زمن بديعة
وسام سليمانعندما أخلف الريحاني وعده
2025.01.26
تصوير آخرون
الحلقة السادسة: عندما أخلف الريحاني وعده
تتابع بديعة مصدومة الشريط الدائر أمامها على الشاشة الكبيرة، تتساءل: أين استعراضها المهيب والذي شاركها فيه أكثر من سبعين راقصًا وراقصة بالإضافة إلى الكورس والعازفين، وما تلك المشاهد المهلهلة واللقطات التي تتوالى بلا رابط؟ أين بديعة؟ أين الفيلم الذي كلفها عشرين ألف جنيه مصري؟ (كان الجنيه المصري وقتها يفوق سعر الجنيه الإسترليني بخمسة قروش). تسمع همسات الصحفيين والنقاد الذين أتوا بحماس وفضول لمشاهدة بديعة بطلة لفيلم سينمائي لأول مرة. توقعوا أن يكون فيلمها "ملكة المسارح" يوازي روعة عروضها الاستعراضية والمسرحية، ولكن همساتهم في القاعة تعلن بصراحة عن إحباطهم الكبير.
كانت المرة الأولى التي فكرت فيها بديعة في الإنتاج السينمائي. تخيلت أنه سيكون فيلمًا استعراضيًّا كبيرًا تكون هي بطلته، لم يكن لدى بديعة الخبرة الكافية بعملية صناعة الفيلم ولا بشروط الإنتاج وتكاليفه، ولكنها ذهبت الى المخرج المشهور العائد -كما سمعت- من دراسة السينما في الخارج أحمد سالم، المدير الفني لستوديو مصر بالإضافة لكونه مخرجًا.
وقعت بديعة على عقد مع ستوديو مصر لتأجيره بمبلغ مئة جنيه، وأن تتولى هي الإنفاق على الديكور والملابس -وهو ما رأته بعد ذلك مجحفًا لها- بدا الأمر في البداية مبشرًا، وشعرت أنهم يصنعون عملًا ناجحًا حتى بدأت تلاحظ أمورًا غريبة من المخرج أحمد سالم وأيضًا من المسؤولين في الستوديو، كان أحمد سالم كثيرًا ما يتأخر بالساعات، وفي نفس الوقت يمنعهم المسؤولون في الستوديو من الدخول أو يدعون أنه محجوز لفيلم "وداد"، فتضطر بديعة أن تنتظر بالساعات أمامه تحت الشمس الحارقة مع أكثر من سبعين راقصًا وراقصة -يقبضون أجورهم بالساعة- حتى يأتي الأستاذ أو تضطر إلى إلغاء اليوم كاملًا. أدركت بديعة أن أحمد سالم المدير الفني لستوديو مصر يخشى من نجاح فيلمه لأنه في نفس الوقت منتج فيلم "وداد" وهو أول أفلام الست أم كلثوم وأول إنتاج لستوديو مصر، ورغم أن الفيلمين مختلفان تمامًا، ولا يتعارض نجاح أحدهما مع الآخر، لكن هكذا كان تفكير من يديرون الستوديو.
خرجت بديعة من القاعة تبحث غاضبة عن الأستاذ المخرج تلمحه يسرع هاربًا من الستوديو.
تقود بديعة سيارتها إلى الصالة، يأتي إلى سمعها أصوات مظاهرات الطلبة ينددون بدستور 1930، ويطالبون بالعودة إلى دستور 1923، تلمح صورة نجيب على إعلان مسرحيته الجديدة "حكم قراقوش". تسير في اتجاه الكوبري الأعمى (الذي أصبح الناس يسمونه "كوبرى بديعة")، لم يزل مشهد القاعة والفيلم والنقاد يجثم عليها كالكابوس، ربما غدًا يعلنون إفلاسها ويحجزون على الصالة وربما بيتها أيضًا. تتأمل صورها في الدعاية أمام صالتها، وتتساءل بداخلها بأسى:
"هل انتهت بديعة؟"
كان الجميع في الصالة في حالة تراخٍ وثرثرة حتى دخلت إحداهن وهي تعلن أن "الست وصلت"، فأسرعوا إلى التدريبات قبل أن تدخل بديعة بهيبتها، وهي تداري ما بداخلها، بسرعة تبدأ في ضبط المكان والبروفات بصوتها القوي وحضورها الطاغي. صوتها يخيف الراقصات، ولكن الراقصة الجديدة تحية لم تعد تخاف بديعة بعد أن أصبحت من أقرب الراقصات إليها.
