مراجعات
حمدي عابدينرواية "غواية الثلج": نماذج نسائية مشوهة وأطباء فاسدون
2025.03.08
مصدر الصورة : آخرون
الفرنسية آن بوريل في شهادتها الروائية تفضح جرائم العنصرية
تقدم الأديبة الفرنسية آن بوريل في روايتها "غواية الثلج" إشارات كاشفة تفضح عالم الجريمة، وظاهرة العنف المتفشية ضد النساء والأطفال في المجتمعات الغربية بشكل عام، وتكشف عن جرائم العنصرية وتأثيراتها السلبية في قيم العدل والحرية والتعايش بين أبناء الأعراق والثقافات المختلفة. تدور القصة على الأراضي الإسبانية، ثم يتحرك أبطالها لعبور الحدود صوب فرنسا، وهناك تتصاعد، مخلفة جرحى في عنابر المستشفيات، ومجرمين ينتظرون العقاب.
الرواية صدرت نسختها العربية حديثا عن دار المرايا بترجمة السوداني عاطف الحاج سعيد، وخلال فصولها تتشكل الشخصيات شيئًا فشيئًا، ومع تطور السرد، ووصولنا مع الكاتبة إلى خط النهاية تتكون أمامنا نماذج إنسانية بكامل تشوهاتها، وغرابتها وإثارتها للدهشة.
وتعتمد بوريل في "غواية الثلج" نموذجًا ما يمكن تسميته "رواية الطريق"، أسوة بأفلام سينمائية اعتمدت هذا التكنيك في بناء الحكايات وحركة شخصياتها وتفسير دوافعهم في انتهاج تصرفات معينة، وما تؤول إليه مصائرهم.
وفق هذه الإستراتيجية الإبداعية تدور معظم الأحداث أثناء الرحلة. فعلت بوريل ذلك في روايتها "حانة جران مدامز". تبدؤها على الحدود بين فرنسا وإسبانيا، وتنتهي على الطريق السريع بالقرب من تولوز. الشيء نفسه يحدث في "غواية الثلج" حيث تتحرك الشخصيات من الأراضي الإسبانية صوب نظيرتها الفرنسية، تارة باستخدام الشاحنات، ومرة بالقطار، ثم السيارة "الكايين" التي جعلتها الكاتبة وسيلة لانتقال فيران وزوجته لور إلى منطقة "سيفينس" طلبًا لمتعة التزلج على الجليد.
أما عن الشخصيات فتبدو في معظم أعمال بوريل الروائية خارجة على القانون، بما في ذلك "غواية الثلج"، حيث يبرز طبيب عيادة "منع الحمل" الإسباني، والأم القاتلة، و"علي طالب". تضفر الكاتبة خيوط حياتهم بحياة غيرهم، وتجعلهم يتصادمون في محطات سردية قصيرة لا تعطي لها أرقامًا، فقط عنوان واحد هو "فصل جديد".
تبدأ أحداث "غواية الثلج" بعد أربعين عامًا من الحرب الأهلية الإسبانية، وبعين اثنين من الشخصيات التي عاشت أهوالها، تحكي الكاتبة تفاصيل ما جرى لهما. تتابعهما مستخدمة تقنية الفلاش باك، وتراقب ما آلت إليه حياتهما من أوضاع جديدة. يتراوح الحكي بين امرأة لا نعرف في الرواية اسمًا لها، ورجل تشير المرأة المجهولة له بأنه جد ابنتها، واسمه "أنطوان". توزع الكاتبة الحكايات بينهما مثل بندول الساعة، أو كرة البنج بونج. والاثنان تحت النار.
أما الأماكن التي تدور فيها الأحداث، فتتبدل مع حركة السرد، وتتنوع، بين ميادين قتال، وشوارع موحلة تستقبل عابريها بالثلوج والأمطار والصقيع، وطرقات سريعة وأماكن للإقامة القصيرة والتقاط الأنفاس. تؤثر جميعها بفعالية في مصائر الشخصيات ومستقبلهم، لكن الكاتبة لا تبدأ قصتها في أي من هذه الأماكن، بل بمشهد جنائزي ومقبرة في مدينة "برام" الفرنسية. تنفتح لاستقبال جثمان الجد "أنطوان" وسط حضور بشري يشكل معظم عناصره مسنون وعجائز.
