زمن بديعة

وسام سليمان

زمن بديعة – الحلقة الأولى

2024.11.16

مصدر الصورة : ويكيبديا

الطفلة المنبوذة التي أصبحت ملكة المسارح

 

في خريف عام 1951 كانت بديعة قد تركت فيلتها بعد أن تم الحجز عليها من قِبَل الضرائب في مصر بل ومهددة بالحبس إذا لم تدفع مبلغ (أربعة وسبعون ألف جنيه مصري)، لم يبشرها المحامي بحل للقضية. ورغم ذلك ففي تلك الليلة، ليلة هروبها من مصر، رآها البعض، وهي ترقص في صالة أحد الفنادق في منطقة الهرم، حتى جذبت عيون رواد المكان يتفرجون بإعجاب، ورآها آخرون جالسة في مقهى الأوتيل ومعها كلبها وكانت منهمكة في شغل التريكو.

ترى فيم كانت تفكر بديعة في تلك اللحظات؟ وهل كان يتصور أحد ممن رأوها أنها بعد عدة أيام سوف تكون حديث القاهرة حيث بدأ الناس يشعرون بغيابها وبدأوا يتساءلون:

"أين اختفت بديعة مصابني؟" هل هربت؟ وكيف استطاعت الخروج من مطار القاهرة وهي الممنوعة من السفر بأمر من الحكومة المصرية؟

ومع هروب بديعة من مصر كان زمن جديد يُسرع الخطى ليمحو زمنها؛ حريق القاهرة عام 1951، ثم ثورة 1952 الضباط الأحرار، وتغير أمزجة الناس والمباني وأسمائها، حتى الكوبري الذي أطلق عليه الناس كوبري بديعة لقربه من صالتها الشهيرة صار اسمه كوبري الجلاء، واختفت الصالة وصعد مكانها فندق شيراتون. ومع صعود أجيال جديدة صار كازينو بديعة وسهراتها المتلالئة جزءًا من زمن غابر لا يذكره إلَّا أجيال قديمة تستعيد أيام شبابها وتحن إلى أيام بديعة وزمنها.

لكن من هي بديعة؟

لم تكن "بديعة مصابني" راقصة، لكنها كانت حين ترقص تبهر الناس بطلتها؛ دمجت التخت الشرقي مع الأوركسترا وحركات الرقص الإيقاعي، فأنتجت مزيجًا رائقًا، وبعيدًا عن الابتذال أو ما يسمونه "هز البطن"!

ولم تكن كذلك مطربة، لكنها غنت وأجادت وجعلت من "كازينو بديعة" أكاديمية لاكتشاف وتخريج مواهب جديدة في الغناء والتلحين والمونولوج والرقص والتمثيل كل ليلة.

 أما في مجال المسرح فقد كونت بديعة "أشهر ثنائي" مع أهم وألمع نجوم التمثيل والمسرح في ذلك الوقت "نجيب الريحاني".

"ملكة المسارح" كان أشهر ألقابها، لكن اللقب الأحب إلى قلبها هو "بدعدع" الذي كان ينطلق بتلقائية من أفواه جمهورها مغمورًا بنشوة الإعجاب.

في تلك الفترة المبكرة من النصف الأول من القرن العشرين، حققت بديعة مجدها وشهرتها، في وقت كانت المرأة لا تخرج من بيتها إلا بالحَبَرة في الشام أو اليشمك في مصر، أما التعليم فلم يكن متاحًا إلا لبنات الطبقات الراقية في المنازل، كما أن الفن بشكل عام كان مهنة تخجل منها العائلات فما بالك عندما تعمل بها "امرأة".

***

27 شباط/فبراير 1896 هو يوم ولادة "وديعة حبيب مصابني" -التي صار الناس ينادونها "بديعة" بسبب جمالها اللافت- أمها "جميلة"، تزوجت "حبيب مصابني" الذي امتلك مصنع للصابون في دمشق، وهو من عائلة مصابني الثرية التي اشتهرت بصناعة الصابون حتى أن لقب "مصابني" أتي من تاريخها وشهرة أبنائها في صناعة الصابون. أنجبت له "جميلة" سبعة أبناء أصغرهم "بديعة".

