رؤى

نجلاء عبد الجواد

خرافة الهيكل الثالث والصراع الفلسطيني الصهيوني

2024.09.14

مصدر الصورة : الجزيرة

خرافة الهيكل الثالث والصراع الفلسطيني الصهيوني

 

للخرافة دور كبير في الصراع العربي الإسرائيلي لما تمثله في عقل الكثير من اليهود. وتعد خرافة الهيكل الثالث أخطر الخرافات المؤججة لهذا الصراع، وهي تقول: يجب بناء الهيكل الثالث كي يتجلى المسيح وينقذ اليهود من الخطيئة، ويقضى على الأشرار، ويعم السلام الأرض.

وسعيًا لتحقيق تلك الخرافة سعت الصهيونية الدينية لإقامة وطن يهودي مثلها في ذلك مثل الصهيونية العلمانية. فقد رأى الحاخام الأرثوذكسي إبراهام كوك - (1865- 1935) وهو من طلائع الحركة الاستيطانية الصهيونية الدينية، وأول حاخام أكبر لليهود الأشكناز في فلسطين. أن جيل المستوطنين الصهاينة في فلسطين هو الجيل الذي تتحدث عنه نبوءات التوراة، وأنه ينتمي إلي عصر الماشيح (الخلاص)؛ لذا رأى أن الصهيونية العلمانية، بما لديها من تعاليم تخالف التوراة، ستعجل من تحرير اليهود.

وبالرغم من أن مثل هذا التدخل البشري محظور في اليهودية الأرثوذكسية التي تؤمن بأنه لا يمكن بناء وطن يهودي، ولا يمكن تحقيق الخلاص من قِبَل الخطاة الذين لا يطيعون الشريعة اليهودية، إلا أن كوك اعتبر هذا النوع من الصهيونية شرطًا أساسيًّا لمجيء المسيح؛ ولذا اعتبر الصهاينة العلمانيين جزءًا من جيل ما قبل مجيء المسيح. في المقابل. كانت الصهيونية العلمانية ترى أنها بمفردها لن تحقق الكثير، وأن الدين وحججه ستكون ضرورة لبناء الوطن القومي اليهودي وكثرة الهجرة اليهودية إليه. وعلى هذا فقد خدم الدين كورقة سياسية فعالة للصهيونية العلمانية في بناء وطن قومي لليهود، كما خدمت الصهيونية العلمانية خرافة الصهيونية الدينية في مجيء المسيح.

كانت أولى المحاولات الصهيونية الدينية لفرض تلك الخرافة على العقل الفلسطيني والعربي في 14 أغسطس 1929، عندما وقعت أول مواجهة مسلحة في الصراع العربي الإسرائيلي، أو بالأحرى الفلسطيني الصهيوني؛ فوجئ الفلسطينيون بمظاهرات ضخمة تجوب شوارع القدس، حتى وصلوا إلى حائط البراق "الحائط الغربي للمسجد الأقصى"، مدعين أنه يُعرَف بحائط المبكى، وأنه مكان خاص باليهود وحدهم، وأنه جزء من هيكل سليمان المزعوم، وأنه مكان مقدس للتعبد والنحيب والبكاء، وعليه قام بعض المصلين اليهود بوضع مقاعد وأدوات تتعلق بطقوسهم قرب حائط البراق، بمناسبة ما سموه "ذكرى تدمير هيكل سليمان"، وأخذوا يهتفون: "الحائط لنا". ويرددون "النشيد القومي الصهيوني"، ويسبون الفلسطينيين ويتوعدونهم بالموت والحرق. تم هذا بحماية من قوات الشرطة البريطانية التي ترافق المتظاهرين اليهود.

وفي اليوم الثالث، الجمعة 16 أغسطس 1929، الذي وافق ذكرى المولد النبوي الشريف، توافد الفلسطينيون بأعداد كبيرة للصلاة في المسجد، ثم دخلوا في مواجهة مع الصهاينة للدفاع عن حائط البراق؛ إذ كان هناك دعوات لليهود للاستيلاء على الحائط. وقعت صدامات عنيفة بين الفلسطينيين من جهة واليهود وقوات الانتداب من جهة أخرى في الخليل وصفد والقدس ويافا ومدن فلسطينية عديدة، واستمرت أيامًا، وأسفرت المواجهات عن مقتل 133 يهوديًّا وجرح 339 آخرون، في حين قتل 116 فلسطينيًّا وعربيًّا وجرح 232 آخرون.

