زمن بديعة
وسام سليمانبديعة.. في الهزيمة غزال!
2025.01.12
تصوير آخرون
الحلقة الخامسة: بديعة في الهزيمة غزال!
تتمشى في شارع عماد الدين. تتفرج شاردة على إعلانات المسارح وفرق الهواة الذين يعزفون ويغنون أمام المقاهي.
كانت بديعة قد مرت بحالة شبه انهيار عصبى بعد انفصالها عن نجيب. نصحها الطبيب بالراحة والابتعاد عن المنغصات. تستعيد كلمات الريحاني "أنصحك ترجعي على بلدك ولاتبهدليش نفسك هنا"! كم أوجعتها كلماته، ولكنها في الوقت نفسه أيقظت بداخلها إحساسًا قديمًا تعرفه في نفسها. تتذكر عندما قالت لها أمها في إحدى المرات، وهي تقوم بتعنيفها وضربها: "دافعي عن نفسك لو تقدري". جعلتها كلمات أمها الساخرة تنتفض لنفسها بقوة مفاجئة أوقفت أمها مذهولة، ولم تمد يدها عليها بعدها أبدًا.
تصل إلى مقهي الأريزونا. تجلس تسامر نارجيلتها، وتستغرق في أفكارها عندما لمحت صديقًا قديمًا يقترب مبتسمًا وهو يقول: "سلامات يا بدعدع"؛ إنه سيد بك زكي الرجل الذي عرفته صبية عندما كانت تعمل في فرقة الشيخ أحمد الشامي قبل أن تسافر لتعمل في بيروت، لم ينسَها الرجل، وكان يتابع أخبارها منذ عادت إلى مصر، وتزوجت نجيب الريحاني، بل وعرف حتى بحكايتها مع جولييت. خفف عنها حديث صديقها القديم الذي يذكرها بفترة صباها وهو يناديها "بدعدع".
- بدعدع دي كانت زمان، ماعدتش تليق عليَّ في عمرى ده.
فيقول سيد زكي بحماس:
- أنا حفضل أقولك يا بدعدع، وبكرة كل الناس في مصر حتناديكي بيها.
استعادت بديعة صحتها بسرعة، وعادت تفكر فيما ستفعله عندما عرفت أن هناك صالة في شارع عماد الدين معروضة للبيع بالأثاث والديكورات (فيما عدا الأرض)، ويطلب صاحبها مبلغ سبعة آلاف جنيه. كان المبلغ كبيرًا جدًّا، ولكن سيد بك زكي وهو محامٍ أريب استطاع أن يخفض المبلغ إلى خمسة آلاف جنيه، واشترت بديعة "صالة سنديكس" لتبدأ مشروعها الجديد والذي اعتبره كثيرون وقتها مجازفة جريئة لا تقدم عليها امرأة.
تعاقدت مع عدد من المطربين المعروفين أمثال: الشيخ سيد الصفتي، والشيخ حسنين، والشيخ إدريس، وجميل عزة، وسميحة بغدادي، وفتحية أحمد.
كانت قد اكتسبت خبرة أثناء عملها في بيروت مع مدام جورجيت، التي كانت تدير صالتها بحزم وانضباط شديدين، ولم تكتفِ بديعة بإدارة الصالة، ولكنها كانت تغني وترقص أيضًا بالصاجات رقصًا مختلفًا عمَّا اعتاده الناس وقتها من طريقة هز البطن والأرداف.
كان لثورة 1919، ثم دستور 1923، الذي أعلن استقلال مصر عن الحماية البريطانية، وبداية الحياة النيابية أثرهما الكبير في الحياة الاجتماعية والثقافية. تغيرت ذائقة الجمهور الذي لم يعد يُقبل كما في السابق على الأدوار والمواويل والموشحات الأندلسية والمشارف والسباعيات، ولم يعد يستسيغ طريقة الرقص القديمة، وبدا متعطشًا إلى فن جديد.