بعد وداع الجد تنتقل الكاتبة مباشرة ترصد بعين المرأة التي تعرف نفسها بأنها والدة لور. هي واحدة من الشخصيات المؤثرة في الأحداث، تصور تفاصيل الحياة في "نزل السعادة"، البيت الذي يستضيف زوار القرية في منطقة "سيفينس". تبدو القرية قبيحة قديمة الطراز، ومغبرة، وبنِّية، وضيقة مثل الحلق، منازلها شبه مهجورة، ولا يبدو أن أحدًا يزورها إلا في مواسم سقوط الجليد.
تعود "بوريل" إلى الأجواء الإسبانية الباردة زمن الحرب الأهلية، تحكي عن الجوع، وانعدام الأمن، وتتابع حركة "عاهرة تدفع ابنها الذي لم يتجاوز عمره خمسة عشر عامًا إلى التطوع في القتال، لا أهداف نبيلة، ولا مثل عليا وراء القرار، هي فقط تريد أن توفر على نفسها هَمَّ ما يتناوله من طعام. وفي الأجواء البائسة نفسها تظهر والدة لور لا مبالية، حملتها سفاحًا، وتركتها صغيرة في حوزة جدها وجدتها حتى لا تتحمل مسؤولية تربيتها. وحين تكبر الفتاة وتعثر على زوج ثري تستكثره عليها. في مشهد جنازة الجد حين تتجول عين المرأة التي تأخذ بزمام السرد، بين المشيعين، وتصل إلى فيران زوج ابنتها، تصف وضعه البائس، وتحمل ابنتها مسؤولية ذلك، تنظر إليه، فترى "قيعان بنطاله غارقة في وحل المقبرة، فقد كان يجب أن يضعهما في الزحافات، لكن لم يفكر أحد في إخباره. بمن فيهم لور التي لا تهتم به، كانت راحة زوجها لا تهمها".
وبسبب من طموحاتها، التي ساهمت الأزمات في جعلها رغبات منحرفة ومستحيلة، ترى الأم أن ابنتها لا تستحق زوجًا ثريًّا مثل فيران. تعتقد أنها أحق به منها، تتمنى امتلاكه، أن تكون مكانها، تتمتع بثرائه. ترتدي المجوهرات، وتركب السيارة "الكايين" بدل السيارة القديمة التي تتحرك بها.
تصرح المرأة في شطحة من سرحاتها، وهي تدور في أجواء العالم من حولها "كان بإمكاني الاعتناء به، لو كنت أعرف. كان سيكون أفضل بكثير مع الأم منه مع الابنة".
لا تنجو لور من إساءات أمها! تعود المرأة إلى النغمة نفسها. تنتقدها لأنها لا تحاول مساعدة زوجها على ارتداء ملابس النوم الخاصة به، تقول: "لو كنت في مكانها لفعلت ذلك"، أمَّا لور فكانت تتّأرجح طول ساعات وجودها في "النزل" بين دموعها التي تسيل حزنًا على جدها، وبين الصداع الذي يغزو رأسها من آن إلى آخر، وبين كوابيسها وأحلامها المزعجة التي تسقط عليها في ساعات نومها القليلة.
من البداية يبدو نزل السعادة اسمًا على غير مسمى، ولا يساعد في أي نوع من النقاهة. فيه تدفع "بوريل" الأحداث نحو ذروتها، تحكي عن رجل ذي عيون ميتة يتواجد دائمًا في حانة النزل؛ "هارب من قصة حب"، وسحلية منزلية تقتنيها المرأة البدينة مالكة المكان، وأسِرَّة بالية، وشبكة إنترنت لا وجود لها، وكتب قرأتها لور منذ سنوات ولا ترى فائدة في الرجوع إليها مرة أخرى، ومجلات قديمة تجاوزها الزمن، أما الطبيعة التي جاء فيران ولور، ومعهما الطفلتان، للتمتع بها، فلا شيء يحصدونه منها غير الكآبة؛ حقول أشجار السرخس تفوح منها رائحة نتنة مثل الموت، أمَّا بحيرة "كامب ريو" فتبدو قبيحة. هذا الواقع السيئ لا يساعد لور على الخروج من أزمة رحيل جدها، ويفتح الباب لظهور طبيب القرية "على طالب"، والدخول معه في مغامرة حب تثير كثيرًا من الأزمات فور اكتشافها.
