مراجعات

شيماء ياسر

كتاب: كيف نحافظ على سلامة عقولنا في عصر منقسم؟

2024.06.29

مصدر الصورة : آخرون

كتاب: كيف نحافظ على سلامة عقولنا في عصر منقسم؟

 

أدين لتلك الكتب التي تتجلى لنا في وقت العوز والحاجة، العنوان الطويل لكتاب أليف شافاك، هو السؤال الذي يلح على عقولنا جميعًا بصيغ مختلفة أفرادًا وجماعات، كيف نحافظ على سلامة عقولنا في عصر منقسم؟

بعد إنتاجها الأدبي الذي بدأ في 2009 ووصل إلى 10 روايات، تطل علينا شافاك بكتاب غير روائي، وفي طبعة مصرية مشتركة بين دار الآداب ببيروت وتنمية بمصر، هذا الكتاب الذي يضم 61 صفحة فقط، وبترجمة: أحمد حسن المعيني. عدد صفحات قليل على العنوان الدسم للكتاب، لكن تكتشف أنك بعد قراءة أولى غالبًا ستحتاج قراءة أخرى وعودة من وقت إلى آخر له.

انطلقت شافاك من تجربتها الخاصة في رصد ما توحَّدت به من إحساس بالاختلاف والوحدة مع إحدى العابرات في ميدان تقسيم من نافذتها، جاءتها الذكرى في ظل جائحة كورونا، كحالة من حالات الاستدعاء لمشاعر ومخاوف تشابهت مع ما كنا نمر به جميعًا في ذلك الوقت، جميعنا ربما وقع في ذلك الفخ، صاغته شافاك بالعرض والتحليل،

بالمزج بين الخاص والعام، الفردي والجماعي، نجحت شافاك في عمل هذه الموازنة التي يمكنك أن تجد بها خيطًا شخصيًّا يربطك بالمكتوب، فضلًا عن الهم الجماعي لسكان الأرض، صحيح أن لجائحة كورونا الفضلَ ربما في خروج هذا المحتوى وقد كُتِب في ظلها، لكن هذا الانقسام الذي تناولته شافاك بالتحليل قديم. 

ذلك الاختلاف والانقسام الذي يفرض على البعض التقوقع على نفسه والتزام الصمت؛ "لأنهم يخشون ألا يسمعهم أحد"، وكان هذا هو مضمون ما كتبه أحدهم على إحدى اللافتات اللندنية: "حين يمضي كل هذا أريد أن أعيش في عالم مختلف، يمكن أن يكون لي فيه صوت مسموع". يأتي ذلك بشكل شديد المفارقة في ظل ما يحياه العالم من انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.

تنتصر شافاك كروائية للحكايات والقصص، ودور الأدب في مواجهة حالة الصمت المفروضة في أكثر من موضع في هذا الكتاب، وهي لا ترمي إلى الأدباء فحسب، بل عموم البشر على أساس أن لكل منا حكايةً، وكل منا يملك حكاياته، فتقول: "الحكايات تؤلف بيننا، أما الحكايات المكبوتة فهي التي تفرقنا؛ ذلك أننا نتشكل من حكايات حدثت، وحكايات لا تزال تحدث، وأخرى لا وجود لها إلا في مخيلتنا"، "نحن حين نفقد صوتنا يموت شيء في داخلنا".

أن نتشارك الحكايات والهوامش، هو شكل من أشكال النجاة من دائرة تتفاقم في حالة الصمم التي نحياها فلا يسمع أحدنا الآخر، لكن هذا الاستماع عليه ألا يقتصر على ما أسمته شافاك "غرف الصدى"، تتحدث عن أخطار الغيتو الثقافي والعقلي الذي يمارسه البعض، فيقع في فخ صور منعكسة في المرايا تصيبه فردًا أو مجتمعًا، بحالة من النرجسية والأفضلية التي ترفض الاعتراف بالمختلِف. 