تمكنت بريطانيا من السيطرة على الموقف بقسوة، وقدمت للمحاكمة ما يزيد على ألف من الفلسطينيين وحُكِم على 27 منهم بالإعدام، بينهم يهودي واحد، كان شرطيًّا دخل على أسرة عربية في يافا مكونة من 7 أشخاص فقتلهم جميعًا. خففت سلطة الانتداب الأحكام إلى السجن المؤبد بحق 23 من الفلسطينيين، وأيدت حكم الإعدام بحق 3 بعد اتهامهم بقتل يهود، هم: فؤاد حسن حجازي، ومحمد خليل جمجوم، وعطا أحمد الزير، الذين نُفِّذ فيهم الحكم يوم الثلاثاء 17 يونيو 1930، في سجن مدينة عكا، وعُرِفت عملية الإعدام في الأدبيات الفلسطينية باسم: "الثلاثاء الأحمر".

لم تَغِب خرافة الهيكل الثالث عن الصراع العربي الإسرائيلي بعدها، وجرت محاولات عديدة لحل النزاع على حائط البراق، وشُكِّلت لجنة دولية للفصل في الأمر، فاستمعت إلى طرفي النزاع وحصلت منهما على ما لديهما من حجج ووثائق تؤيد وجهتي نظرهما. وطلب اليهود من اللجنة أن تعترف بأن "حائط المبكى" مكان مقدس ليهود العالم قاطبة، وأن تقرر أن لليهود الحق في التوجه إليه للصلاة وفقًا لطقوسهم الدينية من دون ممانعة من أحد.

قررت اللجنة في تقريرها الذي نشرته عام 1931 أن: "للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي ولهم الحق العيني فيه؛ لكونه يؤلف جزءًا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف الإسلامي، وللمسلمين أيضًا تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط، وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة؛ لكونه موقوفًا حسب أحكام الشرع الإسلامي".

لم تستسلم الصهيونية الدينية لهذا القرار وظلت بين الحين والآخر تفتعل الحوادث المستفزة لمشاعر الفلسطينيين إلى أن أنهت بريطانيا انتدابها على فلسطين، وتركت الشعب الفلسطيني فريسة في أيدي العصابات الصهيونية. وفي عام 1947 صدر قرار التقسيم عن الأمم المتحدة، وسُلِّمت إدارة بيت المقدس إلى مجلس الوصاية نيابة عن المنظمة الدولية، وبهذا تقرر أن تكون القدس مدينة دولية؛ أي: كيانًا منفصلًا.

أعقب ذلك حرب 1948 واحتل اليهود القدس وقسمت المدينة إلى قسمين من حيث السيادة، في حين وقع الجزء الغربي تحت سيادة الدولة الصهيونية الناشئة، ووقع الجزء الشرقي -بما في ذلك البلدة القديمة والمسجد الأقصى- تحت حكم الأردن. هذا منع اليهود المنتمين إلى الصهيونية الدينية من الوصول إلى الأماكن المقدسة في المدينة القديمة، ولم يتمكنوا من دخول المسجد الأقصى ومِن ثَمَّ بناء هيكلهم المزعوم.

لكن مع الهزيمة في 1967، واقتحام إسرائيل للقدس ودخول المدينة القديمة والمسجد الأقصىـ رفع الصهاينة لافتات مكتوب عليها أن القدس ستظل إلى الأبد عاصمة لإسرائيل.

فور اقتحام المسجد الأقصى قام عدد من أتباع اليهودية الصهيونية بقيادة الحاخام شلومو جورين، مؤسس الحاخامية العسكرية في الجيش الإسرائيلي، وبالاتفاق مع قائد المنطقة الوسطى وقتها على وضع 100 كيلو جرام من الديناميت داخل قبة الصخرة؛ حتى يضمن تفجير أكبر مساحة من المسجد ممكنة، لكي يُبْنى عليها الهيكل المزعوم. لكن أوقفت السلطات الإسرائيلية الأمر؛ لمخاطره الشديدة.