كانت بديعة في حوالي الرابعة من عمرها عندما رحل الأب فجأة وانقلب بعدها حال الأسرة خاصة عندما احترق مصنع الصابون في ليلة مشؤومة، ثم تموت الأخت الكبري "ماري"، ويلحق بها شقيقها "الأكبر" الذي كانت تعتمد عليه الأم بعد رحيل زوجها، فأصيبت "جميلة" بحالة جعلت منها امرأة ممرورة دائمًا، وخلَّف لديها رعب دائم من المستقبل عكسته على البيت والأبناء الذي وصفته بديعة في مذكراتها بأنه كان "أشبه بقطعة من الجحيم"، وعانت بديعة من الإهمال والفقر إلى درجة أنها قالت: "كل ما كنت أحلم به قطعة صغيرة من الحلوى".

تتذكر ذلك اليوم وكانت في حوالي السابعة من عمرها عندما أرسلتها أمها لتبحث عن أخيها في الخمارة التي يعمل بها، فاستدرجها صاحب الخمارة بحجة أن أخاها في الداخل ثم سرعان ما انقض عليها "كالذئب المفترس"، قاومت، صرخت حتى أعياها الصراخ ثم غابت عن الوعي.

هذا المشهد الكابوسي كثيرًا ما تهرب بديعة من تذكر تفاصيله المؤلمة غير أن توابع الكابوس ومشاهده الراسخة في ذاكرتها كانت أشد قسوة.

خائفة مذعورة تجرها أمها في الشارع ومعهما شيخ الحارة، تبكي أمها وهي تشتكي للجيران، وتشير إلى ابنتها الطفلة المسكينة التي ضيعوا شرفها، ليتفرج الجيران بشفقة ممزوجة بالازدراء على الطفلة الجميلة التي قُضيَ على أنوثتها.

تصبح مضغة في أفواه الناس، وتواطأ الجميع على نبذ الأسرة كلها، ووقف التعامل معهم، حتى أن أخويها "أسعد وكمال" لجئا إلى الدير هربًا من قسوة المعايرة، أما بديعة الطفلة فكانت تتساءل ببراءة: "لماذا هم منبوذون، لماذا كلما مشت في الشارع يشيرون إليها ويتهامسون على حكايتها؟ ولماذا تصب أمها وإخوتها غضبهم عليها وقد حملوها مسؤولية تعاسة الأسرة وما آلت إليه؟

في تلك الفترة من أوائل القرن العشرين كانت هجرة الشوام إلى أمريكا الجنوبية في أوجها، وكانوا يسمونها بلاد الذهب، كثيرون باعوا أملاكهم في بلدهم ليدبروا ثمن تذكرة السفينة وهم يحلمون بالثراء، ولكن والدة بديعة رفضت بيع بيتها في دمشق وقامت برهنه فقط لتدبير ثمن تذاكر السفر (ولم يكن السفر في تلك الفترة يحتاج إلى تأشيرات أو حتى جوازات سفر).

تذكر بديعة تلك الرحلة الشاقة المؤلمة في سفينة درجة رابعة، والتي زادها معاناة العنف المتواصل من أمها وإخوتها فهي السبب في نظرهم في هجرهم وطنهم والسفر إلى الغربة والمجهول، وكانت بديعة تهرب منهم إلى البحارة الذين كانوا يتعاطفون معها ويعطونها الحلوى فتقتسمها مع أختها نظلة ومن اختلاطها بالبحارة التقطت الطفلة الذكية اللغة الإسبانية وسرعان ما تعلمت التحدث بها بطلاقة.

