مراجعات

نيفين النصيري

كتاب: "تلات ستات.. سيرة من ليالي القاهرة"

2024.10.19

كتابة إثنوجرافية بديلة: من القهر إلى التمكين*

 

في واقعٍ تتداخل فيه الحدود بين الإنسانية والوحشية، وفي قلب مجتمعات تتمسك بقيمها التقليدية في الظاهر، وتلفظها في الباطن، يظهر كتاب «تلات ستات.. سيرة من ليالي القاهرة» كجسر بين عالمين متباينين: المتفق عليه اجتماعيًّا، والمسكوت عنه، ويظهر أيضًا مثل مرآة تكشف عن حقائق قاسية وصادمة، وإن كانت موجودة منذ الأزل.

يحقق محمد العريان وعمر سعيد، في كتابهما الصادر عن دار المرايا للثقافــة والفنون، إنجازًا كتابيًّا لافتًا، حين يقدمان عملًا يتسم بالحرفية والإنسانية في الوقت نفسه، من خلال تمكين المهمشين من التعبير عن أنفسهم بحرية وصدق عبر سردية مذهلة، فيبرز نصهما كعمل عابر للنوع، يجمع بين الأدب وعلم الأنثروبولوجي والسيرة الذاتية والتقرير الصحفي، في تصديه لقصص عاملات الجنس التجاري في مصر، وهو موضوع يجذب الأنظار ليس فقط لحساسيته، وإنما أيضًا لتعقيداته الاجتماعية والأخلاقية. ورغم ما قد يثيره ذلك من جدل، فإنهما يقدمان نظرة متعمقة ومتعددة الأبعاد لقضية ملتبسة، متجاوزان الأحكام الأخلاقية والدينية البسيطة.

إن قضية العمل في مجال الجنس التجاري متعددة الأوجه، حيث إنها غالبًا ما توجد في بيئة غير منظمة، تُعرِّض النساء لعديد من الانتهاكات والجرائم، تحت هيمنة من الخطاب الأبوي. لذلك، من الضروري النظر إلى الدعارة ليس فقط من منظور أخلاقي، وإنما من منظور اقتصادي يراعي كذلك ديناميكيات القوة والأنظمة السلطوية داخل المجتمع، التي تستغل الأطر الأخلاقية أو حتى القانونية لتعزيز أجنداتها الخفية، التي تتراوح بين المكاسب الاقتصادية والأهداف الأخلاقية الرامية إلى تعزيز سلطتها الأبوية والذكورية والسياسية والرمزية.

من القهر إلى التمكين

لذلك لا يبدو غريبًا أن يركز الكتاب في الجوانب الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الظاهرة، مسلطًا الضوء على تجارب النساء العاملات في هذا المجال وما يتعرضن له من انتهاكات ومعاناة، كما يتناول الظروف والهياكل الاجتماعية التي تسهم في استمرار هذه الممارسات، بهدف تقديم فهم أعمق إلى تلك القضية، متجاوزًا النظرة الأحادية ليستكشف الأبعاد المتعددة لها، فيفتح نقاشًا موضوعيًّا عن قضية تظل قائمة في المجتمعات كافة، بغض النظر عن مستوى تقدمها.

وإن يكمن جوهر هذا العمل في منح النساء المهمشات فرصة للتعبير عن أنفسهن، فكيف تمكن محمد العريان وعمر سعيد من توفير هذا المنبر لهن للتحدث، ليس فقط عن موضوع شديد الحساسية، مثل العمل في الجنس، وإنما لاستعراضه بعمق وشفافية وموضوعية؟

حدث ذلك لأنهما وفَّرا، من خلال النص، بيئة تتيح لهؤلاء النساء التعبير عن تجاربهن من دون قيود، ما عكس التحديات التي يواجهنها، وما جاء تدخلهم إلا من خلال الكتابة والتحرير ليحولا الكلام العادي إلى صيغة أدبية، حتى أنهم تركوا جميع الألفاظ الإباحية والوصف الكامل والتفصيلي لكل الممارسات الجنسية التي قمن بها.

