مراجعات
حمدي عابدين"المزيكاتي".. سيرة الموسيقار من شرفة نادلة مقهى باريسي
2025.02.23
مصدر الصورة : آخرون
"المزيكاتي".. سيرة الموسيقار من شرفة نادلة مقهى باريسي
تستند الكاتبة وسام سليمان في سرد أحداث روايتها "المزيكاتي"، أي نعم، على شخصيات حقيقية معروفة، لكنها لا ترصد، وهي تتابع بعضًا من ملامحها، سيرة ذاتية لأيٍّ منها، بل تشكلها في صيغ متخيلة، وبملامح ذات دلالة، وتجعلها تتحرك في فضاءات السرد، وتتفاعل بعضها مع بعض، ومع الشخصية الرئيسية الفنان بليغ حمدي (أكتوبر 1931 - سبتمبر 1993)، تستدعيه من زمنه وماضيه، متخفية في عباءة "سارة" نادلة المقهى الباريسي، إحدى شخصيات قصتها. تأخذه إلى مستقبلها، وتظل متخفية حتى الفصل الأخير من الرواية لتفتح بذلك شرفة للحديث عن نفسها وطفولتها وحياة عائلتها في منطقة حلوان.
ترسم سليمان -بحساسية وخبرات كاتبة السيناريو- صورة بالغة الرهافة لبليغ حمدي "المزيكاتي" كما يحب أن يصف نفسه، لملمت تفاصيلها في روحها ووجدانها وخيالها قبل أن تجعلها تشتبك بأحلامها وعنفوانها وطموحاتها وتطلعاتها وانكساراتها مع الواقع والمجتمع وشخصياته ورموزه التي كانت تحتل المشهد الفني والسياسي المصري في النصف الثاني من القرن العشرين.
تبدأ الكاتبة روايتها بمكالمة هاتفية يتلقاها بليغ حمدي من سكرتيره. يأتيه صوت الرجل خافتًا محبطًا معبرًا عن الوضع الخطير الذي يستشعره تجاه قضيته الشهيرة بعد أن لقيت إحدى السيدات مصرعها بسبب سقوطها من شرفة منزله. حذره الرجل مما يمكن أن يتعرض له بسبب موقف القاضي المشحون ضده، وتناول الصحافة المصرية للحادثة الذي شكل آنذاك حالة من عدم التعاطف معه.
هذا المشهد جعلته الكاتبة محركًا أساسيًّا لسرد الأحداث، ومنه بدأت لعبة محورية اعتمدت عليها في إضفاء كثير من الحيوية التي بدت واضحة في بنائها لمعمار الرواية. صنعته من مشاهد مكثفة، متضادة ومتناقضة، كان الغرض منها تشكيل صورة الموسيقار الوجدانية وطبيعته الشخصية. انتقلت من افتتاحية الرواية -بكابوسيتها وثقلها على روحه- مباشرة إلى مكان نشأته في شبرا عام 1956 وقتها كان شابًّا في مقتبل العمر، وهو يبحث عن جارته ومحبوبته اليونانية التي التقاها في بيت أسرته أول مرة، وهي تنصت كتلميذة مجتهدة إلى دروس شقيقته "صفية" في الخياطة، أحب وجهها الخمري، وهو يضيء وسط بهجة الأقمشة الملونة، ولاحظت والدته "ماما عيشة" وشقيقته، ومعهما مربيته "دادا عبده" شغفه بها وأحببنها معه.
كانت ماريا أول قصة حب يكتبها البطل في سجل قلبه العاشق المقرون بالفراق، وأول اسم يبدأ به سجل انكساراته العاطفية التي ذابت في روحه، وتحركت كنغمات موسيقية حزينة على أوتار عوده.
حين قرر والدها مغادرة القاهرة إلى اليونان بعد تغيير نظام الحكم في مصر اضطرت الفتاة إلى مصاحبته، وتركت عشيقها الموسيقي الشاب مجروحًا يعزف نغمات لحنه "تخونوه".
مع تصاعد الأحداث تتجلى فكرة المغادرة -الأماكن تحديدًا- تلك التي تعقبها آلام مُمِضَّة لا تنتهي، يتعرض لها المغادر بعذاباته وعذابات محبيه، يعيش بها في غربة قاسية تحرقه بنار فراقه الذي اُضطر إليه، وأُجبر عليه. تأتي المغادرة كحلٍّ تلجأ إليه بعض شخصيات الرواية للتخلص من آلام ومخاوف وأخطار وأحزان تُلم بها، حيث لا وسيلة ممكنة لديها للخلاص سوى الذهاب بعيدًا حتى لو كلفها ذلك خسائر جديدة. تفعل ماريا ذلك، مجبرة بضغط من أبيها، وبعدها يضطر بليغ إلى المغادرة إلى باريس، بُعَيْدَ مشهد حواري بينه وبين شقيقته صفية تمتزج فيه مشاعر الخوف من المجهول بأمنيات أن تكون قضيته مجرد كابوس سخيف، حتمًا لا بد أن ينتهي. كما تلجأ إليه شخصية تبدو في الأحداث هامشية، وهي الراقصة سامية جمال التي قررت السفر إلى أمريكا بعد فشل قصة حبها مع الفنان فريد الأطرش بحثًا عن قليل من السلام النفسي، وقد تكون المغادرة والسفر طلبًا للعلاج كما فعل عبدالحليم حافظ باحثًا في لندن عن خلاص من آلام لا يتوفر أمامه علاج لها، وكذلك يفعل الفنان محمد فوزي.