تكشف قيادة الأم عمليات السرد والاستئثار بها عن رغبة دفينة لديها في السيطرة والاستحواذ، وفرض نظرتها الشخصية للأمور، تتحكم بوجودها في الأجواء من حولها، ولا تتركها لأحد كي يعبر عن نفسه، فقط الجد الذي تسمح له أن يشاركها مملكة السرد التي تتربع على عرشها، هو الوحيد الذي تتيح الفرصة له، ذو أصول إسبانية، حين يعبر عن نفسه، يكشف هو الآخر عن مسيرة حياة بائسة، لكن الفرق بينه وبين المرأة، كان في قدرته على تجاوزها، يقطع الطريق إلى فرنسا، ويعبر الحدود ويعيش لفترة في معسكر لاجئين، وينجح في أن يحول حياته إلى شخص جديد، فرنسي كأي مولود في فرنسا، ينسى كل شيء حتى لغته الإسبانية الأم.
ولا تتوقف المرأة التي تدير وزوجها مشروعًا للألعاب الترفيهية عن متابعة ابنتها في رحلة علاجها من أحزان موت الجد. بعد انتهاء مراسم دفنه ترحل لور بصحبة زوجها فيران الذي يقرر في عيد الحب أن يصطحبها لقضاء عدة أيام في منطقة "سيفينيس" الجبلية الواقعة جنوب فرنسا والتمتع بالتزلج على الجليد، هناك سوف تشعر أنها بخير، ستجعلها الرحلة تسترد أنفاسها، وتساعدها على النوم جيدًا. لكنهما حين يصلان إلى القرية لا تجد لور غير الهموم تلاحقها أينما اتجهت، لا تفارق عيونها الدموع، تمشي بأحزانها، ثم يفور بئر تعاستها بعد إجهاضها.
في "نزل السعادة" تتصاعد وتيرة السرد، وتبلغ الأحداث ذروتها. تستدعي آن بوريل شخصية "علي طالب" من روايتها "حانة جران مدامز". قالت لي في حوار سابق معها في القاهرة إنها سوف تضخ فيه النشاط في عمل روائي جديد، وكنت أتطلع إلى ذلك، لأعرف كيف ستطور شخصيته وما هو الدور الذي يمكن أن يقوم به عامل في محطة وقود من أصول إفريقية في أجواء روائية مختلفة.
جعلت بورل من علي طالب عامل المحطة طبيبًا. يتسلم مهامه في الوحدة الصحية خلفًا لطبيب أحيل إلى التقاعد. حين يلتقي لور. يحكي لها أنه انتهى من دراسة الطب أثناء عمله هناك. تتطور العلاقة بين امرأة حزينة، فقدت جدها، ولا تستطيع النوم، وبين طبيب يحاول أن يساعدها كي تنام. في سيارته حين يلتقطها من الطريق وهي متجهة إلى النزل، يقبلها فجأة، يميل كل منهما دون مقدمات ناحية الآخر، وتلتقي الشفاه، لتكون هذه القُبلة هي الطُّعم الذي يدفع المرأة ذات الأربعين عامًا إلى زيارة الطبيب ذي الأصول الجزائرية في شقته. هناك يتطور الأمر بينهما، ليرتوي ويغرق كل منهما في بحيرة الآخر.
تكتشف الأم تفاصيل ما جرى كاملًا بين ابنتها والطبيب، تقرأ الأحداث على جهاز اللاب توب الخاص بابنتها. لور "مدمنة القراءة" كتبت ذلك ضمن قصة كاملة نسجت فيها تفاصيل من حياة جدها "خوان خافيير أنطونيو بيرنون كاساريس" الذي تطوع في الحرب ضمن جبهة الشيوعيين بدافع من أمه الداعرة. كان أنطونيو أول طفل لدولوريس من بين الستة الذين أنجبتهم. والد أنطونيو؟ هو زبون بالطبع، وبقي مجهولًا. بيرنون اسم والدته، ولم يكن كاساريس اسم أحد، أطلقه أنطونيو على نفسه، هكذا من أجل متعة حمل اسم طويل.