بذلك، كانا بمثابة مراقبين موضوعيين وليس مشاركين في العمل. فرغم أن الكتاب يقدم تفاصيل قد تبدو مألوفة، مثل الظروف المعيشية والقصص الشخصية، فإنه يحتوي أيضًا على عناصر فريدة وغير تقليدية تنكشف من خلال سرد يتسم بالخصوصية والحميمية.

هذه التفاصيل، بجانب الوصف الصريح والمباشر لمشاهد الجنس، قد تثير مشاعر قوية من الانزعاج والصدمة. فبشكل عام يطرح الكتاب قضايا محظورة وشائكة، مثل الأمهات اللواتي يلتزمن بتقاليد قاسية كختان الإناث. هنا، مثلًا، تتجسد إحدى شهاداتهن المروعة: "يقطع قطعة، تؤلمني، يضع عليها مادة حارقة، أصرخ من الحرقان، يقطع مرة أخرى، أصرخ بكل قوتي، تضع أمي يديها في وسطها، اقطع تاني، يستجيب ويقطع، وأنا أصرخ تنظر أمي على بتاعي وتقول، كمان، يرد كفاية كده. تعترض أنا عارفة بقول لك إيه، حتة كمان. ينظر إليها في حيرة، يمد يده مرة أخرى أصرخ وكأني سأموت، تقول في حتة كمان أهي اقطعها، يرد مش هينفع، كده مش هيبقى فيه حاجة خالص. تنظر إليَّ بغل وتقول: وانت مالك؟ أنا بقول لك شيل كمان يستجيب وهو غير راضٍ". هذا المشهد المؤلم يطرح سؤالًا مهمًّا: كيف استطاع محمد العريان وعمر سعيد نقل هذه التجارب بصوت المتكلم، رغم أنهما رجلان؟

الصوت الأصلي

في مقدمة الكتاب، يعترف الكاتبان بوعيهما لذلك التحدي، ويؤكدان أنهما بذلا جهدًا للتخلص من "افتراء رجولي نسطو فيه على قصص وأحاديث عن مشاعر وجسد وتجارب من المستحيل الشعور بما تجلبه إلا لمن عاشها؟" وأعطى النص اهتمامًا كبيرًا بحماية خصوصية حياة هؤلاء النساء ومعلوماتهن الشخصية، مؤكدًا أن هذا كان له الأولوية على الإنتاج الثقافي أو الصحفي.

ورغم أنني امرأة، أتساءل عن قدرتي على الحديث باسمهن، خاصة عندما لا أملك السلطة لوصف تجاربهن المؤلمة أو حتى السعيدة. إذ تصف إحدى الشخصيات مشاعرها، قائلة: "في الصباح كنت داخل الدائرة، مشاعر أول مرة أجربها، عيوني السوداء الواسعة اتسعت أكثر، تجرب أحلامًا بلا حدود، وسعادة لا يمكن وصفها".

في هذا السياق، أستحضر غاياتري سبيفاك، الناشطة والمنظِّرة الهندية في النقد الأدبي والحضاري، ومقالتها المؤثرة "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" المنشورة في عام 1998. فإذا كانت كلمة "التابع" أو "المهمش" تشير عند سبيفاك إلى مفهوم قهر وإبعاد الذات عن مركز التاريخ، فإن محمد العريان وعمر سعيد قدما إلى أولئك المهمشات فرصة لتأكيد وجودهن وصوتهن، وجعلا منهن جزءًا من التاريخ، فمن خلال هذا العمل، صار في إمكانهن زعزعة البنية التقليدية السلطوية التي تبرز الأبطال الذكور المحافظين على الأعراف، مثلما تُعبر إحدى الشخصيات عن تجربة التهميش في حياتها اليومية، حين تقول: "في اليوم التالي بدأت ألاحظ من هم مثلي، أطفال ومجانين وكلاب الميدان، الوجوه تتغير إلا هم، الميدان بيتهم، يطوفون حوله ثم يعودون في النهاية، عرفتهم من ملابسهم المهترئة، حفاة مثلي وعلى وجوههم تراب كرصيف، راقبتهم يتسوَّلون، يبحثون في القمامة عن طعام، ينامون في أي مكان، أتابعهم، أسير وراءهم، يتجاهلونني، حاولت أن أتسول مثلهم".

