات السلاح بالجامعات الأمريكية، وحتمًا سيتجاوز الحراك الطلابي مسألة إنهاء حرب غزة إلى الضغط من أجل إنهاء الاحتلال ومقاطعة إسرائيل.. باختصار هناك بالتأكيد تطور في مستويات الوعي، وأيضًا إدراك متزايد لحقائق الأمور.. أما ما سيسفر عنه ذلك في المستقبل فهو أمر غير واضح حتى الآن". 

سألته إذا ما كان في تقديره هناك إمكانية أن يتحول الحراك الطلابي خلال السنوات المقبلة إلى ما يشبه ما جرى في الستينات ضد حرب فيتنام؟ فأجاب بأن لا شيء مستبعد، لكن الأمر يحتاج إلى سنوات من التراكم، وأضاف: "هناك تشابه بالطبع بين الحراك الحالي وبين حركة مناهضة الحرب في فيتنام، لكن الأخيرة كانت حركة اجتماعية واسعة وقوية، كما أنها كانت مركزية جدًا.. الأقرب في الحقيقة للحراك الطلابي الراهن، هي الحركة الطلابية التي نشأت في نهاية الثمانينات ضد الأبارتايد في جنوب أفريقيا. فهناك تشابه بين الوضع في إسرائيل وما كان عليه في جنوب أفريقيا، وهذا ما يدفع الحركة إلى تكتيكات متشابهة، مثل المطالبة بالمقاطعة الاقتصادية، أو احتلال المباني الجامعية، كما حدث في جامعة كولومبيا في نهاية الثمانينات واليوم". 

سألته هنا عن مجريات الانتخابات الأمريكية، ماذا لو فاز ترامب، هل سيؤدي ذلك إلى تصاعد الحركة في تقديره؟ فأجاب بحسم: "من المؤكد أن فوز ترامب سيؤدي إلى تصعيد الحراك.. ترامب يشتم الديمقراطيين، وأحد تنظيمات الحزب الديمقراطي كان موجودًا داخل الاعتصامات هو جناحه الاشتراكي، هو جناح صغير داخل الحزب بالطبع، لكنه يساهم في تصعيد الحركة. عمومًا الأمور تزداد تعقيدًا بعد انسحاب بايدن، ولازالت الرؤية غائمة بخصوص مسار تطور الانتخابات". 

سألته عن أوضاع اليهود في أمريكا، هناك يهود مناهضون للصهيونية، لكن على حد علمي أغلبية اليهود الأمريكيين صهاينة، وحتى نشوب حرب غزة كانوا يميلون غالبًا في اتجاه إسرائيل. وسؤالي لا يتعلق باليهود المناهضين للصهيونية، لكن عن اليهود الآخرين، ما مدى الانقسامات بينهم الآن حول إسرائيل؟ وكم منهم مواقفه تغيرت بسبب الحرب ومجرياتها؟ 

أجاب شارحًا: "يوجد في أمريكا أكثر من سبعة مليون يهودي، واليهود الأمريكيون في غاية الأهمية لإسرائيل، فهم يقدمون لها الدعم المادي والمعنوي جيل وراء جيل. من بينهم من يقول أنه لابد من وجود مكان آمن لليهود ليذهبوا إليه لو حدثت لهم أي مشكلة. هكذا يرسلون أطفالهم إلى هناك للدراسة والرحلات الدينية، ويعتبرون أنفسهم ليبراليون ولا يفضلون سياسة نتنياهو. أغلبية اليهود الأمريكيين غير معادين للصهيونية، لكنهم ليسوا بالضرورة صهاينة. أغلبهم الآن يقف في النص، يتردد بين التأييد والمعارضة، وعلى حالة انقسام وتشوش. حتى المعابد نفسها منقسمة، ستجد في معابد أن رجل الدين والحضور جميعًا معادون للصهيونية، والعكس صحيح فستجد أيضًا معابد صهيونية أصيلة. هناك تباينات كبيرة الآن، وهم منقسمون حول الحرب ومتحيرون تمامًا".

سألته مستوضحًا عن ميول هذه الكتلة الوسيطة المتحيرة، هل الميل العام يشدها للتضامن مع غزة ضد الحرب، أم أنه يدفعها لمواصلة تأييد إسرائيل؟ 

فأجاب: "يوجد التأثيرين الآن في حالة شد وجذب. هناك أساتذة نعرفهم أعلنوا أنهم سينضمون رسميًا لليهود المعادين للصهيونية، وهناك يهود أمريكيون آخرون متذبذبون. هناك أيضًا جيران وأناس عاديون، من غير اليهود، يميلون الآن ناحية اليهود المعادين للصهيونية، لكنهم غير قادرين على اتخاذ موقف. الاستقطاب حاد، لكن التعاطف مع القضية الفلسطينية يتزايد. والمؤكد أن وجود اليهود المعادون للصهيونية مركزي وحاسم في المعركة، ويمكن القول أن مستقبل الحركة عمومًا متوقف بشكل كبير على وجودهم. فهم عامل في غاية الأهمية، لأنهم يكشفون هشاشة خطاب الإدارة الأمريكية التي تدعي أن الطلبة اليهود لا يشعرون بالأمان، ولأنهم أيضًا يفضحون للمجتمع والرأي العام أكاذيب الصهيونية، ولأنهم كذلك يشكلون عامل ضغط كبير جدًا على الكتلة الحائرة من الصهاينة. هناك أستاذة أعرفها صهيونية متشددة، ولها أقارب في إسرائيل بدأ خطابها يختلف، لم تنقلب إلى التعاطف بالطبع، لكنها بدأت تعترف -هي وكثيرون من أمثالها- بأنها لا تتفق مع سياسة نتانياهو، وتتساءل باستغراب "من قال أن الفلسطينيين ليسوا السكان الأصليين؟!" وهي لأول مرة تقول مثل هذه الكلمات.. هناك تغير كبير يجري تحت السطح، وسنشهد الكثير في المستقبل". 

كان سؤالي الأخير للدكتور عاطف عن اليسار الراديكالي الأمريكي، فأنا أعلم أنه بالإضافة لصغر وضآلة حجم هذا اليسار تاريخيًا في أمريكا، فقد مر خلال السنوات الماضية بمآزق عديدة فاقمت من محدودية حجمه وتأثيره، وسؤالي هل في تقديره ستؤدي حركة التضامن ضد الحرب في غزة إلى ميلاد جنين جديد لهذا اليسار؟ 

أجاب بأنه يرى هذه الإمكانية بالفعل، لكنه استدرك مؤكدًا أن: "الأمر سيحتاج إلى سنوات حتى يكون هناك ميلاد جديد حقيقي. حركة التضامن ضد الحرب في غزة تشبه بالفعل حركة مناهضة الحرب في فيتنام، وحركة مناهضة الأبارتيد في جنوب أفريقيا، تحمل نفس التأثير النفسي والسياسي والتاريخي، وبالطبع سيخرج منها جنين يسار راديكالي جديد، كان يمكنك أن تشعر به وسط الاعتصامات. لا أقول أنه يسار اشتراكي بالضرورة، لكنه خليط بين الأناركية والاشتراكية والعداء للعنصرية.. كانت هناك لا شك روح تسري داخل الاعتصامات معادية للرأسمالية والصهيونية.. لكن إلى أين ستنتهي الأمور، هو في رأيي حديث سابق لأوانه". 

شكرت الدكتور عاطف سعيد على هذا الحوار الثري، آملًا أن نعيد اللقاء مجددًا بعد حين.