زمن بديعة
وسام سليمانزواج وأرباح طائلة وإفلاس!
2024.12.28
تصوير آخرون
الحلقة الرابعة: زواج وكرنفال وملابس تنكرية وأرباح طائلة وإفلاس!
بين الإسكندرية ورأس البر قضى العروسان شهر العسل ثم بدأا يستعدان لرحلتهما الطويلة إلى أمريكا الجنوبية.
لم يكن السفر في تلك الأيام يحتاج إلى تأشيرة أو أي إجراءات أمنية، فقط جواز سفر واحد لنجيب ومعه بديعة وجولييت التي صاحبتهما بصفتها ابنتهما، ومن الفرقة رافقهما محمود التوني وفريد صبري.
استغرقت الباخرة حوالي خمسة وعشرين يومًا حتى وصلت إلى سانتوس في البرازيل، حيث أقاموا في فندق صغير، عرفوا من صاحبه الذي كان يتحدث العربية أن الناس في المدينة لا يعرفون الروايات التمثيلية وأنهم يفضلون الغناء والرقص.
وما إن انتشر خبر وجود فرقة فنية عربية حتى تهافتت الجاليات العربية على الفندق ليشاهدوا ويسمعوا المطربة "بديعة" والمطرب "نجيب الريحاني".
عندما سمع نجيب كلمة مطرب غرق في الضحك، أما بديعة فقدعرفها السوريون واللبنانيون وطلبوا منها الغناء وسرعان ما اندمجت معهم.
وقضوا ليالي ساحرة بين حب واحتفاء العرب المتشوقين لاستعادة أغاني طفولتهم وصباهم في بلدهم.
في مدينة سان باولو ساقهم الحظ الطيب إلى فندق يملكه زحلاوي أصيل يدعي خليل سابا احتفى بهم وأكرمهم وأقام مأدبة عشاء كبيرة، ضحك الرجل حتى وقع على ظهره عندما وجد بديعة تطلب "صحن مجدرة بالبرغل".
هذه الأكلة البسيطة التي تذكرها بطفولتها في دمشق هي ما اشتهتها نفسها وسط مائدة عريضة فيها كل ما لذ وطاب.
كانت سان باولو مليئة بالفنانين والموسيقيين العرب الذين استعان بهم نجيب كعازفين في الفرقة وقام بتدريب بعضهم ليقوموا بالأدوار الصغيرة، ونزلت بديعة إلى السوق لشراء الملابس ولوازم الديكور، كما دلهم خليل سابا على مسرح بايجار معقول سمح لهم بالعرض لأربعة أيام متتالية.
تتذكر بديعة الليلة الأولى لعروضهم وكيف امتلأت القاعة بالجمهور المشتاق المتحمس، كان عليها أن تدخل أولًا إلى المسرح لتقدم مقطوعتها الغنائية قبل أن تبدأ أحداث رواية "بيت العز"، وكان نجيب واقفًا يشجعها في الكواليس:
- "شدي الحيل يا بدعدع واشتغلي من غير ما تبصي للجمهور لاحسن تغلطي".
بمجرد أن أنهت بديعة غنوة "يا بلح زغلول" في مقدمة المسرحية حتى ضجت القاعة بالتصفيق وتلقفها نجيب الريحاني يقبلها في الكواليس مهنئًا والدموع تنهمر من عينيه، ثم دخل إلى المسرح وسرعان ما استولى على الجمهور.
"كان لشخصية نجيب سحر غريب، كان بإمكانه أن يفهم الجمهور ما يريد وأن يضحكه متى يشاء دون أن ينبس بكلمة واحدة بل كان كثيرًا ما يكتفي بإشارات من عينيه وحاجبيه كما كانت لضحكته لغة خاصة تستهوي كل من شاهده على المسرح".
كان النجاح والإقبال عظيمًا حتى أنه وخلال أربعة أيام فقط وصل صافي الأرباح إلى خمسة آلاف جنيه.
ومن سان باولو إلى ريو دي جينيرو حيث سبقتهم شهرتهم فتهافت المصورون والصحفيون وكتبت الصحف الأمريكية عن نجاحات فرقة نجيب الريحاني وبديعة مصابني.
كان الانتقال من البرازيل إلى الأرجنتين في الباخرة يتطلب فقط من المسافر الخضوع لكشف طبي يثبت أنه خالٍ من عدوى "التراخوما" (وهو التهاب بكتيري يصيب العين، وواضح أنه كان منتشرًا في تلك الفترة).