في تلك الفترة كانت قضية المطربة فاطمة سري هي حديث الساعة، ليس فقط لأنها قضية لم يألفها المجتمع المصري وقتها، ولكن أيضًا لأنها تمس عائلة أرستقراطية معروفة، وهي عائلة هدى شعراوي المرأة التقدمية التي أصبحت رمزًا لحرية المرأة والمطالبة بحقوقها، وهي زوجة علي باشا شعراوي أحد الأعضاء المؤسسين لحزب الوفد مع الزعيم سعد زغلول. أما القضية فهي تمس نجلهما الوجيه محمد شعراوي الذي كان قد وقع في حب المطربة فاطمة سري، وتزوجها عرفيًّا، ثم وبعد أن حملت بطفلة منه اضطر تحت ضغط عائلته إلى هجرها وإنكار زواجه بها، فقامت فاطمة سري برفع دعوى قضائية في المحاكم تطالبه بالاعتراف بالزواج وبابنته أمام المجتمع، بل وقامت بنشر مذكراتها في الصحف وتفاصيل زواجها بالوجيه الشاب.
رغم أن بديعة لم تكن معجبة كثيرًا بصوت فاطمة سري، وكانت تراها مطربة عادية، لكنها بحسها الإداري والتجاري عرفت أن صالتها ستمتلئ بسيدات الطبقة الأرستقراطية اللائي سيدفعهن الفضول ليأتين ويشاهدن تلك السيدة الجريئة التي وقفت أمام عائلة شعراوي، فتعاقدت معها بديعة، واستأذنتها أن تستخدم في الإعلان عن حفلتها لقب "شعراوي" تأكيدًا على دعمها لقضيتها، فأثار ذلك غضب هدى شعراوي التي جعلت أحد أصدقائها يتصل ببديعة، ويطلب منها أن تحذف اسم "شعراوي" لما يسببه ذلك من حرج كبير خاصة أن القضية ما زالت تنظر في المحاكم، ولكن بديعة دافعت عن مطربتها كما دافعت عن صالتها مؤكدة أنها ليست ملهى رخيصًا يستدعي الخجل أو الإحساس بالعار، إنه شبه مسرح يقدم الغناء والطرب والإسكتشات والمونولوجات بالإضافة إلى الرقص والاستعراضات.
في النهاية استجابت بديعة لطلب هدى شعراوي، ولكن بشرط أن تقبل الهانم دعوتها إلى صالتها وتصطحب معها عضوات من الاتحاد النسائي المصري.
عندما ذهبت لتطبع إعلانات الحفل اندهش صاحب مطبعة الرغائب الحاج محمد عبد الرحيم من رغبتها في الإعلان عن حفل للسيدات:
- إنتِ ناوية تقلِّي عقلك وتعملي حفلة حريمي!
لم يكن مألوفًا في ذلك الوقت أن تذهب السيدات إلى صالات الرقص. دافعت بديعة بأن صالتها ليست ملهى رخيصًا تخجل من دخوله سيدات العائلات الكريمة، ولكن الحاج عبد الرحيم لم يقتنع، واعتبر إصرار بديعة على موقفها "قلة عقل ولا مؤاخذة خيابة".
ولكن عندما دعته بديعة ليتفرج بنفسه على "خيبتها" لم يصدق نفسه وهو يرى القاعة "كومبليه"، وقد امتلأت بهوانم الطبقة الأرستقراطية تتلألأ مجوهراتهن في أضواء الصالة الخافتة.
كانت بديعة قد تعاقدت مع الفنان محمد عبد الوهاب ليغني في حفل الماتينيه المخصص للسيدات، وكان لمحمد عبدالوهاب -المطرب الشاب وقتها- جمهوره العريض خاصة من الجنس اللطيف.
"لم يكن محمد عبدالوهاب جميلًا بكل ما في كلمة جميل من معنى، وإنما كان له سحره الخاص، لون بشرته كان له سحر عند المعجبات ونظارتاه ولعيونه سحر أي سحر، وصوته ماذا أقول عن صوته، إذا ما أمسك بالعود وانسجم مع ألحانه وراح يغني ويقول: آه، حتى تتصاعد ألف آه وآه ويتعالى التصفيق المترف الناعم".
كانت بديعة وأثناء انشغالها في عملها تتلقى جوابات من جولييت ترجوها أن تسامحها وتعيدها إليها.
بعد أن تركتها بديعة مع أمها في بيروت سرعان ما شعرت جولييت بالغربة الشديدة وبدأ يأكلها الندم على تركها بديعة، فأخذت ترسل لها الخطابات وتنتهز فرصة وجود أى فرقة مسرحية قادمة من مصر حتى ترسل المراسيل تترجى بديعة أن تعيدها إلى حضنها. التزمت بديعة الصمت شهورًا، وكانت ما زالت متأثرة بجفاء جولييت واتهاماتها القاسية فالتزمت الصمت ولم ترد على أي من خطاباتها حتى رق قلبها وأبرقت إليها وهي في طريقها إلى بيروت بأن تقابلها في بيت أختها نظلة.
