فنون

محمد دياب

سيد درويش وأم كلثوم مشروع تعاون أوقفه القدر!

2024.01.21

تصوير آخرون

سيد درويش وأم كلثوم مشروع تعاون أوقفه القدر!

هل حقًّا طارد سيد درويش أمَّ كلثوم ووالدها في مولد الحسين؟
وهل رفضت أم كلثوم غناء أعمال سيد درويش؟
هذا هو رأي أم كلثوم الحقيقي في سيد درويش
ثلاثة أعمال غنتها أم كلثوم لسيد درويش، واحد منها بمشاركة عبد الوهاب 

ماذا لو مد القدر في عمر الشيخ سيد درويش وقام بالتلحين لصوت أم كلثوم؟ ترى هل كانت أم كلثوم ستصبح أكثر انفتاحًا نحو الحداثة الموسيقية التي قام بها درويش، خصوصًا فيما يتعلق بالتوزيع الموسيقي الهارموني، كان محمد عبد الوهاب أسعد حظًا من أم كلثوم؛ فقد أتاحت له الفرصة الاقتراب من الشيخ سيد في أعوامه الأخيرة، صحيح أن درويشًا لم يضع ألحانًا خصِّيصًا لصوت المطرب الناشئ وقتها محمد عبد الوهاب، لكنه تشبع بفنه وموسيقاه خصوصًا عندما ضمه درويش إلى فرقته المسرحية وأسند إليه بطولة أكثر من رواية، مثل: "شهرزاد" و"الباروكة"؛ مما كان له أكبر الأثر في اتجاه عبد الوهاب نحو التطوير والحداثة فيما بعد، على الجانب الآخر كان الشيخ أبو العلا محمد تلميذ عبده الحامولي وأحد بطانته، كان هو الأستاذ والمعلم لأم كلثوم في صباها الفني، خصوصًا فيما يتعلق بتطويره لقالب القصيدة الغنائية، وهو القالب الذي أهمله سيد درويش.

حافظت أم كلثوم على كلاسيكيتها -إذا جاز لنا التعبير- ولم تقرب التوزيعات الهارمونية إلا فيما ندَرَ، كما في أغنيات فيلم "نشيد الأمل" للمخرج أحمد بدرخان عام 1937 الذي قدم فيه المايسترو عزيز صادق توزيعات هارمونية لأغنيات أم كلثوم؛ حيث غنت بمصاحبة ميني أوركسترا، في سابقة فريدة من نوعها، مجموعة من الأغنيات خرجت في حلة غاية في الجمال، وهي على التوالي: "نامي يا ملاكي"، "نشيد الجامعة"، "افرح يا قلبي"، "منيت شبابي"، "قضيت حياتي"، و"ياللي صنعت الجميل"، وجميعها من ألحان محمد القصبجي ورياض السنباطي، وكلمات أحمد رامي، واستَخدَمت الصاجات الخشبية الإسبانية "الكاستانيت" في أغنية "افرح يا قلبي" لأول مرة، في حين كان السبق لمحمد عبد الوهاب في استخدامها لأول مرة في الغناء العربي عام 1928 في منولوج "في الليل لما خِلِي".

فيما عدا التوزيعات التي قام بها كل من عزيز صادق وإبراهيم حجاج لفصلي "أوبرا عايدة" ولديالوج "فضلت أخبي عنه هوايا" في فيلم "عايدة" 1942 لأحمد بدرخان، اقتصرت التوزيعات الهارمونية في غناء أم كلثوم بعدها على الأغنيات الوطنية فقط بتوزيعات المايسترو إبراهيم حجاج وأندريا رايدر. 

أم كلثوم ووالدها يَكرهان سيد درويش: 

راجت مؤخَّرًا كتابات حول علاقة أم كلثوم بفنان الشعب سيد درويش، تضمنت مغالطات بل وإساءة من قِبَل أم كلثوم ووالدها نحو الشيخ سيد، وذلك دون أسانيد أو مراجع حقيقية يَستنِد إليها مَن ردَّدوا تلك المغالطات!