مرت بديعة بالكشف الطبي بسلام ومعها جولييت وفريد صبري ثم أخذت تتلفت على زوجها نجيب حتى عرفت أنهم احتجزوه ومعه محمود التوني بسبب سقوطهما في الكشف الطبي.
قضت بديعة عشرين يومًا في بوينس أيرس لا يهنأ لها بال حتى وصل زوجها، جاءها ضاحكًا كالعادة وهو يحكي لها عن مغامراته مع محمود التوني في العشرين يومًا.
في الكرنفال السنوي الكبير في بوينس أيرس يخرج الناس متنكرين في ملابس وأقنعة تمثل شخصيات مختلفة، إنه الكرنفال الذي يجمع الناس باختلاف أصولهم وأعراقهم وطبقاتهم الاجتماعية ويتساوى فيه الجميع على أرضية الرقص والغناء.
قرر نجيب وبديعة أن تشارك فرقتهم أهل المدينة كرنفالهم، فوضع نجيب الذقن ولبس الجبة والقفطان بينما تنكرت بديعة في ثوب غانية من ألف ليلة وليلة وألبست ابنتها جولييت ملابس أطفال بيت لحم، أما محمود التوني وفريد صبري فقد لبس كل منهما جلابية وطاقية فلاحين مصريين.
وبمجرد أن خرجوا إلى الساحات حتى لفتوا أنظار الناس وأخذوا يتفرجون على ملابسهم الغريبة ممتنين لمشاركتهم الاحتفال بكرنفالهم، ثم أعلنوا في نهاية الحفل عن فوز كل فرقة نجيب الريحاني بالجائزة الأولى في الملابس التنكرية، وكانت الجائزة عبارة عن تمثال لسيدة جميلة يرمزون بها للحرية، وهكذا امتدت شهرتهم في الأرجنتين وتهافت الجمهور على عروضهم التي استمرت عشرين يومًا.
ورغم كل النجاح الذي حققاه فإن المشاحنات بين بديعة ونجيب كانت لا تلبث أن تتجدد بعد انتهاء أيام العرض، فبمجرد أن تمتلئ جيوب نجيب بالنقود، تراه بديعة يركن إلى الكسل وينفق النقود ببذخ ويتعامل كالأثرياء ولا يفكر في معاودة العمل إلا عندما ينفق آخر مليم في جيبه.
ثم إنه يرفض أن يقيموا عروضهم في القرى أو حتى المدن الصغيرة حول العاصمة، كما يصر على أن يسافروا على الدرجة الأولى غير مبالٍ بالنفقات.
تتجول بديعة في شوارع المدينة، هنا قضت سبع سنوات من طفولتها، تستعيدها بمشاعر متناقضة بين الأسى والحنين، تزور الحي الفقير الذي عاشت فيه مع أمها، وتتجول في ضاحية فلورنس حيث كان بيت أختها نظلة وزوجها، تتذكر الجارة اليونانية وبيتها الجميل المحاط بالشجر الأخضر وتملؤه الطيور والحيوانات، علمتها تلك الجارة كيف تحلب البقرة وكيف تطعم الدجاج بيدها، وكم كانت تحب تلك الأوقات وتحب أن تطعم الدجاج بيدها.
تتلاحق الذكريات وهي تتمشى برفقة نجيب وجولييت، عندما وجدت نفسها فجأة أمام شقيقها الأكبر أسعد الذي كان قد تركها طفلة مع والدتها وسافر إلى اليونان وانقطعت أخباره.
وقفت بديعة تتفرس فيه باستغراب بينما ظل هو واقفًا فاغرًا فاه بدهشة، اقتربت ملهوفة تحتضنه وتقبله حتى شعرت ببروده وارتباكه، فقدمت له زوجها نجيب وابنتها جولييت، حاول أسعد أن يداري إحراجه فألح على دعوتهم للغداء.
اعتقدت بديعة أن شقيقها قد كون ثروة لا بأس بها مثل غيره ولكنها تفاجأت بحكايته العجيبة، استطاع أسعد بالفعل تكوين ثروة لا بأس بها في اليونان ولكنه خسرها في مضاربات تجارية، ثم عاد وقام مرة أخرى واستطاع تكوين ثروة أكبر ولكنها راحت أيضًا ومعها هذه المرة زوجته وأبناؤه الذين غرقوا في البحر مع معظم ركاب السفينة في رحلة لم ينجُ منها إلا هو وستة ركاب آخرين.
أشفقت بديعة على شقيقها وسوء حظه وتمتمت بأسى "قدر"، ثم وجدته يسألها مستنكرًا -على انفراد- وهو يشير لنجيب:
- "كيف تتزوج بممثل؟!"