وبمجرد أن وصلت بديعة وجدت جولييت في انتظارها تجري إلى حضنها وتبكي وهي تقول:
- أنتِ أمي الحقيقية.
رجتها أن تعيدها إليها لتعيش معها، ولكن الموضوع لم يبدُ سهلًا كما تصورت جولييت، فقد كانت تسافر معها وتجيء بصفتها ابنة لها ولنجيب الريحاني، أما الآن، وقد انفصلت عن نجيب وتغير وضعها وأصبحت صاحبة كازينو فهي تخشى أن يعودوا إلى نشر الإشاعات، ويقولون إنها تبنتها لتجعل منها راقصة، كانت جولييت تستمع إلى بديعة، وهي تبكي فطمأنتها بديعة، ووعدتها بأن ترسل لها كل ما تحتاجه من نفقات على أن تظل تعيش مع أمها الحقيقية ولكن جولييت انهارت في بكاء هستيري، فرقَّ قلب نظلة التي قالت:
- لو بإيدي كنت أجوزك ابني أنطوان.
سرعان ما التقطت جولييت الفكرة واعتبرتها هي الإنقاذ الوحيد، تستطيع بزواجها بأنطوان أن تكون مع بديعة، وتعود معها إلى مصر بصفتها زوجة ابن أختها، ورغم أن أنطوان لم يكن قد أنهى بعد مدرسة الحقوق فإن جولييت استطاعت إقناعه بالزواج بها وأن يظلا مثل شقيقين حتى ينهي دراسته، وهكذا حلت مشكلة جولييت وباركت نظلة الزواج، واصطحبت بديعة العروسين أثناء حفلاتها في بيروت.
وفي بيروت تعاقدت مع عدد من المطربات مثل ماري جبران التي كانت تملك صوتًا ساحرًا ووجهًا جميلًا فسمتها بديعة "ماري الجميلة". كما أحضرت أيضًا ملكة جاجاني، وكانت سمراء خفيفة الدم تجيد الرقص بالصاجات سمتها بديعة "ملكة جمال".
في فصل الصيف كانت بديعة قد أجَّرت إحدى الصالات في الإسكندرية لتقيم عروضها في الموسم الصيفي، عندما جاءها اتصال من بعض أصدقائهما هناك يريدون التوسط ليصالحاها على نجيب والذي كان أيضًا في الإسكندرية يعرض في مسرح الهمبرا.
كانت قد أنهكت من إدارة الصالة وتقديم العروض كل ليلة كما أن الخلافات بين أنطوان وجولييت سرعان ما بدأت بعد عودتهما إلى مصر، وملَّت بديعة من محاولة التوفيق بينهما، وشعرت بافتقادها لنجيب ورحبت بالعودة إلى حياتهما الزوجية.
في القطار العائد إلى القاهرة حكت له بديعة عن كل ما مرت به من أحداث وعن حكاية جولييت وزواجها بأنطوان، سألها نجيب الريحاني عن "ديك" ذلك الكلب الذي أتوا به من رحلتهم إلى أمريكا الجنوبية، وكان ديك متعلقًا جدًّا بنجيب حتى أنه عندما رآه يعود إلى المنزل قفز إلى حضنه وظل ملتصقًا به طوال الوقت حتى إذا ما حاول أن يتزحزح من مكانه تعلق بملابسه وسار في ذيله.
وبعودة نجيب إلى البيت عادت جولييت وتغير الجو وصفت الحياة.
"عدت مع نجيب إلى شهر عسل جديد نسيت فيه ما قاسيته من كسله وسوء تصرفه، وعرفنا موسمًا من أزهى مواسمنا وأبهاها".
وكانت رواية "ياسمينة" التي فاق نجاحها كل رواياتهما السابقة.
ولكن سرعان ما أحست بديعة أن نجيب سيعود إلى كسله وتبذيره فقررت أن تشتري بما لديها من نقود قطعة أرض في حدائق القبة لتبني عليها بيتها الذي تحلم به، صممت فيلا من دورين على مساحة أربعة آلاف وسبع مائة متر وحديقة كبيرة تحيط بها وبدأ المهندس في العمل.