 تقول إحدى المرويات الشائعة على لسان الشاعر الشيخ محمد يونس القاضي، دون الإشارة إلى المصدر المأخوذة عنه: إن القاضي اختلف مع منيرة المهدية وقرر على إثرها أن يعمل على إظهار مطربة جديدة تنافسها على عرش الطرب، وكان يعرف مدى تخوف منيرة من أم كلثوم، التي تمتلك من المواهب الفنية ما يجعل منيرة تعمل لها ألف حساب، وفعلًا سافر القاضي إلى بلدة أم كلثوم "طماي الزهايرة" بصحبة بعض الأصدقاء الصحفيين الذين ناصبوا منيرة العداء بسبب غرورها الشديد، وقابلوا والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، وتولى الشيخ القاضي الحديث حول تحول ابنته أم كلثوم إلى الغناء العاطفي، وكانت وقتها تقدم الغناء الديني والمدائح النبوية، لكن الشيخ إبراهيم ثار وغضب ورفض بشدة، مؤكدًا أنه وهب أم كلثوم لتلاوة القرآن وإنشاد السيرة النبوية فقط، لكن القاضي لم ييأس، ولما عاد إلى القاهرة أخذ يتحين الفرصة مجدَّدًا لإقناع الأب، وتصادف أن جاءت أم كلثوم مع والدها إلى القاهرة في مولد سيدنا الحسين، فذهب الشيخ يونس مع الشيخ سيد درويش الذي كان سبق أن سمعها مراتٍ عدَّةً، وحاول الاثنان إقناع الأب، وعرض درويش أن يقدم لأم كلثوم ألحانه مجانًا، لكن الأب رفض مجرد مناقشة الفكرة، وطلب من سيد درويش ألا يعاود زيارتهم مرَّةً أخرى، وتألم سيد درويش غاية الألم من سوء معاملة والد أم كلثوم له وهو الملحن الذي يخطب وده كبار المطربين والمطربات.

لقد تتبَّعْت مصدر هذه الرواية الذائعة عبر الكتابات، حتى عثرت عليه وكان كتاب الدكتورة رتيبة الحفني "أم كلثوم معجزة الغناء" ولحسن الحظ ذكرت في الكتاب المصدر الذي نقلت عنه، وكان عدد مجلة "الكواكب" الصادر بعد رحيل أم كلثوم بأيام بتاريخ 25 فبراير 1975 في مقال كتبه حسين عثمان تحت عنوان: "والد أم كلثوم يرفض أن تغني ابنته ألحان سيد درويش"، وللأسف مصدر الرواية لم يذكر لنا من أين حصل عليها؟ هل حكاها له يونس القاضي قبل وفاته عام 1969 أم اقتبسها من حوار صحفي قديم له؟

وبعد بحث مضنٍ في أرشيف الشيخ يونس القاضي الشحيح، تمكنَّا من العثور على المصدر الذي تم الاقتباس منه، وكان عددًا من مجلة "المصور" صدر بتاريخ التاسع من أكتوبر عام 1959؛ حيث نُشر تحت عنوان: "الحلقة الثانية والأخيرة من ذكريات الشيخ يونس القاضي" ورَدَ فيها على لسانه فقرة تخص أم كلثوم جاء فيها: "كانت أم كلثوم تغني في الموالد فقط، وكنا نسمع بها وبصوتها الجميل، وذات يوم قَوِيَت عندي الرغبة في سماعها شخصيًّا، فسافرت إلى قريتها بصحبة صديقي أحمد محرم صاحب جريدة "المساء" وعرضنا على والدها أن تقدم بعض الأغاني العاطفية، ولكنه ثار ورفض بشدة مؤكدًا أنه وهبها لتلاوة القرآن الكريم فقط، وبعد عامين جاءت أم كلثوم إلى القاهرة، كانت ترتدي العقال وتغني في الموالد، وسمعها سيد درويش وعرض على والدها أن يلحن لها، ولكن الأب رفض مجرد المناقشة في المبدأ".

ويبدو جليًّا التحريف الذي حدث لكلامه، فليست هي محاولة للانتقام من منيرة المهدية بسبب غرورها، كما أنه لم تحدث مطاردة لأم كلثوم ووالدها في مولد الحسين من قبل سيد درويش ويونس القاضي، لم يذكر القاضي تاريخ حدوث هذه الواقعة، والمعروف أن أول حفل لأم كلثوم في القاهرة يحضره جمهور كان في عام 1920 تبعته بأكثر من حفل، فكانت تحضر إلي القاهرة للغناء وتقيم في فندق "جوردن هاوس" في شارع 26 يوليو حاليًّا، ثم تعود مجدَّدًا إلي "طماي الزهايرة" قبل أن تستقر في القاهرة عام 1923 وتسكن في شارع قَوَلَة في حي عابدين.