تتذكر تحية ذلك اليوم الذي اصطحبتها فيه الست "سعاد محاسن" إلى صالة بديعة، كم أخافتها في البداية، عندما تغضب يفر الجميع من أمامها، وهي تبرطم باللهجة الشامية والمصرية ممزوجة بكلمات أجنبية فلا يكاد المرء يفهم منها شيئًا، ولكنها اطمأنت عندما وجدتها تتجه إليهما، وتحتضن صديقتها القديمة فتضحك محاسن وهي تقول "وحشتيني يا بت" ويأتي لهما العامل بالنارجيلة ويثرثران طويلًا باللغة التركية.
(كانت "سعاد محاسن" واحدة من أشهر الفنانات وصاحبات الصالات، لها صوت ووجه جميل كما أنها مثقفة وتجيد التحدث بعدة لغات). حكت محاسن عن الصبية السمراء الجميلة التي هربت من أهلها في الإسماعيلية بحثًا عن لقمة عيش، ولجأت إليها، فجعلتها تعيش معها، ولكن حدث أن عاد طليقها، وطلب أن يعيدها إلى عصمته على أن تغلق صالتها وألَّا تعمل في الكار. بدأت محاسن تصفي أعمالها استعدادًا للسفر إلى زوجها، ولكنها احتارت في أمر الصبية، وماذا تفعل معها؟ لم تجد غير صديقتها بديعة التي تثق بها، وتستطيع أن تستأمنها على الصبية، وهي مطمئنة القلب.
تنظر بديعة إلى تحية بعيونها اللامعة ونظرة الطفولة الشقية، تجد نفسها تقول لمحاسن:
- "سافري وأنتِ مطمنة"
وأخذتها بديعة لتعيش معها في فيللتها في حدائق القبة، حكت لها تحية قصتها بالتفصيل ولاحظت أن بديعة تسألها كثيرًا عن أمها باهتمام وتشاركها البكاء كلما تذكرت عطفها وحنانها، وكانت تحية تتساءل:
"هل كانت دموعها تعاطفًا معها أم حنينًا لأمومة لم تعِشها؟ ثم أين هذه المرأة التي تثير الخوف والرهبة في الصالة من التي تراها أمامها تفيض رقة وحنانا".
في تلك الليلة وبعد انتهاء العمل في الصالة بدت بديعة منهكة حزينة وهي تقود سيارتها إلى المنزل، طلبت منها أن تذهب لتنام في حجرتها، ولكن لم تكد تدخل في النوم حتى صحت منتفضة على صوت صراخ، على أرضية الصالة رأت بديعة، وقد وقعت على الأرض فاقدة الوعي.
كانت المرة الأولى والوحيدة التي تقدم فيها أو حتى تراود بديعة فكرة الانتحار، ولكن الصدمة والرعب مما ينتظرها جعلها تبتلع شرائط الأسبرين وتخلطها بالكحول، عندما بدأت تغيب عن الوعي تمثلت لها الحياة جميلة وسرعان ما شعرت بالندم فأخذت تستغيث:
- "الحقوني".
عندما أفاقت من غيبوبتها القصيرة وجدت حولها الطبيب، وخادميها المخلصين، وأنطوان، وتحية ينظرون إليها بإشفاق.
نجاتها من الانتحار منحتها طاقة عجيبة للعودة، واستبشرت خيرًا عندما عرفت من المحامي أن القاضي أمهلها مدة إضافية لتسديد ديونها بسبب سمعتها الطيبة، فقررت بديعة أن تقوم بجولة مع الفرقة في محافظات الصعيد.