ولكن حلم الثراء والذهب الذي كانت تعتقده الأسرة سرعان ما تبدد عندما وصلوا إلى "بوينس أيرس" في الأرجنتين، ورأوا حال المهاجرين العرب في تلك الفترة حيث كان لهم شوارع خاصة لا يؤمها سواهم، وتذكر بديعة الشارع الذي نزلوا فيه وكان اسمه "ريكونكيستا". كان يسكنه المهاجرون العرب، والسكن كان عبارة عن غرفة يسكن فيها ستة أو سبعة أشخاص، أما العمل الوحيد المتاح لهم فهو "الكشة" التي يلفحونها على أكتافهم إلى الضواحي البعيدة يبيعون ما بها من بضاعة ويعودون في المساء بنقود قليلة منهكين.

وفي المساء يروِّحون عن أنفسهم بتأليف حلقات رقص وغناء وكانت الدبكة تجمع الشباب والصبايا "بالميجانا والعتابا"، "وكانوا يجهلون أو يتجاهلون التفرقة والتعصب، فالماروني جار الدرزي والشيعي صديق الأرثوذكسي والسني معًا، وتجمعهم وحدة اللغة ووحدة المصيبة".

وتصف بديعة في مذكراتها أحوال العرب المهاجرين هناك:

"لعل أطرف ما كان يميزهم عن سواهم من أهل البلاد الأصليين غرابة أزيائهم فمنهم من كان يتمسك بزي بلاده ولا يرضى عن الطربوش بديلًا، ومنهم من يحتفظ بالكوفية والعقال، كما كان منهم من يعتبر أن اللبادة ستجلب له الخير وتعيده إلى قريته، أما لقبهم في تلك البلاد فكان "تركو".

شاءت المصادفة أن يكون صاحب البضاعة الذي يعمل لديه الإخوة الذكور رجلًا لبنانيًّا على شيء من الثراء، تعرف على الأسرة ثم طلب يد الأخت الكبرى نظلة، ورغم أنه يكبرها بعشرين عامًا، وسبق له الزواج وله أربعة من الأبناء، فإن نظلة رضخت لإخوتها الذين اضطروها إلى الزواج به. أما بديعة التي كانت وقتها في السابعة فقد تكفل زوج أختها بمصاريف إلحاقها بمدرسة داخلية.

وفي المدرسة تفتح وعي الفتاة، ولمعت بذكائها وحضورها الفطري، وخلال السبع سنوات التي قضتها في مدرسة الراهبات تعلمت الإسبانية والفرنسية، والرقص الإيقاعي والغناء.

 ارتاحت أخيرًا من تعنيف وضرب أمها ونبذ الآخرين لها ولإخوتها ورأت نظرات الإعجاب والحب بدلًا من نظرات الاحتقار والشفقة، وأدركت أنها جميلة وأنها تحب الحياة وتستحق أن تعيش وأن تفرح بوجودها.

 ولكن أمها كرهت أمريكا كلها، وتشاءمت منها بعد أن تركها أبناؤها الذكور، أحدهم قرر أن يعود إلى الشام، والثاني سافر إلى اليونان ليلتحق بأحد الأديرة، أما الثالث فكان مغامرًا، وقرر أن يجرب حظه في إفريقيا، فطار عقل المرأة وعادت حالة الرعب تسيطر عليها، وأصرت بجنون أن تأخذ بديعة الصغيرة وتخرجها من المدرسة الداخلية وتعود بها إلى وطنها.

***

في أوائل الستينيات قام التليفزيون اللبناني بإجراء حوار مع الفنانة بديعة مصابني. كانت قد تركت مصر وابتعدت تمامًا عن الأضواء، وقد عرفت "بديعة" وقتها بعادة غريبة، وهي أنها لا تترك شخصًا واقفًا أو ماشيًا في الشارع إلا وقامت بتوصيله بسيارتها أيًّا كان طول المسافة أو بعد المشوار، وسألتها المذيعة "ليلي رستم" عن "السر" فردت بديعة ببساطة:

- "لأني مشيت كتير قوي زمان".