تشير بيل هوكس، في كتابها النظرية النسوية: من الهامش الى الوسط (الصادر عام 1984)، إلى أن الهامش يُعدُّ نقطة انطلاق للخطاب المضاد للهيمنة، ويمثل هذا المفهوم جوهر النقاش حول الكتاب، فقد تناول العريان وسعيد بجرأة وشجاعة تجارب غير تقليدية وأحيانًا غير مقبولة من قبل شرائح واسعة من المجتمع. وهم وفق ذلك التصور يسعيان إلى تفكيك التاريخ ما بعد القومي والتمرد على النماذج النمطية المتعارف عليها، فمن منظور أنثروبولوجي، يقدم الكتاب سردًا يسلط الضوء على تاريخ الشعوب من زاوية المهمش، متبنيًا منظور غاياتري سبيفاك في سياق الحقبة الاستعمارية وما بعدها. كما أنهما يتبعان أيضًا عبر هذا العمل، مفهوم الطبقة العاملة كما طرحه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، ما يسمح بإعادة النظر في القصص التاريخية من زاوية غير تقليدية من خلال استكشاف الحكاية من وجهة نظر هامشية، متمردًا على الروايات القومية النخبوية التي تتوافق مع السياسات الرسمية لحداثة ما بعد الاستعمار، كما وصفها ديبيش شاكرابارتي (دراسات التابع والتاريخ ما بعد الكولونيالي، ترجمة ثائر ديب، مجلة أسطور 2016).

كذلك استطاعا، في رأيي، هدم فكرة تبعية المرأة للرجل نتيجة هيمنة الثقافة الذكورية الأبوية الاستعمارية، وفي الوقت نفسه مقاومة هذه الهيمنة، ما يعزز مفهوم التحرير الجندري ويحول التابع إلى صانع لمصيره الخاص. ورغم أن عديدًا من التجارب التي تحكيها النساء مؤلمة وصادمة، فإن الكتاب يسلط الضوء أيضًا على بعض المشاهد الإيجابية التي تعكس قوتهن وتمكينهن (empowerment)، كما في المشهد الذي تقول فيه إحدى الشخصيات: "فردت ظهري ووضعت ساقًا على أخرى، كأميرة، خلال ساعات حصلت على 1200 جنيه، خلال شهور أشتري أرضًا وأبني بيتًا لوحدي، الأحلام تنمو في عقلي كأني كبرت 10 أعوام، بجيب من عرق جبيني عرق بتاعك مش مهم، المهم إني أجيب". في مشهد آخر، تتحدث البطلة نفسها عن شعورها بالأنوثة: "كان هناك رجال آخرون أشعر معهم بأنوثتي أيضًا وأصل معهم لنشوتي، يعاملونني بلطف ولين، كأني إنسانة". وهكذا يحث الكتاب على عدم فرض أي قيم أو تفسيرات مسبقة، بل الاستماع بتمعن إلى حكايات هؤلاء النساء وفهم السياقات الاجتماعية والنفسية التي تشكل وجهات نظرهن، ليس لتبرير اختياراتهن، ولكن لفهم الأسباب التي تقف وراء اختياراتهن بشكل أفضل.

انشقاق الأنا

ومن خلال تلك الاقتباسات، يظهر كيف حافظ الكتاب على الصوت الأصلي لهؤلاء النساء، السؤال الذي يطرح سؤالًا مهمًّا: كيف تمكنا من الحفاظ على ذلك الصوت وهذه الحيادية؟ وكيف اتفقا فيما بينهما على أن يكتب كل واحد منهم قصة؟ ادخر الكاتبان إجابة ذلك السؤال لإحدى الندوات اللاحقة على إصدار الكتاب، حيث أشارا إلى أن القصتين الأولى والثالثة كتبهما محمد العريان، بينما كتب عمر القصة الثانية، أي إنهما قسَّما العمل بينهما في نوعٍ من الكتابة المشتركة بقلمين.