تذكرت أولى رحلاتها إلى صعيد مصر مع فرقة الشيخ أحمد الشامي منذ حوالي خمسة وعشرين عامًا، كانت وقتها صبية في عمر تحية الصغيرة وها هي تعود إلى نفس المكان لتبدأ من جديد.
الاستقبال الكريم من أهالي الصعيد والنجاح والتصفيق والمديح أعاد إليها بعضًا من ثقتها التي اهتزت في الفترة الماضية فكانت الرحلة التي استمرت حوالى شهرين ونصف بمثابة فترة نقاهة عادت بعدها بديعة نشيطة إلى القاهرة لتستعد للموسم الصيفي.
أنساها النجاح واستحسان الجمهور أحمد سالم والإفلاس والديون، وعادت إلى مرحها وبدأت تطور من عروضها، فبالإضافة إلى الفنانات المصريات واللائي كان عددهن يزيد على ثلاثين -بينهن تحية كاريوكا- دربتهن على أنواع مختلفة من الرقص التركي والمغربي والإسباني، كانت تسافر إلى النمسا وإيطاليا وسائر مدن أوروبا تحضر كل العروض المسرحية والاستعراضية وتختار بنفسها الفرق الأجنبية التي تستقدمها إلى مصر وتتعاقد مع مديريها.
وفي تلك الفترة كانت قد أعطت أنطوان صالتها في عماد الدين، ولكنه لم يسعَ لاستثمارها، وظل يعمل معها في كازينو كوبرى بديعة، ولكنها بدأت تلاحظ أنه يحاول بكل الطرق أن يبعدها عن صالتها بحجة أنها لم تعُد تليق بها مما جعلها تشك في الأمر، وسألته بإلحاح حتى اعترف أنه باع صالتها إلى ببا عز الدين بمبلغ خمس مئة جنيه. صدمت بديعة فقد اشترت الصالة بخمسة آلاف جنيه فكيف يمكنه أن يبيعها بهذا الثمن البخس ويبيعها لمن؟ ببا؟! التي تحقد عليها وتكيد لها بعدما أحسنت إليها. أخذت تصرخ عليه أن يبرر لها فعلته الغريبة ولكنه ظل صامتًا كالصنم، فجرت كالمجنونة إلى صالتها.
عندما دخلت الصالة كانت ببا تستعد لليلة الافتتاح وحولها الراقصات، لم يكتفِ أنطوان ببيع الصالة بل واختطف منها راقصاتها أيضًا -منهن تحية كاريوكا- عندما رأين بديعة هربن بسرعة من أمام وجهها ولم يبقَ سوى ببا التي أخذت ترمق بديعة بحقد، وأشارت إلى أحد العمال الذي قال لبديعة بوقاحة:
- "إيه اللي جابك هنا دي صالة الست ببا"
ثم هجم عليها وصفعها على وجهها فما كان من بديعة إلا أن التقطت كرسيًّا ثقيلًا وقذفت به الرجل بكل قوتها، ثم أسرعت إلى كرسي آخر، ورمت به سيدته ببا، وخرجت من صالتها مكسورة القلب.
لم تتخيل بديعة أن يعاديها ابن اختها، وقد اعتبرته ابنها، وفعلت المستحيل لكي تستبقيه وتستبقي جولييت التي كانت قد هجرت المنزل، وتركت ابنتها الصغيرة بديعة، لتجد بديعة نفسها مع طفلة صغيرة تخشى عليها من جنون وجفاء، لم ترِد أن تتركها للخدم فقررت أن تعهد إلى ابنة عم أنطوان في شيخان لتتربى الطفلة مع أطفالهم على أن تتعهد بديعة بنفقاتها كاملة.
أراح هذا الحل أنطوان، أما جولييت فلم يكُن يبدو عليها اهتمام كبير بمصير ابنتها، وقد انشغلت بقصة حب مع الصحفي الشاب وقتها محمد التابعي، كما أنها أصبحت تغني في الصالات باسم "ليلى الأشقر".