خمسون كيلومترا من بلدتها في دمشق إلى شيخان في لبنان -حيث بيت نظلة- التي تركت هي الأخرى أمريكا وعادت مع زوجها إلى بلدته في لبنان.

تجرها أمها أيامًا بلياليها، تسيران في البرد والمطر ووسط الجبال والطرق الوعرة، تعيشان عيشة أهل السبيل، وتبيتان في بيوت الغرباء.

لم يكن هناك في تلك الفترة سيارات، فقط ركوبة الحمير الرخيصة، ورغم ذلك فقد كانت أمها تؤثر أن توفر تلك الملاليم بسبب خوفها الدائم، ويكفي أن تعترض بديعة حتى تكرر أمها نفس الأسطوانة وتمطرها بضرباتها الغاضبة! ما كان يحير بديعة هو حالة أمها، وتقلباتها المفاجئة التي لم تفهمها أبدًا، في بعض الليالي تأتي لحظات على أمها فينتابها عطف مفاجئ، وتجدها تبكي وهي تطلب منها أن تعذرها مبررة عنفها بأن ما مرت به يفقد أي إنسان عقله، فأين حياتها الآن من بيتها العامر في الشام قبل رحيل زوجها، أين أبناؤها وقد تسربوا واحدًا بعد الآخر وتفرق شمل الأسرة، حتى ابنتها نظلة تزوجت رجلًا في عمر أبيها.

- "ولكن لماذا تضربينني بهذه القسوة؟"

تسألها بديعة فترد أمها:

- "أنها لا تدري لماذا تفعل ذلك!"

كانت تلاحظ أن أمها لا تنام إلا قليلًا، فهي قلقة ومؤرقة طوال الليل، تنتفض من نومها في منتصف الليل، وتستغرق في حديثها الطويل مع الله، ودعواتها المضحكة المبكية، فهي تدعو مثلًا أن يعيد الله إليها شبابها الذي فقدته حتى تستطيع العمل، أو يجعلها تعثر على كنز ثمين دفنه أصحابه ونسوه.

لفترة طويلة في طفولتها كانت بديعة تنتفض بمجرد أن يقترب منها أي شخص اعتقادًا منها أنه سيضربها، ولكن تغير كل هذا في لحظة تتذكرها بديعة جيدًا، وكانت أمها في إحدى نوبات هياجها الغريبة حتى تجمع الجيران على صوت صراخها وتعنيفها، ولكن عندما حاولت أن تضربها أوقفتها بديعة لأول مرة، صدت يدها وأمسكت بها وواجهتها بقوة وهي تقول:

- "لن أسمح بعد الآن يا ماما".

هددتها بأنها ستشتكي في المطرانية، وأنها ستتركها مثل إخوتها وتفقدها للأبد، وكانت تلك هي المرة الأولي التي تراها أمها بهذه القوة.

وتذكر بديعة تلك اللحظة الفارقة في حياتها:

"وهكذا أدركتُ أنني لم أعد تلك الطفلة الصغيرة التي لا تقوى على الدفاع عن نفسها، وكانت آخر مرة تمتد يدها إليَّ".

لن تعود أبدًا بديعة المسكينة الخانعة التي تستقبل عنف الآخرين بلا أدنى مقاومة، بل بديعة التي لا يجرؤ إنسان على المساس بكبريائها.

وهي التي طالما قالت بثقة:

- "حوري العالم كله مين هي بديعة".

***

عاشت بديعة فترة قصيرة من الاستقرار مع أختها نظلة في شيخان، أحبت حياة القرية، كانت ترافق أختها إلى الكروم والتقاط الزيتون والتين، تستيقظ على صياح الديك، تذهب لتطعم الدواجن والعلف للقطيع، ثم تقصد الحقل مع أختها برفقة أشعة الشمس الأولى، وترافق أهل القرية إلى الكروم والتقاط الزيتون والتين.

