رؤى
هشام جعفرطوفان الأقصى ومستقبل الإسلام السياسي في المنطقة
2024.02.12
مصدر الصورة : BBC
طوفان الأقصى ومستقبل الإسلام السياسي في المنطقة
كَتَبت من قبلِ الطوفان بثلاثة أسابيع تقريبًا مقالًا bit.ly/3uvjB3l أعلن فيه "إخفاق الإسلاميين في المنطقة العربية ونهاية الإسلام السياسي". لم يكن المقال المشار إليه وحيدًا في هذا الباب، ولن يكون بالطبع الأخير؛ فقد سبقته مقالات كثيرة تحلل مأزق الإسلاميين في عقد الربيع العربي، وبالتأكيد ستلحقه مقالات أخر.
لن أعيد في هذا المقال سرد الحُجَج، ولا بيان الأسس التي بَنَيت عليها نظرتي في تقييم مستقبل الإسلاميين في المنطقة، والتي تكمن بالأساس في: أن السياقات الفكرية والسياسية والمجتمعية التي ساعدت على انتشارهم لم تعد موجودة الآن؛ فنحن نشهد من أواخر العقد الأخير من القرن العشرين تغيُّرات عميقة في البنى الفكرية، والنماذج المعرفية، وأنماط التدين وهياكل الاقتصاد وطبيعة الدولة من جهة أدوارها ووظائفها … إلخ. هذه التغيرات لم يكافئها - حتى الآن - استجابات مختلفة من الإسلاميين تسمح بإعادة إنتاجهم من جديد. لا يعني قولي هذا بالطبع: اختفاء تام لتنظيماتهم ولا خطاباتهم من على الساحة، فما أتحدث عنه هو القَبول المجتمعي المتسع لهم ومساندتهم سياسيًّا، وضم أفراد جدد لتنظيماتهم.
قد يتساءل القارئ - وحق له ذلك – عن: لماذا إذن يجري طرح الأمر مرةً أخرى مع طوفان الأقصي - تلك العملية غير المسبوقة التي بدأتها حماس واحدة من التجسيدات الحية لجماعة الإخوان المسلمين - في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣؟ بعبارة أخرى: ما الجديد الذي تلقيه هذه العملية غير المسبوقة على مستقبل الإسلاميين في المنطقة؟
محددات ستة:
طوفان الأقصى ومستقبل الإسلام السياسي في المنطقةقد يكون من المبكر الحديثُ عن تأثير طوفان الأقصى على مستقبل الإسلاميين في المنطقة؛ فالمعركة لا زالت دائرة. إن الشكل الذي ستنتهي به هذه الحرب وما ستسفر عنه من نتائج أحد المحددات المهمة في التأثير.
إذا انتهت الحرب بتدمير المقاومة في غزة عسكريًّا، وتحميل حماس مشاهد الدمار التي طالت البشر والحجر والأرض وكل شيء في غزة، بالإضافة إلى بقاء شعار وحدة ساحات المقاومة رمزيًّا، ونجاح الترتيبات الأمنية والسياسية في القطاع لمرحلة ما بعد الحرب … كل هذا سيذهب بالدفعة المعنوية التي حققها يوم السابع من أكتوبر، والعكس صحيح أيضًا، فأي انتصار - ولو رمزيًّا - للمقاومة يضاف إلى ما تحقق في السابع من أكتوبر سيكون له تداعيات هائلة على المنطقة، ووضع الإسلاميين؟
أولًا: إعادة تموضع الإسلاميين مرة أخرى بشِقَّيهم العنيف والمعتدل:
توقُّعي أن تزداد موجات العنف في المنطقة، وتزيد مساحات عدم الاستقرار. سيدفع العجز عن نصرة الفلسطينيين، الممتزج بالغضب الناتج عن تخلي الأنظمة العربية عنهم وتركهم يواجهون مصيرهم وحدهم، برغم ما يمتلكون من أدوات لإيقافه أو على أقل تقدير تخفيفه. هذا المشهد سيعطي قوة دفع للعنف في المنطقة.
أما الإسلاميون المعتدلون فإنهم إن لم يعيدوا تموضعهم في الساحة من مدخل وحدة القضايا والهموم، فلا مستقبل لهم، وستتعمق أزمتهم.
هتفت مظاهرات القاهرة الجمعة ٢٠ أكتوبر لفلسطين، كما نادت بالعيش والحرية والكرامة الانسانية والعدالة - شعارات الانتفاضات العربية. جاءت هذه الهتافات من شباب كان عمره لا يتجاوز السنوات العشر حين اندلعت ثورة يناير ٢٠١١، لكنها أشواق الحرية والعدالة التي لم تنتهِ.