بالعودة إلى النص، فإن تأمل فقراته، يقود إلى عالم مفعم بالتفاصيل الدقيقة، مثلما تروي إحدى الشخصيات مشاعرها بواقعية مدهشة، فتقول: "في الليل أسرح فيه، تختلط مشاعري، أتقلب بين الغضب والشوق لرؤيته... اتخطبنا... أصبح رجلي... رسمت أمي الحنة على يدي وقدمي، حضرت أختي الكبيرة من البندر، وضعت لي الكحل والروج، فردت شعري وكوته، جلت وسط الحريم كقمر 14 في السماء". هذه الكلمات تعكس تجربة شخصية وعاطفية عميقة، تثبت أن الأهمية لا تكمن فقط في محتوى القصة، بل في كيفية تقديمها بصدق وبساطة، فمن بين المعالم الأدبية، يبدو مفهوم "انشقاق الأنا المتكلم" الأكثر بروزًا في هذا العمل، في إحدى اللحظات العاطفية العميقة، تعبر إحدى الشخصيات عن الألم والوجود المزدوج بعبارة قوية: "حينما أتذكرها لا أشعر إلا بالألم الذي تركته لي، أما هي فقد ماتت، لنقل إنها أنا لكن في حياة أخرى، أنا مت وولدت 3 مرات حتى أروي حكايتها أو حكايتي". يقدم هذا الانشقاق رؤية متعددة الأبعاد حول كيفية تعامل الشخصيات مع تجاربها ومع ذاتها، ما يعزز من عمق الكتابة ويوفر فهمًا أعمق للتجربة الإنسانية.

نحو كتابة إثنوجرافية بديلة

يمكن أن يندرج هذا الكتاب تحت علم الإثنوجرافي أو دراسة الشعوب والأعراق البشرية، غير أن محمد وعمر تجاوزا هذه المناهج التقليدية، فبدلًا من تحليل الوثائق الثقافية، أو إجراء دراسات عميقة، قدما "كتابة إثنوجرافية بديلة" تركز في سرد القصص من دون تقديم تفسير أو تدخل مباشر. يعكس ذلك رغبة المؤلفين في الحفاظ على الأصالة والتعبير الذاتي، كما تعبر بعض المقتطفات، مثل: "هذه المرة أفرغت ما لديَّ، حكيت مشاعري كاملة، مشاعري المتضاربة، نعم كنت مجبرة، وأريد. لم أمنع نفسي عن تجربة أنوثتي في أحضان رجال آخرين، ولكني أخفيت جزءًا من الحقيقة".

عن النوع

ورغم تلك الفرضية، فإن الكتاب يبدو عصيًّا على التصنيف الأدبي، متجاوزًا الأنماط التقليدية للكتابة الوثائقية أو الأدبية، مظهرًا مهارة فائقة في دمج هذه الأنواع بطرق تخلق تجربة قراءة غنية وفريدة، ومتعددة الأبعاد. ففي المقدمة، يتساءل المؤلفان: "مشروع كتابة مختلف، أهي كتابة توثيقية؟ كتلك التي يتعاون على إنتاجها السياسيون والمفكرون والصحفيون؟ أم أنها كتابة أدبية تحافظ على الأسلوب السردي الممتع والحكاية؟" هذه الأسئلة تعكس رغبة المؤلفين في تجاوز الأطر الأدبية الراسخة، وإعادة تعريف حدود الكتابة الأدبية والوثائقية. فالكتاب يقف عند تقاطع ثلاثة أنواع رئيسية: الكتابة الأنثروبولوجية التي تسعى إلى تقديم حياة مجموعة اجتماعية، كتابة السيرة الذاتية التي تعكس التجارب الشخصية، والكتابة الأدبية التي تستند إلى أساليب التخيل والحبكة السردية.