وعادت إلى صالتها في عماد الدين كما أجرت صالة صيفية أمام "كوبرى الإنجليز أو الكوبري الأعمى" والذي أطلق عليه الناس "كوبرى بديعة" بعدما ذاعت شهرة صالتها.
لا تكاد تهدأ المشاكل بين جولييت وأنطوان حتى تعود من جديد، لم تكن شخصية جولييت سهلة فقد لاحظت بديعة عدوانيتها منذ كانت طفلة ولكنها أرجعت ذلك إلى ما قاسته في دار الأيتام عندما اضطر والداها إلى التخلي عنها بسبب ظروف الحرب، واعتقدت أنها تستطيع أن تخلصها من طبعها العدواني عندما تغمرها بالحنان والحب ولكن جولييت كبرت بنفس طريقتها الجافة حتى بدت لبديعة أحيانًا كأنها خالية من العواطف، ولم تكن تهدأ المشاكل مع أنطوان حتى تتصاعد من جديد خاصة أن أنطوان لم يزل يشعرها أنه تزوجها راضخًا لأمه وخالته، وأنه كان أصغر من أن يتخذ قرارًا كالزواج، واحتارت بديعة ماذا تفعل لتوفق بينهما وتتساءل هل أخطأت عندما قررت تزويجهما؟
توقظها جولييت من النوم، وهي منهارة من البكاء، وتعترف لها أنها حامل فتستبشر بديعة خيرًا، ولكن جولييت تصدمها عندما تقول إن أنطوان لا يحبها، بل ويخونها ومع من؟ مع ببا ربيبة نعمتها.
عرفت بديعة ببا عز الدين عندما أتى بها أحد معارفها في دمشق يرجوها أن تجد لها عملًا في الصالة، كانت صبية شامية فقيرة تحمل بقجة ملابسها، حكى لها الرجل عن ظروف الفتاة الصعبة وهروبها من دمشق، وقد حاولت أن تعمل لفترة في صالة ماري منصور ولكنها لم تكن تملك حتى بدلة رقص، وكانت تستعير ملابس الرقص من زميلاتها.
تعاطفت بديعة مع الفتاة، واشترت لها ملابس جديدة وبدلة للرقص، وقامت بتدريبها وأولتها عناية خاصة حتى أثارت احتجاج زميلاتها، وقدمت الراقصة التركية أفريز استقالتها احتجاجًا.
ولم تتوقف بديعة عند حد مساعدتها في العمل، بل فتحت لها بيتها فتعرفت على أنطوان وجولييت، وأصبحت كأنها فرد في الأسرة. لم تتخيل بديعة أن تتلقى الضربة منها وهي التي أحسنت إليها وأكرمتها.
لم تنم بديعة ليلتها وخرجت في الصباح إلى شقة ببا (وقد تحسنت أحوالها المادية بعد العمل في الصالة). اندفعت تريد افتراسها غير أن ضيفًا لدى ببا -وكان أحد نواب الصعيد- أفلت ببا من يدها، وهو يستفسر عن الأمر، وعندما حكت له بديعة قام بلطم ببا على وجهها (فقد صدم هو الآخر بخيانتها إياه). بررت ببا خيانتها:
- أنا مالي هو اللي قاللي أديله دروس في الحب.
فجذبتها بديعة بشعرها حتى أفلتها صديقها النائب من يدها بمعجزة. اتجهت بديعة إلى الباب وهي تلهث منهكة القوى.
- منك لله يا ببا خربتي بيتي، مش عاوزة أشوف وشك تاني أبدًا عندي في الصالة.
وكانت صدمتها التالية عندما أصر أنطوان على علاقته بببا، ولم يراعِ أن جولييت حامل في طفل.
جاءت نظلة من بيروت لتحضر ولادة حفيدها فاتفقوا على إخفاء خلافاتهما حتى لا تتأثر صحتها التي تعاني منذ سنوات.
وجاء يوم الولادة وهلت بنت جميلة قررت نظلة أن تسميها بديعة إكرامًا لأختها. تعلقت نظلة بحفيدتها حتى لم تكن ترضى بأن تفارقها لحظة واحدة.