الجماهير العربية تدرك مسؤولية الحكومات عمَّا آلت إليه أوضاعهم المعيشية من تدهور، كما يدرك قطاع منهم أيضًا مسؤولية هذه الحكومات عما طال الفلسطينيين في غزة.
كتبت مبكرًا عن تراجع الإسلاميين سياسيًّا بسبب عجزهم عن تقديم حلول لمشكلات الواقع، وأولويات الناس المعيشية، كانت الجماهير تأمل في الموجة الأولى من الانتفاضات العربية بانتخابهم أن يعالجوا مشكلات الواقع، إلا أن هذه الجماهير أيضًا هي التي خرجت ضدهم وهم في الحكم؛ كما جرى في العراق ولبنان والسودان في الموجة الثانية، ومصر في الموجة الأولى.
ثانيًا: مرحلة جديدة من الحرب على الإرهاب:
في الأيام الأولى من الطوفان؛ أعلن bit.ly/4bueVeZ الرئيس الفرنسي عند زيارته لدعم إسرائيل عن رغبته في تكوين تحالف دولي لمواجهة حماس، على غرار التحالف الدولي الذي نشأ ضد داعش. ويزعم كاتب هذه السطور أن هذا التحالف قد تشكل بالفعل على أرضية التنسيقات الأمنية التي تضم دولًا في المنطقة وإسرائيل وبعض الدول الأوروبية - كما صرح ماكرون bit.ly/4bwIqN5 في ختام زيارته تللك للصحافة الفرنسية.
إن أي دور لحماس لن يكون مقبولًا بالنسبة لواشنطن وإسرائيل، ومعظم العواصم الإقليمية المؤيدة للولايات المتحدة؛ ففي ثلاثة صراعات كبرى قبل عام 2021، نجح القتال مع إسرائيل في إحياء شعبية المقاومة الفلسطينية. وتستمر موجات الدعم الجماهيري هذه دائمًا طالما استمرت المقاومة، وتخشى الأنظمة العربية من شعبية أية قوى، والنموذج الذي يشيع من خلال هذه المقاومة.
لن ينضمَّ إلى هذا التحالف الخاسرون من إعادة ترسيم الممرات الإستراتيجية وخطوط الطاقة، مثل: روسيا والصين وإيران وتركيا، لكن بالتأكيد فإن خطوط الصدع قد تضم إيران ووكلاءها في المنطقة.
ستكون بعض الحكومات العربية التي قادت الثورة المضادة سعيدة لرؤية إسرائيل تقضي على حماس، وهي المنظمة التي انبثقت من جماعة الإخوان المسلمين - الجماعة الإسلامية التي تعتبرها هذه الحكومات عدوة لها، وهي لن تقبل بعودتها مرة أخرى بعد ما بذلته من جهد ومال على مدار عقد، وإن قبلت حماس فإنها ستقبلها مضطرة، وستسعى لدمج جناحها السياسي دون العسكري.
ثالثًا: لا مكان للأيديولوجيات في المنطقة:
إذا كانت موجات الحرب على الإرهاب التي امتدت على مدار العالم الإسلامي، أو ما أُطلِق عليه الشرق الأوسط الكبير كان غرضها - أو هكذا ادعت - القضاء على طالبان وصدَّام ولاحقًا القضاء على حكم داعش في سوريا والعراق – أي: سلطات قائمة - بغية إقرار نظم ديموقراطية وبناء دول؛ فإن هذه الموجة من الحرب سيكون غرضها إزاحة كل من يعوق الاندماج الاقتصادي الذي نشأ في مواجهة مشروع الحزام والطريق الصيني والذي يضم الهند والخليج وإسرائيل وأوروبا بقيادة الولايات المتحدة.
الاقتصاد يقود، والممرات الإستراتيجية ترسم التحالفات، ومسارات الطاقة تحدد المشمول بها والمستبعَد عنها. في هذا التصور لا مكان للتيارات والحركات الأيديولوجية.
قد تُلهِم طوفان الأقصى طيفًا من التيارات القومية والإسلامية واليسارية، وقد يسترد شباب الإسلاميين - خاصة جماعة الإخوان - ثقتهم بالمشروع الإسلامي، وسيعود بعضهم على الأقل إلى الصفوف، ويقلعون عن الاحتراب فيما بينهم، ويستكشفون لأنفسهم دورًا جديدًا في هذه المرحة … لكن يظل ذلك رهنًا بالقدرة على إحداث تجديد في التصورات والرؤى الفكرية والسياسية، وتقديم قيادات جديدة. ربما أعطت عملية طوفان الأقصى دفعة معنوية لأتباع الحركات الإسلامية، لكن عمليًّا يظل أثرها محدودًا؛ لأن المشكلات البنيوية كما هي، فيما يتعلق بطغيان الموروث العاطفي، وطبيعة التفكير تجاه التغيير، والخطاب، وجوهر التفكير السياسي.
