مراجعات
مينا ناجيقناع من المخمل الأزرق تحته الرعب
2025.03.14
مصدر الصورة : آخرون
قناع من المخمل الأزرق تحته الرعب
يلفت غلاف "قناع أزرق" النظر ببساطته التقليليَّة الأنيقة في التصميم، التي تذكّر بمنشورات جاليمار الفرنسيَّة والمطبوعات المصريَّة في النصف الأول من القرن العشرين. كما يلفت النظر بغرابة التصنيف، أو بالأحرى عدم التصنيف عبر العنوان الفرعي "كتابة".
الكتاب صادر هذا العام عن دار المرايا للثقافة للكاتب غسّان غبريال الذي تخرج في كلية التربيَّة قسم لغة فرنسيَّة واشتغل كمعيد فيها بعد ذلك. وهو ممثل ومخرج مسرحي له تجارب مسرحيَّة عديدة. كما أن له كتابًا سابقًا بعنوان: "كتابة رديئة"، صدر سنة 2012. اشتغل غسّان بشكل تطوعي مدة عشر سنوات في العمل الاجتماعي في عدة جمعيَّات مع الأطفال والشباب والكبار، منها جمعية "لقاء"، وهو المكان الذي قابلته فيه منذ عدَّة سنوات، حين دعاني إلى أن أقرأ بعض قصصي ونصوصي القصيرة مع مجموعة القراءة التي ينسقها. حين تعاملت معه أدركت من أسئلته وإدارته للمناقشة أنه ليس قارئًا عاديًّا، بل زميلًا في مهنة الكتابة، وبالفعل اتضح لي مع الوقت صحّة ظني هذا.
يبدأ الكتاب بإهداء غالبًا موجّه إلى القارئ وهو "مع كامل احترامي". الجملة بها حِس ساخر ولعبي (وهو بالفعل اسم برنامج ساخر شهير على الإنترنت). يدرك من قرأ العمل الأول لغسّان التغيُّر والانتقال من الإهداء الدافئ والودود "مع عميق محبتي" إلى عتبة عمل أكثر شكوكيَّة تجاه المشاعر والمواقف من الآخرين والعالم.
يتضح هذا بالتحديد في القسم الأول "القصص" التي تنقل لنا في نصوص قصيرة جدًّا لحظات فشل وانهيار وانقطاع بأشكال مختلفة: فشل زواج دام عامًا، رحيل شخص، قطيعة، إلخ... وهذه اللحظات تُنقل لنا بحس من السخرية السوداء الممزوجة بالقسوة، كما في قصة "معمول بحب" التي تضع قصيدة "أصابك عشق" ليزيد بن معاوية في سياق جديد عجيب، هنا نرى التفكك العائلي يأخذ شكل تبادل أدوار وحدود ومشاعر بشكل مرعب ومنحرف. ونحس أيضًا بتلك السخرية السوداء القاسية في قصة "وردة"، فبطلها "نادر" يتغوَّط على نفسه حين تجيئه رسالة من الفتاة التي يعجب بها، وتبدأ رائحته في الظهور وإزعاج زملائه. كقارئ لا تملك إلا أن تضحك على هذا الموقف الغريب للبطل وتشعر بالذنب لضحكك.
هناك تبادل وتحول للأنوات بشكل فصامي على مدى الكتاب كله، الذي يجعل الراوي في القسم الثاني: "الرسائل" يقول: "أنا الدب" ويتحدث عن هذا التحول في نشوة: "ياه، لو كنتِ رأيتني وأنا دب! كنتُ جميلًا، وكنتِ ستنصرفين عن وجهي الباسم"، وهو ما يخلق إحساسًا بالغموض والإبهام للأمور المستقرة في تعريف هوية الأشخاص.
الإبهام بالفعل هو سيد الموقف في النصوص، ويظهر حتى على مستوى دلالة النَص، مثل قصة "رسالة" عن علاقة أخوين، بداخلها قصة عن علاقة أخوين، ولا نعرف إذا كانا نفس الأشخاص أم هما آخرين. ومثل قصة "تمرينات على القتل"، التي لا نعرف هل الكلام موجّه إلى سلمى "إلى سلمى، كما طلبتي"، أم إلى ندى "عزيزتي ندى". في الأغلب يكون الإبهام مقبضًا وكابوسيًّا وسوداويًّا، يذكرنا بعوالم المخرج الكبير ديفيد لينش الذي رحل عنّا أخيرًا، في نفس توقيت صدور الكتاب تقريبًا. يمكننا أن نعتبر "قناع أزرق" هو "مخمل أزرق" للينش الخاص بغبريال.