فردت بديعة غاضبة:
- "إنت فاكر نفسك أحسن منه؟!"
فهمت سر إحراجه وبروده عندما قابلها ولماذا حاول التظاهر في البداية بأنه لم يعرفها.
- "إنت خجلان من الناس تعرف إن أختك فنانة.
بس ماكنتش خجلان من نفسك لما سيبتها عيلة صغيرة.
وماخفتش عليها من الجوع والتشرد".
وافترقا وكان آخر لقاء لها مع شقيقها.
تكتشف بديعة أنه بعد كل التعب الذي لاقوه خلال رحلتهم الطويلة وبعد كل ما حققاه من أرباح أن نجيب لا يملك حتى ثمن تذاكر العودة، ورغم ذلك فهو يعلن عن نيته قضاء عدة أيام في باريس قبل العودة إلى مصر، فتنفجر بديعة وهي تنتقد طريقة حياته وتصرفاته، فيرد:
- "أنا كده ومش حغير طباعي عشان أعجب حضرتك".
تتهمه بالبوهيمية وأنه يفعل ما يلائم مزاجه بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى.
- "أفضل ألف مرة الحياة البوهيمية على إني أعيش حياة رتيبة ومتشابهة".
- "طب تسمح يا سيادة البوهيمي المحترم تقولي إزاي نسافر فرنسا وحنصرف منين؟"
فيرد باختصار:
- "تتدبر".
وقد دبرها الله بالفعل، فلم يكد يعرف أصدقاء نجيب بوصوله إلى باريس حتى تهافتوا عليه في الفندق وأغرقوه بالدعوات الكريمة، وصمم أحدهم مظلوم بك الذي كان يحب نجيب ورفقته الطيبة أن يتكفل بكل نفقات إقامتهم وزياراتهم اليومية للأماكن السياحية حتى امتدت إقامتهم في فرنسا حوالي شهر ونصف.
كانت باريس في تلك الفترة -عام 1925- من أرخص المدن الأوروبية ولم تكن تفرض رسومًا جمركية بل وتقدم المحلات عروضًا بتوصيل المشتريات إلى أي بلد وأي عنوان على مسؤوليتهم، فانتهزت بديعة تلك الفرصة وقامت بشراء فرش لبيت الزوجية حيث كانا قد استأجرا شقة جميلة في شارع عماد الدين.
عندما انتشر خبر وصول نجيب وبديعة إلى القاهرة تهافت الصحفيون والمصورون وامتلأ شارع عماد الدين بالجمهور. كانت قد وصلت للقاهرة أخبار نجاحهم الساحق ومديح الصحف الأمريكية في عروضهم، ما جعل الجميع يعتقد أن نجيب وبديعة قد عادا بثروة من بلاد الذهب ولعب الخيال دوره فأخذوا يتحدثون عن مكاسب أسطورية.
كان نجيب يخشي من لسان بديعة أن ينطق بالحقيقة أمام أحد الصحفيين، ولكنها وقفت صامتة تتأمله بأناقته المعهودة وهو يرد على أسئلتهم ويواجه المصورين بابتسامته الساحرة، وتردد في نفسها المثل المصري "القامة مصقولة والجيبة ما فيها فولة".
كان نجيب قد اقترض منها ألفين وخمس مئة جنيه ثمن تذاكر العودة، ووعدها أن يعمل بجد فور عودتهما على رواية جديدة، وبالفعل بدأ العمل مع بديع خيري على رواية هزلية "قنصل الوز" ورغم أنها كانت شبه مضمونة النجاح، فإن نجيب ارتكب خطأ كبيرًا باستئجاره مسرحًا فقيرًا ولم يهتم بالملابس ولا بالديكورات، وانتهى الموسم بلا أرباح تذكر ما أدخله في حالة اكتئاب جعلته سريع الغضب، واشتدت مشاحناته مع بديعة فذهبت بديعة تشتكيه عند الأسقف الكاثوليكي الذي بارك زواجهما فاستدعى بدوره نجيب وحاول أن يصلح بينهما.
خرجا من الكنيسة صامتين واتجها إلى مطعم الباريزيانا في شارع عماد الدين وتناولا العشاء بدون كلمة واحدة وبعد أن عادا إلى المنزل قال نجيب:
- "يعني يخلصك كده يا مدام ريحاني؟"
- "وأنا مالي ما هو الحق عليك".
- "لأ إنت المحقوقة".