بين الانكسار والأمل: صرخات من الأعماق

الكتاب في الأصل مستلهم أو قائم على تقرير صحفي قام به عمر سعيد، وفيلم تسجيلي من إنتاج دار المرايا، ومن ثم تم اختيار العاملات الثلاث لتسليط الضوء عليهن. سمرا في العشرينيات من عمرها، "أم لأربعة"، عفاف "عملت في الجنس التجاري في الخارج"، انشراح "تبحث دائمًا عن الحب"، ثلاث نساء استثنائيات، حكاياتهن عادية ولكنها صادقة، تعكس في النهاية: "سير ذاتية 'كبيرة' لأشخاص 'عاديين'".

فعندما يتعلق الأمر بعملهن، كنَّ مثل البشر العاملين في كل أنحاء العالم: يكافحن من أجل البقاء، يسعين للحصول على ظروف عمل آمنة، لتأمين معيشتهن، والحصول على حقوقهن الأساسية كبشر، لكنهن تعرضن لعديد من المخاطر والانتهاكات الجسدية والنفسية من قِبَل زبائنهن، وأحيانًا من قِبَل عائلاتهن أو الشرطة، بالإضافة إلى استغلال القوادين والاتجار فيهن. كما يظهر في هذه الفقرات: "لا أستطيع الإفلات، تعبيرات وجهه قاسية بها تحدٍّ، استمر دقيقتين، كل ثانية عذاب مستمر، تشنج، قذف على بطني، سائل أبيض لزج ممزوج بدمي، لسعتني سخونته كماء يغلي". يكتشف الكتاب قصصًا مثيرة تعكس بؤس الناس، وأن الجاني في نظر المجتمع قد يكون مجنيًّا عليه من ذلك المجتمع نفسه: "بدموع وكسرة، سيبوني حرام عليكم هو إنتم والدنيا عليَّا؟ أنا مش متجوزة حرام عليكم"، "عمري وقتها 17 عامًا، فتاة قوية، رأت الكثير، عاشت مواقف جعلت خبرتها 100 عامِ". تسهم تلك الاقتباسات في توضيح شعور الغربة وفقدان الهوية، ما يعزز فهم القارئ للتجارب الإنسانية الصعبة التي ترويها الشخصيات.

ويتجلى العامل المشترك بين نساء تلك السير، في الشعور العميق بالثقل والألم. حيث شكلت تجاربهن مرآة تعكس الواقع الصادم لحياة مليئة بالصراع والخيبة. هذا الشعور بالضياع والتهجير يعكس حالة من الانكسار العميق الذي يحاصر الشخصيات، حيث يصبح البحث عن مأوى أو ملاذ، حتى ولو كان وهميًّا، هو كل ما يمكنهم التعلق به. تبدأ إحدى القصص بنبرة حزينة، حيث تروي شخصية محورية: "رجع أبي فجأة من السفر، يده مربوطة على صدره، وخده متدلٍّ، يتكلم بصعوبة، أصيب بجلطة في المخ. حياتنا تتغير، أموال أبي تنفد، بيتنا لم يكتمل بناؤه". هنا، تتجسد الفجوة بين الأمل والانكسار، حيث تدفع الأحداث غير المتوقعة الأسرة إلى هاوية الفقر والتفكك. مع مرور الوقت، تزداد الأحوال سوءًا، كما تعبر شخصية أخرى بمرارة: "الآن أنا ضائعة، لا يمكن أن أعود إلى أهلي مرة أخرى".

كذلك يظهر التحول المأساوي في جسد وعقل الشخصيات، حين يصبح النوم وسيلة للهرب من واقع مرير، فللتهرب من الاكتئاب الذي يلاحقها، تسعى أحيانًا إحدى الشخصيات إلى طرق مختلفة للتخفيف من الألم، فتقول: "بدأت أتعاطى أقراصًا منومة، حصلت عليها أمي من الصيدلي. أنام أيامًا بلا عدد، هزلتُ، بان عظم ضلوعي، اسودَّ أسفل عيني، أصبحت شاحبة وكئيبة كعجوز، شبح يتحرك ليلًا. قبل أن يستيقظوا، أدخل قبري وأغمض عيني". ثم ننتقل إلى مشاهد مروعة من الروتين اليومي للشخصيات، حيث تقول إحداهن: "مرت أيام أخرى تشبهها، لا نرى الشمس، ننام نهارًا ونستيقظ ليلًا كمصاصي الدماء. فروجنا تمص سوائل الرجال وتفرغ جيوبهم... كل يوم، ينام فوقي 6 رجال على الأقل وأحيانًا يصلون إلى 10. أتمنى أن تأتيني العادة". تتجلى في هذه الكلمات قسوة الحياة التي تعيشها النساء، حيث يصبح الاستغلال جزءًا من الروتين اليومي.