في بداية نَص "مهرج البلاط" في القسم الثالث نقرأ "أحيانًا في النصف الأول من الليل تُباغتني فكرة أن ما أدركه على أنه العالم يقبع تحته عالم آخر تمامًا. فتنتابني مشاعر مختلفة. إحساس بالإثارة، إحساس بالخوف." هذا تقريبًا جوهر المشهد الافتتاحي في "مخمل أزرق" الذي يُعتبَر مفتاحًا لجماليات الفيلم كما الكتاب. يبدأ المشهد الافتتاحي بموسيقى عذبة في صباح مشمس ويظهر على الشاشة ورد أحمر وأصفر داخل حي هادئ ورائق: أطفال يعبرون الشارع ذاهبين إلى المدرسة، ورجل يروي حديقة بيته وزوجته بالداخل تشاهد التلفاز. فجأة يتشابك خرطوم المياه ويمسك الرجل مؤخرة رأسه ويقع على الأرض في ثبات. يتم تكبير المشهد على حشائش الحديقة لنرى حشرات سوداء متوحشة تنهش دون توقف بأصوات مفزعة.
هناك عالم مرعب ووحشي ومجنون تحت قشرة العالم الخارجيَّة الهادئة، حيث يبدأ "إحساس بالإثارة، إحساس بالخوف": شخص يقابل الحب بالقتل ويقتل من يحبهم، ويريد ممن يحبها أن تقتله (تمرينات على القتل/اعتراف)، مريض نفسي يتفوه بجمل لا علاقة لها بالموضوع في منتصف الحديث (لغو)، شخص يستنسخ نفسه لتغترب النسختان بعضهما عن بعض (أهلًا بالعالم الجديد)، إلخ.. يعكس هذا العالم السفلي تعبيرات شعريَّة جميلة وغريبة مثل: "كانت غاضبة غضب ذكر ماعز على جبل" و"طفل يتبول في طرقات المنزل، مُعلنًا فرحه بوجود النمر الحبيب"، وجمل بليغة مثل: "دماغي وقعت عليَّا غرقتني" (خضة)، وهي من أقوى التعبيرات التي قرأتها عن الإحساس بتجربة المرض العقلي.
هذه النصوص المغايرة كانت تَعِد باسترسال أطول للأفكار ومناقشتها والتفاعل معها، لكن كل وعد فيها يُبتر باختزال سريع أو تغيير دفة الكلام. ربما باستثناء قسم الرسائل الذي استرسل فيما يطرحه وركز في العلاقة محل الحديث. في شكلها الأكثر كثافة وإحكامًا، توجد نصوص يمكن إدراجها تحت مسمى "قصائد نثر" مثل: النصين غير المعنونين في القسم الثالث، ونَصي "عنوة" و"يسكن" وغيرهم. يشعر القارئ في الأقسام الثلاثة عمومًا (القصص/الرسائل/النصوص) بأن شكل الكتابة متبادل فيحتار لمِ كان هذا التقسيم الثلاثي. إلا أن الأقسام الثلاثة يجمعهم خيط واحد هو "الكتابة" من أجل تعريَّة سطح العالم والعلاقات والمفاهيم والمشاعر، لا لنفي السطح أو المظاهر، بل التوكيد على تجاور الأشياء وتضادها الخفي دون أن يلغي أحدها الآخر.
يختتم غسّان كتابه بنص أخير حيث تراوده "حالة من الابتسام والبكاء بلا دموع في نفس الوقت". يبدأ النَص بقول ريلكه الشهير: "دع كل شيء يحدث لك. الجمال والرعب. فقط واصل المسير. لا توجد مشاعر نهائيَّة". وهو ما يمكن أن نعتبره الحكمة النهائيَّة وراء نصوص ذلك الكتاب في التعامل مع غرابة الحياة المليئة بالعنف والحنان، الرعب والطمأنينة، المنطق والجنون، القبح والجمال، ففي كل تلك الأحوال علينا التأمل وعدم الجزع، فلا شيء يبقى على حاله.
ترشيحاتنا
