زمن بديعة
وسام سليمانمن مقصورة المسرح إلى قلب الريحاني
2024.12.15
تصوير آخرون
الحلقة الثالثة: بديعة من مقصورة المسرح إلى قلب الريحاني
استقرت بديعة مع ابنتها جولييت وأختها نظلة وأبنائها في بيروت وعادت إلى العمل في مقهى "كوكب الشرق" وكلما وقفت تغني وترقص تشعر بافتقاد للمسرح وأجوائه. وعندما سمعت أن نجيب الريحاني أتى وفرقته ليعرض إحدى رواياته في بيروت، لبست وتزينت واصطحبت معها أختها "نظلة" وأجَّرت أول مقصورة في المسرح. يحكي نجيب الريحاني في مذكراته عن تلك الليلة:
"لفت نظري في المقصورة الأولى سيدة بتلعلع وقد ارتدت أفخم الملابس وتحلت بأبهي زينة، وأدهشني أن أرى هذه السيدة تأتيني بنفسها إلى غرفتي في المسرح في فترة الاستراحة بين الفصول لتحييني وتهنئني على روايتي الجديدة، لم أعرفها حقًّا في البداية وعندما لاحظت ارتباكي قالت:
- إلا انت مش فاكرني ولا إيه يا أستاذ؟
استعاد بسرعة تلك الليلة التي رآها فيها أول مرة مع زميله الممثل حسين رياض وتذكر تهربها من عرضه لها بالانضمام إلى فرقته، ولكنه يجدها هذه المرة من تسأله:
- آل صحيح أنجح في التمثيل زي ما قولتلي؟
فرد عليها بحماس صادق:
- مش بس تنجحي أنا أتنبأ لك توصلي لمراتب النجوم من أقصر طريق وفي أسرع وقت.
كتب نجيب في مذكراته:
"كانت بديعة فنانة بفطرتها تهوى المسرح بطبيعتها وكانت هي الممثلة التي أبتغيها."
تنضم إليهم في جولتهم في بلاد الشام.
تذكر بديعة أنها تعرفت في تلك الرحلة على الفنان محمد عبدالوهاب وكان وقتها صبيًّا لم يتعدَّ عمره الرابعة عشرة، ولم يكن يشترك في التمثيل إنما كان يغني فقط بين الفصول وكذلك بديعة التي لم يجدوا لها دورًا مناسبًا فاكتفت بالغناء والرقص بين الفصول.
ولكن جولة الفرقة لم تكن موفقة في بيروت والشام، بسبب أحد الممثلين يدعى أمين عطا لله والذي كان عضوًا في فرقة الريحاني وقام بنسخ جميع رواياته ثم سافر إلى بلده سوريا ونسب لنفسه شخصية "كشكش بك" بل وحوَّل النكت الفكاهية الخاصة بنجيب الريحاني إلى اللهجة الشامية.
فوجد الريحاني نفسه متهمًا من الجمهور في بيروت والشام بأنه "كشكش بك المزيف"، وقوبلت مسرحياته بفتور ما ضاعف من إحباطه.
"كنت أسمع بأذني بعض الناس يقولون: هايدا مانه كشكش هايدا تقليد، فكنت آخذ هذا الوصف في أجنابي وأقول في سري: سبحان مغير الكشاكش".
وعندما وصلت الرحلة إلى غزة كان قد تسرب أعضاء الفرقة واحدًا تلو الآخر وعاد كل منهم بطريقته إلى مصر، ولم يتبقَّ مع نجيب الريحاني سوى بديعة التي وجدت بالصدفة أحد معارفها في غزة فاقترضت منه (جنيهين) لشراء تذكرتي القطار إلى مصر.
ورغم ذلك فقد بدا نجيب منتعشًا ومتفائلًا وأخذ يحدثها في القطار عن الروايات االتي يحلم بتحقيقها ويعدها بالمجد الذي ينتظرها عندما تقف بجانبه على المسرح.
وَفَى نجيب بوعده، وعلى مدار شهور أخذ يدرب بديعة تدريبات يومية منهكة، واستطاع بعد مجهود أن يخلصها تمامًا من لكنتها الشامية أثناء التمثيل، ويحكي نجيب:
"كانت تبكي وتنتحب وتشد شعرها بعد أن ينهكها التعب ولم يكن ذلك ليقلل من عزيمتي فقد آليت على نفسي أن أجعل منها عروسًا للمسارح وكوكبًا يلمع في أفق الفن، وكلما ازدادت غضبًا ازددت قسوة ونضالًا في سبيل مصلحتها من ناحية ومصلحة عملي من ناحية أخرى".