والواقع أن أم كلثوم في تلك المرحلة من حياتها الفنية كانت تغني دون مصاحبة فرقة موسيقية، لكن بمصاحبة "بطانة"؛ أي: كورس مكون من ثلاثة أشخاص؛ هم: والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، وشقيقها خالد، وابن عمها صابر. أما مسألة رفضها تقديم أغنيات عاطفية دون الإنشاد الديني والمولد النبوي، فهو أمر محل شك؛ فقد كانت أم كلثوم تغني آنذاك ومنذ بدأت طفلة أغانيَ عاطفية، فأول مرة غنت فيها وهي في التاسعة تقريبًا من عمرها في منزل شيخ خفر قريتها، أنشدت قصيدة تقول كلماتها: "أقول لذات حسن ودعتني / بنار الوجد طول الدهر آه" بحسب ما روت أم كلثوم لمجلة "البوليس" عام 1957، وهي القطعة نفسها التي كان يحفِّظها والدها لشقيقها خالد، وفشل في أدائها، ونجحت هي، كما كانت تنشد في تلك المرحلة قطعة غزلية أخرى في قالب توشيح، تقول كلماتها: "جل من طرز الياسمين على خديك بالجُلَّنار / وارتضى ذا الجمال الثمين معدنًا من لَماك العقار". 

ظلت أم كلثوم على هذا المنوال حتى عام 1924؛ أي: بعد رحيل الشيخ سيد درويش بعام كامل، لم يكن لها أغنيات خاصة بها حتى ذلك الحين، فقد كانت تنشد تواشيح دينية للشيخ زكريا أحمد، مثل: "مولاي كتبت رحمة الناس عليك"، ولم تتحول أم كلثوم إلى الغناء على التخت وتقديم أغنيات عاطفية خاصة بها إلا بعد رحيل الشيخ سيد درويش. 

 الشيخ سيد يلتقي بأم كلثوم في رأس البر: 

الشهادات الموثقة حول علاقة أم كلثوم بسيد درويش نادرة، من بينها هذه الشهادة المهمة التي أدلى بها محمد علي حماد صديق الشيخ سيد، وواضع أحد أشهر الكتب التي صدرت عنه "سيد درويش حياة ونغم" لمجلة "الإذاعة والتلفزيون" في العدد الصادر بتاريخ 15 مارس عام 1975 بعد رحيل أم كلثوم بأسابيع قليلة، تحت عنوان: "اللقاء الأول والأخير بين سيد درويش وأم كلثوم". 

 يذكر حماد في شهادته أنه سافر إلى مدينة رأس البر في صيف عام 1923 بصحبة الشيخ سيد درويش، الذي كان يعاني من ضيقٍ نفسي بسبب حل فرقته المسرحية، وأنهم نزلوا هناك في فندق متواضع، ونترك حماد يروى شهادته إذ يقول: "ذات مساء ونحن نتناول طعام العَشاء، لاحظنا جمعًا من أصحاب العمائم، لعل عددهم لم يكن يزيد على ثلاثة أو أربعة، يتناولون عشاءهم على مائدة قريبة، وقد لفت الأنظار صغير كان يجلس معهم يلبس العقال فوق بالطو لا يكاد يَبين له لون من القِدَم، ولكن لفت الأنظار نشاط الصغير وحركته الدائبة وتطلعاته هنا وهناك بعينين يبدو من خلالهما حب الاستطلاع، والرغبة الملحَّة في المعرفة، وتتبُّع ما يجري في ردهة الفندق بإلحاح غريب، وكان التنافر يبدو شديدًا وواضحًا بين وقار هذه العمائم وحركة الصغير النشطة الدائبة، وسأل سيد درويش صاحب الفندق، وكان قد اعتاد أن يتناول عشاءه معنا تحية منه لنزيله الكريم، سأل سيد: من هؤلاء؟ وما قصة هذا الصغير الذي معهم؟ فقال الرجل: إن هذه أم كلثوم، وهؤلاء أبوها وأخوها وخطيبها، وسأل سيد: ومن تكون أم كلثوم هذه؟ ولم يُخفِ دهشته من أن يكون هذا الطفل هو هذه الفتاة، فقال الرجل: إنها مغنية ريفية من قرية قريبة من بلدة السنبلاوين غاب عنه اسمها، وإن كان أحد نزلاء الفندق من أعيان الدقهلية يعطف عليها وقد استقدمها هي وبطانتها حيث نزلوا جميعًا في ضيافته بالفندق، وستغني الليلة في صالة الفندق لنزلائه ولمن يشاء من نزلاء رأس البر، والدخول بخمسة قروش، وحصيلة الدخل لها ولمن معها، أما نفقات الإقامة فقد تكفل بها وجيه الدقهلية حسبة لوجه الله، ورغبةً منه في مساعدتها ومساعدة أهلها الفقراء". 