على جانب آخر منع حاخامات اليهودية الأرثوذكسية "الحريدية" اليهود المتدينين من دخول المسجد الأقصى، لاعتبارات دينية لديهم، وكان لهذا المنع دور كبير في إعادة مفاتيح المسجد إلى الأوقاف الإسلامية في مدينة القدس، باستثناء باب المغاربة. وتطور الموقف إلى وقوع خلاف على موضوع دخول المسجد الأقصى بين التيار الديني التقليدي الذي مثلته الحاخامية الرسمية الكبرى للدولة اليهودية، وتيار الصهيونية الدينية الذي يمثل أقصى اليمين المتطرف لنفس الدولة اليهودية، والذي كان يتشكل في ذلك الوقت من عدد محدود من المتطرفين. فما كان من وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت موشيه ديان، وهو علماني غير متدين، إلا أن أخذ بالقوة مفاتيح باب المغاربة من الفلسطينيين وفتحه لمن شاء من اليهود دخول المسجد الأقصى بحجة الزيارة السياحية لا الصلاة. وفي الوقت نفسه بناء على أوامر من الحاخامية الرسمية الكبرى تم وضع لافتة خارج بابي المغاربة والسلسلة مكتوب عليها باللغتين العبرية والإنجليزية: "إن دخول هذه المنطقة محرم بحكم من الحاخامية الكبرى للدولة".

بناء على هذا الواقع انفصلت الصهيونية الدينية عن الحاخامية الأرثوذكسية اليهودية، وأعلنت خروجها على فتاوى حاخامية الدولة الكبرى فيما يتعلق بموضوع الدخول إلى المسجد الأقصى، وردًّا على لافتة الحاخامية الكبرى رفعوا لافتات عليها صور طائرات عسكرية تقصف المسجد الأقصى مع عبارة "هذا اليوم سيأتي قريبًا".

نشطت بعدها الصهيونية الدينية في جمع الأموال والتبرعات التي ساهمت في تأسيس العديد من المؤسسات والجمعيات والمعاهد للعمل على مشروع بناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى، والتنقيب عن موقع هيكل سليمان المزعوم. ومع سيطرة إسرائيل على القدس سارعت بإعادة هيكلة المدينة فيما سَمَّتْه بالخطة الحضرية لتجديد البلدة القديمة، وبدأت بالمنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى لعزل المسجد عن الفلسطينيين؛ فقامت بتدمير 35 منزلًا عربيًّا ومسجدين كانت تشكل حارة المغاربة المجاورة لحائط البراق، وتم إجلاء العديد من الفلسطينيين لإنشاء مساحة مفتوحة لوصول اليهود إلى حائط المبكى المزعوم. وقد أدى هدم حارة المغاربة إلى توسيع مكان العبادة اليهودي أمام الحائط وتقليص عدد السكان الفلسطينيين حوله وإبعادهم من منطقة العبادة اليهودية.

في عام 1969 أثناء الاحتفال بذكرى تدمير هيكل سليمان تسلل مسيحي صهيوني، أسترالي الجنسية يدعى مايكل روهان، إلى المسجد الأقصى وأضرم النار فيه معتقدًا أنه بهذا سيعجل ببناء الهيكل وعودة المسيح مرة أخرى، وقد ألحق الحريق أضرارًا جسيمة بمنبر المسجد؛ وهو منبر من خشب العاج عمره أكثر من ألف عام.

ازدادت أعمال الحفر في محيط المسجد بعد حرق منبره وتهجير الكثير من الفلسطينيين واستيطان اليهود للقدس، وقد شجعت الصهيونية العلمانية المتمثلة في السلطة هذا الاستيطان وتحمست الصهيونية الدينية لهذا الدور؛ لأن الضفة والقدس في مزاعمهم تمثلان قلب الأرض المقدسة وموطن يهودا والسامرا والمدن التاريخية التوراتية؛ مثل: الخليل ونابلس والقدس، والهيكل المزعوم.

وقد نشأت في إثر ذلك جماعات متعددة تدور في فلك الصهيونية الدينية، مثل: "غوش أمونيم" و"أمناء جبل الهيكل"، ونشطوا في تشجيع الاستيطان. كما نشأت أحزاب دينية تدعو لطرد الفلسطينيين نهائيًّا وتهويد الضفة بشكل كامل.