بينما تظل مشاعر التأنيب والذنب تسكن الأعماق، كما تعبر إحدى الشخصيات بقلق: "يا ترى هتحب أمك؟ هتقول عليها مرة وحشة ولا زينة؟ لأ، هتقول عليها زينة. طيب هتكبر بسرعة وتمشي جنبي في الشارع؟ طيب هتبقى سندي في الدنيا وتحميني؟ أنا أمك، يا ترى هتسامحني؟". يعكس ذلك التأمل الحزين تعقيد المشاعر الإنسانية وكيف أن الأمومة، كإحساس فطري، تجمع بين النساء مهما كانت خلفياتهن.

وفي بعض الأحيان كانوا يلتقون زبائن يتجلى فيهم بعض الإنسانية والرحمة، فتتكون علاقات حنونة معهم "لم أشعر بهذا الأمان منذ تركني نور، كأنه أبي لا حبيبي، أبي وحبيبي معًا، رويت له ما حدث، كذبت وأخفيت حقائق، لكن مشاعري صادقة"، أو في هذه الفقرة: "منذ هذه اللحظة شعرت بيد الله تتدخل، هذا الشخص ولنسمِّه نادر، تدخَّل أكثر من مرة في مراحل حياتي، أنقذني مرات من الضياع، كان الدليل على أن هناك كائنات يمكن أن تحمل شيئًا من الإنسانية، يفاجئني دائمًا بعطفه وجدعنته وخوفه عليَّ، لم أجد مثله أبدًا، حتى بعد أن عدت إلى أهلي لم يعاملوني مثله".

وفي نهاية المطاف، نجد أن المشاعر العميقة التي تعبر عنها الشخصيات تتجاوز حدود المظاهر، كما تقول إحدى الشخصيات: "لا يشغلني سوى الحمل والولادة ومشاعر الأمومة. هجرت مناكفة الزبائن وجذبهم إليّ، لم أعد مهتمة بأحد. لا أنافس البنات، أفكر في بطني التي تنمو". هذا التحول يعكس البحث عن معنى جديد وتطلعات جديدة تتجاوز الظروف القاسية التي تعيشها.

بين الكتابة والشفاء

في عالم الأدب والنقد، ناقش عديد من المنظرين، مثل: موريس بلانشو، شوشانا فيلمان، دومينيك لاكابرا، ماريان هيرش، وسوزان سونتاج، ضرورة الكتابة عن الألم والتوغل في تفحص طبيعة التجارب المؤلمة أو الصادمة ودورها الفعال في عملية الاستشفاء.

في هذا السياق، يأتي كتاب محمد العريان وعمر سعيد ليشكل دليلًا عميقًا للقراء عن العوامل المتعددة التي تؤثر في التجارب الإنسانية ضمن إطارها الاجتماعي، حيث نجح في مواجهة "ما لا يمكن البوح به" (l’indicible) من خلال الكتابة عن التجارب المؤلمة. فكما أشرت في البداية، فإن الكتاب يهدف أولًا إلى تسليط الضوء على شريحة من المهمشين في المجتمع ومنحهم فرصة للتعبير عن أنفسهم وعن ألمهم. فهذا يمثل الخطوة الأولى نحو التعافي.