بعد مشهد البداية، ومع تصاعد السرد، تصحبنا الكاتبة في دروب قطعها بطل قصتها وهو في طريقه لتحقيق أحلامه الموسيقية وأن يصير ملحنًا. ترسم مشاهد بسيطة مشحونة بالدلالات والإشارات، ومنها ما جرى في لقاء انفصاله عن سامية جمال، والمشهد بالغ الدلالة الذي أعقب نقاشهما الحاد على طاولة الطعام في بيتها، نزعت خلاله الراقصة خاتم الخطوبة، وألقت به في طبق الحساء "الملوخية"، لينزلق ويستحيل إنقاذه.
ولأن بليغ كعادته دائمًا يصنع من حياته وقصص حبه، وسيرته اليومية، نغمات موسيقاه وألحانه وهو ملمح مهم التقطته الكاتبة، "أدرك أن الحب مرض ينجو منه البعض، وآخرون لا يشفون أبدًا، يترك خللًا ما، مزمنًا، يهجم على شكل نوبات، لكنه يعود منه بأغنيات جديدة، قادته واحدة منها بالصدفة إلى صوت كوكب الشرق". حين استمعت إليه يغني "حب إيه اللي أنتَ جاي تقول عليه"، تلك الكلمات التي عاد بها بليغ من رحلة سقوط خاتمه في طبق الحساء، وكان المفروض أن تُقدم في صورة مونولوج فكاهي تغنيه الفنانة ثريا حلمي، لكنها تخوفت من رد فعل الجمهور، فكتبت برفضها أول جملة موسيقية يصنعها الملحن لأم كلثوم 1959.
وفي انتقالاتها بين مشاهد الرواية وخلال سهرة بمنزل الدكتور زكي سويدان، تظهر كوكب الشرق، وكان بليغ حمدي تحت تأثير واحدة من نوبات عشقه المزمن، غنى ليلتها، فتحول المونولوج إلى أغنية شجية من مقام "بياتي". حين قاربت السهرة على الانتهاء، وفي مشهد نابض بالروح الكلثومية، رسمته الكاتبة في شرفة منزل المضيف، تدعو أم كلثوم الملحن الشاب لزيارة بيتها في حي الزمالك ليبدأ رحلة تحدٍّ تتخللها كشوفات سردية تضيء كثيرًا من خصائص الروح المصرية خلال فترة الستينيات من القرن الماضي، كان هم الساردة، وهي تنتقل من مشهد إلى آخر، ومن فترة زمنية إلى أخرى أن تكشف عن خصائص شخصيات روايتها، وملامحهم الإنسانية بإشارات بسيطة، فبدا أنور منسي وهو يتحرك في بيته، ويستقبل ضيوفه، ويعزف على الكمان بسمته الأرستقراطي العميق، وبدت أم كلثوم التي تتربع على عرش الغناء، وهي تجلس على الأرض في منزل سويدان كاشفة عن أريحيتها وبساطتها التي لم تتغير رغم تربعها على عرش الغناء في ذلك الوقت. كما أظهرت الكاتبة إيثار الفنان محمد فوزي الآخرين على نفسه، ونبالته وما يتمتع به من خفة ظل، وفي مقابل ذلك ظهرت ملامح واقع قاسٍ متعجرف وانتهازي وظالم، قادر دائمًا على التدمير، وتحطيم الإنجازات دون مواجهة من أحد، واقع يتحرك تحت يافطة من الشعارات الفارغة البراقة ملتحفًا بطنينها، داهسًا في طريقه كل شيء، غَيَّب ليلى مراد وهي في قمة مجدها، ودهس طموحات محمد فوزي، ومخططات شركته مصرفون، ودفع بطل الرواية بليغ حمدي إلى السفر إلى باريس ليعيش في عذابات غربة يقدم خلالها ألحانًا تشبه رسائل إلى الجُناة الذين تسببوا في أزمته، والأحباء الذين تخلوا عنه، وتركوه فريسة لمن ينهشون سيرته، ويتنكرون له.