وفي السهرة تقضي الوقت مع رفيقاتها يغنين في ضوء القمر ما طاب لهنَّ الغناء ويناجين الحب والهوى، و"الميجاتا والعتابا".

كانت القري اللبنانية في تلك الأيام -كما تحكي بديعة- "عامرة بالخير والقناعة والبركات وكان الفلاح المكتفي، سلطانًا قانعًا برزقه، لا يسأل سوى رضا ربه ووجهه الكريم".

وفي شيخان عرفت بديعة لأول مرة "الشيخ سلامة حجازي" الذي جاء عدة مرات ليقيم حفلاته الموسيقية وكانت تجتمع مع رفيقاتها عند مجيء الشيخ ويصعدن إلى الشرفة المطلة على جنينة الأفندي حيث أقاموا مسرحًا كبيرًا يليق بشهرته.

تذكر بديعة كيف أثر غناء الشيخ سلامة في نفسها:

"علقت في ذهني كل أغانيه، ولم أقتصر على سماعه بل ابتعت رواية روميو وجولييت وكراسًا صغيرة للطقاطيق الخفيفة".

لم يكن فن المونولوج قد ظهر بعد، ولكن كان هناك التمثيل أو غناء الأدوار الطويلة ومواويل يا ليل يا عين، وكان الجمهور يبدي استحسانه بزفرات عميقة أو يرمي الطربوش على المسرح.

وبدأت بديعة تعقد النية على دخول الحياة الفنية "كانت كثيرًا ما تسمع أن مصر موطن الفن في الشرق، وأن فيها مغنيات مشهورات، فصممت في نفسها على السفر إلى مصر. كانت تعرف أن لها خالًا يعيش في مصر لم ترَه في حياتها، وجاءتها الفرصة عندما وجدت أمها مصرة على ترك منزل أختها في شيخان، وفي نفس الوقت ترفض بشكل قاطع العودة إلى أمريكا، فتقترح عليها بديعة أن يسافرا إلى مصر، وتذكرها بأخيها الذي يمكنهما اللجوء إليه، ولعل الله يكتب لهما الرزق في مصر المحروسة.

***

في أواخر عام 1911، تصل بديعة مع أمها في السفينة إلى مدينة الإسكندرية، وفي المدينة الواسعة تتنفس الهواء في الشوارع الواسعة، تجري على الكورنيش مع أمها التي تتحول هي الأخرى إلى طفلة مع ابنتها، تضحكان وهما تقلدان اللهجة المصرية، ثم تركبان القطار إلى القاهرة.

لم يكن لديهما أي معلومات عن الخال سوى أن اسمه "إبراهيم النجار" وأنه يمتلك طاحونة أو مصبنة، وكان المارة وأصحاب المحلات يندهشون من سذاجة المرأتين، فكيف يمكنهما أن يجداه في المدينة الكبيرة بدون حتى أن يكون لديهما أي عنوان للبيت أو العمل!

وبينما يعبران بالحنطور يأتي إلى سمعها صوت موسيقي ساحرة آتية من حديقة غنَّاء على الجهة المقابلة "حديقة الأزبكية"، وتلمح في وسط الحديقة ساحة واسعة وصبايا وفتيان يرقصون على الزلاقات "الباتيناج".

في هذه الحديقة تبدأ رحلة بديعة، وسوف تحمل الحديقة أيضًا ذكرى أول حب عرفته الصبية في حياتها، "خميس" شاب مصري وسيم يلاحظ الفتاة الجميلة التي تتفرج مبهورة على الرقص فيقترب منها، ويطلب منها بالفرنسية أن تشاركه الرقص فتضحك وهي تقول: "أنا مش خواجاية أنا بنت عرب زيكم".

وتدهشه بديعة بتعلمها السريع للرقص على الزلاقات وتنطلق بخفة وهي تتماهى مع الموسيقى.