ويتابع حماد: "وضحك سيد وهو يقول: الموسيقى ورانا ورانا، حتى في هذا المهجر نسهر ونسمع وأمرنا لله، وسهرنا وسمعنا، سمعنا عجبًا، بدأت السهرة وكان قد أعد للصَّيِّيتة دكة عالية بعض الشيء كالتي يجلس عليها الفقهاء في المآتم لتلاوة آي الذكر الحكيم، وبدأت الوصلة الأولى بأن أنشد هذا الطفل أنشودته المأثورة "مولاي كتبت رحمة الناس عليك" ثم فجأة إذا بها تغني "والله تستاهل يا قلبي"، وهي كما هو معروف من أشهر أغاني سيد درويش، وكانت أكثر من مفاجأة لسيد ولي، وتجمع سيد درويش كله في أذنيه وتحفزت حواسه جميعًا للريفية الصغيرة، وأنصت ملء كيانه كله، وبدا عليه ما كنا نلمسه منه عندما تنتابه نوبات الوجد والتصوف، وفي منتصف الأغنية تقريبا صمتت الصغيرة، وتعالى التصفيق من كل مكان يستعيدها، فأعادت، وعند نفس المقطع من الأغنية عادت وتوقفت وعدنا للتصفيق وطلب الإعادة، فأعادت، وعند نفس المقطع توقفت وصمتنا مرغمين؛ لنعطيها فرصة لتُتِم باقيَ الأغنية، ولكن طال صمتها، ثم بدأت أغنية أخرى، وكان واضحًا تمامًا أنها لا تحفظ إلا ما غنت وهو لا يتجاوز النصف الأول من هذا اللحن، ونظرت إلى سيد ولم يَفُتْني أن ألاحظ أنه في قمة الوجد والصوفية ساهمًا صامتًا عيناه مشدودتان ناحية الصغيرة، يحملق فيها بنظرة عجيبة كأنه يرى شيئًا عجبًا لا عهد له به من قبل هذا الشيء، وانتهت السهرة وبدأت الصغيرة تنزل من فوق الدكة قفزًا إلى الأرض، بينما تتحرك البطانة في وقار واحتشام، وفجأة رأيت سيدًا يتجه إلى الصغيرة إلى أم كلثوم ويرفعها بين يديه ويُقبِّلها، ثم يربِّت على رأسها في حنان واضح، والصغيرة مستسلمة في رضا لهذا العملاق الذي يبدو وكأنه سيأكلها ويلتهمها، ثم فجاة تقفز من بين يديه وتمضي جارية إلى غرفتها".

يواصل حماد روايته فيما يتعلق برأي الشيخ سيد في صوت أم كلثوم فيقول: "جذبني سيد برفق، وأخذ يتمشى في هدوء على شاطئ البحر ولا يزال صامتًا، وأمضي معه في الركب صامتًا أنا أيضًا، وأخيرًا تكلم سيد فقال وكأنه يتحدث إلى نفسه: هذه الفتاة سيكون لها شأن كبير في يوم من الأيام، إن صوتها جميل طروب، وأداءها طيب بل ممتاز، ولكن ليس هذا هو الذي أثار إعجابي وتقديري لها، إنها تعيش النغم بكل وجدانها وبكل كيانها، إنها لا تغني اللحن بل هي تعيشه وتحياه، في أدائها شيء لست أدري ما هو، ولا كيف أعبر عنه، هذه الفتاه سيكون لها في يوم من الأيام شأن كبير".

هذه الواقعة التي رواها حماد بعد مرور أكثر من 50 عامًا على حدوثها، يبدو واضحًا أنه أخطأ في ذكر العام الذي وقعت فيه تلك الأحداث، فأم كلثوم عام 1923 لم تكن طفلة صغيرة، بل كانت في الواحدة والعشرين من عمرها؛ فهي من مواليد العام 1902 ناهيك عن كونها كانت قد حققت في ذلك العام شهرة لا بأس بها في القاهرة، وكانت قد خلعت عنها العقال وارتدت الملابس الإفرنجية العصرية في عام 1922 وهي في العشرين من عمرها، وذلك حسب ما أوضحت صورعدة نُشرت لها كانت أهدتها إلى أول متعهد حفلات لها في القاهرة الشيخ محمد طاليا، وقَّعَت عليها بالاسم والتاريخ، وأعاد نشرها أكرم ريحان حفيد صديق المتعهد، المقيم في الولايات المتحدة على شبكة الإنترنت قبل نحو عشرة أعوام. 