تَعرِض شافاك 4 أعراض لتلك الحالة من الانقسام، مع اقتراحات لمخارج من كل منها: الخذلان والحيرة، القلق، الغضب وأخيرًا تبلد المشاعر، وتقدم في النهاية مقترحًا لحل يدور في فلك المعلومات والمعرفة والحكمة. 

في إطار ذلك تتعرض للعديد من الأفكار، مثل: الهوية والانتماء والوطن، مع عرض الحاجة لإعادة تعريف بعض المفاهيم الأساسية، والتي كانت كما عرضتها كمثال على مفاهيم أخرى، الديمقراطية، الطبيعي، السعادة، الأنانية، الحرية، وحقوق وواجبات المواطن. لا تقدم شافاك إعادة تعريف، لكنها تطرح تساؤلاتٍ تساعد على مراجعة فَهمِنا لكل هذه الأفكار، ولعلها تتساءل معنا وتفكر بصوت عالٍ.

تقر شافاك بأحقية كل منا بأن يشعر بأنه ليس على ما يرام. هذا الكشف الضروري في السماح لأنفسنا بأن نعترف لطوفان المشاعر السلبية الذي يجتاح حياتنا، لكنها تقر كذلك بأن هذا الاعتراف لا بد وأن تأتي توابعه؛ فربما تأتي في صورة الغضب فتعرض له بعض الحلول، وربما تأتي توابع الاعتراف في حالة من تبلد المشاعر وغياب العاطفة، وهنا تكون الكارثة أكبر.

تتفاقم الكارثة مع هذا الوابل من المعلومات الذي لا ينتهي، كما تصفه شافاك، والذي لا يؤدي إلى معرفة حقيقية بقدر ما يكون عائقًا دون حصولها.

وضعت شافاك في هذا الكتاب بعضًا من الحكايات عن حياتها الخاصة، وتجارب الصمت والانقسام التي عانت منها في مراحل مختلفة، وجعلتها مدخلًا للإطار العام الذي نحيا فيه. ومن هنا كان سرد القصص أحد مقترحات شافاك لاستعادة التواصل وعرض الاختلافات بين البشر بشكل مؤسس على المشترك بينهم؛ كما تقول: "بصفتي روائية، أومن بما في القصص من قوة تغيير تقربنا من بعضنا البعض، وتوسع مداركنا، وتطلق إمكانياتنا الحقيقية للتعاطف والحكمة". 

أتَّفِق تمامًا مع منطق شافاك، وربما ما تعرضه عن دور الأدب في فهم معاناة الناس ذوي الخلفيات المختلفة كما تقول، وهو ما يظهر في التاريخ الممتد للبشرية في نُسَخ متعددة من الحكايات، بداية بالأساطير إلى الحكايات والسرديات الشعبية، وربما كان في ذلك المنطق رد واضح وصريح على توجه البعض بتساؤل عن أهمية قراءة الأدب، فيقلل من شأنه وجدواه. 

تقول شافاك مؤكدة: "إن لم نفتح آذاننا للانتماءات والحكايات المتعددة الشاسعة اللا نهائية التي يدخرها لنا العالم، فلن نجد إلا نسخة زائفة من العقل، مثل: قاعة من المرايا التي تعكس صورتنا، لكنها لا تقدم لنا مخرجًا أبدًا".

تنتصر شافاك لفكرة ضرورة التشاؤم، ولكن بالقدر المطلوب؛ لأنه كما تقول: "يجعل العقل يقظًا، وأكثر وعيًا بما يدور حوله في كل مكان". لكنها في ذات الوقت تحذر من الإفراط في جرعته، فتؤكد على قول غرامشي: " تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة". 

ربما تجاوزت البشرية بقدرٍ ما جائحة كورونا الآن، لكنها لم تتجاوز حالة الانقسام من قبل ومن بعد الجائحة. وأختم بما ختمت به شافاك كتابها على لسان ت.س.إليوت: "ما نسميه: البداية كثيرًا ما يكون النهاية.. النهاية حيث نبدأ".