كانت بديعة في عملها في الصالة عندما اتصل بها أنطوان يخبرها جزعًا أن أمه في حالة سيئة جدًّا، أسرعت بديعة لكي تحضر طبيبها الذي قال لها بصراحة إنه لا داعي إلى إطالة عذابها بمزيد من الإبر والعلاجات، ونصح بأن يتركوها ترتاح.
تقود سيارتها إلى البيت تشعر كأنها لا ترى الطريق أمامها. تفقد فجأة الإحساس بالاتجاهات حتى أن الشوارع تختلط عليها وتبدو كالتائهة. تتوقف بسيارتها عند الرصيف وتنهار في البكاء.
"لم أشعر باليتم إلا عند وفاتها. كانت هي الأب والأم والأخت وكل شيء، وما إن أضيقُ بالناس حتى أسرع إلى أحضانها ألتمس العزاء والسلوى، وكانت من جهتها تعلم حاجتي بل جوعي إلى العاطفة، ولم تكن تضن بها عليَّ أبدًا".
ولم يكن ظل شقيقتها نظلة يفارقها أبدًا حتى عندما كانت تغني أو ترقص تراها متمثلة أمامها بنظراتها العطوفة فتتملكها الغصة وتختلط دموعها بابتساماتها.
في صيف 1932 كانت بديعة في باريس تقوم بالتفاوض مع شركة "جومون فيلم" لإنتاج أفلام قصيرة لبعض استعراضاتها، وكانت تنوي أن توزعها على دور السينما كدعاية للصالة، كما تفاوضت معها على تعبئة أسطوانات على حسابها الخاص.
اصطحبت معها الملحن وعازف العود المشهور عزت الجاهلي، وقابلت في باريس عازف الكمان المشهور سامي الشوا، واشتركا معها الاثنان في الأفلام والأسطوانات، عندما وصلتها برقية من أنطوان يبلغها بأن نجيب الريحاني سيصل إلى باريس آتيًا من مارسيليا، ويريد مقابلتها في شيء ضروري جدًّا.
لم تفهم بديعة "ما هو الشيء الضروري" الذي يقصده نجيب، وكانا قد انفصلا للمرة الثانية منذ شهور طويلة. ذهبت لاستقباله في محطة القطار، ثم رافقته إلى مطعم "باسو" الذي يقع على شاطئ البحر وقد كان مطعمًا مشهورًا بالسمك والبويابيز.
كان الجو لطيفًا، وانعكس على مزاجهما، فأخذا يثرثران ويضحكان حتى قال نجيب:
- اسمعي يا بدعدع، أنا ماخبيش عليكي حاجة إنت مراتي وحبيبتي ومهما حصل برضو إحنا لبعض.
عرض عليه متعهدان تونسيان أن يقوم برحلة إلى تونس وبلاد المغرب بشرط أن يكون معهم بديعة ويتعشم نجيب ألا ترفض طلبه.
- أنا مش ممكن أرفض لك طلب لكن..
- مالكنش ولاحاجة إذا رفضت خربتِ بيتي لأن الفرقة زمانها على وصول، دي آخر خدمة أطلبها منك.
لم تستطِع بديعة أن ترفض طلب نجيب، وعادت معه إلى الفندق، ولكنها ظلت قلقة على مصير الأسطوانات والأفلام التي كلفتها ثروة، كما أنها كانت قد أجرت صالة الفنتازيو لعروضها في موسم الصيف، ودفعت عربونًا إلى صاحبها مئتي جنيهًا مصريًّا، ولكن نجيب يربت على كتفيها:
- ماتحمليش هموم الدنيا كلها على ضهرك وماطيريش الكام كاس من دماغي بكرة يفرجها ربنا.
ثم يكمل ضاحكًا:
- الله جرالك إيه يا بدعدع.. إنتِ عاوزة تعملي أفلام وأسطوانات وتغني وترقصي وتمثلي معايا على المسرح!
ليه تتعبي نفسك للدرجة دي، ولمين راح تسيبي ثروتك؟ أولًا إنت ماعندكيش ولاد، ثانيًا أنا مش عاوزك تموتي قبلي لإنك إنت لوحدك ثروتي.. يلا قومي ننام والصباح رباح.
وتحكي هي:
"قضيت بين أحضانه ليلة أنساني خلالها الأفلام والأسطوانات والكازينو ولم أستيقظ إلا في الحادية عشرة صباحًا، وكانت أول مرة ينهض فيها نجيب قبلي ليوقظني بنفسه".