بعد اتفاقية أوسلو في 3 سبتمبر 1993 التي بموجبها تخلت الصهيونية العلمانية المتمثلة في السلطة الحاكمة عن مناطق توراتية تعتبرها الصهيونية الدينية أهم من تل أبيب نفسها، وبعد أن كانت الصهيونية الدينية أداة بيد دولة الاحتلال انقلبت عليها وأصبح لها أجندتها الخاصة المتطرفة كليًّا دون أي اعتبارات أخرى؛ سواء كانت اعتبارات محلية خاصة بشركاء الوطن اليهودي من العلمانيين، أو اعتبارات ومواثيق دولية تراعي حقوق الفلسطينيين التاريخية والإنسانية.

وقد تجسد هذا الموقف في اغتيال إسحاق رابين كانتقام من الصهيونية الدينية، وتهديد لكل من سيتخلى عن أرض اليهود بأن مصيره سيكون القتل، ورسالة تؤكد لكافة اليهود أن الصهيونية العلمانية تفرط في حقوق اليهود التاريخية. وقد أدى هذا إلى التفاف الكثير من اليهود حول الصهيونية الدينية، وازدادت أعداد المهووسين ببناء الهيكل، وتحولت الخرافة لمشاريع وخرائط هندسية ولائحة زمنية وأموالًا وتبرعات مهولة، وتعاظم الاهتمام بإنشاء الهيكل المزعوم واعتُبِر مسؤولية قومية ودينية لليهود مرتبطة برغبة إلهية.

في 28 سبتمبر عام 2000 اندلعت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، عقب اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك أرئيل شارون باحات المسجد الأقصى، تحت حماية نحو ألفين من الجنود والقوات الخاصة، وبموافقة من رئيس الوزراء في حينه إيهود باراك، تجول شارون في ساحات المسجد، وقال: "إن الحرم القدسي سيبقى منطقة إسرائيلية"، مما أثار استفزاز الفلسطينيين.

وقد أسفرت الانتفاضة الثانية عن مقتل 4412 فلسطينيًّا إضافة إلى 48 ألفًا و322 جريحًا، بينما قتل 1100 إسرائيلي، بينهم 300 جندي، وجرح نحو 4500 آخرين. وتعرضت مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الانتفاضة لاجتياحات عسكرية وتدمير آلاف المنازل والبيوت، وتجريف الأراضي الزراعية.

أعطى موقف شارون من المسجد الأقصى نفوذًا أكثر للصهيونية الدينية، فظهرت جماعات استيطانية، وزاد عدد أنصار فكرة بناء الهيكل بشكل كبير؛ فبعد أن كانوا عشرات أصبحوا مئات يناصرهم عشرات الآلاف من المتدينين والعلمانيين، ومن حولهم تطورت البيئة الأيديولوجية الشعبية الداعمة لفكرة هدم المسجد الأقصى، بل إنها أصبحت تيارًا شرعيًّا له تمثيل في الكنيست، ويحظى بتشجيع محلي ودولي في تمويل نشاطاتها الرامية لتأهيل كهنة الهيكل؛ تجهيزًا لبناء الهيكل والصلاة فيه.

وعن نفوذ جماعات الهيكل في قرارات الحكومة الإسرائيلية، فإن الصهيونية الدينية تتحكم ليس فقط في الأحزاب الدينية كحزب "القوة اليهودية"، وإنما أيضًا في حزب الليكود الحاكم. وتضم حكومة نتنياهو اليوم -المكونة من 31 وزيرًا- 16 وزيرًا يُحسَبون على كتلة جماعات الهيكل يَتبنَّون أفكارها ويعملون على تحقيق أهدافها؛ وهو ما يؤيد خرافة بناء الهيكل المزعوم مكان الأقصى. وما أكثر اقتحامات وزير الأمن القومي في حكومة نتنياهو إيتمار بن غفير رئيس حزب القوة اليهودية للمسجد الأقصى وتصريحاته المستفزة لمشاعر الفلسطينيين ومقدساتهم، التي كانت أحد أسباب اشتعال الحرب الدائرة حاليًّا في غزة بين الشعب الفلسطيني وقوات الاحتلال الإسرائيلي، وهي الحرب التي تحاول فيها إسرائيل إبادة أهالي غزة وتهجيرهم. وهو ما أيقظ وعي العالم لما يدبَّر لفلسطين ومقدساتها جراء خرافات وهلاوس في عقول جماعات إرهابية متطرفة دينيًّا. ورغم كونها خرافات لكنها بالفعل أصبحت تشغل اليوم جميع المتابعين للصراع العربي الإسرائيلي والمهتمين بالتراث الإنساني والتاريخي.