ظل شارع عماد الدين وحتى بداية الحرب العالمية الثانية شارعًا جميلًا بمسارحه ومقاهيه ورقي تنظيمه، إلا أنه ومع تدفق جيوش الحلفاء وجنودهم تحول إلى مكان غوغائي مليء بالجنود والسكارى المعربدين ولم تعُد تجرؤ الأسر الكريمة على الاقتراب منه، ورغم أن الملاهي شهدت رواجًا كبيرًا، وحققت مكاسب طائلة فإن أصحابها كانوا يشكون من عنف الجنود الذين يبثون كل غضبهم المكتوم في السكر والعربدة والشجار الذي يصل إلى تحطيم المحلات وواجهاتها.
في أحد الأيام.. وجدت بديعة محمد بك ومصطفى بك جعفر يأتيان لزيارتها في الصالة، ومعهما مخطط هندسي لمبنى كبير مصمم ليكون سينما ومسرحًا وكازينو في ميدان الأوبرا، وأخبراها بأن بنك مصر هو من سيتولى أمر البناء ونفقاته كاملة، وفهمت بديعة أنهما يفكران في استئجار السينما إذا هي استأجرت المسرح والكازينو.
لم تنم بديعة ليلتها، وهي تستعيد في ذهنها المبنى الجميل في ميدان الأوبرا، وكأنها ترى مسرحها ماثلًا أمام عينيها، كان ذلك بعد أن قامت بتسديد جميع ديونها. لم يتبقَّ لديها سوى مبلغ لا يزيد على الألف جنيه، ولكنها تشجعت عندما عرفت أن كل ما عليها أن تدفعه هو مبلغ ثماني مئة جنيه (عربون ثلاثة شهور وشهرًا مقدمًا)، فوقعت العقد مرتاحة وسعيدة.
كان الكازينو يقع على مساحة كبيرة مقسمة إلى خمسة أقسام: مسرح، مقهي، مطعم، بار أمريكاني وروف. صممت بديعة أن تفرشه بما يناسبه من أفخر الفرش وأرقى الديكورات وعينت مترودوتيل قديرًا يجيد تسع لغات جعلته مسؤولًا عن كل شؤون المطبخ في المطعم والمقهى، ثم إنها دمجت فرقة التخت الشرقي في فرقة الأوركسترا، كما دمجت الراقصات الأجنبيات في المصريات في استعراض مهيب أعدته لليلة الافتتاح، وعندما جاءها مسؤول الدعاية فؤاد مغبغب بفكرة إسكتش سياسي هزلي أبطاله ثلاثة من طغاة الحرب الثانية: هتلر وموسوليني وستالين، تحمست لإعداده وتقديمه من ضمن فقرات ليلة الافتتاح، وكانت المرة الأولى التي يُقدم فيها إسكتش من هذا النوع.
أنفقت بديعة كل النقود التي معها لليلة الافتتاح حتى لم يتبقَّ معها قرش واحد، واضطرت إلى الاقتراض محرجة خمسة جنيهات من أحد عمال الديكور.
وهكذا بدا كل شيء جاهزًا لليلة افتتاح رائعة، ولكن وبينما تستعد لفتح الأبواب تفاجأت بأحد رجال الشرطة يحضر ليقول لها إن عليها تأجيل الحفل، وأخبرها بأن رئيس الوزراء ماهر باشا قد اغتيل من ساعات. أغلقت بديعة الأبواب، وأرجعت النقود للجمهور.
لم تستمع الى بعض منافسيها الشامتين، والذين حاولوا إقناعها بأن الصالة "نحس" بل اتخذت من التأجيل فرصة لإجراء تمارين وبروفات كاملة. وفي اليوم التالي وبمجرد أن انتهت جنازة ماهر باشا توافد الجمهور على المقهى والمسرح حتى لم يعُد فيه مكان لقدم وصفق الجمهور طويلًا للبرنامج الذي أنفقت فيه بديعة وقتًا طويلًا لإعداده، وفي الصباح لم يكن للقاهرة حديث سوى كازينو بديعة.