كما أن الكتاب يتجاوز مجرد تقديم نوع من التعاطف البسيط، الذي لا يكفي وحده 'للتخلص' من الصدمة والتعافي منها (healing)، كما أكدت إلين سكاري في عملها الرائد "الجسد المتألم" (1985)، فيتناول الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالاتجار في الجنس، وذلك لفهم وضع هؤلاء النساء بشكل أفضل، كما أنه من الضروري أيضًا النظر في ارتباطهن بمنظومة سلطوية ذكورية أبوية تسلب الهوية الذاتية وتقمعها، حيث يثير الكتاب تساؤلات حول مدى توافق الإطار السياسي/الأخلاقي للسرد مع تقديم ذاتية النساء المتحدثات، عاكسًا أحيانًا دور الجاني بدلًا من المجني عليه، كما توضح إحدى الشخصيات: "في كل عمل واجهت التحرش وطلبات الجنس. في كل احتياج كنت أفكر، عملت في أكثر من مهنة. الجيم كان أكثر مهنة مريحة، فلوسها أقل لكن مريحة، أجد نفسي فيها، أعامل باحترام، بإنسانية".

في نهاية هذه الدراسة، يتضح أن كتاب "تلات ستات: سيرة من ليالي القاهرة" لا يمثل مجرد سرد للواقع، بل عملًا أدبيًّا/إثنوجرافيًّا متجددًا يستكشف أعماق النفس الإنسانية في مواجهة التحديات الاجتماعية، فمن خلال تناول قضايا عمالة الجنس في مصر، استطاع محمد العريان وعمر سعيد أن يكشفا لنا عن جوانب مظلمة من المجتمع، مع الحفاظ على صوت المرأة المهمشة وحقها في التعبير.

وكما أشرنا مسبقًا فإن قضية العمل في مجال الجنس التجاري هي قضية معقدة ومتعددة الأوجه، ومن الضروري مراعاة الأبعاد الاقتصادية ووجود ديناميكيات القوة والأنظمة السلطوية داخل المجتمع، لذلك يشكل الكتاب جسرًا بين العالمين المتناقضين، حيث يبرز التوتر بين القيم التقليدية والواقع القاسي. كما أنه يسلط الضوء على أهمية الفهم الإنساني الذي يتجاوز الأحكام المسبقة، ما يشجعنا على إعادة التفكير في المعايير الاجتماعية والقيود التي نضعها على أنفسنا.

ومن خلال دمج الأنثروبولوجيا في السيرة الذاتية والأدب، يقدم الكتاب نموذجًا جديدًا في الكتابة، ما يساهم في توسيع آفاق الأدب المعاصر، إنه دعوة إلى التعاطف والتفاهم، وإشارة إلى أن كل تجربة إنسانية تستحق أن تُروى، بغض النظر عن سياقها. بهذا، يظل الكتاب بمثابة منارة للمهمشين ويحفزنا جميعًا على التفكير في دورنا في تعزيز العدالة الاجتماعية والإنسانية.

ومع الختام، أترك ذلك المشهد لجدة انشراح -بطلتنا الثالثة- التي جاءت في اليوم الثالث بعد عملية الختان القاسية وغير الإنسانية "ومعها عش عنكبوت في علبة كبريت، طمأنتني وطبطبت عليَّ، ووضعته على الجرح، توقف النزيف ولم أنسَ".

يجب أن يظل رمز العنكبوت في حياتنا ذا دلالة عميقة؛ كيف يمكن لعشه أن يوقف نزيفنا؟ دعونا نكرر الحكايات نفسها حتى لا ننسى، وحتى نصل إلى الشفاء والتغيير، فتصبح الكتابة عن الألم ليست مجرد عملية سردية فحسب، بل أيضًا محاولة لغزل خيوط الأمل والعدالة في نسيج المجتمع، لتظل الصرخات من الأعماق تُسمع ويُتفاعل معها، وتظل مشاعر الألم والشفاء جزءًا من حوار إنساني أوسع.


*  الصور الموضوعة في عناوين المقالة وداخل الموضوع مأخوذة جميعها من الفيلم التسجيلي "قيمة ساعة" من إخراج منال خالد وإنتاج "المرايا للثقافة والفنون" عام 2021. وهو فيلم يقص وقائع حياة النساء الثلاثة الواردة قصصهم داخل كتاب "تلات ستات"، وقام بالأعمال البحثية له محمد العريان وعمر سعيد مؤلفا الكتاب.