ومن كلمة إلى أختها تجدد الشجار، حتى قررت بديعة أن تواجهه وتعلن له بحسم أنها لن تشاركه بمالها في عمل ليست هي المتحكمة فيه وتعرف قبل أن تبدأ أنها ستخسر نقودها، فقال نجيب:
- "يبقي نفترق".
كان نجيب يرمي الكلمة كنوع من التحذير معتقدًا أنها ستقاوم الفكرة ولكنه وجدها تقول:
- "ونعم الاقتراح، كل واحد يشتغل لوحده".
- "ناوية تشتغلي لوحدك في مصر!"
- "حارجع اشتغل في بلدي".
- "بتفكري وترسمي وتاخدي قرارات، وكأن مالكيش زوج تستشيريه ولو على سبيل المسايرة.. أمال إتجوزتيني ليه؟!"
- "أنا اللي بسأل نفسي السؤال ده.. بس الذنب ذنبي".
يلقي إليها نجيب بنظرة طويلة ثم يقتلع نفسه اقتلاعًا من الكرسي الذي كان يجلس عليه، وقبل أن يخرج:
- "ابعتي لي هدومي مع البواب".
"مضت الحقبة الأولى من حياتي مع نجيب، تلك الحياة التي كان يظنها الناس نعيمًا متصلًا ولا ينظرون إليها إلا من خلال الأنوار الزاهية والأكف المستحسنة ولم يكن أحد منهم يدرك ما كانت تلك المظاهر تخفي من الألم والخيبة".
قررت بديعة أن تسافر إلى لبنان لبعض الوقت، وتركت مفاتيح شقتها مع كلير مساعدتها ومربية ابنتها وقد اتخذتها أيضًا صديقة مقربة، فكانت ترسل إليها بالجوابات تحكي لها أخبارها في بيروت.
لا تدري بديعة ما الذي جعلها تغير فجأة خطتها وتقرر أن تعود إلى القاهرة بدون أن تخبر أحدًا ولا حتى كلير، ولكنها أدركت صدق حدسها عندما رجعت إلى بيتها واكتشفت أن كلير صديقتها قد خانتها وكانت تسلم نجيب كل جواباتها وتطلعه على كل خططها وأسرارها، وكانت صدمتها االكبيرة عندما وجدت جولييت تسألها فجأة وهما جالستان على منضدة العشاء:
- "إنتي قابلتي ماما الحقيقية في بيروت؟"
فهمت أن كلير انتهزت فرصة غيابها لتبث الحقد في قلب جولييت تجاه بديعة، فقد أوهمتها أن بديعة أخذتها من أمها الحقيقية حتى تجعل منها راقصة تنفق عليها عندما تكبر وتشيخ، وصدقت الفتاة الصغيرة وها هي تطالب بالعودة إلى أمها الحقيقية خوفًا من استغلال أمها المزيفة.
لم تدرِ بديعة ماذا تقول، فقط احتضنتها وأخذت تطمئنها حتى امتزجت دموعهما. ثم وعدتها أن تعيدها إلى أمها الحقيقية ما دامت تريد ذلك.
ولم لا؟ أليس من حقها؟ ولكنها أبدًا لم تتبنَ جولييت لتجعلها تنفق عليها عندما تشيخ بل أرادت أن تعطيها ما لم تنله هي بسبب ظروفها، وأن تراها شابة جميلة ومثقفة بل وحلمت أن يكون لها أحفاد من ابنتها يلعبون حولها، كم كان حلمًا ساذجًا وأملًا تبخر في لحظة.
تظل بديعة مؤرقة طوال الليل لا يغمض لها جفن، وبمجرد أن تلوح الشمس، تقوم لتجهز حقيبة جولييت بمتاعها ومصاغها وهداياها.
دخلت عليها جولييت وجرت عليها تحتضنتها فطلبت منها بديعة أن تستعد للسفر إلى بيروت لتعود إلى أمها -كما وعدتها- لم تصدق جولييت نفسها، احتضنت بديعة فرحة:
- "صحيح.. مرسيه يا ماما؟"
فقالت لها بديعة:
- "وفري "ماما" لمامتك الحقيقية.. أنا من دلوقتي مدام بديعة".
لم تكن رحلة البحث عن والدة جولييت سهلة، فمن قال لها إنها تركت بيروت ومن قال إنها تعيش عند الجبل حتى استطاعت أخيرًا أن تعثر على مكانها.
كانت والدة جولييت قد فقدت أبناءها -ماعدا جولييت- أثناء فترة الحرب، وبعد أن توفي زوجها تزوجت برجل آخر وانتقلت معه إلى بيته ونسيت أيام الحرب والضيق.