وهكذا بدأت بديعة مرحلة جديدة من نجاح متواصل.
لكن ورغم كل هذا الصخب والنشاط طوال اليوم تجد بديعة نفسها تعود في نهاية اليوم إلى بيتها الكبير حيث تتجسد لها وحدتها، كم حاولت أن تلم شمل أسرتها، وأن يكون لها بيت تسمع فيه صوت أطفالها، كانت محاولتها الأخيرة مع ماري ابنة شقيقها توفيق التي استقبلتها عندما أتت في زيارة للقاهرة، ثم إنها اشترت فيلا كبيرة لتجعلها تعيش معها هي وأسرتها، وأدخلت أبناءها مدرسة البون ياستير، ورغم ذلك فقد انقلبت عليها ماري، وسافرت إلى بيروت، وكادت تطردها عندما ذهبت إلى بيت أخيها لتعزي زوجته في أخيها توفيق.
لم تفهم أبدًا بديعة سر هذا الجحود الذي تقابل به من أهلها، هل احتياجها إلى العاطفة يجعلها تبدو بلهاء في نظر الآخرين؟
تحاول أن تفسر الأمر:
"ربما لهفتي على الأمومة، وحاجتي إلى من أرعاه وأحنو عليه كأنه ولدي تورطني في مشاكل لا حصر لها".
ثم تقول:
"وحيدة عشت.. وحيدة سأظل.. بالرغم من الحائمين حولي بقصد القنص أو التغزل".
في تلك الفترة كانت ترد أخبار عن جبهة الحرب، فتارة يسمعون بانتصار الحلفاء وتارة يدحرهم الألمان، حتى تفاجأ الناس بأن الألمان يدخلون العلمين، وتطايرت أخبار وصولهم إلى الإسكندرية فعمَّ الخوف، وتسابقت العائلات للسفر إلى السودان ولبنان، كما راجت إشاعة مفادها أن الألمان إذا ما وصلوا القاهرة فسوف يعدمون عشرة أشخاص في ميدان الأوبرا بينهم بديعة مصابني، ترددت بديعة أن تترك الكازينو، ولكنها اضطرت من الخوف أن تجمع مجوهراتها وملابسها وقطعت تذكرة قطار إلى حيفا، ومنها إلى بيروت، وكانت القطارات تضيق بمن فيها من الأسر اليهودية الهاربة من وجه الألمان.
عندما وصلت بيروت أقامت في منزل صديقتها القديمة ملكة جاجاني، وأخذت تتابع الأخبار بفارغ صبر حتى اطمأنت إلى مسار الحرب وعادت من فورها إلى مصر.
"عندما وطئت قدماي أرض مصر من جديد لم أتمالك نفسي من الفرحة، فرحت أنظر الى ما حولي وكأنني في حلم".
ظلت بديعة في فترة الحرب تعاني مثل غيرها من عربدة الجنود الذين يأتون في أيام إجازاتهم، ويسرفون في الشراب والسكر ثم يبدءون في الشتائم والسباب وتكسير الواجهة الزجاجية (وقد كان كازينو بديعة كله محاطًا بالزجاج)، فتضطر بديعة إلى إجراء إصلاحات أسبوعية، حاولت أن تمنع الجنود من دخول الكازينو وقدمت طلبًا لاستبعاد الجنود والسماح فقط للضباط، ولكن كلما وضعت لوحة "أوت أوف بوند" يقتحم الجنود المكان غاضبين.
سئمت بديعة من جو العربدة والشجار كل ليلة، وكانت تعود إلى بيتها مرهقة فلا تفارقها كوابيس لجنود يكسرون المحل فتقوم مقبوضة منهكة، ورغم ذلك فقد ظلت تدير الكازينو بانضباط شديد، وكثيرًا ما كان يتردد في تلك الفترة:
"ليت الحكومة تتعلم من بديعة كيف تدير".