تحملت بديعة الألم حتى إذا ما بلغ غايته تملكها الغضب وغادرت المسرح باكية غير أنها كانت دائمًا تعود في اليوم التالي تلميذة مطيعة.
وأخيرًا جاء أوان اقتطاف الثمرة، فظهرت "الليالي الملاح" وهي مستوحاة من كتاب ألف ليلة وليلة ولحنها داود حسني وقامت فيها بديعة بدور البطولة، نجحت الرواية نجاحًا منقطع النظير، وأضحت بديعة عروس المسرح التي تنبأ بها نجيب:
"كشف الصقل جوهر موهبتها وبدا للعيان لامعًا كشمس الضحى".
غير أن بديعة كانت تلاحظ أن الرواية تبدأ بنجاح وإقبال كبير وتدر في الشهرين أو الثلاثة شهور الأولى أرباحًا بمئات الجنيهات يوميًّا ثم تبدأ أعداد الجمهور في التناقص وتصل الأرباح إلى ستة أو خمسة جنيهات، فتتساءل لماذا لا نقدم رواية جديدة كل شهرين، لماذا ننتظر حتى يملنا الجمهور؟
ولكن نجيب وبديع خيري لا يصلان لرواية مناسبة بسهولة، غالبًا ما يختاران رواية فرنسية ويتفانيان في تمصيرها حتى تعجب ذوق الجمهور العربي. ولم يكن نجيب يرتاح إلا عندما يشارك في التأليف ليس لقلة ثقة أو تقدير لبديع خيري بل لأنه يعرف ذوق جمهوره و"كيف يكيفه"، وبذلك فقد كان نجيب يمثل ويشارك في الكتابة ويدير الفرقة في نفس الوقت.
وكانت عادته المحببة كل ليلة بعد انتهاء موعد المسرح، أن يسهر مع صديقه بديع خيري ويعملان حتى طلوع الشمس وكثيرًا ما يمزقان ما كتباه في اليوم التالي.
لا يحب أن يوقظه أحد وعندما يصحو من النوم يشرب قهوته ويقرأ الصحف في الحمام، ثم يرتدي ملابسه ويقف أمام المرآة يجرب ويخترع حركات للدور الذي يمثله فينسى نفسه بالساعات بينما الفرقة في المسرح في انتظاره.
تعرفت بديعة على أسرته والتي كانت تراها أسرة غريبة، شقيقه توفيق كان متزوجًا ولديه ولد وكان المفترض أنه مسؤول في الفرقة عن الدعاية للروايات الجديدة، وشقيقه الآخر يوسف كان يدعي الفلسفة والعلم ويمارس التنويم المغناطيسي، أما جورج الشقيق الأصغر فقد كان الأقرب إلى نجيب.
غير أن بديعة أحبت كثيرًا والدته والتي وصفتها بأنها:
"سمراء قبطية خفيفة الدم، نكتتها حاضرة وذكية وكانت بالنسبة لنجيب هي أغلى إنسانة له في الوجود وملهمته الأولى".
اصطحب نجيب والدته إلى الفندق الذي تقيم فيه بديعة في شارع عماد الدين، فارتاحت السيدة لبديعة واحتضنتها واختبرتها أيضًا لعدة أيام أثناء الإقامة في الفندق.
وبينما هم جالسون في الفراندا وجدتها تقول لابنها:
- بديعة بنت حلال إوعى تسيبها لحد غيرك.
فردت بديعة بصراحة:
- أنا معجبة جدًّا بنجيب على المرسح بس مافتكرش ينفع لي كزوج.
فانفعلت لطيفة هانم:
- نعم نعم نعم! بقي نجيب الريحاني على سن ورمح مش عاجبك يا ست بديعة!
نجيب الريحاني اللي مدوخ ستات مصر وأوروبا كمان!
- بس يظهر بعد ما دوخ ستات مصر وأوروبا داخ هو.
يتدخل نجيب في الحديث ضاحكًا ويطمئن أمه:
- على العموم لو دي رغبتك يا لطيفة هانم أوعدك تتنفذ في أقرب فرصة بس ترضى عنا الست بديعة.. ليكي عليَّ أخليها تدوخ هيَّه كمان.