رابعًا: تصاعد تديين الصراع ورجوع المواجهة من جديد على أسس حضارية وثقافية بين الغرب والعالم الإسلامي:
هتف طلاب الجامعات المصرية بالخطاب الأثير للإخوان: "خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود"، وهم الذين نشؤوا في مرحلة اختفى فيها الإخوان من المجال العام وتم تجريمهم فيها. هذه الشعارات تعكس خَواء وفراغ لم تستطع دعاوي الجمهورية الجديدة أن تملأه، لكن في نفس الوقت فإن الخطاب الصهيوني المسيحي الذي برز في الأزمة الحالية أعاد القبول للخطاب الإسلامي حول قضية فلسطين.
في هذه الأزمة برزت كل الخطابات الدينية: إسلامية والمسيحيين اليمينيين "البروتستانت الإنجيليين" ويهودية، وأضيف إليها القومية الهندوسية التي رأى فيها بعض المراقبين، أنها أحد أسباب الموقف الهندي الداعم لإسرائيل بعد أن كانت – تاريخيًّا - مساندة للفلسطينيين. أصبحت الهند اليوم شريكًا إستراتيجيًّا وثيقًا للولايات المتحدة، وحليفًا قويًّا لإسرائيل.
ذكرتنا التغطية الإعلامية الغربية، وتصريحات بعض مسؤولي الحكومات فيها بالجذر اليهودي المسيحي للحضارة الغربية، وبأجواء ١١ سبتمبر التي تصاعدت فيها الخطابات الثقافية، وحديث صراع الحضارات والفسطاطين، لكنه هذه المرة متلبس بصعود الهويات الدينية الممتزج بيمين متطرف، يحكم في بلدان عديدة، كما يظهر - على سبيل المثال - في إيطاليا والهند، من المتوقع أن يزيد الاستثمار في الخطابات اليمينية التي تربط قضايا الهجرة بالإسلاموفوبيا بالأزمة الاقتصادية.
الجديد عن حقبة سبتمبر (٢٠٠١-٢٠٢١)؛ هو أنه عابر للأديان والثقافات والقارات. إن المتأمل لخريطة مؤيدي إسرائيل يجدها تضم الهند وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا، وفي القلب منها حكومة إسرائيل التي كانت تقودها الصهيونية الدينية المتطرفة، التي يتصاعد الحديث داخل الكيان الصهيوني الآن عن تحميلها المسؤولية، عن انزلاق الأوضاع إلى ما وصلت إليه.
ربما تتوازن الصورة بعد تزايد واستمرار المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، والتي ضمت اليسار بجوار الشباب اليهودي غير المتصهين والسكان الأصليين والسود … إلخ، ولكن التشبيك مع مكونات هذه المظاهرات يحتاج جهدًا فكريًّا وتنظيميًّا لم يقم به الإسلاميون حتى الآن.
وهنا ملاحظة يَحسُن الإشارة إليها؛ وهي: أن المطلوب فيما بعد الحرب هو ضرورة التخلص من المتطرفين على جانبي الصراع، بالطبع أنا أعتقد أن حماس حركة مقاومة، لكن يجب أن نلحظ أن المطلوب هو التخلص منها باعتبارها حركة إرهابية تشبه داعش، وفي نفس الوقت من المتوقع التخلص من اليمين اليهودي المتصهين، فبخلاف ذلك لا يمكن للاقتصاد أن يعمل مرة أخرى، ولا للممرات الإستراتيجية ومسارات الطاقة أن تُفعل.
ربما تعزز طوفان الأقصى الإيمان عند مجموعات شبابية إسلامية بأن الحل في امتلاك القوة وتطوير الذات، وتبقى باقي المشكلات الهيكلية التي تواجه تنظيماتهم الأخرى كما هي.
خامسًا: تَعاطي الشباب مع قضية فلسطين:
كتبت سابقًا عن تغير أنماط التدين لدى الشباب والشابات، وعلاقته بأطروحات الإسلاميين، ومما ذكرته أن هناك تغيرًا في أنماط التدين المعاصر، خاصة لدى الشباب والشابات.