هناك ملامح رصدتها الكاتبة في علاقة كوكب الشرق ببطل الرواية الموسيقار بليغ حمدي، أكثرها بروزًا أنها أيقنت، وهي تقدم ألحانه، أنه الأكثر تجددًا وطزاجة، وكرمًا وقدرة على العطاء دون حساب، لكنه في الوقت نفسه يحتاج إلى الدعم والمساندة حتى يستطيع أن يستمر في العمل. لا تعيش له علاقة، ولا يجد الاستقرار العاطفي، ويتقلب من حكاية إلى أخرى مثلما تنتقل أنامله بين أوتار عوده وأصابع البيانو. وبين كل مطب عاطفي وانعطافة هنا أو هناك تَرْقِيه كوكب الشرق، أو تسقيه من ماء زمزم، لكنه ما استفاد من كل ذلك شيئًا حتى بعد زواجه بوردة، حبه الذي امتلك عليه قلبه، وعشقها قبل أن يراها. لم يستقر بليغ وانفصل عنها في آخر المطاف، عاش في عشقه المزمن وحيدًا.
تتوالى الفصول والمشاهد المتتابعة في الرواية، وتظل الراوية وهي ترصد الأحداث متخفية مجهولة، تتغلغل في تفاصيل علاقات بطل الرواية. تتابع انعطافاتها مع أمنية زوجته وحبيبته التي ظن أنها دواؤه الشافي. تعيش معه لحظة انفصاله عنها "في مثل هذه الأيام من سنة تقريبًا كان يغني لها "يا غزال اسكندراني" على شاطئ المعمورة، ويعيشان زهوة بدايات الحب".
تَضفر الكاتبة الأحداث بين الفصول، تنقل القارئ من حالة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر بسلاسة، وهي تتحرك بين القاهرة والإسكندرية وباريس واليونان، وبين السنوات التي تشبه المحطات في الأحداث، تنعش بها قلب القارئ وعقله، وتجعله يبتسم من آن إلى آخر.
في الفصل الخامس الذي يبدأ بظهور محمد فوزي في المطار، ذاهبًا إلى الخارج في رحلة علاج لا جدوى منها، فقد تمكن المرض منه، وتأخرت الجهات الرسمية في الموافقة له على السفر.
تنقلنا الساردة بين أعوام 1965 بما فيها من إشارات رمزية، ونهاية علاقته بأمنية، ورحيل صديقه كامل الشناوي، و1986 بما فيه من أحداث، و1966، 1967 بمرارة انكساراته، و1973 عام نصر أكتوبر. وهكذا تتوالى التواريخ بومضاتها التي تشكل منها الكاتبة لوحات ترسم عناصرها بأسماء من سجلت الأيام حضورهم، وشاركوا في صياغة حياة بطل روايتها وتفاصيلها بألوانها المبهجة، والحزينة المقبضة، ثم كان حضور الشخصيات الخيالية التي ابتدعتها الكاتبة، لإحداث نوعًا من التوازن تضبط به ميزان الواقع وقسوته. هنا جاءت "جميلة" فتاة بيت المغتربات التي ضبطت لنفسها موعدًا تهاتفه فيه بعد منتصف الليل، ينصت بليغ إليها، تحكي له عن حبيبها الشاعر الذي يكتب لها الخطابات الغرامية، ويقول لها: "هل كان لقاؤنا حتمية تاريخية؟ فيسخر منه "حليم": "بتحب شيوعي كمان"، إنت وصلت لـ"حب المراهقة والتليفونات"، هنا يمكننا ملاحظة كيف يحول الواقع بآلته الإعلامية الفجة، الأفكار الإنسانية، إلى مثار للسخرية في مجتمع كان يسير بحرص بالغ نحو حفرة عامرة بالمنزلقات والسطحية القاسية.
أما "صفية" شقيقة "بليغ" فلم تكن تحتاج إلى سخرية "حليم"، فهي قلقة بالفعل، وتفكر في أن أخاها قارب الأربعين، ويعيش كما لو كان في العشرين، تتابع الإشاعات التي تنطلق عن علاقاته النسائية. وما يغيظها أن كل مشروع حب أو خطوبة يدخل فيه ينتهي بإعلان بطلته على صفحات الجرائد "لن أتزوج من بليغ حمدي"!
هل كانت الأحلام التي يراها وسيلته للهروب من الواقع الذي يعيشه، فراغه العاطفي وفشل كل علاقاته، وأمله الضائع في "وردة" حبيبته الجزائرية التي تركته، وتزوجت ضابطًا كبيرًا، سعيًا إلى الحماية في مجتمعات تتشابه جميعها في فسادها، وانحرافات طبقتها العليا التي تقبض على الأمور، ويسعى الجميع إلى الارتباط بها أو الاقتراب منها طلبًا للحماية واتقاءً لشرورها.