لم تكن تنتظر عودة ابنتها إليها بعد كل هذه السنين، غير أنها رحبت بهما وشكرت بديعة على جميل صنعها وإنقاذها لابنتها من مصير أشقائها.
تركت بديعة "جولييت" مع أمها الحقيقية، وعادت وحيدة تعاني إحساسًا موجعًا بالفقد حاولت أن تقاومه بسرعة وعادت إلى مصر تفكر فيما عليها أن تفعله.
مع عودتها إلى القاهرة عادت المشاحنات مع نجيب حتى اتفق الاثنان على الطلاق، حاولا أن يجدا طريقة ما في المحكمة الروحية لكن الكنيسة الكاثوليكية لا تبيح الطلاق في حال من الأحوال، حتى أنهما فكرا أن يشهرا إسلامهما في محاولة للتحرر من قيد الزواج وذهبا بالفعل إلى مكتب المحافظ وكان وقتها إسماعيل بك شيرين الذي أخذ يستمع إلى حجج كل منهما مندهشًا ثم قال مستنكرًا:
- "من يصدق أن نجيب وبديعة يفترقوا عن بعض وهم أظرف وألطف زوجين على المسرح.. لا.. لن أسمح أبدًا".
ثم نصح نجيب بأن يزيل الخلاف مع الست بديعة وطلب من بديعة أن تلين قليلًا.
خرجا الاثنان من مكتب المحافظ وأخذا يتمشيان صامتين في الطريق إلى بيتهم في شارع عماد الدين، حتى قطعت بديعة الصمت:
- "إيه العمل دلوقتي يا أستاذ؟"
لم يكن نجيب في موقف يحسد عليه، فالرواية التي قدمها في ذلك الموسم لم تلقَ النجاح المرجو وأصبح مدينًا بمبلغ ألف وسبع مئة جنيه إلى كلير أيضًا.
يعترف نجيب بأسى:
- "ماعدتش قادر أشتغل من غيرك مع إني أنا سبب شهرتك".
- "أعترف إنك سبب شهرتي في مصر. بس قوللي إيه معنى الشهرة إذا كانت مصحوبة بالخسارة!"
كثيرًا ما تجد نفسها تفكر بقلق ماذا عندما تكبر ويزول الشباب والجمال، إن الأيام تمر بسرعة وها هي تتجاوز الثلاثين من عمرها وكم تخشى مما قد تخبئه لها الأيام، أما نجيب فهو ممثل مرموق كلما كبر في العمر ازداد نضجه، لن ينصرف عنه الجمهور لأنه أصبح كهلًا أو تغير شكله، تحاول بديعة أن تشرح له ولكنه يقول:
- "غرضك إيه من ورا كلامك ده.. الوعظ والإرشاد؟"
- "قصدي أننا مايمكنش نكمل مع بعض والأفضل إن كل واحد يمشي في طريق".
- "يعني عاوزة تشتغلي في مصر حضرتك، وراح تغني وترقصي، والله عال يا مدام ريحاني".
- "أنا مش حشتغل بصفتي مدام ريحاني".
- "ومش حستغل اسمك لإني مش محتاجة له. أنا كنت وحفضل بديعة مصابني".
- "وأنا بنصحك ترجعي بلدك ولا تبهدليش نفسك هنا".
- "ده قرار يرجع لي أنا لوحدي وكل واحد يعمل اللي يوافق مصلحته".
فيقول نجيب:
- "من جهة المصلحة مايتخافش عليكي أبدًا. إنت بتعرفي كويس تحافظي على مصلحتك".
ثم وقبل أن يمضي:
- "من فضلك إبعتي لي هدومي على بيت أخويا توفيق".
"عدت إلى بيتي لأجد نفسي وحيدة إلا من الجدران والمقاعد وما اشتريته في رحلتي إلى فرنسا وأنا أحلم ببيت جميل وزواج مستقر، دخلت إلى غرفة نجيب كي أرسل له ثيابه، أحضرت الحقائب ووقفت أمامها كالبلهاء لا أدري ماذا أفعل.. أين الطفلة التي اعتقدت أنها ستذيقني حلاوة الأمومة؟ أين الرجل الذي تركت من أجله الثروة والجاه لكي أتزوجه بالحلال وأقاسمه مر الحياة وحلاوتها، أين الصديقة التي استأمنتها على أسراري وخانتنى، أين الذين يصفقون لي تحت الأنوار ويطرون جمالي ويتغزلون، أين أشقائي ألجأ إليهم في محنة كهذه.. أين.. أين؟".
وارتمت بديعة على الأرض فاقدة الوعي.