وفي صيف عام 1923، في الإسكندرية في المصيف البحري الجميل بمسرح الهمبرا كانت فرقة الريحاني تقدم بنجاح كبير رواية "بيت العز"، وفي إحدى الليالي وبينما كان نجيب يؤدي دوره على المسرح والجمهور مستغرق في الضحك وصله خبر وفاة والدته، وقع عليه الخبر كالصاعقة تسمر في مكانه لا يدري كيف يتصرف، والجمهور ينتظر أن يتابع الرواية، فعاد نجيب إلى المسرح وتابع التمثيل وعيناه مملوءتان بالدموع، عندما ينفجر الجمهور في الضحك ينفجر هو باكيًا فيعتقد من يراه أنها دموع الضحك، وما إن انتهت الرواية وأسدل الستار حتى وقع مغشيًّا عليه.
بعد أن أفاق اصطحب أخويه وركبوا قطار الصعيد لكي يودعوا والدتهم الوداع الأخير.
كان نجيب يقول عن أمه:
"لها فضل الأمومة والصداقة والزمالة، كانت ذكية خفيفة الدم وعندما كانت تستعصي عليَّ نكتة تمدني بعشرات النكت والطرائف، إنني مدين لها بما وصلت إليه من شهرة".
تحكي بديعة أنها والفرقة لم يصدقوا عندما أصر نجيب أن يقف على المسرح في الليلة التالية وقال:
"ربما يكون من بين الجمهور من هو حزين مثلي ولجأ إليَّ كي أخفف عنه".
وما إن ظهر نجيب في المسرح حتى تعالت موجات التصفيق فشعر أن جمهوره يشد من أزره فاندفع يمثل كما لم يمثل في حياته قط حتى جعل الناس يضحكون ويبكون في آن واحد.
وتعلق بديعة وهي تتذكر ذلك الموقف:
"تبين لنا أننا كنا نجهل نجيب، إنه يتحول لإنسان آخر على المسرح كان يتحول إلى فنان وفنان كبير.. كبير جدًّا".
***
وكانت بديعة تتعجب من هذا الفنان العظيم الذي بإمكانه أن يجني ثروة طائلة من عمله، فمجرد ظهوره على المسرح يجعل الجمهور في حالة غريبة من الحماس، كل حركة أو كلمة تثير موجات من الضحك، لكنها لاحظت أنه لا يتحمس ولا ينشط لعمل جديد إلا عندما تنفد نقوده تمامًا وطالما ما زال في جيبه نقود فهو يظل لا مباليًا.
شاركته بديعة بمالها في تجهيز الروايات وكانت تقرضه من نقودها في كثير من الأحيان ولكنها بدأت تدرك أنها تخسر نقودها بالتدريج.
كانت بديعة قد باعت بيتها في بيروت وأتت إلى مصر بما لديها من نقود ومجوهرات واصطحبت معها ابنتها جولييت التي ألحقتها بأغلى المدارس "بوم باستير"، كما أنها كانت تشعر بمسؤولية تجاه أبناء أختها نظلة، وهي من تبقى لها من عائلتها التي تفرق شملها في كل مكان.
تتذكر عندما قابلت شقيقها الأكبر أثناء جولتها مع نجيب الريحاني في فلسطين وكانت في طريقها للمسرح عندما سمعت صخبًا وجلبة وسمعت من ينادي بديعة عندما التفتت وجدت شيخًا بعمامة خضراء ورغم ذلك فقد عرفته على الفور احتضنته وبكت.
كان شقيقها الأكبر الذي ترك الأسرة ولجأ إلى أحد الجوامع في الشام ومن ثم ابتعد تمامًا عن الأسرة. لم تشأ أن تحكي له ما مرت به وأسرتها من مآسٍ، قدمت إليه نجيب على أنه زوجها الذي تشاركه في عمله في المسرح وساعدها نجيب على إقناعه بذلك.
أرادت فقط أن تطيب خاطره وهي تعلم أنه ربما يكون لقاءهما الأخير.
ورغم ذلك شعرت بعد وداعه بطعم مر في حلقها، طعم الخوف والمهانة وما لاقته في طفولتها.
كانت هذه الأفكار تدور في ذهن بديعة وهي تعيش حالة تخبط وحيرة، هل تستمر في عملها في المسرح مع نجيب الريحاني أم تعود إلى بيروت لتعوض خسارتها المادية، عندما دخل في حياتها أحمد بك، وكان رجلًا من طبقة النبلاء، معجبًا وعاشقًا غريبًا، لم تصدق في البداية عندما عرفت عن عشقه الدفين. احترم موهبتها على المسرح ووقع في غرامها قبل حتى أن يقابلها، جعلتها معاملته وكرم أخلاقه تقول:
"إنه أنبل رجل عرفته في حياتها".