في الصباح كتبت بديعة رسالة إلى أنطوان تعهد إليه بالأفلام والأسطوانات ثم بدأت تستعد لرحلتها مع نجيب والفرقة إلى تونس.
استقبلهم التونسيون بجموع غفيرة على الأرصفة وفي الشوارع، وقد كانت دعاية ضخمة قد سبقتهم إلى هناك، احتفى بهم التونسيون، وأغرقوهم بكرمهم وبتقديرهم الكبير للفن والفنانين، حتى أنه كان من المقرر أن يقيموا عشر حفلات في العاصمة، ولكن أهالي المدينة طالبوا بخمس حفلات إضافية، ومنحت الحكومة التونسية كلًّا من نجيب وبديعة وسام تونس.
ومن العاصمة إلى مدن صوص وبنزرت ونفس النجاح والاستقبال الكريم، ولكن أعضاء الفرقة وبسبب إسرافهم في الأكلات التونسية الشهية أصابتهم مشاكل في الأمعاء واضطر كثيرون إلى العودة إلى مصر حتى أن الفرقة التي كان عددها ثلاثين فنانًا وفنانة تناقص عددها إلى عشرين فقط، وما زالت في تناقص حتى وصلوا الى الجزائر، ورغم النجاح والاستقبال الحافل من الجزائريين فإن غلاء المعيشة هناك لم يترك جانبًا الا لربح بسيط، ولم تكن بديعة ترى أي منطق في مواصلة الرحلة بعد تناقص أعضائها حتى أن كل ممثل أصبح يقوم بدورين وثلاثة في التمثيلية، ولكن نجيب الريحاني ظل مصممًا على استكمال الرحلة إلى المغرب.
بدأت تراود بديعة فكرة الفرار من نجيب والعودة إلى مصر، ولكنها كلما أقدمت على تنفيذ القرار تشعر بتأنيب الضمير وتشفق على نجيب فتتراجع عن فكرتها ولكنها تعود ثانية وهي تشهد تصرفاته وتعنته وتحسب مدى الضرر الذي يلحق بمصلحتها وقد تركت الأسطوانات والأفلام وصالتها من أجل هذه الرحلة وعيون نجيب الذي لا يستمع إليها ولا إلى أحد.
لم تعد تطيق حيرتها وحسمت قرارها، ولكن كيف تهرب إلى مصر بدون أن يشعر بها نجيب، ثم إنها لا تملك أي نقود لتذكرة الطائرة؟
كانت الفرقة تستعد للانتقال من كازبلانكا إلى مراكش، فانتهزت بديعة الفرصة وحزمت حقائبها ونقلتها إلى المحطة بدون أن يشك أحد في سلامة نيتها، لم يكن معها سوى ساعة ذهبية وخاتم نادر بأحجار كريمة، فقررت أن ترهنهما فقط بمبلغ بسيط. في الصباح كتبت رسالة رقيقة إلى نجيب وضعتها بجانب سريره ثم تركته يغط في نومه الهانئ.
ركبت القطار إلى تونس، ومن هناك أرسلت برقية إلى أنطوان ليرسل لها ثمن تذكرة الطائرة.
في مطار القاهرة تفاجأت بعدد من المصورين يحتفون بها ويمطرونها بالأسئلة حول علو الطائرة، الشعور بالدوار، و.. لتكتشف أنها أول سيدة تصل بالطائرة إلى مطار القاهرة. أخذت بديعة ترد على أسئلتهم بمرح وكأنها تحررت أخيرًا من أسر طويل.
بعد مرور أسابيع، وكان نجيب قد عاد وفرقته إلى القاهرة، التقته بديعة صدفة وما إن وقع نظره عليها حتى انفجر في الضحك، ثم اقترب منها بنظراته الساحرة وقال بظرفه المعهود:
- قوليلي بقى يا عفريتة، عرفتي تهربي إزاي؟ وخرجتِ منين من الباب ولا من الشباك؟
فردت بديعة:
- خرجت من السقف زي النسانيس، أصل أنا في الهزيمة غزال.
تنهدت مبتسمة وهي تكمل:
- دي مش أول مرة اضطر أهرب فيها، أول مرة كانت من أمي، المرة التانية من حضرتك، أما التالتة.. الله أعلم.