كانت تجدد برامجها وتنفق على الاستعراضات حتى تبدو في أبهى صورة. تستحضر أفضل المدربين وأفضل الملحنين والكتاب، تكافئ فنانيها، وتفسح المجال لإظهار الموهوبين، تكافئهم على اجتهادهم، وتعاقب من يستهين، ولم تمر ليلة بدون أن تقدم بديعة وبناء على طلب الجمهور فقرتها حيث تغني وترقص بالصاجات.
كان هدفها من البداية هو جذب أبناء الطبقة الراقية والمثقفة والذين يمتنعون عن ملاهي شارع عماد الدين، كما اجتذب المقهى والمسرح الكتاب والفنانين والسياسيين، فكان الصحفيون يتتبعون أخبار التغييرات الوزارية والقرارات السياسية من كازينو ومقهى بديعة حيث المكان المفضل لكبار رجال الدولة.
لم يؤثر انفصال بديعة عن نجيب في الود العميق بينهما، وكان كثيرًا ما يتصل بها ويطلب منها أن تختار له راقصات للعمل في أحد عروضه المسرحية، ولم تكن هي تفوت رواية من رواياته على المسرح حتى تكون أول الحاضرين، وتجلس كالعادة في المقصورة الأولى عندما تجد العامل يقترب منها بثمن التذكرة يعيدها إليها مع رسالة من الأستاذ نجيب:
"ميصحش يا ست بديعة".
وكان يحدث كثيرًا أن يلقي نجيب أثناء المسرح نكتة تخصه هو وبديعة فيضج الجمهور بالضحك وتسمع بديعة كلماتهم الدافئة:
"خسارة ليه انفصلوا عن بعض".
الغريب أن نجيب كان ينكر تمامًا انفصالهما، وكان يرد على من يتحدث في الأمر:
- "طلاق إيه لا سمح الله! اللي بيني وبينها دي أمور بلاتونيك يعني زي ما تقول كده متجوزين بس من بعيد لبعيد".
ولم تنكر بديعة انتعاشها بسماعها لتلك الحكايات، ورغم أنها كلما رأت نجيب تسأله بدلال:
- "ناوي تطلقني إمتى؟"
إلا أنها بداخلها كانت سعيدة بإصراره عليها، وكانت ترى رفضه للطلاق حبًّا ينعش كبرياءها وثقتها بنفسها، وعندما عرفت بعودته إلى حبيبته الأولى شعرت بغيرة لم تعترف بها عندما عرفت أن له حبيبة وكانت فتاة أجنبية صارخة الجمال (لم تذكر اسمها مرة في مذكراتها واكتفت بأن تقول "الفتاة اليهودية").
في إحدى الأمسيات، وبينما تستعد للعب الدومينو مع أحد أصدقائها لمحت نجيب الريحاني يحضر إلى الكازينو محاطًا بالجمهور الذي أسرع لاستقباله بالهتاف والترحيب، اتجه الى بديعة وهو يقول:
- "سيبوني بقى أروح أسلم على ست الكل، مالناش حصة فيها ولا إيه".
واقترب من بديعة يقبلها ويحتضنها أمام الجميع، ثم أخذها من يدها:
- "أنا عايز أتفرج على المحل".
وسارا معًا تعرفه بكل أجزاء الكازينو، قالت له بديعة مازحة:
- "مطلعين إشاعة إني حبيع الكازينو.. تكونش جاي تعاينه قبل ما تشتريه؟"
فرد نجيب:
- "أنا جاي أشتريكي إنت".
جلس ليستريح، قدمت له سيجارة مع فنجان القهوة ولكنه ابتسم بمرارة:
- "أنا ممنوع من السجاير.. مسمعتيش إنى جالي ذبحة صدرية وكنت حودع الدنيا قبل ما أودعك".
حاولت أن تستفسر منه جزعة عن صحته، ولكنه غير الموضوع، وهو يحدثها عن فيلته التي يبنيها في حدائق القبة.