تبوح لور في قصتها بتفاصيل مفجعة من حياة الجد، الذي لم ترتبط منذ طفولتها بأحد سواه. ذكريات وحكايات ما قالها الجد لأحد سواها، علاقته بصديق طفولته غابرييل، وإقامته وعمله في حانة برشلونة، تفاصيل الحرب الإسبانية، وما جرى على يد الجنرال فرانكو للعاصمة برشلونة بعد سقوطها في قبضة جنوده، ثم هروبه بصحبة صديقته ثيودورا التي صارت زوجته فيما بعد، يصف الجد معسكر اللاجئين، وكيف كان نقطة انطلاق لتصبح حياته ذات معنى جديد. يصير شخصًا آخر غير الذي كانه. ينسى هويته الأصلية، ويتقن الفرنسية، ويتعلم التصوير، ويعمل مدرسًا طوال حياته. ويمتلك مزرعة جوار المقابر. حين يمر عليها بصحبة لور وهو يحمل معه بعضًا من حصاد ما زرع، يقول لها وهو يشير إلى المدافن: "هذه هي بيتي الثاني".
يتولى العجوز، الذي أصبح اسمه أنطوان في السجلات الفرنسية، مهام تربية ورعاية لور التي تركتها والدتها وزوجها في كنفه، لأنهما لم يكونا قادرين على القيام بمسؤولياتهما تجاهها. يتنقلان من مكان إلى آخر بألعابهما الترفيهية سعيًا إلى لقمة العيش. ظَنَّا أن مثل هذه الظروف لا تساعد في تربية طفلة. تنمو لور وتكبر وتحصل على الدكتوراه، وترث من الجد محبة القراءة، أمَّا الأم التي حملت بها سفاحًا فتشير الرموز الكثيرة المتناثرة في ثنايا الرواية إلى أن ترك طفلتها في بيت الجد لم يكن سوى محاولة للتخلص من ذكرى اغتصابها الأليمة.
تقدم بوريل نماذج منحرفة وفاسدة من الأطباء، الأول كان الإسباني فارع الطول. ضاجع والدة لور مقابل روشته تمنحها فرصة الحصول على حبوب منع الحمل، وتسهل لها ممارسة الجنس مع خطيبها دون أعباء. لم تذكر الساردة اسم الطبيب في الرواية، جعلته مجهولًا، ومتبلدًا لا ضمير له، كان فقط طويلًا، وأشقر، بعيون فاتحة شفافة، راح بعد اغتصابها يتحرك في عيادته ببساطة، كأنه لم يرتكب جرمًا! تتابعه العاشقة المراهقة، وفي مشهد مثير للغثيان ترصد تفاصيل ما جرى، وتكمل: "بينما كنت أرتدي ملابسي وأبكي، كتب لي وصفة حبوب منع الحمل، كان يتصرف، وكأن شيئًا لم يحدث. كتب وصفته بهدوء، فخورًا بكونه طبيبًا جيدًا محترمًا ويحظى بالاعتبار"!
أمَّا علي طالب "طبيب كامب ريو" فكان النموذج الآخر، سمح لنفسه بتقبيل امرأة متزوجة والتغرير بها. والمدهش أن الاثنين -رغم أنها قتلت العديد من الأطباء، ومنهم من أخفت جثته، بعدما أحرقت سيارته- نجوا من تحت سيف حقد الأم، الأول خرجتْ من عيادته باكية، فلم تكن وقتها قادرة على فعل شيء تجاهه، أمَّا الآخر فقد نجا بعدما أنقذه فيران. أسرع به إلى المستشفى لعلاجه من الطعنات، وفي النهاية فاز المنحرف بلور! حين عرف زوجها بخيانتها، تركها له ورحل، أمَّا الطبيب صاحب الجريمة الأولى "الإسباني"، فكانت حياته مستقرة يحظى بزوجة وأطفال، وظل دائمًا في منجى من الحساب.
تتطور حركة السرد، وتنكشف كثير من تفاصيل حياة والدة لور، وما تعرضت له من أزمات ساهمت في تشكيل تكوينها النفسي، وبلسانها تحكي. تروي سيرة الشخصيات، وتحكي عن الجد الذي تكون وفاته واحدة من المحركات الأساسية للسرد، وهي كثيرة تساهم في تفسير عديد من المواقف، وتفضح عالم كان يسعى دائمًا دونما اعتبار إلى تدمير كل شيء، ودهس القيم الإنسانية.
تضع آن بوريل حادثة اغتصاب الأم كعلامة تضيء أسرار قسوتها وتفسر دوافع جرائمها ضد الأطباء، ولامبالاتها في رعاية طفلتها وعدم تحملها وزوجها مسؤولية تربيتها، وتجعل الحرب الأهلية الإسبانية، دليلًا على ضياع مستقبل وحياة أسر بكاملها بما نجم عنها من جرائم عقب انتصار الفاشيست وسيطرة فرانكو على البلاد.