أضف إلى ذلك أن فرقة الشيخ سيد درويش المسرحية كانت قد حلت في يناير من عام 1922 حسب ما أورد الدكتور سيد علي إسماعيل في كتابه "مسيرة المسرح في مصر 1900 – 1935" وليس في عام 1923 كما ذكر حماد، ويرجح أن تكون هذه الحادثة قد وقعت في عام 1920 وهو عام صدور منولوج "والله تستاهل يا قلبي" الذي قدمه درويش لفرقة علي الكسار في رواية "راحت عليك"، تأليف: أمين صدقي، وصدرت على أسطوانة؛ وجهٌ منها بصوت الشيخ سيد، والآخر بصوت حياة صبري، غير أن الأمر المؤكد أن هذه الواقعة التي رواها حماد قد حدثت بالفعل. 

شهادة أخرى لا تقل أهمية عن شهادة حماد، أدلى بها المعلم صديق أحمد أشهر متعهدي الحفلات منذ عشرينيات القرن العشرين وحتى خمسينياته لمجلة "الدنيا المصورة" بتاريخ 17 يوليو 1929 تحت عنوان: "ساعة مع المعلم صديق أحمد متعهد حفلات التمثيل المعروف"، جاء فيها عن بدايات حفلات أم كلثوم العامة في القاهرة وكان أولها في العام 1920: "ظهرت الآنسة أم كلثوم بتختها المعمم، وكانت أولى حفلاتها مؤجرة إلى شخص يدعى الشيخ محمد أبو زيد، وهو ساعٍ بإحدى وزارات الحكومة، أقامها في شادر بسيط في حي الناصرية، وقد ربح منها مبلغًا كبيرًا شجَّعه على إعاده الكَرَّة في تياترو "برينتانيا" القديم - مكان سينما كايرو حاليًّا - وقد تأخذك الدهشة إذا قلت لك: إن إيراد الشُّبَّاك بلغ في تلك الليلة 130 جنيهًا، وأذكر في تلك الليلة أنني كنت أوزع إعلانات في صالة التياترو، وكان المرحوم الشيخ سيد درويش الموسيقار الأوحد واقفًا يحادث عوض أفندي فريد، فسمعته يقول له: "سيكون لهذه الفتاة الصغيرة مستقبل باهر في وقت سريع". فعلقت هذه الجملة برأسي، وسارعت في اليوم التالي إلى لوكاندة "جوردن هاوس" حيث كانت تقيم الآنسة وأبوها وأخوها الشيخ خالد أفندي الآن، ودفعت لهم مبلغ 50 جنيهًا تأمينًا، واتفقت معهم على إحياء ثلاث حفلات بمصر، وما يزال عقد هذا الاتِّفاق موجودًا لدي للآن، وقد كان دخلي عظيمًا من تلك الحفلات الثلاث". 

ويبدو من حديث الشيخ سيد هنا مع عوض أفندي فريد أنه كان يعرف أم كلثوم، وسبق أن استمع إليها، وبذلك تكون هذه هي المرة الثانية التي استمع فيها درويش لأم كلثوم.

أم كلثوم تبدي رأيها في فن سيد درويش: 

كان هذا رأي سيد درويش في أم كلثوم، ولكن ماذا عن رأي أم كلثوم في سيد درويش؟ من المرات القليلة التي تحدثت فيها عنه، كانت في حوار أجراه معها الكاتب الصحفي والناقد رجاء النقاش في حوار لمجلة المصور عام 1965، وأعاد نشره في كتابه "لغز أم كلثوم" حين سألها خلال الحوار: ما رأي أم كلثوم في هذا الفنان الذي بدأ الثورة الموسيقية في الشرق العربي؟