تحضر الأحلام، لتساند بليغ في وحدته، وتدعمه في معاركه التي يخوضها مع زملائه من الموسيقيين. يستدعي والده الراحل، يرى نفسه جالسًا بجواره على الرصيف، والملاك الذي قال له إنه يحبه وإنه سوف يصبح موسيقييًّا، وهي النبوءة نفسها التي أعلنها الأب حمدي عالم الفيزياء لزوجته "ماما عيشة"، ولم يزَل الطفل بليغ في شهور عامه الأول. يرى أيضًا حبيبته "أمنية" وهو في إحدى رحلاته اللندنية، ويتواعدان على اللقاء في القاهرة، وحين يعود يعرف من حليم أنها ماتت منذ عدة شهور. حتى فتاته "سارة" التي ظلت راوية الأحداث تتابع وتنصت إلى لقاءاتهما في باريس كانت مشكوك في واقعيتها. "يلمس صوته أوتار ذاكرتها الحساسة، فتفوح رائحة بيت جدتها القديم في حلوان، الأم، الخالات، صاحبات الخالات بجانب الراديو في انتظار حبيبهن حليم يغني لحنًا جديدًا لبليغ".
الهروب بالأحلام من الواقع كان شأنه، أما "ماما عيشه" فقد جعلت الكاتبة أحلامها نافذة تكشف المستقبل، بدءًا من حلمها بسقوط أحد أسود كوبري قصر النيل، فيصحو الجميع على رحيل عبدالناصر، ثم حلمها الذي سبق وفاتها مباشرة، "تستعيد مع نفسها تلك البحيرة التي رأتها في الحلم، ترى نفسها وهي تسير خفيفة في اتجاهها".
تصور الكاتبة الواقع بقسوته وهو يطغى على كل شيء، طلاق وردة وتأثيره في بطل روايتها، غيابه عن القاهرة، وحين يعود تتابعه بعين كاميرا، وهو "يتأمل بشوق شوارع القاهرة من نافذة السيارة، رائحة الركود تفوح على السطح، وفي العمق جرح لم يندمل، شاهد الناس لأول مرة اغتيال رئيس البلاد على شاشة التليفزيون بقسوة لم يعرفوها من قبل حتى في أفلام السينما".
بعد انفصاله عن وردة يعود عقرب ساعة حياته إلى الوراء، كأنه يتفرج على حياته في لقطات تبدأ من الطلاق في أبو ظبي، ثم يقفز إلى احتفال الزواج في شقة سفنكس، ثم تأتيه صورة أمنية، و"إش إش"، وعندما يصل إلى ماريا يروح في النوم، لكن لا يتوقف عقله الباطن عن استدعاء النغمات.
في آفاقه تأتي أيضًا "جميلة" بخطابات حبيبها صاحب الحتمية التاريخية، وسارة بالنوتة الحمراء وخطها، وأصابعها الصغيرة وحديثها عن بيت عائلتها بالقرب من حديقتها اليابانية، يراها صبية تركب الدراجات مع أصحابها وراء الحديقة اليابانية، وتستمع مع جدتها إلى أم كلثوم في العصرية، علمها رحيل أمها، وهي لم تزَل في الخامسة، كيف تؤلف تعاويذ خاصة للتواصل مع الأحباب في حياتهم الأخرى، وكيف تنفذ من جدار الزمان فلا ماضي ولا مستقبل ولا حاضر ولا غائب ولا أوهام.
يقرأ كلماتها في النوتة الحمراء التي أهدتها إياه، "أنا أنت، وأنت أنا"، وهي الجملة التي تلخص ذلك الاندماج الذي يمكن استشعاره عند استعادة السطور الأولى من الرواية بينها وبين الساردة، حيث يمكن لملمة كثير من ملامح الشبه بينها وبين بطل الرواية، خاصة عند استحضار أرواح الأحباء الراحلين، والحديث معهم، هو يستحضر روح أبيه "حمدي"، ووالدته "ماما عيشه" وحكاياتهما، أمَّا هي فتستدعي روحه هو شخصيًّا، تصاحبه، تستمع إليه بالساعات، وتظل أمينة على كتابه الذي نسيه في مقهاها "العائش في الحقيقة" رواية نجيب محفوظ مع نظارته. تحكي عنه وعن طفولته، و"المزيكاتي" الذي يتنبأ أبوه بمستقبله، ويصاحب ملاكًا. تستحضره ساره من ماضيه إلى مستقبلها. ترى فيه نفسها، وهو يمشي معها في شوارع باريس، قبل أن يعلن وكيل النيابة في محكمة النقض: "أنه بحث في أوراق القضية، واكتشف أنه لم يكن هناك قضية من الأساس"!
ترشيحاتنا