- "زي ما أنا زرت المحل بتاعك إنتِ كمان تيجى تزوريني في الفيلا بتاعتي.. أستناكي بكرة؟"
- "الساعة كام؟"
- "الساعة عشرة حداشر زي ما إنت عاوزة".
فقالت بديعة ساخرة:
- "أو واحدة اتنين زي ما أنت عاوز.."
- "وبعدين معاكي بقى فضحتيني وانت تقولي عليَّ كسلان".
ذهبت برفقته في صباح اليوم التالي إلى الفيلا، بدت لها الفيلا تحفة هندسية اختارها فنان مرهف الحس، أخذا يتجولان في أنحائها عندما لمح نجيب عامل الموزاييك منهمكًا في صف الحجارة الصغيرة على الأعمدة فقال له:
- "حتخلص إمتى يا أسطى إن شاء الله؟"
- "دي عملية دقيقة جدًّا يا أستاذ محتاجة وقت".
- "بس دانت بقالك مدة طويلة قوي بتشتغل فيها.. يظهر إني حموت قبل ما تخلص".
ثم ضحك نجيب وضحكت بديعة. وقبل أن تغادره قال لها:
- "أحب أشوفك دايمًا يا بديعة، أنا عندي خمس حفلات في إسكندرية أول مرجع ضروري نشوف بعض".
- "بس أنا مايمكنيش أزروك في البيت والبنت اللي عندك.."
فقاطعها:
- "إنت الأصل يا بدعدع.. لما أرجع ربنا يفرجها".
عاد لها الأمل في العودة إلى الحياة والاستقرار مع نجيب، وأصبحت تترقب أخباره بشوق حتى سمعت من الصحف عن مرضه، ونقله إلى المستشفى الإيطالي في القاهرة.
كان نجيب في الإسكندرية عندما صعد الى المسرح، وهو يترنح من التعب لكنه تمالك نفسه، وبدأ الرواية، كل من رآه في تلك الليلة قال إن نجيب لم يمثل في حياته كما مثل في تلك الليلة، ولم يضحك جمهوره كما ضحك في تلك الليلة، وعند نهاية الفصل الأخير أنزل عليه الستار، وهو يحيي الجمهور الذي انساق في عاصفة مجنونة من التصفيق، وارتمى نجيب على المسرح مغشيًّا عليه.
قصدت بديعة من فورها المستشفى الإيطالي، عند الباب رأت سائق نجيب يبكي، ويلطم وجهه كالأطفال.. قال لها:
- "مات الأستاذ يا ست بديعة".
كادت تسقط على الأرض من وقع الصدمة لولا أن أسرع بديع خيري ليسندها، ثم اقتادها الى مكان الجثمان.
رأت هناك يوسف شقيق نجيب، ولمحت السيدة التي كان على علاقة بها، وهي تقطع شعرها وتندب حظها، وعندما لمحت بديعة نادتها من مكانها لتقترب لتودع زوجها. فتشجعت بديعة، واقتربت من الرجل الذي قالت عنه:
"الرجل الوحيد الذي أحبته في حياتها على كثرة ما عرفت من رجال".
وضعت يدها على جبينه، لم تكن برودة الموت قد انتشرت في أنحاء جسده، ذكرته بوعده لها فى آخر لقاء، وعدها بأنه سيعود ويستأنفا حياتهما الزوجية:
"لم تجرحنى مرة يا نجيب إلا هذه المرة عندما وعدتني بالحياة ثم رحلت".
كانت تتحدث إليه ولديها يقين بأنه يسمعها ويحس بها، وقالت ما لم تقله له أبدًا في حياتها.
تحكي بديعة:
"شاركني الجميع الحزن على زوجي، لم أشاهد جنازة شعبية واحدة بمثل روعة الجنازة التي أقيمت لنجيب، اشترك الجميع من كل أنحاء البلاد، ومن جميع طبقات المجتمع في وداع نجيب الريحاني، وتشييعه إلى مثواه الأخير".
ترشيحاتنا