ولم يكن أحمد بك ثريًّا تافهًا بل كان رجلًا محبًّا للفن ويقيم جلسات في بيته تجمع أهل الفن والثقافة، وتعرفت بديعة من خلاله بالشيخ أبو العلا محمد والذي كان يلحن وقتها للآنسة أم كلثوم ويتحدث عن تلميذته بفخر والتي أصبحت منذ ظهورها حديث الناس ومثار إعجابهم.
ارتاحت بديعة لحياة الرفاهية والاستقرار مع أحمد بك، وحاولت أن تنسى نجيب ومغامراته وتكبت حنينها للمسرح وأنواره.
كان نجيب الريحاني في تلك الفترة يعيش أزمات مادية ونفسية فبعد فقده لوالدته اختفى أخوه جورج في الشام ولم يعثر له على أثر ولم يعرف حتى مصيره وقد كان جورج شقيقه الأصغر والأقرب إليه.
وعندما علم نجيب بمكان بديعة وعلاقتها بأحمد بك، قرر أن ينتقم بطريقته وألا يستسلم أبدًا، استلهم من قصتها معه ومع أحمد بك رواية جديدة بعنوان: "البرنسيس"، واستطاع نجيب أن يؤثر على بديعة للعمل معه في روايته الجديدة، بل وعرض عليها الزواج وهو يقول:
"أنا بعرض عليك آخر وأغلي عرض أقدر أقدمه لأي ست."
فردت بديعة ساخرة:
- والعرض الثمين ده يبقى الجواز!
- إنتِ حتتجوزي نجيب الريحاني، الفنان اللي انت ما تعرفيش قيمته ولا بلده كمان بتقدره.
فهمت بديعة أن نجيب يفكر في السفر إلى أمريكا ليجرب حظه هناك، أما رواية "البرنسيس" فهو يعول الكثير على نجاحها والذي سيعطيه الفرصة للعودة إلى مصر في حال لم يحققا النجاح المنشود في أمريكا.
لم تفهم بديعة لماذا ظل نجيب يخفي عنها أحداث الرواية ولم يطلعها إلا على دورها فقط، ولكنها عرفت السبب في اليوم الأول لتمثيلها أمام الجمهور.
"كانت حوادثها تنطبق على ما حصل لنا نحن الثلاثة. وهكذا أصاب نجيب في رواية واحدة هدفين، أولًا: استغني عن الماكياج والجبة والقفطان وظهر بشكله الحقيقي حتى يتعرف عليه الجمهور، و ثانيًا: أنه أظهرني بصورة المرأة الجشعة التي تهجر حبيبها الفقير لتلحق بالرجل الغني طمعًا في الغنى والجاه".
نجحت الرواية نجاحًا فاق أجمل توقعاتهما وفاق نجاح كل روايات الريحاني، وسكرت بديعة بالنجاح والمديح وتصفيق الجمهور.
واجهت أحمد بك بقرارها بالزواج بنجيب الريحاني.
كادت تضعف أمام تأثره الشديد فقالت له مواسية:
إنت راجل غني و كريم، تقدر تلاقي صديقة غيري وتنساني.
- أنا أخدت درس مش حنساه أبدًا، درس حيخليني أبعد عن كل النساء.
- "غادر أحمد بك حياتي وبدأت صفحة جديدة من المغامرات مع نجيب الريحاني إذ كانت حياة هذا الفنان الكبير سلسلة من الأفراح والدموع والنجاح والفشل من النشاط المتدفق والكسل الخامل الملول".
تحدد موعد الإكليل وجرت مراسيم الزواج في منزل أحد الأصدقاء، تسلل نجيب وبديعة من الضيوف دون أن يشعر بهما أحد واستأجرا عربة حنطور إلى ضفة النيل، استطيبا نسيم الليل قرب مياه النيل حتى طلع الصباح فعادا إلى فندق الكونتنينتال، تفاجئا بالعاملين وزبائن الفندق يستقبلانهما بالموسيقى والتهاني.
في حجرتهما في الفندق كانت بديعة خجلة وشاردة وهي تتأمل نفسها بفستان الزفاف في مرآة التسريحة، عندما لمحت نجيب جالسًا بالبدلة السموكن على حافة السرير خجلًا أيضًا وكأنهما غرباء لم يتعارفا من قبل.
فتبادل الاثنان النظرات ثم فجأة غرقا في الضحك.