تدين الجامعيين من شباب وشابات ما بعد الانتفاضات ذو طبيعة فردية، نواته الصلبة لا تتكون بالتنظيمات، وإنما بشبكية التفاعلات، وكثرة المبادرات، وتتشكل ملامحه على مواقع التواصل الاجتماعي، وبالممارسة العملية لا الخطاب الأيديولوجي، ويتميز بحضور نسائي طاغ، وموقفه من السياسة لم يتحدد بعد، وإنما ترسمه السياقات وتطورها.
ما لم تدرك قيادات الإسلاميين هذه السياقات وغيرها الكثير، فأخشى ما أخشاه أن ينتقلوا من فشل السياسة إلى إخفاق الدعوة أيضًا، وهذا ما نلمسه في تراجع أنماط التدين التي كان يشيعها الإسلاميون في المجتمع، خاصة لدى الشباب والشابات، وهو ما يدعو إلى إعادة التفكير في بعض أسس أطروحتهم الخاصة "بأسلمة المجتمع" وفق ما يمثلونه من نمط تدين، وموقع التنظيم من هذه الأسلمة.
يدعم قطاع من أجيال جديدة وُلدت في نهايات القرن الماضي ومطلعِه القضيةَ الفلسطينية، وهو يأتي من مداخل جديدة مختلفة عما يطرحه الإسلاميون. هي تصدر أساسًا من مورد إنساني وحقوقي يتعلق بالقيم الإنسانية المشتركة التي يجب أن تسود، بخلاف حديث الإسلاميين عن فكرة الأمة الإسلامية الواحدة، ووجوب نصرة المسلمين، وحماية المقدسات.
المدخل الإنساني/القيمي يعاني من مشكلات كثيرة: فهو يفتقد الذاكرة التاريخية، ويظل مرتكزه فرديًّا لا جماعيًّا، ويتم تغذيته بشكل دائم من خلال الصورة ومنتجات السوشيال ميديا التي لعبت دورًا بارزًا في سياسات المساندة والدعم، كما طرحت أدوارًا جديدة لهؤلاء الشباب والشابات من خلال إنتاج محتوى يعرِّف بالقضية، ويرصد الانتهاكات، ويقدم سرديات بديلة للسائدة في الإعلام الغربي، بالإضافة إلى أنسنة القضايا عن طريق تحويل الضحايا من أرقام إلى شخوص لهم كينونة إنسانية.
سادسًا: تحوُّلات هيكل القوة في النظام الدولي:
يدرك كثير من القوى الكبرى أن الأحداث الأخيرة بمثابة تحذير بشأن العالم الجديد متعدد الأقطاب، وموقع أو خطورة المشروع الإيراني والإسلامي في الشرق الأوسط وخارجه.
تاريخيًّا، كان الإسلاميون المعتدلون في خندق الغرب، وقاموا بأدوار لصالحه في مواجهة المد الشيوعي سابقًا، أو التطرف العنيف لاحقًا. في هذه الأزمة يبدو أنهم يجب أن يكونوا في مواجهة كثير من الحكومات الغربية التي استنفرت كامل قوتها الرمزية والمادية لمواجهة حماس وما تمثله.
تدفعُ مجموعة من المصالح المشتركة كُلًّا من روسيا والصين وإيران، إلى جانب دول أخرى مثل تركيا، إلى اتخاذ مواقف تختلف إلى حد ما عن مواقف الكتلة الغربية إزاء الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة. ما يميِّز هذه المجموعة أنها عُصبة من "الخاسرين" - على حد قول أحد المحللين - من المشاريع الاقتصادية والسياسية التي تُلوِّح بدمج الهند والخليج وإسرائيل وأوروبا ضمن مجموعة اقتصادية - سياسية بزعامة الولايات المتحدة.
تُعدُّ إيران حلقة الوصل بين التأثيرين الروسي والصيني والحرب الجارية في غزة، ويخدم اشتعال الصراع بين حماس وإسرائيل المصالح الإيرانية، عبر كسر مسار التطبيع العربي - الإسرائيلي، أو تأجيله لفترة طويلة، إلى جانب تأجيل تنفيذ مشروع الممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا، مرورًا بمنطقة الشرق الأوسط، وأخيرًا وليس آخرًا؛ تأخير الصراع العسكري معها.
هل يقف الإسلاميون في المنطقة على الضفة الأخرى من النهر؟ صحيح أن المساندة الروسية والصينية لحماس تظل رمزية، ولكنها قد تتحول إلى أكثر من ذلك، وهو ما يستحق المتابعة.