تزيح عنها كوابيس الماضي، بل وتدوس على إهانات ونظرات الجيران القاسية، تتذكر عائلة والدها الغنية التي تخلت عنهم، بل وأراد أحد أعمامها أن يجعل منها خادمة في بيته، تتذكر المشي الطويل مع أمها والجروح التي كانت تملأ قدميها، يتبخر الألم الآن وتمتلئ بالخفة والفرح بالحياة.

كانت حديقة الأزبكية قبلة للفرق المسرحية المختلفة حيث يقدمون عروضهم في مسرحها الكبير، ولم تفهم في البداية عندما رأت بعض رواد الحديقة وهم يتدربون على أدوارهم واعتقدت أنهم مخبولون، ولكن أحدهم شرح لها ضاحكًا: "إنهم ممثلون في فرقة جورج أبيض".

والحقيقة أن فؤاد سليم لم يكن عضوًا فقط في الفرقة، بل كان كاتبًا مسرحيًّا معروفًا، وكانت الفرقة تضم أسماء كبيرة مثل: روز اليوسف، وعزيز عيد.

عرَّفها فؤاد سليم إلى رئيس الفرقة جورج أبيض، الذي أعجب بالصبية وعلَّق:

- "جميلة وجريئة وصوتها رنان.. بس يا خسارة".

فلم تكن بديعة تعرف القراءة والكتابة إلا باللغة الإسبانية فقط، ولكن فؤاد سليم تعهَّد بأن يعطيها دروسًا في اللغة العربية، وبالفعل خلال شهرين أتقنت بديعة القراءة والكتابة بالعربية وبدأت تتدرب مع الفرقة، وبعد ثلاثة شهور خصصوا لها مبلغ خمسة جنيهات.

لكن الخمسة جنيهات لم تكن لتقنع أمها بالاستقرار في مصر، ولن تكفي مصاريف إقامتهما في البنسيون والملابس التي تتطلبها في المسرح، كما أنها تخفي أصلًا على أمها عملها في المسرح، وتخرج بحجة أنها تتعلم الخياطة.

 وبينما هي شاردة في حيرتها في حديقة الأزبكية، يقترب منها شاب يعرف نفسه بأنه ممثل في فرقة "الشيخ أحمد الشامي". كان قد رآها على المسرح تمثل أدوارًا صغيرة ورغم ذلك فقد لفتت نظره، وحاول أن يقنعها بأن تنضم إلى فرقتهم فمع فرقتهم ستأخذ أدوارًا أكبر، وربما تصبح بطلة الفرقة، وتندهش بديعة عندما تعرف أن الفرقة ليس لها مقر، وأنهم فرقة متجولة، ويعرض عليها أن ترافقهم في جولتهم بعد أيام إلى الصعيد.

- "والصعيد دي هنا في مصر؟"

- "أمال إيه.. سمعتي عن الأقصر وأسوان؟"

- "يعني حنشتغل ونزور الآثار ونتفسح.."

- "ده حلم جميل".

لكن بديعة تعرف أن أمها سترفض قطعًا عملها في المسرح، وأنها ستعود بها في النهاية إلى بلدتها في دمشق حيث الفقر والنبذ ومعايرة الناس، وبدأت بديعة ترسم خطتها.

أوهمت أمها بموافقتها على العودة إلى الشام، وبالفعل أعدت معها الحقائب واتجهتا إلى محطة القطار، واشترتا تذكرتين إلى الإسكندرية، وركبت معها القطار، لكن وقبل أن ينطلق تترك أمها بحجة شراء بعض الطعام للطريق، ثم تتجه إلى عربة القطار المجاورة، وتنزل على الرصيف، تقف وراء العمود مترقبة حتى يبدأ القطار في التحرك.

 وبمجرد أن يبتعد القطار تاركًا المحطة تجد نفسها تنهار في البكاء مثل طفلة غريبة تائهة.