المدهش أيضًا أن بوريل دائمًا ما تستعين بشخصيات ذات تكوين أدبي وثقافي في أعمالها، توضح بها وعي كل شخصية، وتبرر بها تصرفاتها، وهنا تبرز لور بمحبتها للقراءة. تفاجئنا قرب نهاية الأحداث بقدراتها الإبداعية. استفزت والدتها وهي تقرأ ما كتبته عن جدها الراحل، ذكرتها بجريمة طبيبها الأول، وغرست فيها حين قرأت تفاصيل علاقتها بالطبيب علي طالب كثيرًا من الدوافع لقتله والتخلص منه، لتضمه إلى طابور طويل من الأطباء ضحاياها. صاروا عقدتها. تكرههم جميعًا وقررت قتل كل من تسنح لها فرصة السيطرة عليه انتقامًا لنفسها من الطبيب الذي اغتصبها حين كانت صغيرة.
من صنف تلك الشخصيات، يظهر علي طالب نفسه. يعشق هو الآخر الشعر ويحفظ قصائد العراقي بدر شاكر السياب. هذه الملامح الشخصية تستخدمها آن بوريل لتدعم بها أبطالها في حالات الضعف والرغبة في الانطواء والتقوقع على الذات، وربما أيضًا لإبراز حجم ما يشعرون به من وحدة وانعزال وغربة عن المحيطين بهم، فها هي "بيجونيا مارس" دارسة الآداب التي تورطت في ارتكاب عديد من الجرائم في رواية "حانة غران مدامز" تلجأ إلى كتابة قصتها، حين وجدت نفسها محاطة بأسوار السجن، كانت الكتابة ضالتها وهي تنتظر صديقها علي طالب الذي يبقى على عهده بالزواج بها حين تعرفت عليه وهو يعمل في محطة الوقود. يظل يزورها أيضًا في رواية "غواية الثلج"، وقد عقد العزم على الوفاء بوعده. لكنه حين يلتقي لور ينسى كل شيء، وهكذا يتطور دوره في الأحداث بعد أن تمنحه آن بوريل وجودًا وحياة وملامح جديدة. في نهاية الرواية تنفصل لور عن زوجها فيران الذي يتركها مع الطبيب، ويرحل، وهنا تظهر في الأحداث صورة جديدة بطلها رجل من أصل إفريقي طريح الفراش في المستشفى متأثر بطعنات أم تكره الأطباء، وإلى جواره لور بأربعينيتها تعاني من تبعات تعرضها للإجهاض وفقدان جنينها.
تنظر حولها ولا تجد غير صورة لوجودها الذي يشكل جانبًا مهمًّا في حياة جدها أنطوان، تظل محفورة في روحها، كانت حتى بعد زواجها تزوره وتقضي معه فترات طويلة. كان يقول لها: "عندما تكونين هنا، يتوقف الوقت. انظري، أنزع ساعتي. بالنسبة إلى ابن صانع ساعات، هذا شيء لا يُصدق".
يحدق أنطوان إلى وجه حفيدته كما لو كان يحاول حفظ أكبر قدر ممكن من تفاصيل وجهها. أمَّا هي فكانت تحاول أن تملأ ابتسامتها بكل ما لن يقولاه بعضهما لبعض، وحين تحين لحظة وداعها يرفع يده ليقول لها: أراك قريبًا. يمنع نفسه من البكاء، وتستمر هي في الابتسام، خفيفة على نحو خادع، محملة بكل كلمات الحب التي لم تقلها له قَط. كان كل رحيل لها بمثابة انفصال، وحسرة.
تظل الحكايات تتداعى في رأس الأم، ولا تتوقف عنها، حتى وهي تدلي باعترافاتها بمحاولة قتل الطبيب أمام المحققين الذين يكشفون لها أسماء ضحاياها السابقين، ويضبطون لها سجل جرائمها تمهيدًا لمحاكمتها، أما هي فتظهر غير مبالية بما ستؤول إليه أمورها، لا تريد سوى شيء واحد، أن لا يشكك أحد في انتساب ابنتها إلى أنطوان، تتوسل إليهم أن لا يسمحوا لأحد بذلك، لتظل ابنتها معتقدة أنه جدها بالفعل.
ترشيحاتنا