 أجابت أم كلثوم: "إن سيد درويش فنان عظيم، ولكنني أعتقد أن تراث سيد درويش يحتاج إلى مجهود كبير لتقديمه وعرضه في صورة تليق بهذا الفنان الكبير، والذي يعتبر عبقرية موسيقية أصيلة، والشيء الذي أضيق به عندما أسمع أغانيَ سيد درويش هو كلمات الأغاني؛ ففي اعتقادي أنها كلمات ضعيفة، أذكر أنه في أوبريت "العشرة الطيبة" تتردد هذه الكلمات على لسان إحدى الشخصيات "حاجي بابا حمص أخضر" وهذا كلام ينقصه الفن، وهو أقل بكثير من مستوى الألحان الرائعة التي قام بتأليفها سيد درويش، إنني أعتبر موسيقى سيد درويش موسيقى عبقرية فعلًا، ولكنها لم تجد الشعر المناسب لها إلا في حالات قليلة، مثلًا في دور "ضيعت مستقبل حياتي" نجد شعرًا جيدًا وجميلًا، ولكن مثل هذا النموذج قليل محدود، وسيد درويش عمومًا بحاجة إلى مجهود فني كبير لخدمة تراثه العظيم، وتقديمه بالصورة اللائقة".

ولا أدري لماذا أشعر بقدرٍ من التجني في حديث أم كلثوم عن فن سيد درويش، فكلمات الأغاني التي تتسم بالضَّعف معظمها جاءت ضمن أغاني ديالوجات داخل المسرحيات الغنائية، أما أدوار سيد درويش العشرة وموشحاته وهي بالعشرات فكلماتها مهذبة وأنيقة؛ كما في منولوج "والله تستاهل ياقلبي" الذي أنشدَتْه في حضوره، ناهيك عن عشرات الطقاطيق والأغاني الوطنية، ومع ذلك لم يمنع انطباع أم كلثوم هذا عن فن الشيخ سيد من أن تغنيَه أكثر من مرة، فقد كانت تنشد في حفلاتها الأولى في القاهرة طقطوقة "مظلومة وياك يا ابن عمي". 

فحسب ما نشرت مجلة "الكشكول" بتاريخ 25 يونيو 1922 كان جمهور حفلات أم كلثوم يطالبها بإنشاد هذه الطقطوقة، في إشارة منهم إلى خطيبها وابن عمها صابر البلتاجي وأحد أفراد بطانتها في الوقت نفسه، التي تضم أيضًا والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي وشقيقها خالد، وهي أغنية كان قدمها الشيخ سيد تحية لروح ابنة عمه التي تزوجها دون حب وطلقها بعد وقت قصير، فحزنت وتوفيت بعد طلاقها منه. 

 وهناك عمل ثالث غنته أم كلثوم بمشاركة الموسيقار محمد عبد الوهاب منتصف عشرينيات القرن الماضي، وقد حكى عبد الوهاب هذه الواقعة في مقال كتبه عن أم كلثوم لمجلة "الكواكب" في مايو من عام 1953 بمناسبة عودة أم كلثوم من رحلة علاجها في مستشفى البحرية الأمريكية، ذكر فيه أنه التقى بأم كلثوم وشاركها الغناء لأول مرة منتصف العشرينيات في سهرة جمعتهما في منزل والد الموسيقار أبو بكر خيرت في السيدة زينب، في الشارع الذي أصبح يحمل اسمه اليوم "شارع خيرت"، وأنه ليلتها وبناءً على طلب الحضور شارك أم كلثوم غناء ديالوج "على قد الليل ما يطول"، الذي قدمه سيد درويش في رواية "العشرة الطيبة" لبديع خيري عام 1920، وسجله الشيخ سيد على أسطوانة بمشاركة حياة صبري.    

وقد تصيبك عزيزي القارئ دهشة كبيرة عندما تعلم أن أم كلثوم غنت بمشاركة عبد الوهاب هذه الكلمات ضمن الديالوج: "شِفَّتي بتاكلني أنا في عرضك / خليها تسلم على خدك / يوه يا دين النبي تنك سايح / ما شبعتش من ليلة امبارح / ما تفكرنيش اما دي حقة / كانت ليلة في غاية الرقة"، وذلك قبل أن يتم تحويرها في أيامنا هذه لتصبح: "مهجتي في إيدكي أنا في عرضك / خليها يا روحي أمانة عندك"، والرأي الذي أبدته أم كلثوم في فن سيد درويش كان يخص أم كلثوم في ستينيات القرن العشرين، لا أم كلثوم في عشرينيات القرن العشرين؛ فقد غنت أم كلثوم في تلك الآونة طقاطيق خفيفة، مثل: "الخلاعة والدلاعة مذهبي"، و"العزول فايق ورايق"، و"ما تروق دمك مين هيهمك زعلان ليه"، وهذا الأمر في اعتقاد كاتب هذه السطور يرجِّح بشكل كبير فرضية غناء أم كلثوم لألحان الشيخ سيد درويش، لو قيض له أن يحيا ولو لعقد إضافي من الزمان.